تراثنا ـ العدد [ 13 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 13 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٤

فهو سبحانه على الناس يبدي

كل فضل والفضل كان جسيما

خلق الخلق لا لأجل احتياج

بل لكي يعبدوه ربا قديما

فاقتضت حكمة الإله نبيا

عالما عاملا زكيا حليما

زاهدا صادقا تقيا أمينا

طاهرا آمرا سخيا كريما (٥٠)

ومن الدهر قد تعدد وقتا

والتكاليف تقتضي التحكيما

بعث الله رسله كل وقت

كان تكليف خلقه مستديما

كان منهم روحا وكان خليلا

وذبيحا وكان موسى كليما

لم تزل فيهم النبوة حتى

سلموها لأحمد تسليما

فادعاها روحي فداه بوقت

ليس إلا يرى شقيا أثيما (٥٥)

صدق الله مذ دعاه فأضحى

بالبراهين نيرا مستقيما

معجزات أبانها الله حتى

بلغته المنى وملكا عظيما

أعظم المعجزات خير كتاب

مذ به جاء نا فكان قويما

الفصل الرابع في الإمامة :

كل ما مر من ثبوت الدليل

واضحا في وجوب نصب الرسول

فهو أيضا نص لنصب وصي

عنه يهدي إلى سواء السبيل (٦٠)

حكم العقل في وجود وصي

بعد موت الرسول من دون قيل

ليتم النظام آنا فآنا

ويقيم الأحكام بالتفصيل

فهو لطف مثل النبوة حكما

واجب نصبه بلا تعطيل

وبه لا يقوم إلا شريف

ماجد قد سما بمجد أثيل

وصفات الرسول تثبت فيه

إذ له ما له بنص الدليل (٦٥)

غير وحي يختص فيه رسول

وكذا فضله لدى التفضيل

فإذا كان هكذا ما لقوم

نصبه بالخيار بعد الرسول

قل لمن رام نصبه باختيار :

خضت جهلا في ظلمة التضليل

* * *

١٦١

الفصل الخامس في المعاد :

إن ترم نظرة بحكم اعتقادي

في معاد الأرواح للأجساد

(٧٠) فاستمع ما أقول إن كنت شهما

لتراه على الهدى والسداد

هو أن الإله مذ كان عدلا

قبل إيجاد علة الإيجاد

خلق الخلق لا لأجل احتياج

بل لكي يعبدوه في كل نادي

فأحب الإله في الحشر يبدي

نفع ذاك التكليف بين العباد

ليريهم سبحانه العدل حتى

يعلموا أن ذاك عين الرشاد

(٧٥) فهو حتما يعيدهم بعد موت

عين تلك الأجساد يوم المعاد

لكن المسلمون قالوا تصفى

من كثافاتها بغير عناد

قل لمن يدعي المعاد بروح :

ليس هذا من مذهبي واعتقادي

إنما مذهبي بأن إلهي

سيعيد الأرواح للأجساد

ففريق سعى لجنة عدن

وفريق هوى إلى شر وادي

* * *

(٨٠) إن هذا ديني وهذي أصولي

در رقد نظمتها بفصول

أخرجتها نفسي بدقة فكر

من بحار المعقول والمنقول

بسماها طرزتها زاهرات

كنجوم لكن بغير أفول (٥)

وإلى هنا ينتهي بنا الحديث عن الشاعر في هذه الحلقة ، ولنا عودة مع القراء في ذكر شاعر آخر إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(٥) نقلنا هذه المنظومة الشعرية في الأصول الاعتقادية للشاعر من مجموعة الوالد الشيخ عبد الحميد الهلالي ـ رحمه‌الله ـ.

١٦٢

من ذخائر التراث

١٦٣
١٦٤

رسالة

«نقض فتاوى الوهابية»

للإمام الشيخ كاشف الغطاء

السيد غياث طعمة

على أعتاب الذكرى

منذ أن روى الإسلام رمال الجزيرة بدماء الأبرار ، فاخضرت أزهاره ونشر أريجه ، وطمح أن يزيح كابوس الظلام والظلم عن صدر العالم ، كانت جحافل الشر والكفر والنفاق تحاول قلع ما يغرسه الإسلام ، وتقف سدا أمام مد النور الساطع ، لأنه إن انتشر ماتت ، وما برحت تكيد الدسائس لمحو الإسلام ، وإلا فلتحجيمه على أضعف الآمال ...

وبالفعل عصفت بالأمة الإسلامية عواصف هوجاء ، كل عاصفة تحمل لونا وطريقة ، لكنها تلتقي في هدف القضاء على الإسلام ...

وإذا كانت تلك النكبات قد جرت على أيدي أناس انتحلوا الإسلام وتولوا زمامه وهم يطعنونه صباح مساء ، فلا غرو أن يشهر الغرب والشرق سلاحه ويعلن عداءه وهدفه بعد أن مهد أدعياء الإسلام له ذلك.

وبالفعل فقد شمر عن الساعد ووضع كل إمكاناته في سبيل خدمة هدفه الأصلي ... القضاء على الإسلام العزيز ... ولأجل تحاشي الاصطدام ما أمكن بدأ بزرع جراثيمه في الأصقاع الإسلامية ، وكلما كان البلد أكثر عراقة وأشد التزاما بتعاليم دينه كان لا بد أن تكون الشجرة الملعونة الحاكمة في ذلك البلد أشد سما

١٦٥

وأكثر انزلاقا في بحر الرذيلة ، وعالمنا المعاصر أنموذج حي لذلك ، ففي فلسطين تبذر إسرائيل ، وفي مصر لا بد أن يحكم السادات وأضرابه ليمر يد الذل ويمسح بها على يد تلطخت بدماء المسلمين الأبرار وليجري أجل كلام ... كلام الله ... على أفحش لسان ويدعي الاستناد إلى القرآن في عمله ... وفي العراق وو ...

ولما كانت أرض الحجاز تضم أقدس مقدسات المسلمين ... بيت الله وحرمه الآمن وحرم رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ... كان لا بد أن يكون الخنجر أمضى من غيره ... وهكذا كان حيث ترعرعت الوهابية في رحم الكفر وولدت وتربت في أحضانه ، لتكون كما يريد وتطبق ما يأمر ، وتقاتل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ باسم دين الله إرضاء لربها الانگلو أمريكي ، ولتفتري ما يحلو لها على الله ورسوله وتفتي على أصول الملكة التي البست خادم الحريم! لا الحرم الصليب وهو يبتسم ولا يستطيع إخفاء فرحه بهذا الوسام ...

قد يكون ما حدث بالأمس بعيدا حينما يكون الحدث ميتا ... ولكنه حين يرتبط بالمقدسات يبقى حيا ما حيي الضمير في المجتمع المسلم وتبقى كل لحظات الحدث شاخصة أمام الأعين والقلوب.

أجل ... نحن على أبواب الذكرى السنوية الأولى لمجزرة البيت الحرام ... البيت الذي يأمن فيه النمل والجراد ... يأمن فيه القاتل من القصاص حتى يخرج منه ، ويتعرض حجاج بيت الله إلى مجزرة لم يشهد التاريخ لها نظيرا حتى أيام الجاهلية الأولى! ولا في جاهلية القرن العشرين ...!!

أخذوا وقتلوا تقتيلا ، لا لذنب جنوه ، إلا أنهم كبروا وهللوا وتبرؤوا من أعداء الله كما أمر الله وتطبيقا لشريعة الله ... لكن أمن الإسلام وخلافة الله قتل زوار الله وهم على مائدة الله وفي ضيافته؟!

كيف يعرف الإسلام من ليس بمسلم؟

هل الوهابيون مسلمون؟! فأي إسلام يأمر أن تبقى لحوم الأضاحي طعمة لحرارة الشمس حتى تتفسخ ... وملايين البشر من المسلمين وغيرهم عيدهم أن

١٦٦

يشبعوا من رائحة الطعام فضلا عن تناوله ...؟!

هل هم مسلمون ... وهم يهينون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حينما يعتبر زعيمهم عصاه أفضل من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة ..؟!

أهم يخدمون البيت ويطهرونه .. وهم قد نجسوه بكل منكر استطاعوا فعله ..؟!

وأي شئ فيهم يمت إلى الإسلام بصلة ولو كخيط بيت العنكبوت .. فكرهم .. أخلاقهم .. معاملتهم .. عدلهم .. أم ماذا ..؟!

أجل ، تمر الأيام لتكمل سنة على المجزرة ، لكنها سنة في حساب الزمن وهي لحظات في حساب الوجدان والضمير لأنها ماثلة ما صعد نفس ونزل وما غمضت عين وفتحت ...

لقد تصدى الكثير من العلماء الأبرار للرد على هذه الفرقة الضالة وبدعها ، وألفت في ذلك المؤلفات مثل : كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب ، فتنة الوهابية ، هكذا رأيت الوهابيين ، وغيرها ، ومن جملة من ألف الشيخ كاشف الغطاء ـ طاب ثراه ـ حيث كتب رسالة «نقض فتاوى الوهابية».

* * *

١٦٧

رسالة

نقض فتاوى الوهابية

وهي رسالة من خمس ـ أو أربع رسائل ـ جمعت في كتاب «الآيات البينات في قمع البدع والضلالات» من تأليف علم من أعلام هذا القرن ، غطت سمعته الأرجاء ، وأقر بفضله العلماء ، ألا وهو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ـ طاب ثراه ـ.

اسمه ونسبه :

هو الشيخ محمد حسين بن شيخ العراقين علي بن الحجة الشيخ محمد رضا ابن المصلح بين الدولتين موسى بن الشيخ الأكبر جعفر بن العلامة الشيخ خضر ابن يحيى بن سيف الدين المالكي الجناجي النجفي.

ولادته ونشأته :

ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٩٤ ه ، ونشأ في بيت جليل عرف بالعلم وربى العلماء ، شرع بدروسه حين بلغ العاشرة من عمره ، وأنهى دراسة سطوح الفقه والأصول وهو بعد شاب ، ثم بدأ الحضور في دروس أكابر العلماء كالشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد اليزدي وآغا رضا الهمداني وأضرابهم ، ولازمهم سنين طوالا حتى برز بين أقرانه وحظي باحترام واهتمام أساتذته ، ودرس الفلسفة على يد الميرزا محمد باقر الأصطهباناتي والشيخ أحمد الشيرازي وغيرهما من الفحول ، ولما لمع نجمه ونبغ شرع في التدريس في مسجد الهندي وكان درسه يضم من الفضلاء ما يربو على المائة.

* * *

١٦٨

رحلاته ونشاطاته :

ومن السمات المميزة لحياة الشيخ كاشف الغطاء ـ قدس‌سره ـ رحلاته المتعددة واستثمارها ، ونشاطاته المتنوعة ، خصوصا في نشر صوت مذهب الإمامية والدعوة إلى وحدة الكلمة بين المذاهب الإسلامية عموما من خلال النقاش الموضوعي ، فعندما طبع الجزء الأول من كتابه «الدين والإسلام» وهم بأن يطبع الثاني إذا بالسلطة تأمر بمهاجمته ومنعه من الطبع ، فسافر إلى الحج ، ومنه إلى الشام فبيروت وطبع الجزءين بصيدا ، واتصل بكبار العلماء ورجالات الفكر وجرت عدة محاورات ومراسلات معهم من جملتها محاوراته مع فيلسوف الفريكة أمين الريحاني ، وناقش ضمن هذه المحاورات جرجي زيدان حول مؤلفه «تاريخ آداب اللغة العربية» وأظهر الكثير من شطحاته ، وناقش كذلك الشيخ يوسف الدجوي أحد مدرسي الجامع الأزهر ، والشيخ جمال الدين القاسمي عالم دمشق حينها ، ونشر خلال هذه السفرة عدة مؤلفات له ، ونشر عدة كتب لعدة مؤلفين وأشرف على تصحيحها والتعليق عليها ، وقضى ثلاث سنوات في سوريا ولبنان ومصر.

ووافق عودته إلى العراق سنة ١٣٣٢ نشوب الحرب العالمية الأولى فقضى سنيها في سوح الجهاد بصحبة السيد محمد ـ ولد أستاذه السيد اليزدي ـ ورجع إلى النجف الأشرف عند انتهائها ، وفي سنة ١٣٣٨ رجع في التقليد إلى المترجم له خلق كثير.

وفي سنة ١٣٥٠ انعقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف ، ودعي من قبل لجنة المؤتمر مرارا فأجاب الدعوة ، وألقى في المؤتمر خطبة ارتجالية ظهر فيها فضله وعظمته ، فقدمه العلماء وائتموا به في الصلاة ، وفي عام ١٣٥٢ زار إيران وبقي فيها حدود ثمانية أشهر داعيا الناس إلى التمسك بمبادئ الدين الحنيف ، وفي سنة ١٣٧١ حضر المؤتمر الإسلامي في كراچي.

* * *

١٦٩

مؤلفاته :

إضافة إلى المقالات النفيسة والقصائد البديعة التي نشرت في أمهات الكتب ، فقد ترك المؤلف آثارا جليلة نذكر ما وقفنا عليه :

١ ـ الآيات البينات في قمع البدع والضلالات.

٢ ـ أصل الشيعة وأصولها.

٣ ـ الفردوس الأعلى.

٤ ـ الأرض والتربة الحسينية.

٥ ـ العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية (مخطوط).

٦ ـ تحرير المجلة.

٧ ـ المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون.

٨ ـ شرح على العروة ، كتبه في حياة أستاذه (مخطوط).

٩ ـ الدين والإسلام ، أو الدعوة الإسلامية إلى مذهب الإمامية (أربعة أجزاء طبع منها اثنان).

١٠ ـ نزهة السمر ونهزة السفر (مخطوط).

١١ ـ المراجعات الريحانية ، الموسوم بالمطالعات والمراجعات أو النقود والردود.

١٢ ـ وجيزة الأحكام.

١٣ ـ السؤال والجواب.

(١٤) زاد المقلدين (فارسي).

(١٥) حاشية التبصرة.

١٦ ـ حاشية العروة الوثقى.

(١٧) تعليقة على سفينة النجاة.

(١٨) مناسك الحج.

١٧٠

١٩ ـ تعليقة على عين الحياة.

٢٠ ـ حاشية على مجمع الوسائل (فارسي).

٢١ ـ التوضيح في بيان حال الإنجيل والمسيح.

٢٢ ـ عين الميزان ، في الجرح والتعديل.

٢٣ ـ محاورة مع السفيرين.

٢٤ ـ ملخص الأغاني (مخطوط).

٢٥ ـ رحلة إلى سورية ومصر (مخطوط).

٢٦ ـ ديوان شعر (مخطوط).

٢٧ ـ جنة المأوى.

وغيرها كثير.

وفاته ومدفنه :

دبت في بدن الشيخ الجليل كاشف الغطاء أواخر أيامه عدة أسقام ، لكنه لم يتوان لحظة ولم يأل جهدا في سبيل خدمة الدين والمسلمين ، ولما اشتد عليه مرضه سافر إلى بغداد ورقد في المستشفى شهرا فاقترح عليه البعض الذهاب إلى (كرند) لطلب الصحة ، فقصدها في ١٥ ذي القعدة سنة ١٣٧٣ لكن الأجل لم يمهله ، فوافاه يوم الاثنين ١٨ ذي القعدة ١٣٧٣ ه بعد صلاة الفجر فنقل جثمانه الشريف إلى النجف ودفن في مقبرته الخاصة التي أعدها سلفا في وادي السلام وبذلك ودع الإسلام أحد أفذاذه وثلم به ثلمة عظيمة (٥).

وإليك ـ أخي المسلم ـ الرسالة كاملة ...

__________________

(٥) لمزيد الاطلاع على ترجمته أنظر : الدليل العراقي الرسمي لسنة ١٩٣٦ ، الموسوعة العربية ، المكتبة البلدية ، فهرس التوحيد ، المنجد ، نقباء البشر ، الأعلام للزركلي ، معجم المؤلفين ، مقدمة الفردوس الأعلى ، مقدمة جنة المأوى ، المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون ، أصل الشيعة وأصولها ، مجلة «الأديب» عدد ١٢ سنة ١٣ ، صوت البحرين / ذي القعدة ـ ذي الحجة ١٣٧٣ ، العرفان ٣٦ و ٤٣ وآب / ٥٤ ، المعارف عدد ٢ سنة ١ ، المقتبس / عبد الفتاح العسكري ٧ : ٧٧٦ ـ ٧٧٨ و ٨ : ٢١٢ ـ ٢١٣.

١٧١

بسم الله الرحمن الرحيم

(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.)

رسالة

نقض فتاوى الوهابية

ورد كلية مذهبهم

بسم الله الرحمن الرحيم

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبس المهاد.

وحي معجز

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما ألقاه علينا أستاذنا الأكبر ، وشيخنا الأعظم ، حجة الإسلام ، آية الله في الأنام ، علامة الدهر ، مولانا الشيخ محمد حسين دامت بركاته في شأن الوهابية ، واستفتاء علماء المدينة المتضمن تهديم القبور وغير ذلك في عدة مجالس ضممنا بعضها إلى بعض وجلوناها مجموعة عليك.

قال دامت أيام إفاداته : وقفنا من جريدة العراق في العدد الموافق منها ١٣ ذي القعدة سنة ١٣٤٤ على سؤال قاضي قضاة الوهابيين ابن بليهد مستفتيا علماء المدينة عن البناء على القبور ، واتخاذها مساجد ، وإيقاد السرج عليها وما يفعل عند الضرائح ، من التمسح والتقرب إليها بالذبائح والنذور ، وتقبيلها وعن التكبير والترحيم والتسليم في أوقات مخصوصة ...

١٧٢

هذا ملخص السؤال وكان الجواب من علماء المدينة بالمنع مطلقا ووجوب الهدم ، مستدلين على المنع في بعضها ، ومرسلين الفتوى بغير دليل في الباقي.

وقد رغب إلينا الكثير من الأعلام والأفاضل في إبداء ملاحظتنا على تلك الفتوى ، ووضعها في معيار الاختبار وميزان الصحة والسقم ، وعرضها على محك النقد ، ومطرقة القبول أو الرد ، إيضاحا للحقيقة وطلبا للصواب ، كي لا تعرض الأوهام والشكوك وتعلق الشبهة بأذهان البسطاء من المسلمين ، فإن البلية عامة ، والمصيبة شاملة ، والرزية على الجميع عظيمة ، وعليه فنذكر نص الفتوى جملة جملة حسبما ذكر في تلك الجريدة ، ثم نعقب كل جملة منها بما يحق لها من البيان ، وبالله المستعان.

قالوا في الجواب : أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعا لصحة الأحاديث الواردة في منعه ، وبهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه ، مستندين على ذلك بحديث علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنه قال لابن الهياج : «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ألا أدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» (١) رواه مسلم. انتهى.

فتراهم قد تمسكوا تارة بالإجماع ، وأخرى بالحديث ، أو بالإجماع المستند إلى الحديث.

أما دعوى الاجماع فهي مدحوضة مرفوضة ولكن لا تتسع أعمدة الصحف والمجلات لنقل كلمات العلماء في جوازه ، بل رجحانه ، وفساد توهم الاجماع وبطلانه من أول الإسلام وإلى هذه الأيام ، وأي حاجة بك إلى أن أسرد لك أو أملي عليك ما يوجب الملل (قال فلان وقال فلان) ، وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار ملء المسامع والأبصار ، على اختلاف

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ٦٦٦ باب ٣١ ح ٩٣ ، مسند أحمد ١ / ٩٦ و ١٢٩ ، سنن النسائي ٤ / ٨٨ وفيه : ولا صورة في بيت إلا طمستها ، سنن أبي داود ٣ / ٢١٥ ح ٣٢١٨ ، الجامع الصحيح للترمذي ٣ / ٣٦٦ باب ٥٦ ح ١٠٤٩.

١٧٣

طبقاتهم وتباين نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى هذه الغاية من العلماء وغيرهم ، من الشيعة والسنة وغيرهم ، وأي بلاد من بلاد الإسلام من مصر أو سوريا أو العراق أو الحجاز وهلم جرا ليس لها جبانة شاسعة الأطراف واسعة الأكناف ، وفيها القبور المشيدة والضرائح المنجدة؟!

وهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم سامقة المباني شاهقة القباب ، وأحمد ابن حنبل مباءة الوهابية ومرجعهم في الفروع كان له قبر مشيد في بغداد جرفه شط دجلة حتى قيل : «أطبق البحر على البحر». وكل تلك القبور قد شيدت وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتوى وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم ناكر ، بل كل منهم محبذ وشاكر.

وليس هذا من خواص الإسلام ، بل هو جار في جميع الملل والأديان ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، بل هو لعمر الحق من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة والعمران وشارت التمدن والرقي ، والدين القويم المتكفل بسعادة الدارين إذا كان لا يؤكده ويحكمه فما هو بالذي ينقضه ويهدمه ، وإذا كان كل هذا لا يكفي شاهدا قاطعا ودليلا بينا على فساد دعوى الاجماع فخير أن تكسر الأقلام ويبطل الحجاج والخصام ولا يقوم على شئ دليل ولا بينة ولا حجة ولا برهان :

وليس يصح في الأذهان شئ

إذا احتاج النهار إلى دليل

هذا حال الاجماع ، أما حديث مسلم : «لا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» فها هي نسخة من صحيح مسلم بين يدي ، طبع بولاق القديمة سنة ١٢٩٠ ، وقد روى الحديث المزبور صفحة ٢٦٥ ج ١ في باب الأمر بتسوية القبر ، ولكن بعد هذا بقليل صفحة ٢٥٦ قال : (باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها) وروى فيه بسنده إلى عائشة : إن النبي كان يخرج إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين (٢) إلى الآخر في حديثين طويلين.

__________________

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٦٦٩ باب ٣٥ ح ١٠٢ و ١٠٣.

١٧٤

وروى بعدهما بسنده إلى سليمان بن بريدة عن أبيه ، قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر : السلام على أهل الديار (٣). وفي رواية زهير : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين والمسلمات وإنا إن شاء الله للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العاقبة (٤).

ثم بعد أن فرغ من هذا الباب قال تلوه : «باب استئذان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ربه عزوجل في زيارة قبر أمه» ، وروى فيه أربعة أحاديث صريحة في الأمر بزيارة القبور :

أولها : بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي (٥).

ثانيها : بسند آخر إلى أبي هريرة ، قال : زار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قبر أمة فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت (٦).

ثالثها : بسنده عن ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا (٧) لكم ، إلى آخر الحديث.

رابعها : بسند آخر بالمعنى المتقدم أيضا (٨).

وبين يدي كذلك كتابان جليلان لعالمين جليلين من كبار مشاهير علماء

__________________

(٣) صحيح مسلم ٢ / ٦٧١ باب ٣٥ ح ١٠٤.

(٤) صحيح مسلم ٢ / ٦٧١ باب ٣٥ ح ١٠٤.

(٥) صحيح مسلم ٢ / ٦٧١ باب ٣٥ ح ١٠٥.

(٦) صحيح مسلم ٢ / ٦٧١ باب ٣٥ ح ١٠٥.

(٧) صحيح مسلم ٢ / ٦٧٢ باب ٣٦ ح ١٠٦.

(٨) صحيح مسلم ٢ / ٦٧٢ باب ٣٦ ح ١٠٦.

١٧٥

السنة والجماعة : أحدهما كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الأنام ، للإمام الحافظ قاضي قضاة المسلمين في القرن الثامن الشهير بتقي الدين أبي الحسن السبكي ، ويسمى أيضا ب «شن الغارة على من أنكر فضل الزيارة» وقد نشر هذا الكتاب ومثله للطبع سنة ١٣١٨ في مطبعة بولاق لعالم الفن العلامة الجليل أحد أكابر علماء مصر القاهرة الشيخ محمد بخيت المطبعي ، رئيس المحكمة الشرعية العليا بمصر ، وقد حضرنا دروسه بمصر سنة ١٣٣٠ فوجدناه في أكثر العلوم بحرا مواجا ، وسراجا وهاجا ، شعلة ذكاء وفهم ، وإحاطة وحزم ، ودفع إلينا جملة من مؤلفاته منها ذلك الكتاب الذي نشر في صدره مقدمة في بعض أحوال ابن تيمية مؤسس مذاهب الوهابية وبعض بدعه في الدين وتكفيره من جمهور علماء المسلمين ، وقد أجاد في تلك المقدمة ، وأحسن النظر في الموضوع وعلله وأسبابه.

أما ذات كتاب الإمام السبكي فقد رتبه على عشرة أبواب :

الأول : في الأحاديث الواردة في الزيارة.

الثاني : في الأحاديث الدالة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ الزيارة.

الثالث : فيما ورد في السفر إليها.

الرابع : في نصوص العلماء على استحبابها.

الخامس : في كونها قربة.

السادس : في كون السفر لها قربة.

السابع : في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته.

الثامن : في التوسل والاستغاثة.

التاسع : في حياة الأنبياء.

العاشر : في الشفاعة.

وذكر في الباب الأول من الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وفضلها ، والحث عليها خمسة عشر حديثا ، وأطنب في تصحيح سند كل واحد منها ، والبحث عن رجال السند وعلله فصحح أسانيد أكثرها ، مثل : «من

١٧٦

زار قبري وجبت له شفاعتي» (٩) ، وقد أفاض في البحث عن سند هذا الحديث في خمس أوراق وبمضمونه حديثان آخران ومثل : «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» (١٠) وأفاض في النظر والبحث عن سنده في أربع أوراق ومثل : «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» (١١) إلى أمثال ذلك من الأحاديث التي آخرها في هذا الباب : «من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة» و «من مات في أحد الحرمين بعث آمنا» (١٢).

ثم استوفى القول والحديث في الباب الثاني ، ودخل بعده في الباب الثالث وذكر مفصلا زيارة بلال من الشام التي هاجر إليها بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأنه رأى النبي في المنام وهو يقول له : «ما هذه الجفوة يا بلال ، أما آن لك أن تزورني؟!» فانتبه حزينا وجلا ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، إلى آخر الحديث. وكان ذلك في زمن أكابر الصحابة كالشيخين وغيرهما ، وعقبه بذكر زيارة جماعة من الصحابة والتابعين لقبره ـ وشد الرحال إليه.

الكتاب الثاني بين أيدينا كتاب «الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم» تأليف العالم الشهير صاحب المؤلفات الطائرة الصيت ، أحمد بن حجر

__________________

(٩) سنن الدارقطني ٢ / ٢٧٨ ح ١٩٤ ، الجامع الصغير للسيوطي ـ نقلا عن البيهقي ـ ٢ / ٦٠٥ ح ٨٧١٥ ، كنز العمال ١٥ / ٦٥١ ح ٤٢٥٨٣ ، وفاء الوفاء ٤ / ١٣٣٦ ، الكامل لأبي أحمد بن عدي ٦ / ٢٣٥٠ ، وأورده العلامة الأميني في الغدير ٥ / ٩٣ ـ ٩٦ «٤١» مصدرا ، فراجع.

(١٠) سنن الدارقطني ٢ / ٢٧٨ ح ١٩٢ ، سنن البيهقي ٥ / ٢٤٦ ، كنز العمال ٥ / ١٣٥ ح ١٢٣٦٨ و ١٥ / ٦٥١ ح ٤٢٥٨٢ ، وفاء الوفاء ٤ / ١٣٤٠ وفيه : كان كمن زارني ، الكامل لأبي أحمد بن عدي ٢ / ٧٩٠ ، الجامع الصغير للسيوطي ـ نقلا عن الطبراني ـ ٢ / ٥٩٤ ح ٨٦٢٨ ، وأورد العلامة الأميني في الغدير ٥ / ٩٩ ـ ١٠٠ «٩» مصادر ، فراجع.

(١١) كنز العمال ٥ / ١٣٥ ح ١٢٣٦٩ ، وفاء الوفاء ٤ / ١٣٤٢ ، شفاء السقام : ٢٣ ، وأورد الأميني «٩» مصادر في الغدير ٥ / ١٠٠.

(١٢) وفاء الوفاء ٤ / ١٣٤٨ ، شفاء السقام : ٣٤ ، وقد أورد السبكي في شفاء السقام كل الأحاديث السابقة في الفصل الأول.

١٧٧

الشافعي ، المطبوع ذلك الكتاب بمطبعة بولاق أيضا في مصر ، القاهرة سنة ١٢٧٩ ، ورتبه ـ كسابقه ـ على فصول :

الأول : في مشروعية زيارة قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ واستدل عليها من الكتاب بآيات ، ومن السنة بأحاديث كثيرة صحح أسانيدها من الطرق المتفق عليها عند جمهور المسلمين ، ثم استدل بإجماع علماء المسلمين ، وزاد على ما ذكره الحافظ السبكي لتأخر زمانه عنه.

قال ابن حجر ـ بعد أن استوفى الكلام في سرد الحديث والإجماع على فضل الزيارة فضلا عن مشروعيتها ، صفحة ١٣ ـ ما نصه :

فإن قلت : كيف تحكي الاجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله كما رآه السبكي في خطه ، وقد أطال ابن تيمية في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع ، بل زعم حرمة السفر لها إجماعا وأنه لا تقصر فيه الصلاة ، وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة ، وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه؟!

قلت : من هو ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شئ من أمور الدين عليه؟! وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة ، وحججه الكاسدة ، حتى أظهروا عوار سقطاته ، وقبائح أو هامه وغلطاته ، كالعز بن جماعة : عبد أضله الله تعالى وأغواه ، وألبسه رداء الخزي وأرداه ، وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان ، وأوجب له الحرمان.

ولقد تصدى شيخ الإسلام ، وعالم الأنام ، المجمع على جلالته ، واجتهاده وصلاحه وإمامته ، التقي السبكي ، قدس الله روحه ، ونور ضريحه ، للرد عليه في تصنيف مستقل أفاد فيه (١٣) وأجاد وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب ، ثم قال : هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذكر ، وإن كان عثرة لا تقال أبدا ، ومصيبة يستمر شؤمها سرمدا ، ليس بعجيب ، فإنه سولت له نفسه وهواه

__________________

(١٣) وكذا ناقشه في شفاء السقام في باب دفع شبهة الخصم ٩٨ ـ ١١٥.

١٧٨

وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة ، وتدارك على أئمتهم سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة شهيرة ، حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس المنزه ـ سبحانه ـ عن كل نقص ، والمستحق لكل كمال أنفس ، فنسب إليه الكبائر والعظائم ، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين ، حتى قام عليه علماء عصره ، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره ، فحسبه إلى أن مات وخمدت تلك البدع ، وزالت تلك الضلالات ، ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأسا ، ولم يظهر لهم جاها ولا بأسا ، بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، انتهى.

هذا بعض كلام ابن حجر العالم الذي ليس له في علماء السنة مدافع ، ولا ينازع في جلالة شأنه وعظيم فضله منازع ، ولسنا الآن في صدد تعداد مثالب ابن تيمية وبدعه في الدين ، وما أدخله من البلية على الإسلام والمسلمين ، فإن ذلك خارج عما نحن بشأنه من مواقف الحجة والبرهان ، والنظر في الأدلة على نهج علمي لا يخرج عن دائرة آداب المناظرة.

وأما حال ابن تيمية ... فقد كفانا مؤونة إشاعة فضائعه ووقائعه علما الجمهور من أهل السنة والجماعة شكرت مساعيهم الجميلة.

أما كلمتنا التي لا بد لنا من إبدائها في الجمع بين تلك الأخبار ، ونظريتنا في استجلاء الحقيقة من خلال تلك الحجب والأستار ، فسوف نبديها في تلو هذا السجل ناصعة بيضاء مسقرة ، وعليه التكلان ، وبه المستعان.

ها نحن أولاء ، بعد أن سردنا عليك ذروا من الأحاديث ، وشذورا من الروايات ، نريد أن نأتي على الخلاصة ، ونوقفك على الفذلكة ، ونمنحك الحقيقة المكنونة ، والجوهرة الثمينة فنتوصل إلى الحقيقة من أقرب طرقها ، ونتوسل إلى البغية المنشودة بأقوى أسبابها ، وأوثق عراها ، وأمتن أواخيها ، فنقول :

١٧٩

نقدر على الفرض أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ها هو أمام كل مسلم من أمته يراه بعينه ويسمعه بإذنه قائلا له : «لا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» بناء على صحة كل ما ورد في الصحيحين ـ البخاري ومسلم إذ هذا الفرض ـ وإن كنا لا نقول به ـ ولكن نجعله من الأصول الموضوعة بيننا ـ أعني به ما هو فصل النزاع وقاطع الخصومة ـ ومعلوم أن المتخاصمين إذا لم يكن فيما بينهما أصول موضوعة ينتهون إليها ، ويقفون عندها ، لا تكاد تنهي سلسلة النزاع بينهما والتخاصم طول الأبد ، وعمر الدهر ، إذا فنحن على سبيل المجاراة والمساهلة مع الخصم نقول بصحة ذلك الحديث ، كما يلزمنا معا أن نقول بصحة غيره من أحاديث الصحيحين فها هو النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول : «لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» ، كما رواه مسلم ، ـ ولكنه يقول حسب روايته أيضا : «فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ...» ، و «استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي» ... وقد زار هو قبور البقيع ... وفي البخاري عقد بابا لزيارة القبور وحينئذ ـ فهل هذه الأحاديث متعارضة متناقضة؟! النبي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يأمر بهدم القبور ... ويأمر بزيارتها ... يأمر بهدمها ثم هو يزورها ...

فإن كان المقام من باب تعارض الأحاديث واختلاف الروايات وجب الجمع بينهما لا محالة ، على ما تقتضيه صناعة الاجتهاد ، وطريقة الاستنباط ، وقواعد الفن المقررة في الأصول ، بحمل الظاهر على الأظهر ، وتأويل الضعيف من المتعارضين وصرفه إلى المعنى الموافق للقوي ، فيكون القوي قرينة على التصرف في الضعيف ، وإرادة خلاف ظاهره منه كما يعرفه أرباب هذه الصناعة ، فهل المقام من هذا القبيل؟!

كلا ثم كلا ، ومهلا مهلا : إن هذه الساقية ليست من ذلك النبع ، وتلك القافية ما هي من ذلك السجع ، وليس المقام من باب التعارض كي يحتاج إلى التأويل والجمع.

ما كنت أحسب أن أدنى من له حظ من فهم التراكيب العربية

١٨٠