مفاهيم القرآن - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: ٥٣٩

معنى ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع ، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد.

الثالث : ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : ( وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ ) (١).

وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول : إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح (٢).

وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسددهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.

الرابع ( وهو المختار )

إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ،

__________________

(١) البقرة : ٢١٤.

(٢) الكشاف : ٢ / ١٥٧.

١٠١

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر ، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر ، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل ، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يؤمنوا ، فسأل الله أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه ، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد انّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

__________________

(١) الأنبياء : ٨٧.

١٠٢

ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجأوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١).

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

__________________

(١) الحشر : ٢.

١٠٣

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان المؤمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للمؤمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : ( فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ ) (١).

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢).

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين ، فعندما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه ( مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ ) ؟ فإنّ كلمة ( مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ ) مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقعمظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية ، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

__________________

(١) يوسف : ١١٠.

(٢) البقرة : ٢١٤.

١٠٤

الآية الثانية

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١).

( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) (٢).

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٣).

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء ، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُُنزل على رسوله من الآيات ، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية ، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.

__________________

(١) الحج : ٥٢.

(٢) الحج : ٥٣.

(٣) الحج : ٥٤.

١٠٥

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول : يجب توضيح نقاط في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه : ( إِذَا تَمَنَّىٰ ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه : ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله : ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ) وهل المراد منه الآيات القرآنية ؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين ، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول :

١. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى ، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي :

لا تأمنن وان أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا : القدر ، وماء الإنسان : منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة : الموت ، لأنّها مقدّرة على كل أحد ، وتمنّى الإنسان : أمل يقدِّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه الله (١).

__________________

(١) المقاييس : ٥ / ٢٧٦.

١٠٦

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الأمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة ، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١).

ويقول أيضاً : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (٢).

ويقول أيضاً : ( إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) (٣).

ويقول سبحانه : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٤).

ويقول سبحانه : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) (٥).

هذا كلّه في حق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : ( وَإِنِّي كُلَّمَا

__________________

(١) يوسف : ١٠٣.

(٢) فاطر : ٨.

(٣) النحل : ٣٧.

(٤) القصص : ٥٦.

(٥) الغاشية : ٢١ ـ ٢٢.

١٠٧

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) (١).

ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات : ( قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلَالاً ) (٢).

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل ، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني ، أعني :

٢. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف ، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :

١. أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر بسبب

__________________

(١) نوح : ٧ ـ ٩.

(٢) نوح : ٢١ ـ ٢٤.

١٠٨

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم ، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد ، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) (١).

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ) (٢).

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.

٢. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء عليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء عليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني ، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه : ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ) (٣).

__________________

(١) الحجر : ٤٢ ، الإسراء : ٦٥.

(٢) ص : ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) النساء : ١٢٠.

١٠٩

وقال سبحانه : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) (١).

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني ، وعند ذلك يتضح مفاد الآية ، قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ ( أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط ، وهيّأ لذلك المقدمات ) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ( بحض الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة ).

٣. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : ( فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر ، والعون والإنجاح ، قال سبحانه : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢) ، وقال سبحانه : ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (٤).

__________________

(١) إبراهيم : ٢٢.

(٢) غافر : ٥١.

(٣) المجادلة : ٢١.

(٤) الأنبياء : ١٨.

١١٠

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) (١).

وقال في حق النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) (٢).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٣).

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤. ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ، يتبين المراد من قوله سبحانه : ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ).

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت : إذا نسخ ما يلقيه الشيطان ، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً ، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول : إنّ المراد من الآيات ، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم ، وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم ، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق ، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات ،

__________________

(١) الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣.

(٢) التوبة : ٣٣.

(٣) الأنبياء : ١٠٥.

١١١

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل : انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل ، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه ، بإرادة الله سبحانه ، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة ، فيصبح الحق قائماً وثابتاً ، والباطل داثراً وزاهقاً ، قال سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (١).

٥. ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث :

١. الذين في قلوبهم مرض.

٢. ذات القلوب القاسية.

٣. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية ، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات ، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا ، تتسابق إلى دعوة الشيطان

__________________

(١) الإسراء : ٨١.

١١٢

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة ، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه ، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا.

وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات الله سبحانه لعباده ، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها ، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (١) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب ، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : « ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب » (٣).

وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي ـ قدس الله سره ـ وهو قريب مما ذكرناه : قال : المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات ، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما ، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى ، وتأييد شريعة الحق ، ونحو ذلك ، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

__________________

(١) الملك : ١٤.

(٢) الأنفال : ٢٨.

(٣) نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم : ٩٣.

١١٣

الصالح ما يشوشه ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم ، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم ، وأحكام الشريعة بعده ، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان ، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق ، ثم يحكم الله آياته ويؤيد حججه بإرسال الرسل ، أو تسديد جامعة الدين القيم (١).

وما ذكره ـ قدّس الله سرّه ـ كلام لا غبار عليه ، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام ، ومن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن ، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا : بأنّ المراد من الآية هو انّ « ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها » واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي ، ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) (٢) فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين : « تلك

__________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى : ١ / ١٣٤.

(٢) النجم : ١ ـ ٢.

(٣) النجم : ١٩ ـ ٢٠.

١١٤

الغرانقة العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى » فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها ، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا : إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلمّا أمسى أتاه جبرائيل عليه‌السلام فعرض عليه السورة ، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه ، قال ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) إلى قوله : ( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان (٢).

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً : فلأنّه مبني على أنّ قوله « تمنّى » بمعنى تلا ، وانّ لفظة « أُمنيته » بمعنى تلاوته ، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

__________________

(١) الإسراء : ٧٣ ، ٧٥.

(٢) تفسير الطبري : ١٧ / ١٣١ ، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

١١٥

نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال :

تمنى كتاب الله أوّل ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان ، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم ، وقد نقله أبو حيان في تفسيره ( ج ٦ ص ٣٨٢ ) واستشهد به صاحب المقاييس ( ج ٥ ص ٢٧٧ ).

ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً : أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك ، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس ، فلاحظ (١).

وثالثاً : أنّ القصة تكذّب نفسها ، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات ، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها

__________________

(١) الهدى إلى دين المصطفى : ١ / ١٣٠.

١١٦

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه ، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكن الآيات التي وقعت بعدهما ، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه : ( تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال ، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم : الوليد بن المغيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف ، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها ، وقد قيل : لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً : أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف ، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً : أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات ، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (٣).

__________________

(١) النجم : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) النجم : ٣ ـ ٤.

(٣) الجن : ٢٧.

١١٧

وقوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١).

وسادساً : أنّ علماء الإسلام ، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد ، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها (٢).

وقال النسفي : إنّ القول بها غير مرضيّ. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنّما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها (٣).

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا « فروغ أبديت » (٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) تنزيه الأنبياء : ١٠٩.

(٣) الهدى إلى دين المصطفى : ١ / ١٣٠.

(٤) كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طبع في جزءين.

١١٨

الطائفة الثانية

ما يمس عصمة عدة خاصة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمس بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

١

عصمة آدم عليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطِّئة في مجال نفي العصمة عن عدة معينة من الأنبياء ، وراعينا الترتيب التاريخي لهم ، فنقدم البحث عن عصمة آدم عليه‌السلام على البحث عن عصمة نوح عليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهي عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء ، ويعدّ ذلك في منطقهم « كبيت القصيد » في ذلك المجال ، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول :

١١٩

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث ، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١).

ويقول سبحانه : ( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) (٢).

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصة في هذه السورة ، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة ، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكيّة وسورة البقرة مدنية ، ولما توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

__________________

(١) البقرة : ٣٥ ـ ٣٧.

(٢) الأعراف : ١٩ ـ ٢٤.

١٢٠