مفاهيم القرآن - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: ٥٣٩

قوله : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) ، فمن المحتمل جداً أنّه نظر إلى السماء متفكراً حتى يلاحظ حاله وانّه هل يقدر على المغادرة معهم أم لا ، والعرب تقول لمن تفكر : « نظر في النجوم » بمعنى أنّه نظر إلى السماء متفكراً في جواب سؤال القوم ، كما يفعل أحدنا عندما يريد أن يفكر في شيء.

ويؤيد ذلك أنّه عليه‌السلام قاله عندما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم ، فعند ذلك نظر إلى النجوم وأخبرهم بأنّه سقيم ، ومن المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لأجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى ، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس وأوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الأوضاع الفلكية ، إذ كانت النجوم عندئذ غاربة ، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلاّ التفكر والتأمل.

نعم لو كانت الدعوة في الليل لأجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنة لما قيل ، ولكنه غير ثابت.

نعم هناك معنى آخر لقوله : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ) ، وهو أنّه عليه‌السلام كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعينة بطلوع كوكب أو غروبه ، فلأجل ذلك نظر في النجوم ، ووقف على أنّها قريبة الموعد ، والعرب تسمّي المشارفة على الشيء باسم الداخل فيه ، ولهذا يقولون لمن أضعفه المرض ، وخيف عليه الموت « هو ميت » وقال تعالى لنبيّه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (١).

وأمّا استعمال كلمة « في » مكان « إلى » في قوله : ( فِي النُّجُومِ ) ، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض ، قال الله تعالى : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ

__________________

(١) الزمر : ٣٠.

١٦١

النَّخْلِ ) (١) وإنّما أراد على جذوعها ، وقال الشاعر :

وافتحي الباب وانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

جواب آخر عن الشبهة

وربّما يجاب عن الإشكال : انّه من قبيل المعاريض في الكلام ، والمعاريض : عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده ، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحِّد في صنعه تعالى ، الذي يستدل به على خالقه وصفاته ، ولكن القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجِّم فيها ليستدل بها على الحوادث ، فقال : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (٢).

ولا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك ، وهو بعد غير ثابت ، على أنّ المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.

وبذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ) وقوله في سارة : ( هي أُختي ) (٣).

وقد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الأُوليين ، وأمّا الثالثة فهي مروية في التوراة المحرّفة ، فهل يمكن بعد هذا ، الاعتماد على الرواية ؟!

والعجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية ، وقال : ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا وكلاّ ، وانّما أُطلق الكذب على هذا

__________________

(١) طه : ٧١.

(٢) و (٣) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ٤ / ١٣.

١٦٢

تجوزاً ، وانّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث « انّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب ».

ونحن لا (١) نعلّق على الحديث ولا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير شيئاً وانّما نحيل القضاء فيه إلى وجدان القارئ الكريم ، وكفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة ، كما يكفي في كذب الحديث أنّه من الإسرائيليات التي وردت في التوراة المحرّفة.

والعجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية ، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقية من المعاريض التي جوّزها القرآن والسنّة في شرائط خاصة لأشخاص معينين.

هذه هي الآيات التي استدلت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد ، وقد عرفت مفادها ، وهناك آيات أُخر آيات نزلت في حقه ، ربّما وقعت ذريعة لهؤلاء المخطّئة ، وبما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها ، وكفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في « تنزيهه » فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب ، لتخطئته وبما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها وعطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدِّيق عصره ونزيه دهره سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ٤ / ١٣.

١٦٣

٤

عصمة يوسف عليه‌السلام وقول الله ( ... وَهَمَّ بِهَا )

يوسف الصدِّيق هو الأُسوة

إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات ، لأجلى دليل على أنّه الإنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال ، كيف ؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه ، وعلّمه من تأويل الأحاديث ، وأتمّ نعمته عليه ، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص ، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب ، وصيانته من المعاصي ، وتفانيه في مرضاة الله ، كيف ؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً ، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات ، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه الله سبحانه ، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه ، وتجلّت به حقيقته ، وبان أنّه الإنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه ، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.

كيف ؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة ، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة ، بل كانت أمراً أشبه بالرؤيا منه باليقظة.

١٦٤

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي :

فقد كان يوسف رجلاً ، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء ، وكان شاباً ، بالغاً أشده ، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق ، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب ، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى ؟ هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنيء العيش ، محبوراً بمثوى كريم ، وذلك من أقوى أسباب التهوّس ، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء ، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب ، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه ، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف ، وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان وقد تعرّضت له ، ودعته إلى نفسها ، والصبر مع التعرّض أصعب ، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال ، وقد ألحّت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه ، والصبر معه أصعب وأشق ، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها ، وهي رتبة خصّها بها العزيز ، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء.

وكانا في خلوة ، وقد غلّقت الأبواب وأرخت الستور ، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع ، وكان في أمن من ظهور الأمر وانتهاك الستر ، لأنّها كانت عزيزة ، بيدها أسباب الستر والتعمية ، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل ، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.

فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته ، أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها ، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهور الأمر ، أو

١٦٥

مناعة نسب يوسف ، أو قبح الخيانة للعزيز ، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه ، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها ، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً ، فلم يؤاخذها بشيء ، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً ، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف ، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ، ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد ، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي ، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية ، والقوانين الاجتماعية إنّما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة ، وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية ، أو فسقت فأهملت ، أو خفي الجرم عن نظرها ، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.

فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه ، إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان بالله.

وإن شئت قلت : المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع (١).

__________________

(١) الميزان : ١١ / ١٣٧ ـ ١٣٩.

١٦٦

هذا هو واقع الأمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم والفضائل ، واستدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة ومن هو في بيتها ، قال سبحانه : ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) (١).

ومحل الاستدلال : قوله ( وَهَمَّ بِهَا ) أي همّ بالمخالطة ، وانّ همّه بها كان كهمّها به ، ولولا أنّ رأى برهان ربّه لفعل ، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة ـ بعد الهمّ بها ـ رؤية البرهان.

وبعبارة أُخرى : انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف والمعطوف عليه ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء ، وكأنّه قال :

ولقد همّت به : أي بلا شرط وقيد.

وهمّ بها : أي جزماً وحتماً.

ثم بعد ذلك ـ أي بعد الإخبار عن تحقّق الهم من الطرفين ـ استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت ، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لأجل رؤية برهان ربِّه ، ولأجل ذلك قال :

( لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) أي ولولا الرؤية لاقترف وفعل وارتكب ، لكنّه رأى فلم يقترف ولم يرتكب ، فجواب لولا محذوف وتقديره « لاقترف ».

ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الإسرائيليات التي لا

__________________

(١) يوسف : ٢٣ ـ ٢٤.

١٦٧

يصح أن تنقل ، وانّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارئ على اطلاع عليها : قالوا : جلس يوسف منها مجلس الخائن ، وأدركه برهان ربّه ونجّاه من الهلكة ، ثم إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئي; فقالوا : إنّ طائراً وقع على كتفه ، فقال في أُذنه : لا تفعل ، فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء; وقيل : إنّه رأى يعقوب عاضاً على إصبعه ، وقال : يا يوسف أما تراني ؟ إلى غير ذلك من الأوهام التي يخجل القلم من نقلها.

غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور :

١. ما هو معنى « الهم » في قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ).

٢. ما هو جواب ( لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.

٣. ما هو معنى البرهان ؟

٤. دلالة الآية على عصمة يوسف ، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

١. ما معنى الهم ؟

لقد فسّره ابن منظور في لسانه بقوله : همّ بالشيء يهم همّاً : نواه وأراده وعزم عليه ، قال سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (١).

روى أهل السير : أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العودة من تبوك ، ولأجل ذلك وقفوا على طريقه ، فلمّا قربوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بتنحيتهم ، وسمّاهم رجلاً رجلاً (٢).

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٥١ وغيره.

١٦٨

هذا هو معنى الهم ، وتؤيده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهم ، ولو استعمل في مورد في خطور الشيء بالبال ، وإن لم يقع العزم عليه ، فهو استعمال نادر لا يحمل عليه صريح الكتاب.

أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد ، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والإرادة ، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشيء بالبال ، لأنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة ، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر ، لأنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم رؤية برهان ربِّه ، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود ، ورأى البرهان لم يتحقق هذا الهم من الأساس ، كما سيوافيك ، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم ، قال كعب بن زهير :

فكم فهموا من سيد متوسع

ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم

ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال ، ولولاه لحمل على نفس العزم.

كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون : همّ بكذا وكذا ، أي كاد يفعله ، وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والإرادة.

٢. ما هو جواب لولا ؟

لا شك أنّ « لولا » في قوله سبحانه : ( لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ابتدائية. فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل « لوما » قال ابن مالك.

لولا ولوما يلزمان الابتداء

إذ امتناعاً بوجود عقدا

١٦٩

ومما لا شك فيه أنّ « لولا » الابتدائية تحتاج إلى جواب ، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل :

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لولا رجاؤك قد قتلت أولادي

وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة : « لولا علي لهلك عمر ».

وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق ، كقوله سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) (١) ، أي ولولا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم ، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله : « قد كنت هلكت لولا أن تداركتك » ، وقوله : « وقتلت لولا أنّي قد خلصتك » ، والمعنى لولا تداركي لهلكت ، ولولا تخليصي لقُتلت ، ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر :

فلا يدعني قومي صريعاً لحرة

لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر

وقال الآخر :

فلا يدعني قومي ليوم كريهة

لئن لم أعجل طعنة أو أعجل

فحذف جواب الشرط في البيتين لأجل الجملة المتقدمة.

وبالجملة : لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة ، وجواب « لولا » خاصة ، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه والمقام من

__________________

(١) النور : ١٠.

١٧٠

قبيل الثاني ، فقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) يؤوّل إلى جملتين : إحداهما مطلقة ، والأُخرى مشروطة.

أمّا المطلقة فهي قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) ، وهو يدل على تحقّق « الهم » من عزيزة مصر بلا تردد.

أمّا المقيدة فهي قوله : ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) وتقديره : « لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها » فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأى برهان ربّه ، وأمّا الجملة المتقدمة على « لولا » أعني قوله ( وَهَمَّ بِهَا ) فلا تدل على تحقق الهم ، لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها ، حتى تدل على تحقق الهمّ ، وانّما هي قائمة مكان الجواب ، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله ، وسيوافيك تفصيله عن قريب.

٣. ما هو البرهان ؟

البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين ، قال سبحانه : ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) (١) ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) (٢) ، وقال سبحانه : ( أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) ، فالبرهان هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب ، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف عليه‌السلام ؟

والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية ،

__________________

(١) القصص : ٣٢.

(٢) النساء : ١٧٤.

(٣) النمل : ٦٤.

١٧١

وانقياد لا تصاحبه مخالفة ، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب ، وانكشافاً لا يقهر ، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز.

ويمكن أن يكون المراد منه سائر الأُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها (١).

٤. دلالة الآية على عصمة يوسف عليه‌السلام

إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف عليه‌السلام قبل أن تدلّ على خلافها.

توضيحه : انّه سبحانه بيّن همّ العزيزة على وجه الإطلاق وقال : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) ، وبيّن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال : ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة « لولا » الدالة على عدم وقوعهما.

فإن قلت : إنّ كلاًّ من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله : ( وَهَمَّ بِهَا ) مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة « لولا ».

قلت : إنّ جواب « لولا » محذوف وتقديره « لهمّ بها » وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال : انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق ، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة ، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب ، لأنّه إذا كان الجواب مقيداً

__________________

(١) راجع ص ٢١ ـ ٢٥ من هذا الكتاب.

١٧٢

فالجملة القائمة مكانه تكون مثله ، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) (١) ، والمعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه.

وقال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) (٢) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله.

والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.

وحاصل الكلام : أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه ، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء ، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط ، وفي مورد الآية ، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية ، وغيرها من قوى النفس الأمارة ، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء ، ولكن صارت خائبة غير مؤثرة لأجل رؤية برهان ربّه ، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها.

وإن شئت قلت : منعته المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها موضع قدم ، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة.

وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الأربع التي قدّمناها.

وعلى ذلك فبما انّ « اللام » في قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) للقسم يكون معنى

__________________

(١) الإسراء : ٧٤.

(٢) النساء : ١١٣.

١٧٣

قوله : ( وَهَمَّ بِهَا ) بحكم عطفه عليه والمعنى : والله لقد همت امرأة العزيز به ووالله لولا أن رأى يوسف برهان ربّه لهمّ بها ، ولكنّه لأجل رؤية البرهان واعتصامه ، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء ، فإذا به عليه‌السلام لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً ، لأجل تلك الرؤية.

أسئلة وأجوبة

ولأجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الأكمل تجب الإجابة عن عدة من الأسئلة التي تثار حول الآية ، وإليك بيانها وأجوبتها :

السؤال الأوّل

انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية ، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله : ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعني قوله : ( هَيْتَ لَكَ ).

والجواب : انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لإفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة ، ولأجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها ، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه ، فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.

١٧٤

وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال : إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له ، فإذاً لا يصح أن يقال : إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه (١).

أقول : قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده ، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة « عن مقاربة الفعل المتردّد فيه » ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ) (٢) ، أي إخراج الرسول من مكة ، فهم كانوا جازمين بذلك ، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ ، كما لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (٣) ، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.

السؤال الثاني

إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه : ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ) (٤) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء ، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الإعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.

والجواب : انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الإنسان عن اقتراف المعاصي ،

__________________

(١) تفسير المنار : ١٢ / ٢٨٦.

(٢) التوبة : ١٣.

(٣) التوبة : ٧٤.

(٤) القصص : ٣٢.

١٧٥

وقد سبق منا أنّ العصمة (١) لا تسلب القدرة ، فهي حجة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته.

السؤال الثالث

إنّ قوله سبحانه : ( كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) ظاهر في أنّ ( السُّوءَ ) غير ( الْفَحْشَاءَ ) فلو فسر قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.

والجواب : انّ المراد من ( السُّوءَ ) هو الهم والعزم ، والمراد من ( الْفَحْشَاءَ ) هو نفس العمل ، فالله سبحانه صرف ببركة العصمة ـ نفس الهم ونفس الاقتراف ـ كلا الأمرين.

قال العلاّمة الطباطبائي : الأنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها ، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا ، ثم قال : ومن لطيف الإشارة ما في قوله : ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما ، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك ، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين ، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء ، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع من دون الله سبحانه.

ثم قال : وقوله : ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) في مقام التعليل لقوله : ( كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك ، لأنّه من عبادنا المخلصين ، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان ربّهم

__________________

(١) راجع الجزء الرابع من مفاهيم القرآن : ٤٠١ ـ ٤٠٥.

١٧٦

وإنّ الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه ، وهذه هي العصمة الإلهية (١).

السؤال الرابع

لو كان المراد من ( بُرْهَانَ رَبِّهِ ) هو العصمة ، فلماذا قال سبحانه : ( رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ، فإنّ هذه الكلمة تناسب الأشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.

أقول : إنّ الرؤية كما تستعمل في الرؤية الحسية والرؤية بالأبصار ، تستعمل أيضاً في الإدراك القلبي والرؤية بعين الفؤاد قال سبحانه : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) (٢) ، وقوله سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ) (٣) ، وقوله سبحانه : ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (٤) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الرؤية تستعمل في الإدراك القلبي والاستشعار الباطني.

وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري ، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر ، كان المتوقع بحكم كونه بشراً ، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الإتيان بالمعصية ، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.

هذا هو المعنى المختار في الآية ، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم

__________________

(١) الميزان : ١١ / ١٤٢.

(٢) النجم : ١١.

(٣) فاطر : ٨.

(٤) الأعراف : ١٤٩.

١٧٧

وعزم على المخالطة.

وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية ، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب « المنار » وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه ، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي :

المعنى الثاني للآية

انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (١) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك ، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه غير انّه رأى انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّهام يوسف وبهته ، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها ، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.

وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عندما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله ، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقق له غرضه ، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز ، فإنّ ـ ها عندما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف ، دفعها الشعور بالهزيمة والإخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ )

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

١٧٨

على الإطلاق وبلا تقييد.

ولم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه ، ولكنّه لما استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته واتهامه ، اعتصم عن ضربها والهمّ بها ، وهذا معنى قوله : ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ).

وهذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير ، واختاره صاحب المنار ، وسعى في تقويته بقوله : تالله لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها وهي في نظرها سيدته وهو عبدها وقد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ولكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية وخرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها وتمنعها وهبط بالسيدة المالكة من عز سيادتها وسلطانها وعندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان (١).

ثم إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير انّه فسر ( بُرْهَانَ رَبِّهِ ) بغير الوجه المذكور في هذا الرأي بل فسره بانفتاح الباب بإرادة الله سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلقت الأبواب وأحكمت سدها ، وعندما وقع هذا الشجار بينها وبين يوسف ، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها وانفتح الباب له بإرادة الله سبحانه ، وهذا هو برهان الرب الذي رآه ، ويدل على ذلك انّ القرآن يصرح بغلق الأبواب ولا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر ، وهذا يدل على أنّ المراد من ( بُرْهَانَ رَبِّهِ ) هو فتح الباب من عند الله سبحانه في وجه يوسف كرامة له.

ولا يخفى ضعف هذا التفسير ، وذلك لأنّه لو كان المراد من البرهان هو

__________________

(١) تفسير المنار : ١٢ / ٢٧٨.

١٧٩

انفتاح الباب لزم ذكره عند قوله أو قبله ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ ) لا في الآية المتقدمة عليه ويظهر ذلك بملاحظتهما حيث قال :

( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ... ) (١).

( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) (٢).

ترى أنّه يذكر همّه بها ورؤية البرهان في آية ثم يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها ( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) ، فلو كان المراد من « رؤية البرهان » هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.

على أنّ الظاهر من قوله « وغلّقت الأبواب » هو سدّ الأبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر ، وإنّما لم تقفلها لأنّها لم تكن تتوقع من يوسف أن لا يستجيب لها ويعصي أمرها.

المعنى الثالث للآية

انّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم عليه ، وربّما يستعمل الهم في ذلك ، قال كعب بن زهير :

فكم فهموا من سيد متوسع

ومن فاعل للخير انّ همّ أو عزم

ولا يخفى أنّ هذا التفسير عليل ، لأنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد ولم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلاّ العزم ، والتفكيك بين الهمين خلاف الظاهر.

وعلى كل تقدير فقصة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل

__________________

(١) يوسف : ٢٤.

(٢) يوسف : ٢٥.

١٨٠