مفاهيم القرآن - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: ٥٣٩

المرحلة الثانية : عصمة الأنبياء عن المعصية

لقد وقفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقي الوحي وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية. ونبحث في ذلك عن وجهتين : العقلية والقرآنية :

العقل وعصمة الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (١) وقال سبحانه : ( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (٢).

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل ، وهذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب‍ « التريبة ».

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل ، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها ، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما

__________________

(١) البقرة : ١٢٩.

(٢) آل عمران : ١٦٤.

٨١

لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال : يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول : الإجابة عن هذا السؤال سهلة ، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً : فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان ، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته ( الداعي لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي ) في حق الداعي ومدعي النبوة ، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة : انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ بعد

٨٢

اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضآلة عن السؤال الماضي. وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات ، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح ، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه ـ عندئذ ـ من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله : إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل ، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا :

٨٣

إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والمقاييس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل : أليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء عليهم‌السلام الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع ، وهذا ينقض قولكم : إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا : هذا سؤال من لم يفهم ما أوردناه ، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة ، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول ، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول ، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً ، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟

٨٤

قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ، لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً ومؤثراً ، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير ( ولأجل ذلك ) وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه ، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة ، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضاً ، وان فارق الأوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

فإن قيل : فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام في حال النبوة وقبلها ؟

قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل ، لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه ، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء عليهم‌السلام أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو

٨٥

قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها (١).

إجابة عن سؤال آخر

ربما يقال : إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه ، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً ، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة ، وفي نهاية الكمال ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الأنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

هذا هو السؤال ، وأمّا الجواب : فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة ، لأجل وجهين :

إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين ، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الأمرين لا يناسب ساحته سبحانه ، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين ، وتحقيق أهدافه على الوجه الأكمل.

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه ، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الأهداف ، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير ، وهذا لا يليق بساحته تعالى (٢).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٤ ـ ٦.

(٢) الميزان : ٢ / ١٤١.

٨٦

ولأجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الأنبياء تارة ، ويشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً ، وإليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الأنبياء.

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويصفهم بهذا الوصف ، ويشهد بذلك لفيف من الآيات :

الآية الأُولى

قال سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١).

ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله : ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (٢).

والآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضل له ويقول : ( وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللهُ

__________________

(١) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٧.

(٢) الأنعام : ٩٠.

٨٧

فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ) (١).

وفي آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة ويقول : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) (٢).

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح وتوضيح ذلك :

انّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الأُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له.

كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول : ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية الله سبحانه ، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه الله ، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل :

النبي : من هداه الله.

وكل من هداه الله فما له من مضل.

ينتج : النبي ما له من مضل.

__________________

(١) الزمر : ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) يس : ٦٠ ـ ٦٢.

٨٨

الآية الثانية

انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول :

( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ) (١).

وعلى مفاد هذه الآية فالأنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب ، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني : ( من أنعم عليهم ) بقوله : بأنّهم : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (٢).

فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم ، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي من يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه ومخالفته.

وعلى الجملة : من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب ، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة

انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس : (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ

__________________

(١) النساء : ٦٩.

(٢) الفاتحة : ٧.

٨٩

النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (١).

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة :

١. أنعم الله عليهم.

٢. هدينا.

٣. واجتبينا.

٤. خرّوا سجّداً وبُكيّا.

ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية ، ويقول : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (٢).

نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي عبارة عن أُمور ثلاثة :

١. أضاعوا الصلاة.

٢. واتبعوا الشهوات.

٣. يلقون غيّاً.

وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات ، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً ، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي ، لأنّ العاصي لا يعصي إلاّ لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته.

__________________

(١) مريم : ٥٨.

(٢) مريم : ٥٩.

٩٠

الآية الرابعة

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (١).

ويقول أيضاً : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (٢).

ويقول في آية ثالثة : ( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (٣).

كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفي الرأي العام ويقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) (٤).

وعصارة القول : إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط ، ومن وجبت طاعته على وجه الإطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.

توضيحه : انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين : اللفظ أو العمل. والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما ، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه

__________________

(١) آل عمران : ٣١ ـ ٣٢.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) النور : ٥٢.

(٤) الحجرات : ٧.

٩١

وفمه وقلمه ويراعه ، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة ، لصح الأمر بالاقتداء به وإنّ طاعته طاعة الله سبحانه كما قال : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (١).

وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع ، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة ، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الأمر بالاقتفاء في القول والفعل ، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين وتتسم بالعصيان والخطأ ، لما صح الأمر بطاعته والاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف وقد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) (٢).

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الأحزاب : ٢١.

٩٢

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلاّ مع عصمته المطلقة ، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال ، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل.

وإن شئت قلت : لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاؤه واتباعه ، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة ، فعندئذ يلزم الأمر بالمتناقضين ، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له ، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل ، ووقت دون وقت.

وهذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته وانّه مطابق للشرع ، وكم له من مورد في الأحكام الفقهية (١).

الآية الخامسة

إنّ الله سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (٢).

ويقول أيضاً : ( وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (٣).

__________________

(١) وقد عنونه الأُصوليون في أبحاث العام والخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في مثل قوله : « لعن الله بني أُمية قاطبة » فيستدل بإطلاقه على سعته وعدم وجود مؤمن فيهم ، وإلاّ لما صح الحكم بالإطلاق.

(٢) ص : ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) الحجر : ٣٩ ـ ٤٠.

٩٣

فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان وجرّه إيّاهم إلى الطرق المظلمة.

توضيحه : انّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد وإظلام الأمر ، وأُخرى في فساد الشيء ، قال ابن فارس : فالأوّل الغي وهو خلاف الرشد ، والجهل بالأمر والانهماك في الباطل ، يقال : غوى يغوي غياً ، قال الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

وذلك عندنا مشتق من الغياية ، وهي الغبرة والظلمة تغشيان ، كأنّ ذا الغيِّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.

وأمّا الثاني : فمنه قولهم : غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه ، والمصدر : الغوى (١).

وعلى ذلك فسواء فسرت الغواية في الآيتين بالمعنى الأوّل كما هو الأقرب أو بالمعنى الثاني ، فالعباد المخلصون منزهون عن أن تغشاهم الغبرة والظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً ، ونفي كلا الأمرين يستلزم العصمة ، لأنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل وظلمة الباطل ، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.

نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية ، فإنّ مخالفة الأوامر الإرشادية التي لا تتبنى إلاّ النصح والإرشاد وإن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة وفسادالعمل ، لكنها لا تستلزم التمرد والتجري اللّذين هما الملاك في صدق المعصية.

__________________

(١) مقاييس اللغة : ٤ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

٩٤

وعلى كل تقدير ، فما ورد في هذه الطائفة من الآيات بمنزلة ضابطة كلية في حق المخلصين ونزاهتهم عن الغواية الملازمة لنزاهتهم عن المعصية.

وهناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين وتصفهم وتقول : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ ) (١).

فقوله سبحانه : ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) خير دليل على أنّ المعدودين والمذكورين في هذه الآيات من إبراهيم وذريته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان والخلاف.

نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الأنبياء والرسل إلاّ بعدم القول بالفصل حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها ، وليس هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض.

هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الأنبياء وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٢).

لأنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة وان كان يحتمل أن يكون المراد

__________________

(١) ص : ٤٥ ـ ٤٨.

(٢) الأنعام : ٨٧.

٩٥

الاجتباء بالنبوة ، والكلام هنا في الاجتباء دون الهداية.

ومثله قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (١).

__________________

(١) مريم : ٥٨.

٩٦

حجة المخالفين للعصمة

قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية : « تلقّي الوحي ، والتحفّظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس ، والعمل به » غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة ، وقد تذرعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

وهذه الآيات على طوائف :

الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية : ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئية.

الثالثة : ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

فعلينا دراسة هذه الأصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره :

الطائفة الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء

الآية الأُولى

ومن هذه الطائفة قوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١).

__________________

(١) يوسف : ١٠٩.

٩٧

( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ ) (١).

استدل القائل بعدم وجود العصمة في الأنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله : ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ترجع إلى الرسل ، ومفاد الآية انّ رسل الله سبحانه وأنبياءه كانوا ينذرون قومهم ، وكان القوم يخالفونهم أشد المخالفة ، وكان الرسل يعدون المؤمنين بالنصر عن الله والغلبة ويوعدون الكفّار بالهلاك والإبادة ، لكن لما تأخر النصر الموعود وعقاب الكافرين « ظن الرسل أنّهم قد كذبوا » فيما وعدوا به من جانب الله من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين ، ومن المعلوم انّ هذا الظن سواء أكان بصورة الإذعان واليقين أو بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب ، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول : لما أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كذب ( بصيغة المجهول ) الرسل في ما وعدوا به من النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين.

وعلى هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين ، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

وإليك الأجوبة المذكورة في التفاسير :

الأوّل : انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا ( أي قيل لهم قولاً كاذباً ) هو تظاهر عدة من المؤمنين بالإيمان وادّعاؤهم الإخلاص لهم ، فتصور الرسل انّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً وباطلاً ، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان (٢).

__________________

(١) يوسف : ١١٠.

(٢) مجمع البيان : ٥ ـ ٦ / ٤١٥ ، ط دار المعرفة ، بيروت.

٩٨

وفيه : انّ هذا الجواب وان كان أظهر الأجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية ، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه : ( قَدْ كُذِبُوا ).

وإن شئت قلت : ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالإيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا ، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه حيث يقول : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١).

ومجرد قوله : ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب ، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنهم بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك : إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء ، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً ، وكان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً ، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر ، لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً ، والمؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة : ( جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ) مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن

__________________

(١) يوسف : ١٠٩.

٩٩

يقول : « بل تبين للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ».

الثاني : انّ معنى الآية : ظن الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي ، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس ، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس ـ لأجل تأخر العذاب ـ انّ الرسل قد كذبوا ، أي أخبروا بنصر المؤمنين وعذاب الكافرين كذباً ، جاءهم نصرنا ، فنجّي بذلك من نشاء وهم المؤمنون ، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

وقد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب ، قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه : ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) (١) ، وكذا في قصة هود وصالح.

وقال سبحانه في قصة موسى : ( فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا ) (٢). (٣)

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال ، فإنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في « ظنّوا » هو الرسل المقدم عليه ، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر ، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ ( الناس ) حتى يكون مرجعاً للضمير في « ظنّوا ».

أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ

__________________

(١) هود : ٢٧.

(٢) الإسراء : ١٠١.

(٣) الميزان : ١١ / ٢٧٩.

١٠٠