مفاهيم القرآن - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: ٥٣٩

الواقعيين إلاّ الشاذ النادر ، فإن الزيارة الرسمية الّتي رسم مقدماتها عملاء الطاغوت لا تسمح بإنجاز هذه الأُمور.

كيف ينكر الأُستاذ خدمة الشيعة للقرآن وعلومه وتبيين وجوه إعجازه مع أنّ المفسّر الأوّل هو إمام الشيعة وإمام المسلمين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ثم تلميذه الأكبر ابن عباس حبر الأُمّة ، ثم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كلّهم ، ثم تلاميذهم المتربّون في أحضانهم ومناهجهم وقد توالى التأليف حول القرآن في كل ما يرجع إليه من زمن ابن عباس إلى زماننا هذا.

ولإيقاف الأُستاذ على النزر اليسير من الجهود العلمية الّتي تحمّلها علماء الشيعة نأتي بأسماء التفاسير الّتي أُلّف أكثرها في أواخر القرن الرابع عشر الهجري باللغة العربية فقط ونترك ما أُلّف بغيرها :

١. « آلاء الرحمن في تفسير القرآن » : تأليف العلاّمة المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي ( المتوفّى عام ١٣٥٢ ه‍ ) صدر منه جزءان.

٢. « الميزان في تفسير القرآن » : تأليف العلاّمة المحقّق المتألّه الأكبر السيد محمد حسين الطباطبائي ( المتوفّى ١٤٠٢ ه‍ ) وهو في عشرين جزءاً ، طبع في بيروت وإيران.

٣. « البيان في تفسير القرآن » : تأليف المحقّق الأكبر السيد أبو القاسم الخوئي النجفي ـ دام ظلّه ـ طبع طبعات متعددة ، منها مانشرته مؤسسة الأعلمي بيروت ، الطبعة الثالثة ـ ١٣٩٤ ه‍ / ١٩٧٤ م.

٤. « التفسير الوجيز » : للعلاّمة الفقيه السيد محمد التبريزي ( مولانا ) ( المتوفّى عام ١٣٦٣ ه‍ ) وهو تفسير على غرار تفسير الجلالين ، طبع في قم المقدسة من قبل مؤسسة الإمام المنتظر عليه‌السلام ـ ١٤١٨ ه‍.

٤٨١

٥. « التفسير الكاشف » : في سبعة أجزاء ، تأليف العلاّمة الحجة المجاهد الشيخ محمد جواد مغنية رحمه‌الله وهو من فطاحل علماء بيروت ومن المناضلين ضد البدع ، وله مع ذلك تفسير صغير آخر ألّفه للشباب.

٦. « الفرقان في تفسير القرآن » : للعلاّمة الحجّة الشيخ محمد الصادقي الطهراني ، طبع في بيروت من قبل مؤسسة الأعلمي في ٣٠ جزءاً.

٧. « التمهيد في علوم القرآن » : للعلاّمة الحجة الشيخ محمد هادي معرفة ، صدرت منه ستة أجزاء.

٨. « التفسير الأمثل » : للعلاّمة آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ـ حياه الله وبياه ـ ، وهو ترجمة لتفسيره باللغة الفارسية في عشرين جزءاً ، من منشورات مؤسسة البعثة ، بيروت ـ ١٤١٣ ه‍.

٩. « القرآن والعقل » : للعلاّمة السيد نور الدين العراقي ( المتوفّى ١٣٤١ ه‍ ) ، وهو تفسير بديع في اسلوبه ، في ثلاثة أجزاء ، مطبوع في إيران سنة ١٤٠٣ ه‍.

١٠. « تقريب القرآن إلى الأذهان » : تأليف العلاّمة الحجة السيد محمد الشيرازي ، ويقع في ٣٠ جزءاً.

١١. « التحقيق في كلمات القرآن » : في أربعة عشر جزءاً تأليف المحقّق الشيخ حسن المصطفوي ـ دام ظلّه ـ ، وقد خرج جميع الأجزاء.

١٢. « مواهب الرحمن في تفسير القرآن » : للعلاّمة الحجة السيد عبد الأعلى السبزواري النجفي ، صدر منه عشرة أجزاء.

١٣. « تفسير القرآن الكريم مفتاح أحسن الخزائن الإلهية » : تأليف العلاّمة

٤٨٢

المحقّق السيد مصطفى الخميني ، مطبوع في إيران خمسة أجزاء ، من منشورات مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس‌سره عام ١٤١٨ ه‍.

١٤. « تفسير البصائر » : تأليف العلاّمة المحقّق الشيخ يعسوب الدين الجويباري ، ويقع في ٦٠ جزءاً ، مطبوع في قم المقدسة عام ١٤١٣ ه‍.

١٥. « الجديد في تفسير القرآن المجيد » : تأليف العلاّمة الحجة الشيخ محمد بن حبيب الله المعروف بالسبزواري النجفي ، سبعة أجزاء ، مطبوع في بيروت من منشورات دار التعارف للمطبوعات ـ ١٤٠٢ ه‍.

١٦. « مفاهيم القرآن » : كتاب يفسر القرآن حسب موضوعاته ، وهو مبتكر في موضوعه ، بديع في بابه ، تأليف كاتب هذه السطور ، صدرت منه حتّى الآن عشرة أجزاء ، طبع في إيران عدة طبعات.

هذه هي أسماء التفاسير الّتي أُلّفت باللغة العربية في العصر الأخير أتينا بأسمائها من دون مراجعة الفهارس المكتبية.

وهناك تفاسير كثيرة باللغة العربية مطبوعة ومخطوطة لأعلام المعاصرين لم يسمح لهم الزمان بنشرها ، ومن أراد الوقوف على عناية طائفة الإمامية بتفسير الذكر الحكيم طول القرون ، فعليه الرجوع إلى كتاب « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ( الجزء الرابع مادة التفسير ) ومع ذلك فقد فاتته أسماء قسم من التفاسير الّتي أُلّفت في العصر الأخير.

ونحن نكتفي بهذا المقدار من التناقض الموجود بين الرسالتين ، ولا يفوت القارئ الكريم عرفان الحوافز الّتي دفعت المؤلف إلى هذا التناقض.

فإنّ الكاتب في الفترة الأُولى أطلّ بنظرة على الحقائق لا بعين السخط ، وإن

٤٨٣

قصّر في كثير من الأُمور ، ولكنّه في الرسالة الثانية أطلّ بنظره عليها بعين السخط بعد قيام الثورة الإسلامية الّتي أثارت المستضعفين والمحرومين في المنطقة على أصحاب العروش ، الذين لم يزل الأُستاذ وأعضاء الوفد والرابطة يؤيدونهم وينصرونهم بأقلامهم وألسنتهم ، فلم يكن له بد من النظر إلى تلك الطائفة من زاوية السخط والغضب ، ولأجل ذلك جاء بالطامات والأكاذيب والنسب المفتعلة الّتي نشير إلى بعضها ، وقد قيل :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

ولكن لم يكن هناك أيّ سوء أبداه سوى النسب المفتعلة.

وهناك مؤاخذة عامة تعم هذا الفريق من الكتّاب ولا تختص بالأُستاذ ولا بوفده ، وهي أنّهم قد اعتادو على السكوت على الظالم بل الركون إليه والجلوس على موائده ، والتبجّح بضيافته ، وهذه شنشنة نعرفها من هذه الجماعة من عصر الأُمويين إلى يومنا هذا ، ونجلّ العلماء الواقعيين من السنّة عن هذه المؤاخذة.

ولذلك ينبغي أن نركّز على هذه النقطة الّتي كانت ولا تزال أساس الكثير من الانحرافات الّتي ألحقت بالمسلمين أكبر الأضرار في حياتهم الاجتماعية والسياسية ، وجعلت الكتّاب والمفكّرين في خدمة الظالم.

الركون إلى الظالم وحكمه في الإسلام

لا شك أنّ الإسلام قد حرّم الركون إلى الظالم فقال سبحانه : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (١) ، والكاتب وزملاؤه من مؤيدي الحكومات

__________________

(١) هود : ١١٣.

٤٨٤

الجائرة والدعاة لهم في صلوات الجمعة والجماعة ، فما هو جوابهم عند الله عن هذا الركون الّذي لا يمكن إنكاره ؟!

هذا هو زميله أبو الأعلى المودودي أوّل فائز بجائزة الملك فيصل ، وذاك نصيره الآخر « عبد رب الرسول سياف » الفائز بالجائزة الملكية عام ١٤٠٤ ه‍ (١) ، وهكذا دواليك فلا يشك ذو مسكة انّ جميع مشاريعهم وخططهم قائمة بالأُجور المبذولة من قبل الحكومات المفروضة على الأُمّة الإسلامية ، وهؤلاء قبال هذه النعم والترف ، يسعون بكل قوة وحماس ، في تدعيم عروشهم وتحكيم دعائمها ، ومع ذلك يدّعون أنّهم على خط الإسلام ، والتوحيد وغيرهم على خط الوثنية والشرك.

فما هذا التوحيد الّذي يدّعونه ويجعلونه واجهة لكل آمالهم وأُمنياتهم الدنيوية ؟! فلو كانت حقيقة التوحيد كسر الأصنام والأوثان ، وحذف الوسائط بين العبد والرب ، فما معنى تكريم هذه الطواغيت الجائرة ، والدعاء لهم والافتخار بضيافتهم الفاخرة ، والنزول عند رغباتهم واتخاذهم سناداً وعماداً في الحياة حتّى كأنّه لولاهم لما استقر لهم العيش ؟

نراهم ونرى كل من كان في الخط الذي يمشي عليه هؤلاء ، ساكتين في مقابل طواغيت العصر وأعمالهم الإجرامية ومنها تسامحهم بل تعاملهم مع الشيطان الأكبر الّذي زرع دويلة إسرائيل في قلب الأُمّة الإسلامية ، وهومعلوم للأصم والأعمى ، فكيف بالسميع والبصير ؟!

نرى أنّه سبحانه يذمّ الساكتين ويندّد بالمحايدين عندما يطرح حياة أُمّة من بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون في ساحل من سواحل البحر ، فيقسمهم إلى ثلاثة أصناف :

__________________

(١) جريدة أخبار العالم الإسلامي ، رجب ١٤٠٧ ه‍ ـ الموافق ١٦ آذار ١٩٨٧ م.

٤٨٥

الأوّل : الجماعة الرافضة لحكم الله سبحانه ، حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قائلاً : ( ... إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) (١).

الثاني : الجماعة الساكتة الّتي أهمّتهم أنفسهم ، لا ينهون المعتدين عن عدوانهم ، بل كانوا يعترضون على القائمين بوظيفة الإرشاد ، والرد في وجه العاصين والطاغين بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ).

الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، محتسبين ذلك وظيفة دينية عريقة ، وقد حكى الله سبحانه على لسانهم وقال : ( مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ).

فالله سبحانه يخبر أنّه اباد الطائفتين الأُوليين « المنكرين ، والساكتين والمحايدين » وأنجى الطائفة الثالثة قائلاً : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (٢) ، فالآية صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء وشمول العذاب للمعتدين والساكتين.

فما أصرح الآية في تبيين مصيركم أيّها الساكتون في وجه الطغاة ، الجالسون حول موائدهم العامرة ، المرتادون لمجالسهم وضيافاتهم الفاخرة ، من دون أن تقابلوهم بوجوه مكفهرّة أو بقلوب مملوءة بالغضب ، ومع ذلك تدّعون أنّكم دعاة التوحيد وأعلام الهداية وشعاركم الوحيد « إلى الإسلام من جديد » ؟!!

وهل الإسلام إلاّ أُصول وعقائد وأحكام ووظائف جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين وملأ فمه : « من رأى منكراً فليغيره بلسانه ، فإن لم يستطع فبيده ، ومن لم

__________________

(١) الأعراف : ١٦٣.

(٢) الأعراف : ١٦٥.

٤٨٦

يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ».

فهل أنت أيها الأُستاذ ويا أصحاب الندوة والندويين المرتزقين من الوهابية على هذا النمط ؟ فهل رفعتم عقيرتكم على أصحاب الجلالات والعروش بمساهمتهم مع الشيطان الأكبر بإيوائه ثغر الإسلام وأُمّ القرى ومن حولها ؟ كلا ، ولا !! فإنّكم تدركون خطورة الموقف ، وأنّ التخلّف عن الأدب الرسمي فضلاً عن رفع العقيرة ، ينتهي إلى قطع الرواتب والمنح والجوائز ، وبالنتيجة السقوط عن أعينهم وأعين من يعينونهم.

فأنتم بهذا الحال وعّاظ السلاطين وخدّامهم لا وعّاظ الإسلام وخدّام المسلمين غير انّكم اتّخذتم الإسلام والدين واجهة في المجتمع ، ومع ذلك تتمنّون أن يلتف حولكم شباب المسلمين زاعمين أنّكم الإسلام المجسد مع أنّ حياتكم ومنحكم وأُجوركم كلها على عاتق الملوك ، لا على الشعب المسلم ، هذا موجز من دوركم في الحواضر الإسلامية ، ولا نريد البسط والإسهاب « في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء » ؟!!

لقد رأى الكاتب صورتي النبي وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المساجد والبيوت ، وقد عزّ عليه ذلك.

أقول : إنّ الكاتب رأى سفور النساء في شوارع طهران يومذاك ورأى المؤسسات الربوية في جميع المدن الّتي زارها ، كما رأى التماثيل المنصوبة لطاغوت العصر في الساحات والميادين ، ولمس سنّ القوانين الكافرة في البلاد ، ولاحظ البرامج التربوية المنحرفة في الجامعات والكليات ، ومع ذلك كله لم ينبس في شأن تلك الموارد ببنت شفة ولم يعترض لا على مضيّفه ، ولا أتى بذكر واحدة من تلك الأُمور المهمة الهدامة لأُسس الإسلام في صميم رسالته ، ولكنّه عزّ عليه وجود

٤٨٧

صورة النبي والولي في بعض المساجد ، الّتي لا يوافق عليها العلماء ولا يفعلها إلاّ بعض الجهلة والسذج.

فالإسلام الّذي يجتمع مع سفور النساء ، وإنشاء المؤسسات الربوية ، وانحراف المناهج التربوية ، ويلتئم مع القوانين الكافرة في جميع المظاهر ، ويجتمع مع الدعاء للطواغيت والخضوع لهم ، وأخذ المنح والجوائز من أيديهم ، والتذلّل لهم بكل الوسائل ، عليه السلام ، وعلى مثل ذلك الدين العفا ، وكأنّي بشاعر المعرّة يخاطب تلك الزمرة ، ويقول :

إذا وصف الطائي بالبخل مادر

وعير قسّاً بالفهاهة باقل

وقال السهى للشمس أنت خفية

وقال الدجى للصبح لونك حائل

وطاولت الأرض السماء ترفّعاً

وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فياموت زر انّ الحياة ذميمة

ويا نفس جدي انّ دهرك هازل

ويا للعجب انّكم تشاهدون بأُمِّ أعينكم السفور والخمور في شوارع العواصم الإسلامية وتعلمون أنّ الحكومات الّتي أنتم تؤيدونها وتدعمونها ، هي السبب الوحيد لهذه الأوضاع الخلقية المؤسفة ومع ذلك لا تنبسون ببنت شفة ، ولمّا قامت الثورة الإسلامية في إيران ، فجابهت فوضى الفساد ، وقطعت جذورها ، خرجتم من أوكاركم متسلحين باسم الإسلام المزعوم تصبون القارعات عليها ، وتشنون الغارات إليها بكل قوّة ووسيلة ، وتكتبون في كل شهر وشهرين رسالة حولها إبعاداً لها عن قلوب الشباب ، وتحاولون تشويه سمعتها ، ما هذا التساهل في مقابل الطغمة الأثيمة في الحواضر الإسلامية ، وما هو الهدف وراء هذه الهجمة الشرسة على الحكومة الإسلامية الفتية الّتي تريد إيقاظ الطوائف الإسلامية ، حتّى تقوم بواجبها وتركز على التمسك بالوحدة ؟!

٤٨٨

فبدلاً من دعمها وتأييدها وصيانتها عن الزلة حتّى تنمو وتصير شجرة مثمرة معطية أُكلها كلَّ حين ، قمتم بوجه تلك الحكومة بنشر كتيبات ورسائل تكرّرون الشبه الّتي أكل عليها الدهر وشرب ، وأجاب عنها الفطاحل الأعلام ، وقبل كل شيء تشقون عصا المسلمين وتمزّقون الوحدة ولو كان الهدف من نشرها هو الهداية والإرشاد إلى سبيل التوحيد ، فليست الفرية والافتعال والاعتماد على كتب مخالفيهم ، بل وعلى كتب اليهود والنصارى من شروطها ، ولا نبش الدفائن من أُسسها !! « ما هكذا تورد يا سعد الأبل ».

إنّ ما تذكرونه من الشبهات مأخوذ من كتّاب مغفّلين أو مستغربين ، كموسى جار الله التركستاني ، وأحمد أمين المصري ، ذلك الكاتب المتحذلق المختلق ، والقصيمي النجدي ذلك الكيذبان الأشرس على المسلمين جميعاً وعلى الشيعة خصوصاً ، وغيرهم ، وقد قام الفطاحل الأعلام من الإمامية بنقد هذه النسب المفتعلة أو تفسيرها على نهج الحق ، نظراء : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، والسيد محسن الأمين الشامي ، وشرف الدين العاملي ، وعبد الله السبيتي ، والعلاّمة الأميني ـ قدس الله أسرارهم وأسكنهم فسيح جناته ـ فكان الواجب على الكاتب ونظيره ترك التعرّض لهذه المسائل بعد الوقوف على هذه الكتب ، غير أنّه راقه تكرار المكرّرات وإغواء البسطاء ، وقبل كل شيء إرضاء الأسياد الذين يقومون في وجه الثورة الإسلامية يخافون من اندلاعها في المنطقة.

لا شك أنّ الحركة نحو الإسلام قد استفحلت في جميع الأقطار الإسلامية وتشرف أن تكون ناضجة مثمرة في الأبعاد الكثيرة ، وانّ الأُمنية الّتي كانت تجول في خواطر الشخصيات الإسلامية الكبيرة منذ بداية القرن الرابع عشر كالسيد جمال الدين الأسدآبادي ، وتلميذه شيخ الأزهر محمد عبده المصري ، والسيد الكواكبي الشامي وسائر الأعلام ، أخذت تتجسد في المجتمع.

٤٨٩

فهل يصحّ في هذه الظروف نبش الدفائن والتنقيب عن المسائل الّتي تفكك عرى الوحدة ، وتوجد القلق والاضطراب ، أو ليست الوظيفة في هذه الظروف الدعوة إلى الوحدة وتناسي البحث عن هذه المسائل أو تأجيلها إلى آونة أُخرى ؟!

هذه خلاصة القول في الرسالة الأُولى ، وكفانا في نقدها ما كتبه العلاّمة المحقّق الشيخ لطف الله الصافي ( دام ظله ) قبل أعوام عندما نشر الكاتب المذكور رسالته الأُولى ، فأجاب عنها الشيخ برسالة أسماها « إيران تسمع فتجيب » (١) ، وقد قابله بأجوبة رصينة ، وبما أنّ الظروف في تلك الأعوام لم تسمح له بالأصحار بالحقائق بأكثر ممّا فيها ، لذلك طوى الكلام عن كثير من الانتقادات المتوجهة إليها ، فشكر الله مساعي شيخنا المحقّق ونفعنا الله بوجوده وعلومه.

موجز الرسالة الثانية

إنّ الرسالة الثانية تشتمل قبل كل شيء على « علم كلام » جديد غفل عنه مشايخ المعتزلة وأئمة الأشاعرة ، كما تشتمل على أُمور مفتعلة على الشيعة وهم برآء منها ، وقد طرحت في كتب المغرضين من القدماء كابن حزم وتيمية وحجر ، والمتأخرين عنهم أحمد أمين المصري والخضري ذلك الأُموي المباهت وغيرهم من كتب السلف والخلف. والمطلب الجديد الّذي أتى به الكاتب ما زعم أنّه يشترط في النبوّة الدائمة تحقّق شروط أربعة وإنّها من ملامح الرسالة الخالدة ، وإليك تحليل تلك الشروط واحداً بعد الآخر.

الشرط الأوّل للرسالة الخالدة

يقول : إنّ معجزة التأثير والهداية يجب أن تتحقّق في حياة الرسول وعلى أثر

__________________

(١) طبعت الرسالة عام ١٣٩٩ ه‍ ، ونشرتها دار القرآن الكريم في قم المشرّفة.

٤٩٠

وفاته ، ويجب على الرسول أن يقدّم أمام العالم عدداً وجيهاًمن نماذج عملية ناجحة بنّاءة ، ومجتمعاً مثالياً في أيامه ، لأنَّ الشجرة الّتي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة ولم تتلقح أزهارها العطرة الجميلة أيام شبابها ، وفي موسم ربيعها ( وهو عهد النبوّة ) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة.

وكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليهما ـ الذين ظاهروا بعد أن مضى على عهد النبوّة زمن طويل ـ أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعالم الحاضر دعوة إلى الإيمان والعمل ، والدخل في السلم كافة وهم عاجزون من تقديم نتائج حيّة باهرة للألباب ، مسلمة عند المؤرخين للمجهودات الّتي بذلت في العهد الأوّل وفي فجر تاريخه في سبيل إبراز أُمّة جديدة وإنشاء جيل مثالي يمثّل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ويبرهن على تأثيرها ونجاحها (١).

وحاصل هذا الشرط الّذي ذكره مع ما فيه من التعقيد في العبارة هو أنّ من شرائط النبوّة الخالدة أن يكون صاحبها ناجحاً في تربية الجيل الأوّل وأصحابه الذين التفوا حوله ، إذ لولا ذلك لما صحّت لمن يجيء بعد الرسول ، الدعوة إلى دينه ودعوته بحجة أنّ صاحب الدعوة إذا لم يكن موفقاً في دعوته ، فكيف تكون دعوة الغير إلى سبيله ناجحة ومفيدة ؟

وبالتالي يجب أن يكون صحابته جيلاً مثالياً رائعاً ، وهذا ما يقتضيه الدليل النفسي الاجتماعي ، مع أنّ الشيعة الإمامية يخالفون هذا الرأي ويخطّئون الصحابة.

تحليل هذه النظرية

إنّ كمال الدعوة وصحتها يتمثل في قوّة المحتوى ورصانة حجتها ، بحيث

__________________

(١) صورتان متضادتان : ١١ ـ ١٢.

٤٩١

تكون الدعوة مطابقة للفطرة ، وموافقة لحكم العقل السليم ، ومتماشية مع الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية ، عند ذلك تتم الحجة من الله سبحانه على العباد ، وأمّا اشتراط كون الداعي موفقاً وناجحاً في دعوته ، وتربية جيله ، فلم يدل عليه شيء من العقل والشرع ، إذ النجاح والفوز ليس دليلاً على صحة الدعوة ، ولاتولي الناس وعدم استجابتهم برهاناً لبطلانها ، والعجب أنّ المنطق الّذي اعتمد عليه الأُستاذ في بيانه ممّا تكرّسه الملاحدة من أتباع « ماركس » و « البهاء » وغيرهم من الأحزاب الباطلة ، فهم يستدلون على صحة خططهم في مجال الحياة بالنفوذ والاستيلاء على الأفكار في مختلف الأقطار ، ويقولون إنّه لم يمض على موت ماركس وانجلس حتّى غطّت فلسفتهما ربع المعمورة ، واعتنقها ملايين الناس.

وهذه هي البهائية البغيضة تشترط في صحة دعوى النبوّة أُموراً أربعة :

١. ادّعاء النبوّة.

٢. النفوذ والنجاح في الدعوة.

٣. ثبات المدّعي في طريقها.

٤. وكونه صاحب شريعة وبرنامج.

هذه هي الأُمور الّتي نسمعها من الماركسية والبهائية ، فإذاً نتحيّر كيف تسرّبت هذه الأفكار المنحرفة إلى ذهن الكاتب فقام بادّعاء ، لا يفترق عن ادّعائهم قيد شعرة ؟!!

لو كان من شروط النبوّة الخالدة إقبال الناس على الداعي إليها ، وخاصّة جيله المعاصر له ، يلزم أن يعذر المولون عن الدعوة في صدر البعثة ، نظراء : أبي لهب وأبي جهل وأُمية بن خلف ، إذ في وسعهم أن يقولوا : إنّ من شرائط صحة النبوّة الخالدة إقبال الناس إلى الداعي ونفوذ دعوته في نفوسهم ، ونحن لا ندري هل يكون هذا الداعي ناجحاً في دعوته ، وهل الناس يستقبلونها بوجوه مشرقة ، أو يردونها بألسنتهم وأكفّهم ، فإذاً نحن لا نؤمن بدعوته ونبوته ورسالته للشك في

٤٩٢

صحة رسالته واستجماعها شرائط الصحة ؟!!

ما أشبه الليلة بالبارحة

والعجب أنّ يهود أبناء قريظة والنضير وقينقاع ، تمسّكوا بهذا العذر عندما دعاهم النبي إلى الطريق المهيع.

فقالوا : يا محمد إلى مَ تدعو ؟ قال : « إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، وأنّي الّذي تجدونني مكتوباً في التوراة ، والّذي أخبركم به علماؤكم انّ مخرجي بمكة ومهاجري بهذه الحرة ... يبلغ سلطاني منقطع الخف والحافر » فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا نتعرض لأحد من أصحابك ولا تتعرض لنا ولا لأحد من اصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك (١).

فقولهم : « حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك » تعليل لتوقفهم في الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ تثبتهم لأجل الاستطلاع عن بلوغ سلطانه منقطع الخف والحافر أو لا ، وكأنّهم يقولون : « فما لم نر بأُمِّ أعيننا أنّه آمنت بك جمهرة الناس ، فلا نؤمن بك » فلو كان هذا الكلام ، دليلاً رصيناً يصحّ لكل من كفر ولم يؤمن به في بدء الدعوة الالتجاء إلى هذا العذر ، وعند ذاك أصبح إيمان الناس بدعوة النبي أشبه بالدور ، إذ تلبية كل إنسان معاصر في بدء الدعوة وإيمانه بالدعوة النبوية ، يتوقف على تحقّق هذا الشرط أي إيمان الجيل المعاصر به ، ومن جانب آخر يتوقف تحقّق هذا الشرط على تلبية كل إنسان معاصر للدعوة وإيمانه به ، وهل هذا إلاّ الدور الصريح المحال ، وعندئذ لايصل الداعي إلى نتيجة إيجابية أبداً ، ويكون الكفّار في صدر الدعوة معذورين حسب هذا المنطق.

__________________

(١) إعلام الورى بأعلام الهدى : ٧٦.

٤٩٣

هذا كلّه راجع إلى تحليل هذا الشرط من زاوية قضاء العقل ، فهلم معي نعرض صحة هذا الشرط على القرآن الكريم ، وهل هو يصدّق الكاتب في هذا الادّعاء أو يكذّبه من أساسه.

نحن نرى أنّ هناك أنبياء صادقين لم ينجحوا في دعوتهم طيلة حياتهم ، هذا قوله سبحانه يصف كيفيّة نجاح نوح عليه‌السلام بقوله :

( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (١) ، وقد قام بالدعوة وإرشاد الناس ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، فما آمن به إلاّ عدّة قليلة أركبها على الفلك.

إنّ الاعتماد على الكثرة هو منطق الفراعنة ، وقد كان فرعون يصف أتباع موسى بقوله : ( إِنَّ هَٰؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) (٢) ، وعلى العكس يصف سبحانه أتباع الحق ويقول : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) (٣).

على أنّه لا ملازمة بين صحة دعوة الداعي ، وإجابة المدعوين ، فربّما يكون الداعي كاملاً في دعوته ، قويّاً في منطقه ، رصيناً في بيانه ومجرّباً في إلقاء الحجّة ، إلاّ انّ الظروف لا تسمح للتجاوب والتصويت ، أو يكون المدعوّون أُسراء الشهوة وطلاّب اللذة فلا يكون الداعي مهما بلغ في صحة الدعوة شأواً شامخاً ناجحاً في الدعوة.

فلسفة جديدة

وان تعجب فعجب أنّه جعل نجاح الداعي في تربية الجيل الأوّل وصحبه الكرام شرطاً للرسالة الدائمة والنبوة الخالدة ، لا شرطاً لمطلق النبوّة والرسالة ، وإن

__________________

(١) هود : ٤٠.

(٢) الشعراء : ٥٤.

(٣) ص : ٢٤.

٤٩٤

طال الفصل بين دعوة النبي الأوّل ودعوة النبي الآخر الناسخ لشريعته ، كدعوة موسى بن عمران بالنسبة إلى دعوة المسيح ، حيث إنّ الفصل بين الدعوتين يقرب من ثلاثة آلاف سنة ، فنسأل الأُستاذ بأيّ دليل جعل النجاح شرطاً للرسالة الخالدة دون مطلقها مع أنّ بعض الرسالات غير الخالدة ، كانت مستمرة حوالي ثلاث آلاف سنة ، أي أكثر ممّا مضى من بعثة الرسول الأكرم إلى زماننا هذا ، فلو كان عدم النجاح في الرسالة الخالدة دليلاً على وهن الدعوة في نظر الناس الذين جاءوا بعد مضي صاحبها بقرون ، فليكن عدم الفوز والنجاح موهناً في نظر الناس في نظائر الرسالات الطويلة وان لم تكن خالدة ، وعلى هذا الأساس يكون الكافرون بشرائع ، كشريعة موسى لأجل عدم نجاحه في طريق دعوته ، معذورين عند الله ، ولا أظن لمسلم واع أن يصحح ذلك الادّعاء ويعذر الكافرين والمتولّين عن دعوة الأنبياء ، ولأجل ذلك يصبح منطق الأُستاذ فلسفة جديدة لم يسبق إليها أحد من علماء الكلام ولا فلاسفة الإسلام.

النبي الأعظم كان ناجحاً في دعوته

إنّ النبي الأكرم قد نجح في دعوته ، ولكن ليس معنى نجاح دعوته هو عدالة كل من رآه أو سمع منه شيئاً أو صحبه يوماً أو أياماً اوسنة اوسنتين ، إذ لا ملازمة بين نجاح الدعوة وعدالة من صحبه ، بل المراد من نجاحه هو تأثيرها في أُمم العالم ، معاصرة كانت أم لاحقة ، والدعوة المحمدية أثّرت في أُمم العالم وشعوبها وأصحابه والتابعين لهم بإحسان حتّى المنافقين من أصحابه ، والكل أخذوا منه حسب قابليتهم واستعدادهم ، فقد بلغت عدّة من أصحابه إلى القمّة كعلي بن أبي طالب ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وخزيمة بن ثابت ، إلى غير ذلك من أصحابه الكرام ، كمابلغت عدة منهم درجة المتوسطين في الإيمان والعمل ، كما

٤٩٥

أنّ هناك عدة أُخرى تعد من الراسبين في كلا المجالين ، ومن قرأ تاريخ الصحابة يعلم أنّهم لم يكونوا على مستوى واحد في الإيمان والعمل.

نحن نفترض صحة ما ادّعاه من الشرط وأنّ الصورة الواقعية من الإسلام الصحيح ، هو الّذي رسمه من لزوم نجاح الرسول في تربية جيله الأوّل عامّة ، وانّ كل من رآه وسمع كلامه وصحبه ، كان مؤمناً ورعاً متربياً بالتربية الصحيحة الإسلامية ، وبقوا على هذه الحالة حتّى انتقلوا إلى رحمة الله ، غير انّنا نرى أنّ الصحاح والمسانيد ، تقدّم صورة معاكسة لما صوّره الأُستاذ ، فهي تهدم كل مجهودات النبي في مجال التربية وتوجيه الرعيل الأوّل ، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير ، وتقدم صورة كالحة جاحدة للنعمة ، وإليك ما يذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ذلك الجيل المثالي خريج مدرسة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فروى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ما يدل على أنّ أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، فجوابك أيّها الأُستاذ عن هذه الأحاديث هو جواب الشيعة عن أخبار الارتداد حرفاً بحرف ، وإليك نقل ما رواه الشيخان :

١. روى عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليّ رجال منكم ، حتّى إذا أهويت إليهم لأُناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ». أخرجه البخاري ومسلم.

٢. روى أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ ، اختلجوا دوني ، فلأقولنّ أي ربِّ أصحابي أصحابي ، فليقالن لي إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ».

وفي رواية « ليردن عليّ أناس من أُمّتي » ـ الحديث ـ وفي آخره : « فأقول سحقاً

٤٩٦

لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم.

٣. روى أبو حازم رحمه‌الله عن سهل بن سعد قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم » قال أبوحازم فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أُحدّثهم هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري : لسمعته يزيد فيقول : « إنّهم مني فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم.

٤. روى أبو هريرة انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال من أُمّتي ـ فيحلؤون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ». وفي رواية « فيجلون ». أخرجه البخاري ومسلم.

٥. روى البخاري : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين ؟ قال : إلى النار والله. فقلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أُخرى ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين ؟ قال : إلى النار والله. قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم ».

٦. وروى مسلم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ترد عليّ أُمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه ، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله » قالوا : يا نبي الله تعرفنا ؟ قال : « نعم ، لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون علي غرّاً محجّلين من آثار الوضوء ،

٤٩٧

وليصدّن عني طائفة منكم ، فلا يصلون ، فأقول : يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ».

٧. روت عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ـ وهو بين ظهراني أصحابه ـ : « إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم ، فوالله ليقتطعن دوني رجال فلأقولن : اي ربِّ مني ومن أُمّتي ، فيقول : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ، ما زالوا يرجعون على أعقابهم ». أخرجه مسلم.

٨. روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي على الحوض أنظر من يرد عليّ ، وسيؤخذ ناس دوني ، فأقول : يا ربّ مني ومن أُمّتي ـ وفي رواية فأقول : أصحابي ـ فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم » أخرجه البخاري ومسلم (١).

فإذا كان رمز صدق الرسالة الخالدة هو النجاح الّذي يلقاه صاحب الدعوة في دعوته وتربية الجيل الأوّل ، فمن هؤلاء الذين يقول في حقّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سحقاً سحقاً ، لمن غيّر بعدي » ؟!!

هذا كلّه حول الشرط الأوّل للرسالة الخالدة. وفي ما يلي دراسة باقي شرائط الرسالة الدائمة في ضوء العقل والكتاب والسنّة.

الشرط الثاني للرسالة الخالدة

يقول الكاتب :

يجب أن يكون الداعي الأوّل متميّزاً عن مؤسس الحكومات والدعاة

__________________

(١) راجع جامع الأُصول : ١١ / ١١٩ ـ ١٢١ ، وعليك مراجعة ذلك الكتاب لمعرفة ما لم ننقل من الأحاديث ، لاحظ ص ٤٧٨ من هذه الموسوعة.

٤٩٨

الماديين ، فإنّ محور الجهود الّتي يبذلها مؤسسو تلك الحكومات هو قيام مملكة خاصّة ، وتأسيس حكومة وراثية ، ثم استنتج من هذا الشرط أنّ عقيدة الشيعة بالإمامة الموروثة على خلاف هذا الشرط (١).

أقول : إنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم لم يقولوا بالحكومة الوراثية ، وإنّما هي تهمة أُلصقت بهم بسبب الجهل بمعتقداتهم ، فإنّ الشيعة وإن قالت بأنّ الإمام المفترضة طاعته بعد علي ، هو ابنه الحسن ، فالحسين ، وهكذا ، ولكنّه ليس لأجل أنّهما ولدا الإمام علي بن أبي طالب ، وإنّما لأجل التنصيص على إمامتهما من جانب الرسول خلال حياته ، بقوله : « الحسن والحسين ابناي إمامان قاما أو قعدا » (٢). ولو قالت الشيعة بأنّ الإمام بعد الحسين هو ابنه علي بن الحسين لا من جهة أنّه ولده ووارثه ، بل لأجل التنصيب من الله سبحانه لهم ، ولو كانت الوراثة هي المحور للإمامة لكان أخو الإمام الحسين ، أعني : محمد بن الحنفية أَوْلى بها من علي بن الحسين ، لأنّه ابن الإمام أمير المؤمنين علي ، وأكبر سناً من ابن الحسين علي السجاد.

وعلى ذلك ، فالشيعة تعتقد بإمامة الأئمّة الاثني عشر أوّلهم أمير المؤمنين عليه‌السلام وآخرهم الإمام القائم الّذي أخبر عنه الرسول وعن غيبته وظهوره وقيامه في كلماته ، وقد ملأت كتب الفريقين أحاديثه ، وذلك لأجل وجود النص على إمامة هؤلاء من النبي الأكرم ومن كلّ إمام بالنسبة إلى إمام بعده ، فباكتمال العدد الاثني عشر ، انتهت الإمامة التنصيصية ، فلو كانت الإمامة عندهم بملاك الوراثة لوجبت إدامة الإمامة ، إدامة وراثية من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولاد الأئمّة

__________________

(١) صورتان متضادتان : ١٢.

(٢) أو أبناي هذان ... رواه أعلام الفريقين : لاحظ « أهل البيت » تأليف أبو علم طبع مطبعة السعادة بالقاهرة.

٤٩٩

الأطهار ، وهذه الحقيقة يلمسها كلُّ من وقف على معتقدات الشيعة.

ثم لو فرضنا صحة ما يقوله الأُستاذ ، فنقول : إنّ الشيعة والسنّة في هذا الأمر سواسية ، وقد روى مسلم في صحيحه مسألة وراثة قريش الإمامة والخلافة واحداً تلو الآخر منهم ، إلى أن ينتهي عددهم إلى الاثني عشر ، فجواب الأُستاذ عن هذه الأحاديث هو نفس جواب الشيعة عن الإمامة الوراثية المزعومة.

روى مسلم في صحيحه عن رسول الله أنّه قال : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ».

وروى عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » ثم تكلم بكلام خفي عليّ قال : فقلت لأبي ما قال ؟ قال : قال « كلّهم من قريش ».

وفي نص آخر يقول : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي ما قال ؟ فقال : « كلّهم من قريش » (١).

فنسأل الأُستاذ ما معنى هذه الحكومة الوراثية الّتي أخبر عنها النبي الصادع بالحق ، وأنّ قبيلة قريش تستلم الخلافة واحداً تلو الآخر إلى أن ينتهي عدد الخلفاء إلى اثني عشر خليفة ؟ فلو كانت الحكومة الوراثية صورة معكوسة عن الحكومة الإلهية والدعوة السماوية ، فلماذا أخبر عنها النبي كما أخبر بأنّ الإسلام يعتز بهم ، أفهل يتصوّر عزة الإسلام بحكومة على غرار الحكومات المادية ؟!

ثم نسأل الأُستاذ مَنْ أُولئك الأئمة الاثنا عشر الذين أخبر عنهم خاتم الأنبياء والرسل ؟ أفهل ينطبق ذلك بعد الخلفاء الأربعة ، على خلفاء الأمويين أو

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ٣ ، كتاب الامارة ، باب الناس تبع لقريش والخلافة لقريش.

٥٠٠