تراثنا ـ العدد [ 13 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 13 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٤

والتصاريف اللغوية يخفى عليه الفرق بين «التسوية» و «المساواة».

إن الذين يصرفون قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ولا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» إلى معنى ساويته بالأرض أي «هدمته» أولئك قوم أيفت أفهامهم ، وسخفت أذهانهم ، وضلت ألبابهم ، ولم يكن من العربية لهم ولا قلامة ظفر فكيف بعلمائهم؟!

ولا يخفى على عوام العرب أن تسوية الشئ عبارة عن تعديل سطحه أو سطوحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره أو تحديبه أو تسنيمه وما أشبه ذلك من المعاني المتقاربة (١٤) والألفاظ المترادفة ، فمعنى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا تدع قبرا مشرفا ـ أي : مسنما ـ إلا سويته ـ أي ـ سطحته وعدلته ـ» وليس معناه : إلا هدمته وساويته بالأرض كي يعارض ما ورد من الحث على زيارة القبور واستحباب إتيانها ، والترغيب في تشييدها ، والتنويه بها ، وذلك المعنى ـ أعني أن المراد من تسوية القبر تسطحيه وعدم تسنيمه ـ كان هو الذي فهمته من الحديث أول ما سمعته بادئ بدء وعند أول وهلة ، ثم راجعت الكتاب ـ أعني صحيح مسلم ـ ونظرت الباب فوجدت صاحب الصحيح ـ مسلم ـ قد فهم ما فهمناه من الحديث حيث عنون الباب قائلا : (باب تسوية القبور) وأورد فيه أولا بسنده إلى تمامه قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يأمر بتسويتها (١٥) ثم أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي الهياج المتقدم : «ولا قبرا مشرفا إلا سويته».

وكذلك فهم شارحو صحيح مسلم وإمامهم النووي الشهير ، وها هو بين أيدينا يقول في شرح تلك الجملة النبوية ما نصه : فيه : أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن

__________________

(١٤) معجم مقاييس اللغة ٣ / ١١٢ (سوى).

(١٥) صحيح مسلم ٢ / ٦٦٦ باب ٣١ / ح ٩٢.

١٨١

وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها (١٦). انتهى كلام النووي.

ويشهد لأفضيلة التسنيم ما رواه البخاري في صحيحه في باب صفة قبر النبي وأبي بكر وعمر بسنده إلى سفيان التمار أنه رأى قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مسنما (١٧) ...

ولكن القسطلاني أحد المشاهير من شارحي البخاري ، شرحه في عشر مجلدات طبعت في مصر القاهرة ، قال ما نصه : «مسنما» بضم الميم وتشديد النون المفتوحة أي : مرتفعا ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة (١٨) ومالك (١٩) وأحمد (٢٠) والمزني وكثير من الشافعية :

وقال أكثر الشافعية (٢١) ونص عليه الشافعي : التسطيح أفضل من التسنيم لأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سطح قبر إبراهيم وفعله حجة لا فعل غيره (٢٢) ، وقول سفيان التمار لا حجة فيه ـ كما قال البيهقي ـ لاحتمال أن قبره ـ صلى الله عليه وآله ـ وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنمة (٢٣).

وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال : دخلت على عائشة فقلت لها : اكشفي لي عن قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وصاحبيه فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة

__________________

(١٦) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٤ / ٣٠١.

(١٧) صحيح البخاري ٢ / ١٢٨.

(١٨) المبسوط للسرخسي ٢ / ٦٢.

(١٩) المنتقى ٢ / ٢٢.

(٢٠) المغني لابن قدامة ٢ / ٣٨٠.

(٢١) المجموع ٥ / ٢٩٥.

(٢٢) الأم ١ / ٢٧٣.

(٢٣) سنن البيهقي ٤ / ٤ وفيه ـ بعد أن نقل حديث التمار ـ : وحديث القاسم أصح وأولى أن يكون محفوظا.

١٨٢

الحمراء ، أي لا مرتفعة كثيرا ولا لاصقة بالأرض (٢٤) ، إلى أن قال القسطلاني الشارح : ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها! ولا يخالف ذلك قول علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ أمرني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ، لأنه لم يرد تسويته بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب (٢٥).

انتهى ما أردنا نقله من شرح البخاري ، وأنت ترى من جميع ما أحضرناه لديك وتلوناه عليك من كلمات أعاظم المسلمين وأساطين الدين من مراجع الحديث كالبخاري ومسلم ، وأئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وأعلام العلماء وأهل الاجتهاد كالنووي وأمثاله ، كلهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ، إنما الخلاف والنزاع فيما بينهم في أن الأفضل والأرجح تسطيح القبر أو تسنيمه ، فالذاهبون إلى التسنيم يحتجون بحديث البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مسنما ، والعادلون إلى التسطيح يحتجون بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم ، وصحيح القاسم بن محمد بن أبي بكر شاهد له ، ولعل هذا الدليل هو الأرجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه أنه صار من شعار الروافض وأهل البدع ـ كما قال شارح البخاري ـ فيما مر عليك نقله.

ولا يعنينا الآن الخوض في حديث الروافض وأنهم من أهل البدع أم لا ، إنما الشأن في حديث «لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» وأحسب أنه قد تجلى لك بحيث يوشك أن يلمس بالأنامل ، ويرى بباصرة العين أن معنى «سويته» عدلته وسطحته في قبال سنمته وحدبته ويناسب هذا المعنى كل المناسبة التقييد

__________________

(٢٤) سنن أبي داود ٣ / ٢١٥ ح ٣٢٢٠.

(٢٥) إرشاد الساري ٢ / ٤٧٧.

١٨٣

بقوله «مشرفا» فإن أصل الشرف لغة هو العلو بتسنيم مأخوذ من سنام البعير ، وعليه فيحسن ذلك القيد ، بل يلزم ويكون بلسان أهل العلم (قيدا احترازيا). أما على معنى ساويته فالقيد لغو صرف ، بل مخل بالغرض المقصود.

وبعد هذا كله فهل من قائل عني لذلك المفتي ، مفتي علماء المدينة الذي أفتى بجواز هدم القبور أو وجوبه استنادا إلى ذلك الحديث : يا هذا! من أين جئت بتلك النظرية الحمقاء ، والحجة العوجاء ، والبرهنة المعكوسة ، والمزعمة المقلوبة التي ما وهمها واهم ، ولا خطرت على ذهن جاهل فكيف بالعالم؟! اللهم إلا أن يكون «ابن تيمية» أو بعض ذناباته فإن الرجل ترويجا لأباطيله ، وتمشية لأضاليله ، حيث تعوزه الحجة والسند قمين بتحوير الحقائق ، وقلب الأدلة ، والتلاعب بالحجج والبراهين تلاعبه بالدين «كما تلاعبت الصبيان بالأكر».

لا يا هذا ، إن الشمس لا تستر بالأكمام ، وإن الحق لا يسحق بزخارف الكلام وسفاسف الأوهام ... إن حديث «لا تدع قبرا إلا سويته» دليل عليك لا لك ، وحجة قاطعة لأضاليلك وقالعة لجذور أباطيلك ، فإن معناه الذي لا يشك فيه إنسان من أهل اللسان «سويته أي : عدلته وسطحته ، لا ساويته وهدمته» ، وبهذا المعنى لا يكون معارضا لشئ من الأحاديث حتى يحوج من له حظ من صناعة الاستنباط إلى الجمع والتأويل ، وهذا هو معناه بذاته وظاهر من نفس مفرداته وتركيبه ، لا الذي يحصل بعد الجمع كما يظهر من عبارة شارح البخاري المتقدمة.

نعم ، لو أبيت إلا عن حمل «سويته» على معنى ساويته بالأرض وجاملناك على الفرض والتقدير ، حينئذ تجئ نوبة المعارضة ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث أن هذا الخبر بانفراده لا يكافئ الأخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ومشروعية بنائها ، حتى أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ سطح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه إلى أن المراد : لا تدع قبرا مشرفا قد اتخذوه

١٨٤

للعبادة إلا سويته وهدمته.

ويدل على هذا المعنى الأخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين ـ البخاري (٢٦) ومسلم ـ من ذم اليهود والنصارى والحبشة حيث كانوا يتخذون على قبور صلحائهم تمثالا لصاحب القبر فيعبدونه من دون الله ، ولعله إشارة إلى بعض طوائف اليهود والنصارى والحبشة حيث كانوا كذلك في القديم فعدلوا واعتدلوا.

أما المسلمون من عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى اليوم فليس منهم من يعبد صاحب القبر ، وإنما يعبدون الله وحده لا شريك له في تلك البقاع الكريمة المتضمنة لتلك الأجساد الشريفة ، وبكل فرض وتقدير فالحديث يتملص ويتبرأ أشد البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور فكيف بالوجوب ، والأخبار التي ما عليها غبار مما ذكرناه ومما لم نذكره ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها وأنها من تعظيم شعائر الله (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (٢٧).

تتمة :

في العام الماضي طبعت في النجف الأشرف رسالة موسومة ب «منهج الرشاد» لأسطوانة من أساطين الدين ـ الشيخ الأكبر كاشف الغطاء ـ الذي يعرف كل عارف أنه كان فاتحة السور من فرقان العزائم ، وكوكب السحر في سماء العظائم ، هو من أفذاذ الأعاظم الذين لا تنفلق بيضة الدهر إلا عن واحد منهم ، ثم تعقم عن الإتيان بثانيه إلا بعد مخض طويل من الأحقاب ، من غر أياديه ـ وكم له في العلم من أياد غرر ـ تلك الرسالة التي رتبها على مقدمة وفصول ، عقد كل فصل منها لدفع شبهة من شبهات الوهابية ودحضها بالأدلة القطعية ، والأحاديث النبوية الثابتة من الطرق الصحيحة عند أهل السنة ، على أن المقدمة وحدها كافية في قمع شبهاتهم ، وقلع جذوم مذهبهم ، وهدم أساس طريقتهم ، وقد أبدع فيها غاية الابداع. ومن بعض أبواب الرسالة : «الباب الرابع : في بناء قبور الأنبياء

__________________

(٢٦) صحيح البخاري ٢ / ١١٤.

(٢٧) الحج : ٣٢.

١٨٥

والأولياء» وأفاض في البيان إلى أن قال :

والأصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه التباني واعظ أهل الحجاز عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده الحسين ، عن أبيه علي ـ عليه‌السلام ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال له : «لتقتلن في أرض العراق وتدفن بها ، فقلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ فقال : يا أبا الحسن ، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعا من بقاع الجنة ، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحن إليكم ، وتعمر قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقربا إلى الله تعالى ومودة منهم لرسوله» (٢٨).

ثم قال ـ قدس‌سره ـ بعد إيراد تمام الحديث : ونقل نحو ذلك أيضا في حديثين معتبرين ، نقل أحدهما الوزير السعيد بسند ، وثانيهما بسند آخر غير ذلك السند ، ورواه أيضا محمد بن علي بن الفضل ، انتهى.

والقصارى : أن النزاع بيننا معاشر المسلمين أجمع وبين سلطان نجد وأتباعه الذين يحكمون بضلالة سائر المسلمين أو بتكفيرهم ، لو كان ينحسم وينتهي بإقامة الحجج والبراهين لجئنا بالقول المقنع المفيد! ولكان عندنا زيادة للمستزيد ، بل لو كنا نعلم أنهم يقنعون بالحجة البالغة ، ويخضعون للأدلة القاطعة ، لملأنا الطوامير من الحجج الباهرة التي تترك الحق أضحى من ذكاء ، وأجلى من صفحة السماء ، ولكن سلطان نجد له حجتان قاطعتان عليهما يعتمد ، وإليهما يستند ، ولا فائدة إلا بمقابلتهما بمثلهما أو بأقوى منهما ، وهما : الحسام البتار ، والدرهم والدينار السيف والسنان ، والأحمر الرنان ، هذا لقوم وذاك لآخرين :

أحدهما لأهل الصحف والمجلات في مصر وسوريا ونحوهما ليحبذوا أعماله الوحشية ويحسنوا همجيته التي تضعضع أركان كل مدنية.

والآخر لأعراب البوادي ولشرفاء الحجاز وأمثالهم من أمراء العرب حيث تساعده الظروف ـ لا قدر الله ـ.

__________________

(٢٨) فرحة الغري : ٧٧.

١٨٦

إذا فأي فائدة في إطالة الكلام ، وسرد الأحاديث ونضد الأدلة. نعم ، فيها تبصرة وتبيان لطالب الحقيقة المجردة عن كل خوف ورجاء ، وتحامل وتزلف ، ولكن أين هو ذلك الرجل الطالب للحق المجرد عن كل غرض؟! ولئن كان لوح الوجود غير خال منه ففيما ذكرناه غنى له وكفاية.

أما أمير نجد وأجناده وقضاته ومن لف لفهم الذين اتخذوا تلك الدعوى والديانة وسيلة لامتداد سلطتهم ، واتساع سطوتهم ، وضخامة ملكهم ، فلسنا معهم في الخصام وإقامة الحجج إلا كإشراق الشمس على المستنقعات العميقة ، في الأودية السحيفة ، لا تزيدها تلك الأشعة إلا سخونة وعفونة وانتشار وباء في الهواء.

ليت قائلا يقول لقاضي القضاة ـ ابن بليهد ـ ولمفتي علماء المدينة : أتراكم تعتقدون وتعتمدون على كل ما في صحيح مسلم ، وتعملون بكل ما ورد من النصوص فيه؟ فإن كنتم كذلك فقد عقد مسلم في صحيحه بابا وأورد عدة أحاديث في أن الخلافة لا تكون إلا في قريش ، وأن الأئمة من قريش (٢٩) ، بأساليب من البيان ، وأفانين من التعبير ، وكلها صريحة في أن الخلافة الحقة المشروعة مخصوصة بتلك القبيلة .. ومثله ، بل وأكثر منه في صحيح البخاري ، وعليه فأين تكون خلافة أمير كم ابن سعود؟ وكيف حال إمامته؟ أهي من قوله تعالى : «وجعلنا منهم أئمة» (٣٠)؟! أم من قوله تعالى لإبراهيم : «إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين» (٣١)؟! وحسبنا هذا القدر ، إن اللبيب من الإشارة يفهم!

وأما حديث لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد

__________________

(٢٩) صحيح البخاري ٩ / ٧٧ باب «١» كتاب الأحكام ، صحيح مسلم ٣ / ١٤٥١ ـ ١٤٥٤ باب «١» كتاب الإمارة.

(٣٠) السجدة : ٢٤.

(٣١) البقرة : ١٢٤.

١٨٧

والسرج (٣٢) فهو نهي للنساء عن التبرج والخروج إلى المجتمعات وعن السجود على القبر ، وهو مما لا يصدر من أحد من المسلمين ، وعن إيقاد السرج عبثا وتعظيما لذات القبر ، أما الاسراج لقراءة القرآن والدعاء فلا منع ولا نهي ، بل في بعض الأحاديث جوازه (٣٣).

هذا كله في الجواب عن حديث مسلم في شأن هدم القبور وزيارتها والإسراج عليها ، أما فتاوى مفتي علماء المدينة الأخرى المتعلقة بشأن التبرك بالقبور ، والتمسيح بها ، وزيارتها ونحو ذلك ، فقد أفتى ذلك المفتي بالمنع منها مطلقا ، ولكن أرسل أكثر الفتاوى إرسالا من غير أن يسندها إلى حجة أو يعمدها على دليل حتى نتصدى للجواب عنه. نعم ، قال في آخرها ـ وما أصدق ما قال ـ : هذا ما أدى إليه نظري السقيم ، انتهى. والسقم لا محالة إنما جاء من إحدى العلتين اللتين مر ذكرهما أو من كليهما ، نسأله تعالى العافية لنا ولجميع المسلمين.

وفي الرسالة ـ المنوه بذكرها من أمم ـ لكل واحدة من تلك المسائل فصل مستقل أثبت فيه من الطرق الصحيحة المعتبرة عند القوم مشروعيتها ورجحانها وعمل الصحابة والتابعين بها ، فمن أراد فليراجع. وعلى هذا الحد فلتقف الأقلام ، وينتهي الكلام ، فقد تجلى الصبح لذي عينين ، والسلام. تمت بحمد الله تعالى.

* * *

__________________

(٣٢) سنن أبي داود ٣ / ٢١٨ ح ٣٢٣٦.

(٣٣) مستدرك الحاكم ١ / ٣٧٤.

١٨٨

كلية مذهب الوهابية

وخلاصة القول فيه

إن أول من نثر في أرض الإسلام المقدسة تلك البذور السامة والجراثيم المهلكة ، هو أحمد بن تيمية في أخريات القرن السابع من الهجرة ، ولما أحس أهل ذلك القرن ـ بفضل كفاءتهم ـ أن جميع تعاليمه ومبادئه شر وبلاء على الإسلام والمسلمين يجر عليهم الويلات ، وأي شر وبلاء أعظم من تكفير قاطبة المسلمين على اختلاف نزعاتهم! أخذ وحبس برهة ثم قتل.

ولكن بقيت تلك البذور دفينة تراب ، وكمينة بلاء وعذاب ، حتى انطوت ثلاثة قرون ، بل أكثر ، فنبغ ، بل نزاع محمد بن عبد الوهاب فنبش تلك الدفائن ، واستخرج هاتيك الكوامن ، وسقى تلك الجراثيم المائتة بل المميتة ، والبذور المهلكة ، فسقاها بمياه من تزويق لسانه وزخرف بيانه ، فأثمرت ولكن بقطف النفوس وقطع الرؤوس وهلاك الإسلام والمسلمين ، وراجت تلك السلعة الكاسدة ، والأوهام الفاسدة ، على أمراء نجد واتخذوها ظهيرا لما اعتادوا عليه من شن الغارات ، ومداومة الحروب والغزوات من بعضهم على بعض وقد نهاهم الفرقان المبين والسنة النبوية عن تلك العادات الوحشية ، والأخلاق الجاهلية ، بملء فمه وجوامع كلمه ، وقد عقد بينهم الأخوة الإسلامية ، والمودة الإيمانية وقال : «مال المؤمن على المؤمن حرام كحرمة دمه وعرضه» (٣٤) وقال جل من قائل : «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا» (٣٥) ، وأراد الله سبحانه أن يجعلهم فيما بينهم إخوانا وعلى العدو أعوانا ، أراد أن يكونوا يدا واحدة للاستظهار على الأغيار من أعداء الإسلام ، فنقض ابن عبد الوهاب تلك القاعدة الأساسية

__________________

(٣٤) مضمون الحديث ورد في الكافي ٢ / ٢٦٨ ح ٢ ، من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٠٠ ح ٩٠٩ ، مستدرك الوسائل ٩ / ١٣٦ ح ١٠٤٧٨ ، المؤمن : ٧٢ ح ١٩٩.

(٣٥) النساء : ٩٤.

١٨٩

والدعامة الإسلامية ، وعكش الآية فصار يكفر المسلمين ويضرب بعضهم ببعض ، وما انجلت تلك الغبرة إلا وهم آلة بأيدي الأعداء ينقضون دعائم الدين ، ويقتلون بهم المسلمين ، ويصلون ما أمر الله بقطعه ، ويقطعون ما أمر الله بوصله ، فإذا طولبوا بالدليل والبرهان ، وجاء حديث السنة والقرآن ، فالجواب الشافي عند السيف والسنان ، والنصف مع البغي والعدوان ، والحق مع القوة والسطوة ، والعدل والسواء ، في الغلبة والاستيلاء.

نعم ، ليس للقوم فيما وقفنا عليه من كتب أوائلهم وأواخرهم ، وحاضرهم وغابرهم حجة عليها مسحة من العلم أو روعة من البيان ، وطلاء من الحقيقة ، سوى قولهم : إن المسلمين في زيارتهم للقبور وطوافهم حولها واستغاثتهم بها وتوسل الزائر بالملحود في تلك المقابر قد صاروا كالمشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ، وأصبحوا يعبدون غير الله ليقربهم إلى الله تعالى كما حكى الله سبحانه في كتابه الكريم حيث يقول عنهم : «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» (٣٦) فلم يقبل الله منهم تلك المعذرة ، ولا أخرجهم ذلك الزعم عن حدود الشرك والضلالة.

هذه هي أم شبهاتهم ، وأس احتجاجاتهم ، وأقوى براهينهم ودلالاتهم ، وإليها ترجع جميع مؤاخذاتهم على غيرهم من طوائف المسلمين من مسألة الشفاعة والتوسل ، والتبرك والزيارة ، وتشييد القبور ، إلى كثير من أمثال ذلك مما يزعمون أنه عبادة لغير الله ، وهو على حد الشرك بالله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وأنا أقول : لعمر الله والحق ما أكبر جهلهم! وأضل في تلك المزاعم عقلهم! وليت شعري من أين صح ذلك القياس والتشبيه؟! تشبيه المسلمين بالمشركين وقياسهم بهم مع وضوح الفرق في البين ، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كما هو صريح الآية ، والمسلمون لا يعبدون القبور ولا أربابها ، بل يعبدون الله وحده لا شريك له عند تلك القبور. والقياس الصحيح

__________________

(٣٦) الزمر : ٣.

١٩٠

والتشبيه الوجيه ، قياس زائري القبور والطائفين حولها بالطائفين حول الكعبة البيت الحرام وبين الصفا والمروة : «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما» (٣٧) ، فالطائف حول البيت ، والساعي بين الصفا والمروة لم يعبد الكعبة وأحجارها ، ولا الصفا والمروة ومنارها ، وإنما يعبد الله سبحانه في تلك البقاع المقدسة ، وحول تلك الهياكل الشريفة التي شرفها الله ودعا عباده إلى عبادته فيها ، وهكذا زائر القبور.

هذا هو القياس الصحيح والميزان العدل ، أما القياس بالميزان الأول ففيه عين بل عيون ، لا بل هو خبط وجنون ، أليس من الجنون قياس من يعبد الله موحدا له بمن يعبد الأصنام مشركا لها مع الله جل شأنه؟!

وكشف النقاب عن محيا هذه الحقيقة الستيرة ، بحيث تبدو للناظرين ناصعة مستنيرة ، موقوف على بيان حقيقة العبادة وكنه معناها ، ولو على سبيل الايجاز حسب اقتضاء هذه العجالة التي جرى بها اللسان متدافعا تدافع الآتي من غير وقفة ولا أناة ، ولا مراجعة ولا مهل.

إن حقيقة العبادة ومصاص معناها ، وكنه روحها ومغزاها بعد كونها مأخوذة بحسب الاشتقاق من العبد والعبودية ، وليس العبد في الحقيقة وطباق نفس الأمر والواقع ما ملكته بالاغتنام أو الشراء أو غيرهما من الأسباب ، ولا السيد والمولى من تولى عليك بالغلبة والقهر ، أو المصانعة والخداع ، إنما السيد من أنعم عليك بنعمة الحياة ، وخلع عليك بعد العدم خلعة الوجود ، ورباك في بواطن الأصلاب وبطون الأرحام ستبرأ ، لا تراك سوى عينه ، ولا ترعاك سوى عنايته ، فذاك هو الرب والمالك والسيد حقيقة من غير تسامح في المعنى ، ولا تجوز في اللفظ ، وأنت ذلك العبد المملوك بحقيقة العبودية ، المربوب بنعمة الايجاد والتكوين ، والصنع والخلق ، وقد اقتضت تلك العبودية ، حسب النواميس العقلية ، والاعتبار والروية ، المعزى إليها بقوله عز شأنه : «وما خلقت الجن

__________________

(٣٧) البقرة : ١٥٨.

١٩١

والإنس إلا ليعبدون» (٣٨).

فالعبادة معناها كلفظها مشتقة من العبودية ، وهي شأن من شؤونها وأثر من آثارها ، فإن العبودية قضت على العبد حفظا لاستدامة تلك النعمة ، بل النعم الجمة وامتدادها أبديا أن يقف العبد موقف الاذعان والاعتراف بها لوليها ومولاها ، فكما أنه في موطن الحق والواقع عدما صرفا وعجزا محضا ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، كذلك يكون في موطن الخارج والظاهر ماثلا بين يدي مولاه في غاية الخضوع والذلة ، والعجز والحاجة.

فالعبادة حقيقة هي التظاهر بتلك العبودية الحقيقية باستعمال أقصى مراتب الخضوع في الظاهر بجميع القوى والمشاعر مقرونا باستحضار تلك الجوهرة المكنونة ، والدرة الثمينة ـ جوهرة العبودية ـ وأني أخضع وأخشع ، وأسجد وأعبد ، ذلك المنعم الذي أنعم علي بنعمة الحياة ، وأسبغ علي جلابيب الوجود ، فصرت بتلك النعم مغمورا ، بعد أن أتى علي حين من الدهر لم أكن فيه شيئا مذكورا.

إذا فالعبادة على الحقيقة هي كون العبد في مقام الاعتراف والإذعان بالعبودية مقرونا بما يليق بها من استعمال ما يدل على أقصى مراتب الخضوع ، والذلة بالسجود والركوع ، والهرولة والطواف ، وغير ذلك مما وصفته الشرائع ، وأوعزت إليه الأديان من معلوم الحكمة ومجهولها ، ومبهم الحقيقة أو معقولها.

تلك هي العبادة الحقيقة ، غايته أن عامة الناس قصرت أفكارهم عن اجتناء ذلك اللب واقتصروا على القشور من العبادة ، اللهم إلا أن يكون ذلك مرتكزا في أعماق نفوسهم على الاجمال في المقصود ، دون التفصيل والاستحضار والشهود ، وكيف كان الحال ، فهل تحس أن أحدا من زوار القبور والمتوسلين بأربابها يقصد أن القبر الذي يطوف حوله ، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعه وخالقه ، وأنه بزيارته يريد أن يتظاهر بالعبودية له فتكون عبادة له؟! أو أن أحدا من الزائرين يقول للقبر ـ أو لمن فيه ـ : يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي؟!

__________________

(٣٨) الذاريات : ٥٦.

١٩٢

كلا ثم كلا ما أحسب أن أحدا يخطر على باله شئ من تلك المعاني مهما كان من الجهل والهمجية ، كيف وهو يعتقد أن صاحب القبر بشر مثله عاش ومات وأصبح رميما رفاتا. نعم ، يعتقد أن روحه باقية عند الله ـ جل شأنه ـ فهو بها يسمع ويرى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (٣٩) ونظرا إلى تلك الحياة يخاطبه ويسلم عليه ويتوسل إلى الله سبحانه به ويطلب الشفاعة منه.

وبعد هذا كله فهل تجد من الحق والإنصاف تشبيه الزائرين بعبدة الأصنام وهذه منابرهم ومنائرهم ومشاعرهم تضج في الأوقات الخمس بل في أكثر الأوقات بشهادة أن لا إله إلا الله ويلهجون بأنه لا معبود إلا الله؟! فهل ذلك القول إلا قول مجادل بالباطل يريد أن يدحض به الحق ، ويلقح شرر الفساد في الأرض ، ويريق دماء المسلمين ظلما وعدوانا؟! ومما ذكرنا من معنى العبادة وحقيقية معناها يتضح أنه لا شئ من تلك العناوين الممنوعة عند الوهابية ، من الشفاعة والوسيلة ، والتبرك والاستغاثة والزيارة وأمثالها ، له مسيس بالعبادة بوجه من الوجوه ، هذا مضافا إلى صدوره من النبي وأصحابه والتابعين الواردة في صحيح الأخبار من صحيحي البخاري ومسلم وغيرها ، وقد استوفى جملة منها جدنا كاشف الغطاء ـ رفع الله درجته ـ في رسالته التي مثلها الطبع في العام الغابر المسماة بمنهج الرشاد كما سبق ذكرها قريبا فلا حاجة إلى إعادتها وفيها مقنع وكفاية ، من أرادها فليراجعها.

وإنما جل الغرض تنبيه الوهابيين وغيرهم من المسلمين على موضع الزلة ومدخل الشبهة وخطل الرأي ، وأن الصريمة والغريمة اليوم ، والواجب ، بل الأهم من كل واجب هو وحدة المسلمين وتكاتفهم ، فإن الجميع موحدون فحبذا لو أصبحوا والجميع متحدون ، ولا يحسبوا أن بقاء سلطتهم ونعيمهم بأن يضرب بعضهم بعضا ويتعادى بعضهم على بعض ، بل هذا أدعى لفشلهم وقرب أجلهم.

__________________

(٣٩) آل عمران : ١٦٩.

١٩٣

وليعلم الوهابيون علما جازما حاسما لكل وهم وشبهة أن اليد التي أصبحت تضرب بهم المسلمين اليوم سوف تضربهم بغيرها غدا فلينتبهوا ولينتهوا قبل أن يقعوا في حفائر السياسة السحيفة ، ومهاويها العميقة ، وإلى الله سبحانه نضرع راغبين إليه وحده في أن يجمع الكلمة ويؤلف شمل الأمة ويوقظهم من سنة هذه الغفلة التي أو شكت أن تكون حتفا قاضيا عليهم أجمع ، وإلى الله تصير الأمور ، ومنه البعث وإليه النشور.

* * *

١٩٤

رسالة في

إعجاز سورة الكوثر

للزمخشري

حامد الخفاف

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

مما لا مجال للشك فيه أن عهد نزول القرآن في حياة العرب يمثل ذروة اهتمام المجتمع القبلي في الجزيرة العربية ببلاغة الكلمة وفصاحة المنطق ودقة الحس البياني ، أكثر من أي وقت مضى ، فليس غريبا عنا ما كانت توليه القبيلة من احترام وتقدير لأصحاب اللسان الماشق والحس المرهف ، فترى الشاعر سيف القبيلة الناطق ، الذي تجرده بوجه أعدائها ، وتقدمه درعا واقيا يرد عنها سهام الكلام ، حتى أن أبياتا من الشعر تحوي من قارص الكلم أشده يمكن أن تفعل فعلها أشد من السنان وأمضى من المهند المصقول.

وذاك سوق عكاظ ، نادي الأدباء العرب ـ إن صح التعبير ـ يجتمعون فيه ، لتتصارع الكلمة في حلبة البلاغة ، وليتبارز البيان بسيوف الفصاحة ، تشد إليه الرحال ، وتعقد عليه الآمال ، كل ذلك كان يعمق في الجزيرة العربية حقيقة كونها مجتمع الكلمة الذي لم يعرف اللحن له طريقا ، ولا العجمة سبيلا.

وجاء القرآن ، كلام الله المجيد ، ينشر من أريجه عطر القداسة ، ويضم بين دفتيه ما يحير العقول ، ويأخذ بالألباب ، انظروا إلى عدو الله الوليد بن المغيرة

١٩٥

المخزومي ، فاغرا فاه ، يتمتم بحيرة : «والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمعذق ، وإنه ليعلو وما يعلى».

جاء ليتحدى كبرياء الكلمة في عقر دارها ، وشموخ البيان في عنفوانه : «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» ، فكانت المعجزة التي ألقت لها الفصاحة قيادها ، وكأن دولة البلاغة العظمى كانت تنتظر ملكها بلهفة وشوق ، وهكذا كان.

وكتابنا الصغير هذا ، جواب من الزمخشري ـ رجل البلاغة والفصاحة ـ على عدة إشكالات ، وردت من صديق له حول إعجاز القرآن ، بصورة رسالة بعثها إليه ، سائلا إياه الإجابة ، فتصدى المؤلف للجواب عنها ، بأسلوبه الشيق الرفيع ، برسالة حول إعجاز سورة الكوثر ، هي كما قال عنها : «رسالة من أبلغ الرسالات ، أورد فيها مقدمة في إعجاز القرآن الكريم ، في فضل اللسان العربي على كل لسان ، على وجه عجيب ، وأسلوب على طرف الثمام قريب غريب» مضيفا بذلك للمكتبة الإسلامية جهدا رائعا يشار إليه بالبنان ، حاولنا أن نضفي عليه بتحقيقنا إياه من روعة الاخراج ما نتمكنه ، ومن متطلبات التحقيق ما يحتاجه ، وعلى الله التكلان.

* * *

١٩٦

ترجمة المؤلف

هو العلامة جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري الخوارزمي ، كبير المعتزلة ، صاحب الكشاف والمفصل (١) ، أمره في الاشتهار أوضح من الشمس وأبين من الأمس.

ولادته وبلده :

ولد الزمخشري في يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وأربعمائة بزمخشر خوارزم ، على ما نقله القفطي عن ابن أخته أبي عمر عامر بن الحسن السمساري (٢) ، وقال أيضا : «ونقلت من كتاب محمد بن محمد ابن حامد قال : كان مولده ـ يعني الزمخشري ـ في سابع عشر شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة» (٣).

يقول الزمخشري : «وأما المولد فقرية من قرى خوارزم مجهولة ، يقال لها :

__________________

(١) توجد ترجمته في : الأنساب ٦ : ٢٩٧ ، معجم البلدان ٣ : ١٤٧ ، معجم الأدباء ١٩ : ١٢٦ / ٤١ ، الكامل في التاريخ ١١ : ٩٧ ، إنباه الرواة ٣ : ٢٦٥ / ٧٥٣ ، وفيات الأعيان ٥ : ١٦٨ / ٧١١ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٧٨ / ٨٣٦٧ ، العبر ٢ : ٤٥٥ ، سير أعلام النبلاء ٢٠ : ١٥١ / ٩١ ، تذكرة الحفاظ ٤ : ١٢٨٣ ، المستفاد من ذيل تاريخ بغداد : ٢٢٨ / ١٧٣ ، مرآة الجنان ٣ : ٢٦٩ ، البداية والنهاية ١٢ : ٢١٩ ، لسان الميزان ٦ : ٤ ، بغية الوعاة ٢ : ٢٧٩ / ١٩٧٧ ، طبقات المفسرين ١٠٤ / ١٢٧ ، طبقات المفسرين للداودي ٢ : ٣١٤ / ٦٢٥ ، شذرات الذهب ٤ : ١٢١ ، روضات الجنات ٨ : ١١٨ / ٧١١ ، الكنى والألقاب ٢ : ٢٩٧ ، هدية العارفين ٢ : ٤٠٢ ، وعن هامش السير : نزهة الألباء : ٣٩١ ، المختصر في أخبار البشر ٣ : ١٦ ، إشارة التعيين : الورقة ٥٣ و ٥٤ ، البدر السافر : ورقة ١٩٣ ، تاريخ الإسلام : وفيات ٥٣٨ ، دول الإسلام ٢ : ٥٦ ، تلخيص ابن مكتوم : ٢٤٣ ، الجواهر المضية ٢ : ١٦٠ ، العقد الثمين ٧ : ١٣٧ ، طبقات المعتزلة : ٢٠ ، طبقات ابن قاضي شهبة ٢ : ٢٤١ ، النجوم الزاهرة ٥ : ٢٧٤ ، تاج التراجم : ٧١ ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى : ٩٤ و ٩٥ ، مفتاح السعادة ٢ : ٩٧ ، أزهار الرياض ٣ : ٢٨٢ ، الفوائد البهية : ٢٠٩ ، كنوز الأجداد : ٢٩١ ، تاريخ بروكلمان ٥ : ٢١٥.

(٢) إنباه الرواة ٣ : ٢٦٦.

(٣) إنباه الرواة ٣ : ٢٧١.

١٩٧

زمخشر ، سمعت أبي قال : اجتاز بزمخشر أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها ، فقيل له : زمخشر والرداد ، فقال : لا خير في شر ورد ، ولم يلمم بها» (٤).

وزمخشر ـ بفتح أوله وثانيه ، ثم خاء معجمة ساكنة ، وشين معجمة ، وراء مهملة ـ : قرية جامعة من نواحي خوارزم (٥) ، وقال القفطي : سمعت بعض التجار يقول : إنها دخلت في جملة المدينة ، وإن العمارة لما كثرت وصلت إليها وشملتها ، فصارت من جملة محالها (٦).

وقال فيها الشريف أبو الحسن علي بن عيسى بن حمزة الحسني المكي عند مدح الزمخشري :

جميع قرى الدنيا سوى القرية التي

تبوأها دارا فداء زمخشرا

وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ

إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرى (٧)

وبعد نشوئه تنقل الزمخشري في بلدته يجوب الأقطار طلبا للعلم وسعيا وراء المعرفة ، فطاف الآفاق وتنقل ما بين بغداد ونيسابور ، ثم أقام بمكة المكرمة ، ولذلك لقب نفسه جار الله لمجاورته البيت العتيق ، وكان أين ما حل وارتحل محل احترام وتقدير.

مكانته العلمية :

يعتبر الزمخشري شخصية بارزة في عالم الفصاحة والبلاغة والأدب والنحو ، نتلمس ذلك جليا في مصنفاته وآثاره من جهة ، ومن إطراء وتبجيل كل من ترجم له من جهة أخرى.

يقول القفطي : وذكره صاحب الوشاح ـ ذكره بألقاب وسجع له على عادته ـ فقال : «أستاذ الدنيا ، فخر خوارزم ، جار الله العلامة أبو القاسم محمود

__________________

(٤ ، ٥) معجم البلدان ٣ : ١٤٧.

(٦) إنباه الرواة ٣ : ٢٦٥.

(٧) إنباه الرواة ٣ : ٢٦٨.

١٩٨

الزمخشري ، من أكابر الأمة ، وقد ألقت العلوم إليه أطراف الأزمة ، واتفقت على إطرائه الألسنة ، وتشرفت بمكانه وزمانه الأمكنة والأزمنة ، ولم يتمكن في دهره واحد من جلاء رذائل النظم والنثر ، وصقال صوارم الأدب والشعر ، إلا بالاهتداء بنجم فضله ، والاقتداح بزند عقله ، ومن طار بقوادم الإنصاف وخوافيه ، علم أن جواهر الكلام في زماننا هذا من نثار فيه ، وقد ساعده التوفيق والإقبال ، وساعفه من الزمان الماضي والحال ، حتى اختار لمقامه أشرف الأماكن ، وجمع بجوار بيت الله الحرام بين الفضائل والمحاسن ، وودع أفراس الأمور الدنياوية ورواحلها ، وعاين من بحار الخيرات والبركات سواحلها ، وقد صغر في عيون أفاضل عهده ما رأوه ورووه ، وملك في قلوب البلغاء جميع ما رعوه ووعوه ، وإن كان عدد أبياته التي ذكرتها قليلا فكماله صار عليها دليلا» (٨).

ولما قدم الزمخشري إلى بغداد قاصدا الحج زاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن الشجري مهنئا له بقدومه ، فلما جلس إليه أنشده متمثلا :

كانت مسألة الركبان تخبرني

عن أحمد بن داود أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وأنشد أيضا :

وأستكبر الأخبار قبل لقائه

فلما التقينا صغر الخبر الخبر (٩)

وكان الزمخشري ممن يضرب به المثل في علم الأدب والنحو واللغة (١٠) ، وما دخل بلدا إلا واجتمعوا عليه وتلمذوا له ، واستفادوا منه ، وكان علامة الأدب ، ونسابة العرب ، تضرب إليه أكباد الإبل ، وتحط بفنائه رحال الرجال ، وتحدى باسمه مطايا الآمال (١١).

وقال ياقوت : كان إماما في التفسير والنحو واللغة والأدب ، واسع العلم ،

__________________

(٨) إنباه الرواة ٣ : ٢٦٨.

(٩) معجم الأدباء ١٩ : ١٢٨.

(١٠) الأنساب ٦ : ٢٩٧.

(١١) طبقات المفسرين للسيوطي : ١٠٥ ، إنباه الرواة ٣ : ٢٦٦.

١٩٩

كبير الفضل ، متفننا في علوم شتى (١٢).

ولا نريد الإطالة في سرد العبارات الواردة في مدح المصنف والثناء عليه ، ففي ما ذكرناه كفاية لمن يقنع بالتلميح عن التصريح.

مؤلفاته :

١ ـ الكشاف في تفسير القرآن.

٢ ـ الفائق في غريب الحديث.

٣ ـ نكت الأعراب في غريب الإعراب ، في غريب إعراب القرآن.

٤ ـ كتاب متشابه أسماء الرواة.

٥ ـ مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة.

٦ ـ الأصل ، لأبي سعيد الرازي إسماعيل.

٧ ـ الكلم النوابغ ، في المواعظ.

٨ ـ أطواق الذهب ، في المواعظ.

٩ ـ نصائح الكبار.

١٠ ـ نصائح الصغار.

١١ ـ مقامات في المواعظ.

١٢ ـ نزهة المستأنس.

١٣ ـ الرسالة الناصحة.

١٤ ـ رسالة المسامة.

١٥ ـ الرائض في الفرائض.

١٦ ـ معجم الحدود.

١٧ ـ المنهاج في الأصول.

١٨ ـ ضالة الناشد.

__________________

(١٢) معجم الأدباء ١٩ : ١٢٦.

٢٠٠