إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٧

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

حدا يمتنع تواطيهم على الكذب بأخبار كثيرة عن امور متعدّدة يشترك في معني كلىّ وإن كان كلّ واحد من تلك الاخبار غير متواترة ، فانّ ذلك الكلّي المشترك يكون متواترا ضرورة اخبارهم عن جزئياته المشتملة عليه بالتّضمن أو الالتزام ، مثال الأوّل : لو أخبر واحد بأنّ حاتما أعطى مائة دينار وآخر بانّه أعطى جملا ، وآخر بأنه أعطى فرسا ، وهلمّ جرّا ، تواتر القدر المشترك وهو إعطاء ماله غيره وهو المعبّر عنه بالسخاوة بوجوده في الكلّ ، والسّخاوة الّتي هي مطلق إعطاء المال للغير جزء لكلّ من

__________________

على (ع) من قريش خمسة نفر ومع معاوية ثلاث عشر قبيلة مع الأهل والأولاد وتفصيل هذه الاجوبة مذكور متفرقا في هذا الشرح فليطلب من مواضعها منه نور الله مرقده.

قال بعض فضلاء الحنابلة : الاخبار المنقولة في باب الأمور الجزئية العلمية على أربعة أقسام أحدها متواتر لفظا ومعنى الثاني اخبار متواترة معنى وان لم يتواتر بلفظ الثالث اخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الامة الرابع اخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن مثله حتى ينتهى الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأما القسمان الأولان فكالاخبار الواردة في عذاب القبر والشفاعة والحوض والأحاديث الواردة في اثبات المعاد والجنة والنار ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن رسول الله (ص) جاء بها كما يعلم بالاضطرار انه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه ما من باب هذه الأبواب الا وقد تواتر فيه المعنى المقصود عن النبي (ص) تواترا معنويا لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة يمتنع في مثلها في العادة التواطي على الكذب عمدا أو سهوا ، وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الامة وخلفها بمنع التواطؤ والاتفاق على الكذب في هذه الاخبار ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها أفادت العلم اليقيني انتهى منه نور الله مرقده وكيف حل له تسمية جميع الكتاب وأحاديثه بالصحيح مع ان كثيرا من أحاديثه في نظره أيضا ليس بصحيح كما صرح به التفتازاني في التلويح وصرح به بعض المحشين له غاية التصريح حيث قال : ان ما ذكره البخاري في صحيحه قسمان : قسم تصدى لإثباته وقسم أورده للاستشهاد والتأييد والاول هو الصحيح مطلقا بخلاف الثاني انتهى منه نور الله مرقده.

٤٠١

الاعطاءات الجزئية ، وهذا بحسب الظاهر ، وإلّا فالسّخاوة كما هو المشهور كيفيّة نفسانيّة هي مبدأ ذلك الإعطاء ، ومثال الثاني : الاخبارات عن وقائع حضرت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في حروبه ، من أنّه هزم الشجعان في خيبر ، وقتل عمرو بن عبد ودّ في وقعة الخندق ، وقد عجز عنه جميع الحاضرين ، ولم يقدموا على مبارزته وهو عليه‌السلام إذن في سنّ اثني عشر (١) سنة فضربه ضربة بعد المجادلة والمشابكة العظيمتين ، وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (٢) ولضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثّقلين ، ودخل على المسلمين سرور ذلك اليوم لم يدخلهم مثله قطّ إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، فإنها تفيد العلم بالقدر المشترك الّذي هو الشجاعة وهو أمر لازم ، وهو ظاهر.

والحاصل أنّ المخبرين إذا بلغوا حدّ التواتر ، ولكن اختلفت أخبارهم بالوقائع الّتي أخبروا بها مع اشتراكها في معنى هو قدر مشترك بينها ، فالكلّ مخبرون عن ذلك المشترك ضرورة اخبارهم عن جزئيّات المشتملة عليه بالتضمّن كما في الأوّل ، أو المستلزمة له كما في الثاني ، ومعنى تواتر القدر المشترك من العلم القطعيّ به يحصل من سماعها بطريق العادة ، فاحفظ هذا ، ونظير ما نحن فيه ما قال ابن حجر المتّأخر في صواعقه : من أنّ الحديث الّذي أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعريّ في مرض موت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس إلخ حديث متواتر ، فانّه ورد من حديث عائشة وابن عبّاس وابن مسعود ، وابن عمرو عبد الله بن ربيعة ، وأبي سعيد إلخ فتدبّر ، وأمّا ما ذكره من انحطاط درجة المصنف «قدس سرّه» في ساير العلوم فهو بجهله معذور في ذلك ، وقد قيل : إنّما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ، ولا يخفى على من تأمّل في تواريخ الدولة القاهرة

__________________

(١) الظاهر أن كلمة اثنى عشر من غلط النسخ.

(٢) تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث باقسامه في (ج ٦ ص ٤ ، الى ص ٨).

٤٠٢

الايلخانية المنسوبة إلى السلطان الفاضل السّعيد أو أولجايتو محمّد خدا بنده أنار الله برهانه ، انّ زمانهم أكثر تربية للأولياء والعلماء والحكماء والفقهاء ، وكان معاصر المصنف العلامة خلق كثير كنجم الدّين عمر الكاتبي ، القزويني ، والقاضي البيضاوي ، والعلامة الشيرازي ، والحكيم أحمد بن محمّد الكيشي والمولى الفاضل بدر الدّين محمّد الحنفيّ الشوشتري ، والقاضي نظام الدّين عبد الملك المراغي ، والسيّد ركن الدّين الموصلي ، وولد صدر جهان البخاري ، وغيرهم من مشاهير الحكماء والمتكلّمين الذين عجزوا عن مناظرته ، فسلّموا له حقيّة مذهبه إلى أن اختار السلطان مع كثير من أهل زمانه مذهب الاماميّة على التفصيل المشهور المسطور في سير الجمهور ، فالقول بانحطاط درجة مثل هذا العلم العلامة الّذي سلم علوّ درجته مثل هذه العلماء الاعلام إزراء بجلالة قدرهم ، مع ظهور انّ هذا النّاصب الشّقي الفضول لا يصلح لحمل غاشيتهم ، بل لرعى ماشيتهم ، وبالجملة ما أتى به من القول بسقوط درجة المصنّف العلامة ، كلام ساقط ، قد كفى مؤنة الرّد عليه شيوع صيت كماله بين الجمهور وظهور ندور أمثاله كالنّور على قلل الطّور ، ولا لوم على هذا القاصر الشقي في النفي والإنكار المذكور ، لأنّ ذلك من هزل الدّهر مع أهل الجهل والغرور ، وأمّا قوله وهو لا يعرف المسند إلّا الصحيح ، فكلام سقيم ، والصحيح أن النّاصب لم يعرف من الصحيح إلّا ما سمّاه مؤلّفه بالصحيح ولو سموا جميع المسندات والمرسلات بالصحيح ، لاستوى الكلّ عنده في الصحة ومن أين علم أنّ البخاري ومسلما قد أتيا بما شرطاه من أسباب الصّحة ، وقدرا على تميز رواة الصحيح من رواة الضعيف ، وأنّ أحمد مثلا لم يميّز ذلك بمثله ، ولم لا يجوز أن لا يكون جرح من جرحه مسلم ، وروى عنه أحمد مثلا ثابتا عنده ، كما قيل بمثله في جواب من عاب مسلما بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين ، فقد نقل النّووي في ذلك عن ابن الصّلاح وجوها من الجواب ، منها : أنّ ذلك يمكن

٤٠٣

أن يكون فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده ، ولا يقال : الجرح مقدّم على التعديل ، لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسّر السّبب والّا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا ، وقد قال الامام أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره إنّ ما احتجّ به البخاري ومسلم وأبو داود من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم ، محمول على انّه لم يثبت الطعن المؤثّر مفسّر السّبب «انتهى» ومما يناسب التنبيه عليه في هذا المقام ، أنّ اعتقادهم لصحّة جميع ما في جامعي البخاري ومسلم ناش عن محض التعصب أو الحماقة يدلّ على ذلك ما ذكره ابن حجر العسقلاني في مقدّمة شرحه على البخاري في الفصل التاسع في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب ، حيث قال : ينبغي أن يعلم أنّ تخريج صاحب الصحيح لأىّ راو كان مقتض لعدالته عنده ، وصحّة ضبطه وعدم غفلته ، ولا سيّما ما انضاف إلى ذلك من إطلاق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين ، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرّج عنه في الصحيح ، فهو بمثابة اطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما «انتهى» ووجه الحماقة فيه ظاهر ، لأنّه لما ادّعى (١) البخاري جمع الأحاديث الصّحاح في كتابه ، وسمّى هو كتابه بالصحيح ، لزم الجمهور ذلك الإطلاق والتسمية عرفا وعادة ، وإن كان ما فيه سقيما ، فانّ العرف قد جرى بأنّ واحدا منّا إذا سمّى عبده الزّنجى مثلا بالكافور ، وافقه الجمهور في ذلك الإطلاق وسمّوه به مع علمهم بأنّه من تسمية الشيء باسم ضدّه ، ولهذا ترى فقهاء أهل السنّة مع حكمهم بحرمة علم المنطق وأقسام حكمة الفلاسفة والحكم بكفرهم ، يعبّرون عن كتابي

__________________

(١) وكيف حل له تسمية جميع الكتاب وأحاديثه بالصحيح مع أن كثيرا من أحاديثه في نظره أيضا ليس بصحيح كما لوح به الفاضل التفتازاني في التلويح وصرح به بعض المحشين له غاية التصريح حيث قال : ان ما ذكره البخاري في صحيحه قسمان قسم تصدى لإثباته وقسم أورده للاستشهاد والتأييد والاول هو الصحيح مطلقا دون الثاني «انتهى».

٤٠٤

الشّفا والنجاة لأبى علىّ بن سينا بذينك الاسمين لا بالمرض والهلاك ، ونحوهما ، فلا دلالة في تعبير الجمهور عن كتاب البخاري بالصحيح على تعديل من ذكر فيه من الرواة ، وما ذكرناه من أن البخاري نفسه سمى كتابه بالصحيح أمروا ضح ، قد سبق من هذا الشّارح التصريح به ، حيث قال في أوائل المقدمة إن المصنّف التزم فيه الصّحة وأن لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا ، هذا أصل موضوعه ، وهو مستفاد من تسميته ايّاه بالجامع الصحيح المسند (١) من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسننه وأيّامه ممّا نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحا إلخ فتدبّر ، وسيجيء في إيضاح سقم صحاحهم مزيد بيان في شرح البحث الخامس إنشاء الله تعالى ، وأما قوله : وابن المغازلي رجل مجهول لا يعرفه أحد ولم يعده أحد من العلماء من المصنفين والمحدّثين ، فإنكار بارد لا يروج على أحد من العلماء المحدّثين ، فانّ ابن المغازلي هو مؤلّف كتاب المناقب أبو الحسن الفقيه الشافعي الواسطي الّذى يعرفه من متأخرى المحدّثين ابن حجر المتأخّر الشافعي ، وينقل عنه في كتابه المسمى بالصواعق المحرقة عند ذكر الآية السّادسة من الآيات الواردة في فضائل أهل بيت النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فظهر أنّ الدّاعى له إلى الحكم بجهالة ابن المغازلي إنما هو جهله أو تجاهله الناشي من تعصباته الجاهلية ، وأما قوله : والعجب أنّ هذا الرجل لا ينقل حديثا إلا من جماعة أهل السنّة ، لأن الشيعة ليس لهم كتاب ولا رواية ولا علماء مجتهدون إلخ فمن أعجب العجائب الّذى قصد به خدعة العوام لظهور أن الشيعة انّما يحتجّون على أهل السنة بأحاديثهم لكونه أتمّ في الإلزام وأقوى في

__________________

(١) وقال النووي الشافعي في ترجمة البخاري من كتابه الموسوم بتهذيب الأسماء. فصل : في اسم صحيح البخاري وتعريف محله وسبب تصنيفه وكيفية جمعه وتأليفه أما اسمه فسماه مؤلفه البخاري الجامع لمسند الصحيح المختصر من امور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنينه وأيامه «انتهى» منه «ره».

٤٠٥

الافحام ، والا فلهم في الحديث ما هو أضعاف الصحاح الستّة لأهل السنة كجامع الكافي للشيخ الحافظ محمّد بن يعقوب الكليني الرازي ، وكتابي التهذيب والاستبصار للشيخ النّحرير ابى جعفر الطوسي ، وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الأقدم ابن بابويه «ره» وغيرها من الكتب المشحونة بالأحاديث الصحيحة والحسنة والموثقة والمرويّة من طريق أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل جماعة من أكابر مصنفي الاماميّة كما مرّ وبالجملة لمّا علم المصنف «قد» ان الخصم وهم أهل السنة لا يتلقّون أحاديث الشيعة بالقبول عنادا ولجاجا بادر إلى الاحتجاج عليهم بأحاديثهم ورواياتهم ، لأنّه أوكد في الإلزام ، لما ذكرنا ، وكما قال والدي قدس‌سره رباعيّة :

خواهى كه شود خصم تو عاجز ز سخن

مى بند بكار قول پيران كهن

خصم از سخن تو چون نگردد ملزم

او را بسخنهاى خودش ملزم كن

وكانّ هذا النّاصب الجاهل لم يعرف معني البحث الالزامي والتحقيقي ومقام استعمالهما ، وهذا غاية الجهل والبعد عن مرتبة أرباب التحصيل كما لا يخفى على المحصّل ، وأما قوله : فكلّ النّاس يعلمون انّ عدد الشيعة والرّوافض في كلّ عصر من العصر الأوّل إلى هذا العصر ما بلغ حدّ الكثرة والاستفاضة إلخ ففيه أوّلا انّ ذلك الكلّ الّذي تمسّك بعلمهم هم المتسّمون بأهل السنّة الجهّال الّذين قالوا فيهم شعر :

فكلّهم لا خير في كلّهم

فلعنة الله على كلّهم

فلا يصير علمهم حجّة على غيرهم وثانيا أنّ نفيه لبلوغ الشيعة حدّ التواتر في عصر من الأعصار عناد محض وكذب بحت يدلّ عليه حال بلدان الشيعة كالمتأصّلين من أهل المدينة الطيّبة والكوفة ونواحيها وقم وكاشان وسبزوار وتون ممّا لم يوجد فيها قطّ غير الشّيعة

٤٠٦

فضلا عن البلاد المشتركة ، ويشهد أيضا بخلافه عبارات أصحابه منها ما ذكره الذّهبي الشامي في أوّل كتاب ميزان الاعتدال في أحوال الرّجال عند ذكر أبان بن تغلب (١) من أنّه شيعيّ صلب ، لكنّه صدوق فصدقه لنا وبدعته عليه ، وقال أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم إنّه ثقة وذكره ابن عدي ، وقال : إنّه كان غاليا في التشيع ، ثمّ قال : إن قيل : كيف يحكم بثقة المبتدع مع أنّ العدالة المنافية للبدعة مأخوذة في تعريف الثقة ، قلنا : الغلوّ في التشيع والتشيع بلا غلوّ كان كثيرا في التابعين وتبع التابعين ، مع أنّهم كلّهم كانوا من أهل الدّين والصّدق والورع ، فلو ردّ حديث هؤلاء مع كثرتهم لضاع كثير من الآثار النّبوية وهذا مفسدة ظاهرة «انتهى كلامه» ووجه شهادته على ما ذكرنا ظاهر ، ومنها ما ذكره

__________________

(١) قال العلامة العسقلاني في ترجمة أبان بن تغلب في تهذيب التهذيب (ج ١ ص ٩٣ ط هند) ما لفظه : أبان بن تغلب الربعي أبو سعد الكوفي ، روى عن أبى إسحاق السبيعي ، والحكم بن عتيبة ، وفضيل بن عمرو الفقيمي ، وأبى جعفر الباقر ، وغيرهم ، وعنه موسى بن عقبة ، وشعبة ، وحماد بن زيد ، وابن عيينة ، وجماعة ، قال أحمد ، ويحيى ، وأبو حاتم ، والنسائي : ثقة.

وقال ابن عدى : له نسخ عامتها مستقيمة إذا روى عنه ثقة وهو من أهل الصدق في الروايات وان كان مذهبه مذهب الشيعة وهو في الرواية صالح لا بأس به.

وقال ابن عجلان : ثنا أبان بن تغلب رجل من أهل العراق من النساك ثقة ، ولما خرج الحاكم حديث أبان بن تغلب في مستدركه قال : كان قاص الشيعة وهو ثقة ومدحه ابن عيينة بالفصاحة والبيان ، وقال العقيلي : سمعت أبا عبد الله يذكر عنه أدبا وعقلا وصحة حديث الا أنه كان غاليا في التشيع.

وقال ابن سعد : كان ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال الأزدي : كان غاليا في التشيع وما أعلم به في الحديث بأسا.

٤٠٧

ابن اثير الجزري في شرح كتاب النّبوة من جامع الأصول : إنّ المذاهب المشهورة في الإسلام الّتي عليها مدار المسلمين في أقطار الأرض مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، ومذهب الاماميّة ، وقال : إن مجدّد مذهب الامامية على راس المائة الثانية هو الامام عليّ بن موسى الرّضا ، وعلى رأس المائة الثالثة محمّد بن يعقوب الرّازي ، وعلى رأس المائة الرابعة المرتضى الموسوي ، ومنها ما قال الشيخ عماد الدّين ابن كثير الشامي في أحوال سنة ثلاث وعشرة وأربعمائة من تاريخه توفي فيها ابن المعلم (١) شيخ الرّوافض ، والمصنف لهم والحامي عن حوزتهم ، وكان مجلسه

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن نعمان بن عبد السلام بن جابر بن نعمان بن السعيد العربي الحارثي ، العكبري الأصل البغدادي النشأة والتحصيل ، المكنى بأبى عبد الله والملقب بالمفيد ، ونسبه على ما قال تلميذه النجاشي موصول الى يعرب بن قحطان ، واشتهر بابن المعلم لمكان تلقب أبيه بالمعلم ، وهو من أركان فقهاء الفرقة الحقة ومتكلميهم ، عابد زاهد متقى ، وقد برع في الفقه وجمع في الأصول الى النهاية وهو متكلم جدلى ومحدث رجالي ، حاو للفضائل العلمية والعملية وجامع للكمالات النفسانية ، حاضر الجواب وكثير الرواية وخبير في الاشعار والاخبار وحريص على العبادات والصدقات ، والليالي بعد النوم قليلا مشتغل بالصلاة وتلاوة القرآن ، ومحضره محضر درس ومطالعة وبالجملة وثاقته وجلالة علمه ومقام نبوغه مما لا يرتاب فيه العامة والخاصة وأعلم أهل زمانه في العلوم المتنوعة واليه انتهت الزعامة والرياسة للامامية وكان مرجعا للاستفادة في الفقه والحديث والكلام وناظر مع أهل كل نحلة ومرام وغلب عليهم لتأييده من قبل الملك العلام.

روى أنه لما قدم من مولده الأصلي العكبري الى بغداد ، حضر يوما في مجلس درس العلامة القاضي عبد الجبار المعتزلي ، وكان مملوا من علماء الفريقين ، وجلس في ذيل المجلس تأدبا ، ثم انه سأل بعد الاستيذان عن صحة حديث الغدير ، فأجاب القاضي بأنه صحيح ، فسأل عن معنى المولى ، فقال انه بمعنى الاولى ، فقال الشيخ فما معنى الاختلاف

٤٠٨

بين الخاصة والعامة في تعيين الامام؟ فقال القاضي : ان خلافة أبى بكر ثبت بالدراية ، وامامة على بالرواية ولا يقاوم الرواية مع الدراية ، فسأل الشيخ أيضا عن صحة حديث : يا على حربك حربى وسلمك سلمى ، فأجاب أنه صحيح ، فسأل الشيخ عن كيفية محاربة أصحاب جمل مع على وكونهم ممن حارب عليا ، فأجاب القاضي انهم تابوا بعد ذلك ، فقال الشيخ حربهم ثبت بالدراية وتوبتهم بالرواية ، فلا يقاوم الرواية مع الدراية ، فسكت القاضي عن الجواب ، وبعد الاستعلام عن اسمه أجلسه في مكانه وقال أنت المفيد حقا ، فتغير الحاضرون من العلماء في المجلس من صنيع القاضي مع الشيخ بذاك المنوال ، فقال : ان أجبتم سؤاله فأنا أجلسه في مكانه الاول ولم يقدروا أن يجيبوه ، هذا نبذ يسير من إفاداته العلمية والرد على المخالفين فللمتتبع المنقب أن يراجع كتب التراجم والسير ويطالع كيفية مناظرته مع أبى بكر الباقلاني وعلى بن عيسى الرماني وغير ذلك مما يفصح عن علو مقامه في العلوم المتنوعة.

تلمذ واستفاد من مشايخه : الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه والشيخ الصدوق ابن بابويه وأبى غالب الرازي وأحمد بن محمد بن حسن بن الوليد وغيرهم من اكابر مشايخ الفريقين. وتلمذ واستفاد منه العلامة السيد الرضى والسيد المرتضى والشيخ أبو الفتح الكراجكي والشيخ المحقق الطوسي امام الفرقة الحقة الامامية في الفقه وسلار بن عبد العزيز الديلمي وغيرهم من معاصري هؤلاء الاعلام.

وله تآليف ومصنفات كثيرة : منها احكام أهل الجمل ، أحكام النساء ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ، الأركان في دعائم الدين ، الاستبصار فيما جمعه الشافعي من الاخبار ، الاشراف في علم فرائض الإسلام ، أطراف الدلائل في أوائل المسائل ، اعجاز القرآن والكلام في وجوهه ، الاعلام في ما اتفقت الامامية عليه من الاحكام ، الإفصاح في الامامة ، اقسام المولى وبيان معانيه ، الاقناع في وجوب الدعوة ، الأمالي المتفرقات ، امامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من القرآن الانتصار ،

٤٠٩

يحضره خلق من العلماء من ساير الطوائف ، وكان من جملة تلاميذه الشريف المرتضى ، وقال اليافعي في تاريخه : توفّي فيها عالم الشيعة وامام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة المعروف بالمفيد وبابن المعلّم أيضا البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر كلّ عقيدة بالجلالة والعظمة في الدّولة البويهيّة ، وكان

__________________

الإنسان والكلام فيه ، أوائل المقالات في المذاهب المختارات الإيضاح في الامامة ، ايمان أبى طالب ، الباهر من المعجزات ، البيان عن غلط قطرب في القرآن ، البيان في أنواع علوم القرآن ، البيان في تأليف القرآن ، التذكرة بأصول الفقه ، تصحيح اعتقاد الامامية وهو شرح لكتاب اعتقادات الصدوق تفضيل الأئمة على الملائكة ، تفضيل أمير المؤمنين على سائر الاصحاب ، تقريب الاحكام ، التمهيد ، الجمل ، جمل الفرائض ، الجنيدي وهو رسالة بأهل مصر ، جوابات الفيلسوف في الاتحاد ، حجية الإجماع ، ذبائح أهل الكتاب الرد على الجاحظ والعثمانية في فضيلة المعتزلة ، العيون والمجالس ، الفصول المنتخبة ، كشف الالتباس ، كشف السرائر ، المتعة ، المزار ، المسائل الصاغانية ، مسائل النظم ، مسار الشيعة ، المقنعة في الامامة المقنعة في الفقه وهو كتاب مختصر مفيد مشتمل على فقه الامامية من أوله الى آخره وطبع مع كتاب فقه الرضا في ايران النقض على ابن جنيد في اجتهاد الرأي ، النقض على على بن عباد في الامامة ، النقض على على بن عيسى الرماني ، نقض فضيلة المعتزلة ، نقض المروانية وغيرها من الكتب والآثار التي تثبت تبحره في العلوم وكثرة خدماته الدينية وتحمله للمشقات في اثبات المذهب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، ومن امتيازاته الخاصة صدور توقيعات رفيعة من الناحية المقدسة ولى العصر عجل الله تعالى فرجه بعنوان .. للأخ الصديق والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن نعمان ادام الله إعزازه ، وبعنوان آخر : ايها الناصر للحق والداعي اليه بكلمة الصدق.

٤١٠

كثير الصّدقات عظيم الخشوع ، كثير الصلاة ، والصّوم ، خشن اللّباس ، وكان عضد الدّولة ربما زار الشيخ المفيد ، عاش ستّا وسبعين وله أكثر من مأتي مصنّف ، وكان يوم وفاته مشهورا وشيعه ثمانون ألفا من الرفضة والشيعة وأراح الله منه «انتهى» ومنها انّه قال صدر العلماء الأمير صدر الدّين محمّد الشيرازي في أوائل حاشيته الجديدة على الشرح الجديد للتجريد عند تحقيق صيغة أفعل التفضيل في قول المصنّف المحقّق «قدس‌سره» وعلى أكرم أحبّائه ما هذه عبارته : اختلف المسلمون في أفضليّة بعض الصحابة ، فذهب أهل السنّة الى أنّ أبا بكر أفضلهم وأثبتوا ذلك بوجوه مذكورة في موضعها ، وبنوا على ذلك أنّ غيره ليس أفضل منه ، ومنعوا اطلاق الأفضل على غيره منهم ، وذهب الشيعة إلى انّ عليّا أفضلهم وأثبتوا ذلك بمالهم من الدلائل ، وبنوا على ذلك أنّ غيره من الصحابة ليس أفضل منه ، ومنعوا أن يطلق الأفضل على أحد من الصحابة غيره واستمرّ هذا الخلاف والمراء بينهما ، وفي كلّ من الطائفتين علماء كبار ، عارفون باللغة حقّ المعرفة ، فلو كان معني الصيغة ما ظنّه هذا القائل ، لصحّ ان يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر ولم يتمشّ هذا الخلاف والمراء والمنع ، وكيف يجوز أن يكون معناها ذلك؟ ولم يتنبه له أحد من هذه الجماعات الكثيرة وبقي الخلاف والبناء والمنع المذكورة بين الطائفتين قريب من ثمانمائة سنة «انتهى كلامه» ومنها ما طويناه على غره حذرا عن الاطناب المفضي الى الإسهاب.

قال المصنف رفع الله درجته

الثاني من (١) مسند أحمد : لمّا نزل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ). جمع

__________________

(١) لا يخفى أن عبارة المصنف رحمه‌الله في نسخة الكتاب هكذا : روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس من عدة طرق : أن عليا عليه‌السلام أول من اسلم «إلخ» وقد حذف الناصب اكثر ذلك من البين «منه ره».

٤١١

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل بيته ثلاثين نفرا ، فأكلوا وشربوا ثلاثا ، ثمّ قال لهم : من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ، ويكون خليفتي ويكون معي في الجنّة؟ فقال : عليّ عليه‌السلام : أنا فقال : أنت ، ورواه الثعلبي في تفسيره بعد ثلاث مرّات في كلّ مرّة سكت القوم غير عليّ عليه‌السلام (١) «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : هذا الحديث ذكره ابن الجوزي رحمه‌الله في قصّة طويلة وليس فيها يكون خليفتي ، وهذا من وضعه ، أو من وضع مشايخه من شيوخ الرفض وأهل التهمة والافتراء ، وفي مسند أحمد بن حنبل لفظ ويكون خليفتي غير موجود ، بل هو من إلحاقات الرّفضة ، وهذان الكتابان اليوم موجودان ، وهم لا يبالون عن خجلة الكذب والافتراء ، بل الرّواية ويكون معي في الجنّة ، وهو من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث أقبل إذ النّاس أدبر واقدم إذ النّاس احجم ، وفضائله أكثر من أن تحصى عليه سلام من الله تترى مرّة بعد أخرى «انتهى».

أقول

بل حذف خليفتي خلف باطل من أباطيل النّاصب ، فإن هذا الحديث ، ان ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات ، فقد حكم عليه بالوضع ، فكان ينبغي ردّ الحديث بذلك ، لا بأنّ لفظ خليفتي غير موجود فيه ، وان ذكره في كتاب آخر لابن الجوزي ، فكان ينبغي أن يذكر ذلك الكتاب حتّى يرجع إليه في تحقيق ذلك ، وحيث أبهم الكلام في ذلك دلّ على اختراعه واضطرابه ، وكيف يكون من الموضوعات؟ مع ما مرّ نقلا عن السخاوي إنّه قال : ليس في مسند أحمد شيء

__________________

(١) تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث عن أعاظم محدثي العامة في (ج ٤ ص ٦٠ الى ٧٠)

٤١٢

من الموضوع وقوله هذان الكتابان موجودان ، مسلم ، لكن الظاهر لم يكونا موجودين في البلاد الّذي قصد الناصب ترويج زيفه الكاسد على أهلها ، أعني بلاد ما وراء النهر واطمأن قلبه بأنهم يكتفون بمجرّد نقله حرصا على محو فضائل أمير المؤمنين عليه آلاف التحيّة والثناء فليرجع أولياء النّاصب إلى مسند أحمد وتفسير الثعلبي حتّى يتحقّق أنّه لغاية العجز والاضطراب تترّس بالافتراء في الجواب ، وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يضمن ديني ، يكفي في ثبوت المدّعي ، لأنّ الظاهر انّه بكسر الدّال ، لا بفتحها ، إذ لم يكن عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دين بقي عليه إلى حين وفاته ، لما يروى : من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيّام مرضه طلب براءة الّذمة من النّاس ولم يدع عليه أحد شيئا سوى من ادّعى عليه ضرب سوط من غير عمد ، ولأنّ ضمان حفظ الدّين بكسر الدال هو الّذي يصعب على النّاس ارتكابه ، حتّى سكت القوم عن اجابته بعد ذكر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ثلاث مرّات كما في رواية الثعلبي ، ولو كان المراد الدّين بفتح الدال وكان المراد بذل بعض المال في عوض ما على ذمّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدّين ، لكان الظاهر أن يجيب عن ذلك أبو بكر الّذى صرف أموالا كثيرة في سبيل الله ، على ما يرويه القوم ، ولا ريب في أنّ ضامن حفظ دين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون خليفته ان قيل : الظاهر من ذكر المواعيد أن يكون الدّين المذكور قبلها الدّين بفتح الدال. قلت : جاز أن يكون المراد المواعدة بإعطاء أحد شيئا من بيت المال كما وقع لابن مسعود ، وهو أيضا من لواحق الدّين بكسر الدال ، ولو سلم فلا بدّ من العدول عن الظاهر عند قيام الدّليل الدّال على إرادة خلافه ، وهو هاهنا ثبوت براءة ذمّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حقّ النّاس كما مرّ ، ويؤيّده أيضا ما رواه المحقّق قدس‌سره في التجريد حيث قال : ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني بكسر الدّال «انتهى» على أنّ ما أجراه الله تعالى على لسان قلمه من أنّه عليه آلاف التحية والثناء أقبل إذ النّاس أدبر ، وأقدم إذ الناس أحجم كاف في

٤١٣

المرام كما لا يخفى على ذوى الأفهام.

قال المصنف رفعه الله

الثالث من المسند (١) عن سلمان : إنّه قال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وصيّك؟ قال : يا سلمان ، من كان وصىّ أخى موسى؟ قال : يوشع بن نون ، قال : فانّ وصيّى ووارثي يقضى ديني وينجز موعدي علىّ بن أبي طالب عليه‌السلام «انتهى».

قال النّاصب رفعه الله

أقول : الوصىّ قد يقال ويراد به من أوصى له بالعلم والهداية وحفظ قوانين الشريعة وتبليغ العلم والمعرفة ، فان أريد هذا من الوصىّ فمسلّم ، انّه عليه الصلاة والسلام كان وصيّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا خلاف في هذا ، وإن أريد الوصيّة بالخلافة فقد ذكرنا بالدّلائل العقليّة والنقلية عدم النصّ في خلافة علىّ ، ولو كان نصّا جليا لم يخالفه الصحابة ، وان خالفوا لم يطعهم العساكر وعامّة العرب سيما الأنصار «انتهى».

أقول

الوصىّ بالمعنى الأوّل الّذى ذكره النّاصب أيضا يستدعى ان يكون بالنسبة إلى الخليفة ، إذ ليس معنى الخليفة إلّا من أوصاه النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعلم والهداية وحفظ قوانين الشريعة وتبليغ العلم والمعرفة ، وأنّى حصل هذا الحفظ والتبليغ للثلاثة المتحيرين في آرائهم الجاهليّة؟ فضلا عن ضبط معاني الكتاب والسنة ، ولو سلّم

__________________

(١) تقدم منا نقل بعض مدارك هذا الحديث على انحائه عن كتب القوم في (ج ٤ ص ٧١ الى ص ٧٦)

٤١٤

فنقول : الوصىّ هاهنا بمعنى الامام والخليفة بدليل جعله عليّا عليه آلاف التحية والسلام منه بمنزلة يوشع في الوصاية والامامة عن موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام فانّ يوشع كان وصيّا وإماما بعد موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام كما صرّح به الأعلام ومنهم محمّد الشهرستاني (١) الأشعريّ في أثناء بيان أحوال اليهود حيث قال : إنّ الأمر كان مشتركا بين موسى وبين أخيه هارون عليه‌السلام إذ قال : (أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فكان هو الوصىّ ، فلمّا مات هارون في حياته انتقلت الوصاية إلى يوشع وديعة ليوصلها إلى شبير وشبر ابني هارون قرارا ، وذلك أنّ الوصيّة والامامة بعضها مستقرّ وبعضها مستودع «انتهى كلامه بعبارته» وهو مما يجعل قوله عليه‌السلام : أنت منّى بمنزلة هارون من موسى ، نصّا في كون المراد من المنزلة منزلة الوصاية فافهم ، وأما ما ذكره من انّا قد ذكرنا بالدلائل العقليّة والنقليّة عدم النصّ في خلافة عليّ عليه‌السلام ، فحوالة على العدم المحض ، إذ لم يسبق عن النّاصب المعزول عن السمع والعقل القانع بالبقل عن النقل دليل عقليّ أو نقليّ على ذلك ، وانما قصارى أمره فيما سبق التشكيك في الأدلة العقلية والنقلية التي ذكرها المصنّف ، وقد أوضحنا بطلان تلك التشكيكات بأوضح وجه وأتمّ بيان بحمد الله تعالى ، ولعله أراد بالدّليل العقلي والنقلي النقض الركيك الّذى أعاده هاهنا بقوله : لو كان نصّا جليّا لم يخالفه الصحابة إلى آخره ، وهذا كما أشرنا إليه سابقا مصادرة ظاهرة لا يخفى بطلانه على اولى النهي ، وأما قوله : وإن خالفوا لم يطعهم العساكر ، فقد سبق جوابه بما حاصله أن العساكر كانوا على طبقات ثلاث : سادات وأتباعهم ، ومقلّدة ، أما السادات فانّما اجتمع أكثرهم وهم قريش على كتمان النصّ ومخالفته ، لأنّهم كانوا على قسمين حسّاد ومبغضين ، أما حسد الحسّاد فلما

__________________

(١) ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (ج ٢ ص ١١ ط مطبعة حجازي بالقاهرة) فراجع.

٤١٥

كانوا يشاهدونه من تفضيل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام (١) وإثابته «إبانته خ ل» عليهم في المواطن كلّها ، وأمّا بغضهم إيّاه ، فلأنّه كان قد وتر أكابر القوم ولم يكن بطن من بطون قريش إلّا وكان لهم على عليّ عليه‌السلام دعوى دم أراقه في سبيل الله كما اعترف به النّاصب ، ولا شبهة عند من اعتبر العادات والطبائع البشريّة في أنّ من قتل أقارب قوم وأحبّائهم وإخوانهم وأولادهم ، فانّهم يبغضونه ويودّون قتله ، ولا يألون جهدا في منعه ممّا يرومه إن استطاعوا ، وكيف يستبعد ذلك عن النفوس الامّارة المارة جملة من أعمارهم في الكفر والجاهليّة ، مع أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عصمته وطهارته وتقدّس نفسه لم يطق رؤية وحشي (٢) قاتل عمّه حمزة رضي‌الله‌عنه بعد إسلامه الّذى يجبّ ما قبله فقال له حين اسلم : غيّب عنّي وجهك لا أراك كما ذكره صاحب الاستيعاب وأمّا أتباعهم ، فإنما كتموا وخالفوا اتباعا لساداتهم ، وأمّا باقي النّاس فكانوا مقلّدة ، فلمّا رأوا إقدام متقدّميهم ومشايخهم وأهل البصيرة منهم على ما أقدموا

__________________

(١) قيل لخليل بن أحمد : لم لا نمدح عليا؟ قال : كيف أقدم في مدح من كتمت أحباؤه فضائله خوفا واعداؤه حسدا وظهر بين الكتمانين ما ملا الخافقين.

(٢) هو وحشي بن حرب الحبشي من سودان مكة مولى لطعيمة بن عدى ، ويقال : هو مولى جبير بن مطعم بن عدى ، يكنى أبا دسمة وهو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم احد وكان يومئذ وحشي كافرا استخفى له خلف حجر ، ثم رماه بحربة كانت معه ، وكان يرمى بها رمى الحبشة فلا يكاد يخطى ، واستشهد حمزة حينئذ ، ثم أسلم وحشي بعد أخذ الطائف وشهد اليمامة ورمى مسيلمة بحربته التي قتل بها حمزة وزعم أنه أصابه وقتله وكان يقول : قتلت بحربتى هذه خير الناس وشر الناس ، حكى ذلك جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن وحشي ، وفي خبره ذلك ان رسول الله (ص) قال لوحشى حين اسلم. غيب وجهك عنى يا وحشي لا أراك. ذكره في الاستيعاب (ج ٢ ص ٦٠٨ ط حيدرآباد الدكن) «ج ٢٦»

٤١٦

عليه اعتقدوا انّ ما سمعوا من ذلك لم يكن نصّا ، وإنّما كان دليلا على التفضيل على ما لا يزال يقولون به ، وأيضا قد أوقعوا الشبهة على قلوب بعضهم بقعود عليّ عليه آلاف التحية والسلام في بيته مشتغلا بتجهيز النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا الأقلّون عددا الأعظمون قدرا فلم يكتموا الحقّ وزجروا أبا بكر وأصحابه ولم يبايعوه اختيارا كما مرّ مفصّلا.

قال المصنف رفع الله درجته

الرابع : من كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن مردويه وهو حجّة عند المذاهب الأربعة رواه بإسناده إلى أبي ذرّ ، قال : دخلنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلنا : (١) من أحبّ أصحابك إليك؟ فان كان أمر كنّا معه ، وان كانت نائبة كنّا من دونه ، قال : هذا علىّ أقدمكم سلما وإسلاما (٢) «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : هذا الحديث إن صحّ يدلّ على أفضليّة امير المؤمنين عليه‌السلام ، وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّه حبّا شديدا ، ولا يدلّ على النصّ بإمارته ، ولو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) تقدم منا نقل عدة من الأحاديث الدالة على تصريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكون على أحب الناس اليه في (ج ٤) ص ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٣٥ و ٣٣٧ وفي (ج ٥) ص ٣١٨ ، الى ص ٣٨٦ ، فراجع

(٢) تقدم منا نقل عدة من الأحاديث الدالة على تصريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكون على أول المسلمين إسلاما في (ج ٤) ص ٢٩ و ٣١ و ٣٤ و ١٠٥ و ١٠٦ و ١٥١ ، الى ص ١٥٦ و ١٥٩ و ١٦٤ و ٢٣٣ و ٢٣٤ و ٣٣١ و ٣٣٩ و ٣٤٦ و ٣٤٧ و ٣٥٩ و ٣٦٠ و ٣٦١ و ٣٨٦ فراجع

٤١٧

ناصّا على خلافته لكان هذا محلّ إظهاره وهو ظاهر ، فانّه لمّا لم يقل انّه الأمير بعدي (إنّ الأمير بعدي عليّ خ ل) علم عدم النصّ ، فكيف يصحّ الاستدلال به؟ «انتهى»

أقول

قد عرفت سابقا أن النصّ على المعنى المراد كما يكون بالدّلالة على ذلك من مجرّد مدلول اللّفظ ، كذلك يكون باقامة القرائن الواضحة النّافية للاحتمالات المخالفة للمعنى المقصود ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ قول السائل : وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا من دونه. مع قوله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا عليّ أقدمكم إلى آخره ، نصّ على إرادة الخلافة ، فانّ قوله عليه‌السلام أقدمكم بمنزلة الدّليل على أهليّته للتقدّم على ساير الامّة ، فقوله : لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصّا لقال : إنّه الأمير بعدي من باب تعيين الطريق الخارج عن شرع المحصّلين ، بل لو قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذلك ، لكان يتعسّف النّاصب الشّقيّ ، ويقول : الأمارة ليست نصا صريحا في الخلافة لاستعماله في امارة الجيوش وفي أمارة قوم دون قوم ، كما قال الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير ، وبالجملة التصريح والتطويل لا ينفع المعاند المحيل ولو تليت عليه التوراة والإنجيل.

قال المصنف رفع الله درجته

الخامس من كتاب ابن المغازلي الشافعي (١) بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال لكلّ نبيّ وصيّ ووارث ، وإنّ وصيّي ووارثي عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام «انتهى».

__________________

(١) تقدم منا نقل مدارك هذا الحديث في (ج ٤ ص ٧١ ، الى ص ٧٣) والروايات الدالة على كون أمير المؤمنين على (ع) وصيا للنبي (ص) ووارثا له كثيرة ، فراجع المجلد الرابع.

٤١٨

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد ذكرنا معني الوصاية وأنّه غير الخلافة فقد يقال : هذا وصيّ فلان على الصبىّ ، ويراد به انّه القائم بعده بأمر الصبىّ وهو قريب من الوارث ولهذا قرنه في هذا الحديث بالوارث ، وليس هذا بنصّ في الخلافة إن صحّت الرّواية «انتهى».

أقول

قد ذكرنا أيضا هناك انّ أصل معني الوصيّة في اللغة هو الوصل ، ومعناه العرفي أن يصل الموصي تصرّفه بعد الموت بما قبل الموت أيّ تصرّف كان ، فالوصيّ إذا اطلق يكون المراد به الأولى بالتصرف في امور الموصي جميعا ، إلا ما أخرجه الدّليل ، وإنّما يطلق على الوليّ الخاصّ كوليّ الطّفل بالاضافة والتقييد ، فيكون المراد بالوصيّ حيث أطلقه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن وصيّه عليه‌السلام الخلافة وأولويّة التصرّف ، فثبت ما ادعيناه ، وأما ما ذكره من قرب معني الوراثة للوصيّة فلا يخفى بطلانه على ورثة العلم ولنضرب عنه صفحا.

قال المصنّف رفعه الله

السادس في مسند أحمد وفي الجمع بين الصّحاح الستّة ما معناه : انّ (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث براءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة فلمّا بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليّا عليه‌السلام ، فردّه فرجع أبو بكر إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزل فيّ شيء؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني وقال : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك «انتهى».

__________________

(١) تقدم منا نقل بعض مدارك هذا الحديث في (ج ٣ ص ٤٢٨ ، الى ص ٤٣٨)

٤١٩

قال النّاصب خفضه الله

أقول : حقيقة هذا الخبر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من الهجرة بعث أبا بكر الصّديق أميرا للحاج وأمره أن يقرأ أوائل سورة البراءة على المشركين في الموسم ، وكان بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبايل العرب عهود فأمر أبا بكر بأن ينبذ إليهم عهدهم إلى مدّة أربعة أشهر كما جاء في صدر سورة البراءة عند قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، وأمر أيضا أبا بكر : بأن ينادى في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ولا يحجّ بعد العام مشرك ، فلمّا خرج أبو بكر إلى الحجّ بدا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر تبليغ سورة البراءة ، لأنّها كانت مشتملة على نبذ العهود وإرجاعها إلى أربعة أشهر ، وأنّ العرب كانوا لا يعتبرون نبذ العهد وعقده إلّا من صاحب العهد ، أو من أحد من قومه ، وأبو بكر كان من بني تيم فخاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يعتبر العرب نبذ العهد وعقده إلى أربعة أشهر من أبي بكر ، لأنه لم يكن من بني هاشم ، فبعث عليّا عليه آلاف التحيّة والسلام لقراءة سورة البراءة ونبذ عهود المشركين وأبو بكر على أمره من أمارة الحج والنداء في النّاس بأن لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج بعد العام مشرك ، فلمّا وصل عليّ إلى أبي بكر قال له أبو بكر : أأمير؟ قال : لا ، بل مبلّغ لنبذ العهود ، فذهبا جميعا إلى أمرهم ، فلمّا حجّوا أو رجعوا قال أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فداك أبي وامّي يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزل فىّ شيء؟ قال : لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي ، هذا حقيقة هذا الخبر ، وليس فيه دلالة على نصّ ولا قدح في أبي بكر ، وأمّا ما ذكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا ، ولكن جبرئيل أتاني فهذا من ملحقاته وليس في أصل الحديث هذا الكلام «انتهى».

٤٢٠