مفاهيم القرآن - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: ٥٣٩

١

إطاعة السلطان بين الوجوب والحرمة

إطاعة الحاكم العادل من صميم الدين ، قال سبحانه : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) ، وليس المراد منه إطاعة مطلق ولاة الأمر ، بل المراد خصوص العدول منهم ، بقرينة النهي عن إطاعة المسرفين والغافلين عن ذكر الله سبحانه ، والمكذبين والآثمين وغيرهم ، قال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (٢) ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ ) (٣) ، وقال سبحانه : ( فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ ) (٤) ، وقال تعالى : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ) (٥) ، وقال سبحانه : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) (٦) ، وقال تعالى : ( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ ) (٧) ، إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن طاعة الطغاة العصاة. فبقرينة هذه الآيات الناهية يصح أن يقال : إنّ المراد من الأمر بإطاعة أُولي الأمر ، هو إطاعة العدول منهم.

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) الكهف : ٢٨.

(٣) الأحزاب : ١.

(٤) القلم : ٨.

(٥) القلم : ١٠.

(٦) الإنسان : ٢٤.

(٧) الشعراء : ١٥١.

٤٢١

وقد تضافرت الروايات على وجوب إطاعة السلطان العادل المعربة عن عدم وجوب إطاعة السلطان الجائر أو حرمتها ، قال رسول الله عليه‌السلام : « السلطان العادل المتواضع ظل الله ورمحه في الأرض ويرفع له عمل سبعين صدّيقاً » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من أحد أفضل منزلة من إمام إن قال صدق ، وإن حكم عدل ، وإن استرحم رحم » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم مجلساً ، إمام عادل ، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه إمام جائر » (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه الضعيف ، وبه ينصر المظلوم ، ومن أكرم سلطان الله في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة » (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثلاثة من كن فيه من الأئمّة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته : إذا عدل في حكمه ، ولم يحتجب دون رعيته ، وأقام كتاب الله تعالى في القريب والبعيد ». (٥) إلى غير ذلك من الروايات الّتي يقف عليها المتتبع في الجوامع الحديثية.

هذا من طريق أهل السنّة ، وأمّا من طريق الشيعة فحدث عنه ولا حرج.

روى عمر بن حنظلة عن الصادق عليه‌السلام في لزوم طاعة الحاكم العادل : « من روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا كالراد على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله » (٦).

__________________

(١) (٢) (٣) (٤) كنزل العمال : ٦ / ٦ ، الحديث ١٤٥٨٩ ، ١٤٥٩٣ ، ١٤٦٠٤ ، ١٤٥٧٢.

(٥) كنز العمال : ج ٥ ، الحديث ١٤٣١٥.

(٦) الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٤٢٢

ونكتفي بقول الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام في كتابه إلى أهل الكوفة حيث قال عليه‌السلام : « فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله » (١).

إذاً فوجوب إطاعة السلطان العادل ممّا لا شك فيه ، ولا يحتاج إلى إسهاب الكلام فيه.

إطاعة السلطان الجائر

اتفقت كلمة الحنابلة ومن لفَّ لفّهم على وجوب إطاعة السلطان الجائر ، وإليك نصوصهم :

قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله : السمع والطاعة للأئمّة ، وأمير المؤمنين ، البر والفاجر ، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف ، وسمّي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة ، البر والفاجر ، وإقامة الحدود إلى الأئمّة ، وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم ، ودفع الصدقات إليهم جائز من دفعها إليهم أجزأت عنهم ، براً كان أو فاجراً ، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل من ولي ، جائزة إقامتها ، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنّة (٢).

ومن خرج على إمام من أئمّة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيِّ وجه من الوجوه ، كان بالرضاء أو بالغلبة ، فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن مات الخارج عليه ، مات ميتة

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٥ / ١١٦ ; تاريخ الطبري : ٤ / ٢٦٢ ، أحداث سنة ٦٠ ه‍.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية : ٢ / ٣٢٢.

٤٢٣

جاهلية.

هذا الرأي المنقول عن إمام الحنابلة لا يمكن إنكار صحة نسبته إليه ، ولأجل ذلك قال الأُستاذ أبو زهرة : ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائرالفقهاء وهو جواز إمامة من تغلّب ورضيه الناس وأقام الحكم الصالح بينهم ، بل انّه يرى أكثر من ذلك إنّ من تغلّب وإن كان فاجراً تجب إطاعته حتى لا تكون الفتن (١).

والعبارة الّتي نقلناها عن إمام الحنابلة تعرب عن وجوب إطاعة الجائر ولو أمر بمعصية الخالق ، وهو أمر عجيب منه جداً ، مع أنّ أكثر الأشاعرة الذين يحرّمون الخروج عليه ، لا يوجبون طاعته كما سترى عندما نوافيك بنصوصهم ، ولغرابة رأي ابن حنبل هذا ، ذيّله أبو زهرة بقوله : ولكنه ينظر في هذه القضية إلى مصلحة المسلمين وأنّه لا بدَّ من نظام مستقر ثابت وإنّ الخروج على هذا النظام يحل قوّة الأُمّة ، ويفك عراها ، ولأنّه رأى من أخبار الخوارج وفتنتهم ما جعله يقرر أنّ النظام الثابت أولى ، وأنّ الخروج عليه يرتكب فيه من المظالم أضعاف ما يرتكبه الحاكم الظالم.

ثم إنّه ينظر في القضية نظرة اتّباع ، فإنَّ التابعين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه قد رأوا مظالم كثيرة ، ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ، وكانوا ينصحون الخلفاء والولاة إن وجدوا آذاناً تسمع ، وقلوباً تفقه ، وفي كل حال لا يخرجون ولا يؤيدون الخارج (٢).

وهذا التوجيه من الأُستاذ غريب جداً :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الخروج على النظام الظالم إذا كان موجباً لحلِّ قوّة الأُمّة وفك

__________________

(١) المصدر السابق : ٣٢١.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية : ٢ / ٣٢٢.

٤٢٤

عراها ، يكون الصبر عليه تشويقاً لتماديه في الظلم ، وإكثار الضغط على الأُمّة ، وبالنتيجة : تحويل الدين وتحريفه عمّا هو عليه من الحق ... فأيُّ فائدة تكمن في حفظ قوّة أُمّة ، انحرفت عن صراطها وتبدّلت سننها وتغيرت أُصولها ، فإنّ الظالم لا يرى لظلمه حداً ولتعدّيه ضوابط ، فلو رأى أنّ الإسلام بواقعه يضاد آراءه الشخصية وميوله الخبيثة ، عمد إلى تغييره وتحويره ، فليس يقتصر ظلم الظالم على التعدّي على النفوس والأموال ، بل الراكب على أعناق الناس ، يغيّر كل شيء كيفيما يريد ، وحيثما يرى أنّه لصالح شخصه ، والتاريخ شاهدنا الأصدق على ذلك.

وثانياً : فإنَّ الأُستاذ أبا زهرة نسب إلى التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي إلى أكثر من ثلثي زمانه بأنّهم رأوا مظالم كثيرة ومع ذلك نهوا عن الخروج ولم يسيروا مع الخارجين ... ، ولكنّه كيف غفل عن قضية الحرّة الدامية حيث كان الخارجون فيها على الحكومة الغاشمة هم الصحابة والتابعون ... .

وهذا المسعودي صاحب « مروج الذهب » ينقل إلينا لمحة عمّا جرى هناك ويقول :

ولما انتهى الجيش من المدينة إلى الموضع المعروف بالحرّة وعليه « مُسرف » خرج إلى حربه أهلها ، عليهم عبد الله بن مطيع العدوي وعبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري ، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس من بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس ; فمن قتل من آل أبي طالب اثنان : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب ; ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب ، الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وحمزة بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ،

٤٢٥

والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب ، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش ومثلهم من الأنصار ، وأربعة آلاف من سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء ، دون من لم يعرف (١).

كيف نسي أبو زهرة ـ أو لعلّه تناسى ـ قضية دير الجماجم حيث قام ابن الأشعث التابعي في وجه الحجاج السفّاك بالموضع المعروف بدير الجماجم فكان بينهم نيّف وثمانون وقعة تفانى فيها خلق ، وذلك في سنة اثنتين وثمانين (٢).

وعلى كل تقدير فقد اقتفى أثر أحمد بن حنبل جماعة من متكلّمي الأشاعرة وادّعوا بأنّ هذه عقيدة إسلامية كان الصحابة والتابعون يدينون بها ، وانّه يجب الصبر على الطغاة الظلمة إذا تصدّروا منصّة الحكم ، نعم غاية ما يقولون : إنّه لا يجب إطاعتهم إذا أمروا بالحرام والفساد ، جاعلين قولهم هذا منعطفهم الوحيد عن قول ابن حنبل وبقية أهل الحديث ، وإليك نبذة من أقوال القوم :

١. قال الإمام الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي ( المتوفّى عام ٣٢١ ه‍ ) في رسالته المسمّاة بـ « بيان السنّة والجماعة » المشهورة ب‍ « العقيدة الطحاوية ».

ونرى الصلاة خلف كلِّ بَرٍّ وفاجر من أهل القبلة ، ولا نرى السيف على أحد من أُمّة محمّد إلاّ على من وجب عليه السيف ( أي سفك الدم بالنص القاطع كالقاتل والزاني المحصن والمرتد ) ولا نرى الخروج على أئمتنا ولا ولاة أمرنا وإن جاروا ، ولا ندعوا على أحد منهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من

__________________

(١) مروج الذهب : ٣ / ٦٩ ـ ٧٠ ، طبع بيروت.

(٢) المصدر السابق : ٣ / ١٣٢.

٤٢٦

طاعات الله عزّ وجلّ فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية (١).

٢. قال الإمام الأشعري من جملة ماعليه أهل الحديث والسنّة : ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ... إلى أن قال : ويرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح ، وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف ، وأن لا يقاتلوا في الفتن (٢).

٣. وقال الإمام أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي : الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم ، وهو المذهب المرضي ... ثم قال : وجه قول عامّة أهل السنّة والجماعة إجماع الأُمّة ، فإنّهم رأوا الفساق أئمة ، فإنّ أكثر الصحابة كانوا يرون بني أُمية وهم بنو مروان أئمّة حتّى كانوا يصلّون الجمعة والجماعة خلفهم ، ويرون قضاياهم نافذة ، وكذا الصحابة والتابعون ، وكذا من بعدهم يرون خلافة بني عباس وأكثرهم كانوا فسّاقاً ، ولأنَّ القول بانعزال الأئمّة بالفسق ، إيقاع الفساد في العالم ، وإثبات المنازعات وقتل الأنفس ، فإنّه إذا انعزل يجب على الناس تقليد غيره ، وفيه فساد كثير ، ثم قال : إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ، ولا يجوز الخروج عليه ، وهذا مروي عن أبي حنيفة ، لأنّ في الخروج إثارة الفتن والفساد في العالم (٣).

٤. وقال الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ( المتوفّى عام ٤٠٣ ه‍ ) في « التمهيد ».

إن قال قائل : ما الّذي يوجب خلع الإمام عندكم ؟ قيل له : يوجب ذلك أُمور : منها كفر بعد إيمان ، ومنها تركه الصلاة والدعاء إلى ذلك ، ومنها عند كثير

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية : ١١٠ و ١١١ ، طبع دمشق.

(٢) مقالات الإسلاميين : ٣٢٣.

(٣) أُصول الدين للإمام البزدوي : ١٩٠ ـ ١٩٢ ، ط القاهرة.

٤٢٧

من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، وقال الجمهور من أهل الاثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع بهذه الأُمور ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله ، إذ احتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متضافرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا بالأموال وانّه قال عليه‌السلام :

« واسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ، ولو لعبد حبشي ، وصلّوا وراء كلِّ برٍّ وفاجر ».

وروي أنّه قال : « وان أكلوا مالك وضربوا ظهرك وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة » (١).

٥. وقال الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي ( المتوفّى عام ٥٣٧ ه‍ ) في « العقائد النسفية » :

ولا ينعزل الإمام بالفسق والجور ... ويجوز الصلاة خلف كلِّ بَرٍّ وفاجر. وعلله الشارح التفتازاني بقوله : لأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم (٢).

وقد أُيّدت تلك العقائد بروايات ربّما يتصوّر القارئ أنّ لها مسحة من الحق أو لَمْسة من الصدق ، لكن الحق أنّ أكثرها مفتعلة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد

__________________

(١) التمهيد : ١٨٦ ، ط القاهرة.

(٢) شرح العقائد النسفية : ١٨٥ ـ ١٨٦.

٤٢٨

أفرغها في قالب الحديث جَمعٌ من وعّاظ السلاطين ومرتزقتهم تحفظاً على عروشهم وحفظاً لمناصبهم ، وإليك بعض تلك الروايات الّتي رواها مسلم في صحيحه :

١. روى مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قلت يا رسول الله ... إلى أن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يتسنّون بسنّتي ، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس » قال : قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : « تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ».

٢. وروى عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية ... إلى أن قال : ومن خرج على أُمّتي يضرب بَرّها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه ».

٣. وروى عن ابن عباس أنّه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنّه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية ».

٤. روى عنه أيضاً ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من رأى من أميره شيئاً فليصبر ، فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية ».

٥. روي عن عبد الله بن عمر أنّه جاء إلى عبد الله بن مطيع ـ حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية ـ فقال : اخرجوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إنّي ما أتيتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثاً ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

٤٢٩

« من خلع يداًمن طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ».

وقد فسر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن عمر بلزوم بيعة يزيد وإطاعته حتّى في مسألة الحرة.

٦. روي عن أُمّ سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع » قالوا : يا رسول الله ! ألا نقاتلهم ؟ قال : « لا ما صلّوا ».

٧. وروي عن عوف بن مالك في حديث : قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال : « لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ، ولا تنزعوا يداً من طاعته » (١).

وقد أورد ابن الأثير الجزري قسماً من هذه الأحاديث في جامع الأُصول (٢).

٨. روى البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون بما يؤمرون ، وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم برئ ، ومن أمسك يده سلم ، ولكن من رضي وتابع » (٣).

٩. وروى ابن عبد ربّه ، عن عبد الله بن عمر : إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر ، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم باب الأمر بلزوم الجماعة : ٦ ، وباب حكم من فرق أمر المسلمين : ٢٠ ـ ٢٤.

(٢) لاحظ جامع الأُصول : ٤ ، الكتاب الرابع في الخلافة والامارة ، الفصل الخامس : ٤٥١ ... الخ.

(٣) السنن الكبرى : ٨ / ١٥٨.

(٤) العقد الفريد : ١ / ٨.

٤٣٠

وقبل كل شيء يجب علينا أن نعرض تلك الروايات على كتاب الله سبحانه فإنّه المحك الأوّل لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم.

قال سبحانه حاكياً عن العصاة والكفّار : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (١).

فهذا القسم من الآيات يندد بقول من يرى وجوب طاعة السلطان الظالم الّتي توجب ضلالة المطيع لهم عن السبيل السوي ، وثمّة آيات تندد بعمل من يصبر على عمل الطاغية من دون أن يأمره بالمعروف اوينهاه عن المنكر ، وترى نفس السكوت والصبر على طغيان الطاغية جرماً وإثماً موجباً للهلاك ، وهذه الآيات هي الواردة حول قوم من بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون قرب ساحل من سواحل البحر فتقسمهم إلى أصناف ثلاثة :

الأوّل : الجماعة المعتدية العادية الّتي رفضت حكم الله سبحانه حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قال سبحانه : ( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) (٢).

الثاني : الجماعة الساكتة الّتي أهمّتهم أنفسهم لا يرتكبون ما حرم الله وفي الوقت نفسه لا ينهون الجماعة العادية عن عدوانها ، بل كانوا يعترضون على الجماعة الثالثة الّتي كانت تقوم بواجبها الديني من إرشاد الجاهل والقيام في وجه العاصي والطاغي ، بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) (٣).

__________________

(١) الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٨.

(٢) الأعراف : ١٦٣.

(٣) الأعراف : ١٦٤.

٤٣١

الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر محتسبين ذلك وظيفة دينية عريقة ونصيحة لازمة للإخوان ، وقد حكى الله سبحانه على لسانهم في محكم كتابه العزيز حيث قال : ( مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (١).

نرى أنّ الله سبحانه أباد الطائفتين الأُوليين وأنجى الثالثة قال سبحانه : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (٢).

فالآية الآخيرة صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء فقط ، دون العادين والساكتين على عدوانهم ، فلو كان السكوت والصبر على عدوان العادين أمراً جائزاً ، لماذا عمّ العذاب كلتا الطائفتين ؟! أو ما كان في وسع هؤلاء أن يعتذروا للقائمين بالأمر بالمعروف ، بأنّ في القيام والخروج وحتّى في النصيحة بالقول تضعيفاً لقوّة الأُمّة وفكّاً لعراها ؟

فلو دلّت الآية الأُولى على حرمة طاعة الظالم ودلّت الآية الثانية على حرمة السكوت في مقابل طغيان العادين ، فهناك آية ثالثة تدل على حرمة الركون إلى الظالم يقول سبحانه : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٣).

أوليس تأييد الحاكم الجائر والدعاء له في الجمعة والجماعات ، وإقامة الصلاة بأمره ، وإدارة كل شأن خوّل منه إليه ، يعد ركوناً إلى الظالم ؟ فما هو جواب هؤلاء المرتزقة في الدول الإسلامية اصطلاحاً الذين يعترفون بجور حكامهم وانحرافهم عن الصراط السوي ، ومع ذلك يدعون لهم عقب خطب الجماعات بطول العمر ودوام السلامة ، ويديرون الشؤون الدينية حسب الخطط الّتي يرسمها

__________________

(١) الأعراف : ١٦٤.

(٢) الأعراف : ١٦٥.

(٣) هود : ١١٣.

٤٣٢

ويصورها لهم أُولئك الحكام ، الذين يعدّهم أُولئك المرتزقة محاور ومراكز ، وأنفسهم أقماراً تدور في أفلاكها ، اللّهمّ إلاّ أن يعتذر هؤلاء بعدم التمكّن ممّا يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتبهما المختلفة ، ولكنّه عذر لا يقبل في كثير من الأحيان ، وعلى ذلك الأساس فما قيمة تلك الروايات المعارضة لنصوص الكتاب وصريح الذكر الحكيم.

أضف إلى ذلك أنّ هناك روايات تنفي صحة الروايات السابقة وتجعلها في مدحرة البطلان ، وقد نقلها أصحاب الصحاح والسنن أيضاً ، وعند المعارضة يؤخذ من السنّة الشريفة ما يوافق كتاب الله الحكيم ، وإليك نزراً من تلك الروايات :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اسمعوا سيكون بعدي أُمراء ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ولست منه ، وليس بوارد عليّ الحوض » (١).

هذا بعض ما لدى السنّة من الروايات وأمّا ما لدى الشيعة فنأتي ببعضها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سلطان جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلطه الله عليه في نار جهنم وبئس المصير ».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيساً ، أو مدّ لهم مدة قلم ، فاحشروهم معهم ».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « من خف لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار ».

__________________

(١) جامع الأُصول : ٤ / ٧٥ ، نقلاً عن الترمذي والنسائي.

٤٣٣

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّ تباعد من الله ».

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يُعصى الله ».

وعنه عليه‌السلام أنّه قال : « من سوّد اسمه في ديوان الجبّارين ... حشره الله يوم القيامة حيراناً ».

وعنه عليه‌السلام أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام ».

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام أنّه قال : « ما أحب أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وإنّ لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد » (١).

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة ، فهذه الأحاديث تدل على أنّ ما مرَّ من الروايات الحاثة على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه ، والتسليم لظلمه ، والرضا بجوره ، جميعها ممّا لفّقه رواة السوء والجور بإيعاز من السلطات الحاكمة في تلك العصور المظلمة ، فنسبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسنّة.

ولو لم يكن في المقام إلاّ قول علي عليه‌السلام في خطبته : « ... وما أخذ الله على

__________________

(١) راجع لمعرفة هذه الأحاديث وسائل الشيعة : ١٢ ، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به ، الأحاديث ٦ ، ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٥ ، والباب ٤٤ من نفس الأبواب الحديث ٥ و ٦.

٤٣٤

العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ... » (١) لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي ختام الكلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما ألقاه الإمام أبو الشهداء الحسين بن علي عليه‌السلام إلى أهالي الكوفة حيث خطب أصحابه ، وأصحاب الحر ـ قائد جيش عبيد الله بن زياد آنذاك ـ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أيّها الناس انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غَيَّر » (٢).

وهذه النصوص الرائعة المؤيدة بالكتاب والسنّة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين قاموا في وجه الطغاة من بني أُمية وبني العباس ، تشهد بأنّ ما نسب إلى الصحابة والتابعين من الاستسلام والسكوت على ظلم الظالمين لكون ذلك من عقيدتهم الإسلامية ، ما هو إلاّ بعض مفتعلات أصحاب العروش ، وقد وضعها وعاظهم ومرتزقتهم ، وإلاّ فالطيبون ـ من الصحابة والتابعين ـ بريئون من هذه النسبة.

صراع بين العقيدة والوجدان

نرى أنّ بعض الشباب المسلم في البلاد الإسلامية قد انخرطوا في الأحزاب

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٣.

(٢) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٠٤ حوادث سنة ٦١ ه‍.

٤٣٥

السياسية ، ورفضوا الدين من أساسه ، ولعل بعض السبب هو أنّهم وجدوا في أنفسهم صراعاً عنيفاً بين العقيدة والوجدان ، فمن جانب توحي إليهم فطرتهم وعقيدتهم الإنسانية السليمة ، إلى أنّه تجب مكافحة الظالمين ، والخروج عليهم ، ونصرة المظلومين ، وأخذ حقوقهم من أيدي الظالمين ، ومن جانب آخر يسمعون من علماء الدين أو المتزيّين بلباسه ، أنّه لا يجوزالخروج على السلطان ، بل تجب طاعته وإن أمر بالظلم والعدوان ، فحينئذ يقع الشاب في حيرة من أمره بين اتّباع الفطرة والعقل السليم ، واتّباع كلام هؤلاء العلماء الذين ينطقون باسم الدين خصوصاً إذا كان المتكلم رجلاً يكن المجتمع له الاحترام والإكبار ، ويعرفه التاريخ بالخطيب الزاهد كالحسن البصري ، فإنّه عندما سئل عن مقاتلة الحجّاج ذلك السيف المشهور على الأُمّة والإسلام فأجاب : « أرى أن لا تقاتلوه ، فإنّها إن تكن عقوبة من الله ، فما أنتم برادّيها ، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين » فخرج السائلون من عنده وهم يقولون مستنكرين ما سمعوا منه : أنطيع هذا العلج ، ثم خرجوا مع ابن الأشعث على قتال الحجاج (١).

فإذا سمع الشاب الثوري هذه الكلمة من عميد الدين وخطيبه ـ كما يقال ـ عاد يصف جميع رجال الدين بما وُصِفَ به الحسن البصري ، وبالتالي يخرج من الدين ويتركه ، ويصف الدين سناداً للظالم وملجأ له.

وفي الختام نوجّه نظر الأعلام من السنّة إلى خطورة الموقف في هذه الأيام ، وأنّ أعداء الإسلام لبالمرصاد يصطادون الشباب بسهام الدعاية الكاذبة ، ويعرّفون الإسلام بأنّه سند الظالمين ، وركن الجائرين بحجة أنّه ينهى عن الخروج على السلطان الجائر.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٧ / ١٦٤.

٤٣٦

والمسلم غير العارف بالدين وما أُلصق به ، لا يميز بين الحقيقة الناصعة وبين ما أُلبس عليها من ثوب رديء قاتم.

وليس هذا أوّل ولا آخر مورد يجد الشاب الثوري صراعاً في نفسه بين العقلية الإنسانية وبين الدعاية الكاذبة عن الإسلام ، فيختار وحي الفطرة ويصبح ثائراً على القوى الطاغية ، ويظن انّه ترك الإسلام باعتقاد أنّ المتروك هو الدين الحقيقي الّذي أنزله الله تعالى على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الجريمة متوجهة بالدرجة الأُولى على هذا النمط من العلماء.

فواجب على علماء الدين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلامية الصحيحة في تشخيص ما هو من صميم الدين عمّا أُلصق به ، ولا يقتنعوا بما كتب باسم الدين عن السلف الصالح ، وليس كل ما نسب إلى السلف الصالح أو قالوا به صميم الدين ، كما أنّه ليس كل سلف صالحاً ، بل هم بين صالح وطالح ، وسعيد وشقي ، وعالم وجاهل ، وليس كل سلف أفضل وأتقى وأعلم من كل خلف ، فليدرسوا الأُصول المسلّمة من رأس ، نعم لا أكتم أنّ هناك أُناساً واقفين على الحقيقة ، ولكن لا تقتضي مصالحهم الشخصية إظهارها وقد نزل فيهم قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (١) ، كما أنّ بينهم شخصيات لامعة جاهروا بالحقيقة واصحروا بها واشتروا رضا الرب بأثمان غالية وتضحيات ثمينة.

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

٤٣٧

٢

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

عدالة الصحابة كلهم بلا استثناء ، ونزاهتهم من كل سوء هي إحدى الأُصول الّتي يتدين بها أهل السنّة ، وقد راجت تلك العقيدة بينهم حتّى اتخذها الإمام الأشعري إحدى الأُصول الّتي يبتني عليها مذهب أهل السنّة جميعاً (١). ونحن نعرض هذه العقيدة على الكتاب أوّلاً ، وعلى السنّة النبوية الصحيحة ثانياً ، والتاريخ ثالثاً ، حتّى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره إن شاء الله تعالى ، وقبل أن ندخل في صلب المسألة نقدّم تعريف الصحابي فنقول :

من هو الصحابي ؟

إنّ هناك تعاريف مختلفة للصحابي نأتي ببعضها على وجه الإجمال :

١. قال سعيد بن المسيب : الصحابي لا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.

٢. قال الواقدي : رأينا أهل العلم يقولون : كل من رأى رسول الله ، وقد

__________________

(١) مقالات الإسلاميين : ١ / ٣٢٣. يقول : ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله سبحانه بصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عمّا شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم.

٤٣٨

أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه ، فهو عندنا ممّن صحب رسول الله ، ولو ساعة من نهار ، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام.

٣. قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول الله كل من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

٤. قال البخاري : من صحب رسول الله أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

٥. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب : لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة قليلاً كان أو كثيراً ، ثم قال : ومع هذا فقد تقرّر للأُمّة عرف ، فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ في من كثرت صحبته ولا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشي معه خطى ، أو سمع منه حديثاً ، فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم إلاّ على من هذه حاله ، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به ، وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه حديثاً واحداً.

٦. وقال صاحب الغوالي : لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثم يكفي في الاسم من حيث الوضع ، الصحبة ولو ساعة ، ولكن العرف يخصصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول : قلت : وأصحاب رسول الله على ما شرطوه كثيرون ، فإنّ رسول الله شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه « هوازن » مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً ، وكل من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين ، فهؤلاء كلّهم لهم صحبة وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا

٤٣٩

يحصيهم ديوان ، وكذلك حجّة الوداع وكلّهم له صحبة (١).

ولا يخفى أنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الّذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعده اللغة والعرف العام ، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة فلاتصدق على من ليس له حظ إلا الرؤية من بعيد ، أو سماع الكلام ، أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة ، أو الإقامة معه زمناً قليلاً.

وأظن أنّ في هذا التبسيط والتوسع غاية سياسية لما سيوافيك من أنّ النبي قد تنبّأ بارتداد ثلة من أصحابه بعد رحلته فأرادوا بهذا التبسيط صرف هذه النصوص إلى الأعراب وأهل البوادي ، الذين لم يكن لهم حظ من الصحبة إلاّ اللقاء القصير ، وسيأتي انّ هذه النصوص راجعة إلى الملتفين حوله الذين كانوا مع النبي ليلاً ونهاراً ، صباحاً ومساءً إلى حد كان النبي يعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم وأسمائهم ، فكيف يصحّ صرفها إلى أهل البوادي والصحاري من الأعراب ؟! فتربص حتّى تأتيك النصوص.

وعلى كل تقدير فلسنا في هذا البحث بصدد تعريف الصحابة وتحقيق الحق بين هذه التعاريف غير انّا نركز الكلام في أنّ أهل السنّة يقولون بعدالة هذا الجمع الغفير المدعوين باسم الصحابة ، وإليك كلماتهم :

عدالة الصحابة جميعهم

قال ابن عبد البر : ثبتت عدالة جميعهم (٢).

__________________

(١) أسد الغابة : ١ / ١٢ ، ط دار إحياء التراث العربي بيروت.

(٢) الاستيعاب في أسماء الأصحاب : ١ / ٢ في هامش « الإصابة ».

٤٤٠