تراثنا ـ العدد [ 13 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 13 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٤

العرب أن بعضهم كان يرد على بعض فيما يشبه لهم أنه الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا ... على أن تلك الروايات القليلة [فيما زعموه كان قرآنا وبطلت تلاوته] (٧٣) إن صحت أسانيدها أو لم تصح فهي على ضعفها وقلتها مما لا حفل به ما دام إلى جانبها إجماع الأمة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق» (٧٤).

وقال صبحي الصالح : «والولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطاء منهجية كان خليقا بهم أن يتجنبوها لئلا يحملها الجاهلون حملا على كتاب الله ... لم يكن خفيا على أحد منهم أن الآية القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر ، وأن أخبار الآحاد ظنية لا قطعية ، وجعلوا النسخ في القرآن ـ مع ذلك ـ على ثلاثة أضرب : نسخ الحكم دون التلاوة ، ونسخ التلاوة دون الحكم ، ونسخ الحكم والتلاوة جميعا.

وليكثروا إن شاؤوا من شواهد الضرب الأول ، فإنهم فيه لا يمسون النص القرآني من قريب ولا بعيد ، إذ الآية لم تنسخ تلاوتها بل رفع حكمها لأسرار تربوية وتشريعية يعلمها الله ، أما الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث ، اللذين نسخت فيهما بزعمهم تلاوة آيات معينة ، إما مع نسخ أحكامها وإما دون نسخ أحكامها.

والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأ مركبا ، فتقسيم المسائل إلى أضرب إنما يصلح إذا كان لكل ضرب شواهد كثيرة أو كافية على الأقل ليتيسر استنباط قاعدة منها ، وما لعشاق النسخ إلا شاهد أو اثنان على كل من هذين الضربين [أما الضرب الذي نسخت تلاوته دون حكمه فشاهده المشهور ما قبل من أنه كان في سورة النور : الشيخ والشيخة ... أنظر : تفسير ابن كثير

__________________

(٧٣) ما بين القوسين ذكره في الهامش. قلت : ما ذكره في الجواب عن هذه الأحاديث هو الحق لكن وصفها بالقلة في غير محله فهي كثيرة بل أكثر من أن تحصى كما تقدم في عبارة الآلوسي.

(٧٤) إعجاز القرآن : ٤٤.

١٤١

٣ : ٢٦١ ، ومما يدل على اضطراب الرواية : أن في صحيح ابن حبان ما يفيد أن هذه الآية التي زعموا نسخ تلاوتها كانت في سورة الأحزاب لا في سورة النور ، وأما الضرب الذي نسخت تلاوته وحكمه معا فشاهده المشهور في كتب الناسخ والمنسوخ ما ورد عن عائشة أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن ...] (٧٥) وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.

وبهذا الرأي السديد أخذ ابن ظفر في كتابه الينبوع ، إذ أنكر عد هذا مما نسخت تلاوته ، قال : لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن» (٧٦).

وقال مصطفى زيد وهو ينكر نسخ التلاوة دون الحكم : «وأما الآثار التي يحتجون بها ... فمعظمها مروي عن عمر وعائشة ، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما ، بالرغم من ورودهما في الكتب الصحاح ... وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتفق ومكانة عمر ولا عائشة ، مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسها على المسلمين» (٧٧).

هذا وستأتي كلمات بعض أعلامهم في خصوص بعض الآثار.

وكذا أنكر المحققون من الإمامية القسمين المذكورين من النسخ ..

فقد قال السيد المرتضى : «ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به لأنه من خبر الآحاد ، وهو ما روي أن من جملة القرآن : الشيخ والشيخة والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، فنسخت تلاوة ذلك. ومثال نسخ الحكم والتلاوة معا موجود في أخبار الآحاد وهو ما روي عن عائشة ...» (٧٨) وقد تبعه على ذلك غيره (٧٩).

الثاني : وعلى فرض تمامية الكبرى فإنه لا دليل على أن هذه الآيات التي

__________________

(٧٥) ما بين القوسين مذكور في الهامش.

(٧٦) مباحث في علوم القرآن : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٧٧) النسخ في القرآن ١ : ٢٨٣.

(٧٨) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٢٨.

(٧٩) البيان في تفسير القرآن : ٣٠٣.

١٤٢

حكتها الآثار المذكورة منسوخة ، إذ لم ينقل نسخها ، ولم يرد في حديث عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في واحد منها أنها منسوخة ، ولقد كان المفروض أن يبلغ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الأمة بالنسخ كما بلغ بالنزول.

فقد ورد في الحديث أنه قال لأبي : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقرأ عليه (آية الرغبة) ، فلو كانت منسوخة ـ كما يزعمون ـ لأخبره بذلك ولنهاه عن تلاوتها ، ولكنه لم يفعل ـ إذ لو فعل لنقل ـ ولذا بقي أبي ـ كما في حديث آخر عن أبي ذر ـ يقرأ الآية بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ معتقدا بكونها من آي القرآن العظيم.

ونازع عمر أبيا في قراءته (آية الحمية) وغلظ له ، فخصمه أبي بقوله : «لقد علمت أني كنت أدخل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويقرؤني وأنت بالباب ، فإن أحببت أن اقرئ الناس على ما أقرأني وإلا لم اقرئ حرفا ما حييت» ، فقال له عمر : «بل أقرئ الناس».

وهذا يدل على أن أبيا قد تعلم الآية هكذا من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وجعل يقرئ الناس على ما أقرأه ، ولو كان ثمة ناسخ لعلمه أبي أو أخبره الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فكف عن تلك القراءة .. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن قول عمر في جوابه : «بل أقرئ الناس» يدل على عدم وجود ناسخ للآية أصلا ، وإلا لذكره له في الجواب.

الثالث : عدم إمكان حمل الآيات المذكورة على منسوخ التلاوة على فرض صحة القول به :

فآية الرجم قد سمعها جماعة ـ كما تفيد الأحاديث المتقدمة ـ من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مصرحين بأنها من آي القرآن الكريم على حقيقة التنزيل.

وقد رأينا ـ فيما تقدم ـ إصرار عمر بن الخطاب على أنها من القرآن ، وحمله الصحابة بالأساليب المختلفة على كتابتها وإثباتها في المصحف كما أنزلت. وقوله :

١٤٣

«والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ...» وكل ذلك صريح في أنها كانت من القرآن ومما لم ينسخ ، وإلا لما أصر عمر على ذلك ، ولما جاز له كتابتها في المصحف الشريف.

ومن هنا قال الزركشي : «إن ظاهر قوله : لولا أن يقول الناس ... أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس ، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه ، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة ، لأن هذا شأن المكتوب.

وقد يقال : لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ ولم يعرج على مقال الناس ، لأن مقال الناس لا يصلح مانعا.

وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة ، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم ...» (٨٠).

ومن هنا أيضا : أنكر ابن ظفر (٨١) في كتابه «الينبوع» عد آية الرجم مما زعم أنه منسوخ التلاوة وقال : «لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن» (٨٢).

ومثله أبو جعفر النحاس (٨٣) حيث قال : «وإسناد الحديث صحيح ، إلا أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ، ولكنه سنة ثابتة ...» (٨٤).

ورأينا أن أبيا وابن مسعود قد أثبتا في مصحفهما آية «لو كان لابن آدم واديان ..» وأضاف أبو موسى الأشعري : إنه كان يحفظ سورة من القرآن فنسيها إلا هذه الآية.

__________________

(٨٠) البرهان ٢ : ٣٩ ـ ٤٠ ، الإتقان ٢ : ٢٦.

(٨١) وهو : محمد بن عبد الله بن ظفر المكي ، له : ينبوع الحياة في تفسير القرآن ، توفي سنة ٥٦٥. وفيات الأعيان ١ : ٥٢٢ ، الوافي بالوفيات ١ : ١٤١ وغيرهما.

(٨٢) البرهان ٢ : ٣٩ ـ ٤٠ ، الإتقان ٢ : ٢٦.

(٨٣) وهو : أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس ، المتوفى سنة ٣٣٨. وفيات الأعيان ١ : ٢٩ ، النجوم الزاهرة ٣ : ٣٠٠.

(٨٤) الناسخ والمنسوخ : ٨.

١٤٤

ولو لم تكن الآية من القرآن حقيقة ـ بحسب تلك الأحاديث ـ لما أثبتاها ، ولما قال أبو موسى ذلك.

وقد جعل الشوكاني هذه الآية مثالا للقسم الخامس من الأقسام الستة حسب تقسيمه للنسخ ، وهو : «ما نسخ رسمه لا كلمه ولا يعلم الناسخ له».

و «السادس : ناسخ صار منسوخا وليس بينهما لفظ متلو».

ثم قال : «قال ابن السمعاني : وعندي أن القسمين الأخيرين ـ أي الخامس والسادس ـ تكلف ، وليس يتحقق فيهما النسخ» (٨٥).

ورأينا قول أبي بن كعب لزر بن حبيش في سورة الأحزاب : «قد رأيتها ، وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة ... فرفع ما رفع».

فهل كان أبي يقصد من قوله : «فرفع ما رفع» ما نسخت تلاوته؟!

ورأينا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب حين سأله عن آية الجهاد : «أسقطت فيما أسقط من القرآن» فسكت عمر ، الأمر الذي يدل على قبوله ذلك.

فهل يعبر عما نسخت تلاوته ب «أسقطت فيما أسقط من القرآن»؟! ورأينا قول عائشة بأن آية الرضاع كانت مما يقرأ من القرآن بعد وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأنها كانت في رقعة تحت سريرها ... فهل كانت تعني ما نسخت تلاوته؟ ومتى كان النسخ؟

وهنا قال أبو جعفر النحاس : «فتنازع العلماء هذا الحديث لما فيه من الإشكال ، فمنهم من تركه وهو مالك بن أنس ـ وهو راوي الحديث ـ ، ولم يروه عن عبد الله سواه ، وقال : رضعة واحدة تحرم ، وأخذ بظاهر القرآن ، قال الله تعالى : (وأخواتكم من الرضاعة) ، وممن تركه : أحمد بن حنبل وأبو ثور ، قالا : يحرم ثلاث رضعات لقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (لا تحرم المصة ولا المصتان).

قال أبو جعفر : وفي هذا الحديث لفظة شديدة الإشكال وهو قولها (فتوفي

__________________

(٨٥) إرشاد الفحول : ١٨٩ ـ ١٩٠.

١٤٥

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهن مما نقرأ في القرآن) فقال بعض أجلة أصحاب الحديث : قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبد الله بن أبي بكر فلم يذكرا هذا فيها ، وهما : القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ويحيى بن سعيد الأنصاري.

وممن قال بهذا الحديث وأنه لا يحرم إلا بخمس رضعات : الشافعي.

وأما القول في تأويل : (وهن مما نقرأ في القرآن) فقد ذكرنا رد من رده ، ومن صححه قال : الذي نقرأ من القرآن : (وأخواتكم من الرضاعة) وأما قول من قال : إن هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فعظيم ، لأنه لو كان مما يقرأ لكانت عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ قد نبهت عليه ، ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها الجماعة الذين لا يجوز عليهم الغلط ، وقد قال الله تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقال : (إن علينا جمعه وقرآنه) ، ولو كان بقي منه شئ لم ينقل إلينا لجاز أن يكون مما لم ينقل ناسخا لما نقل ، فيبطل العمل بما نقل ، ونعوذ بالله من هذا فإنه كفر» (٨٦).

الرابع : أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف ونقصان القرآن : «وبيان ذلك : أن نسخ التلاوة هذا إما أن يكون قد وقع من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وإما أن يكون ممن تصدى للزعامة من بعده.

فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فهو أمر يحتاج إلى الإثبات ، وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وقد صرح بذلك جماعة في كتب الأصول وغيرها ، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه ، وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأخبار هؤلاء الرواة؟!

__________________

(٨٦) الناسخ والمنسوخ : ١٠ ـ ١١.

١٤٦

مع أن نسبة النسخ إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الاسقاط قد وقع بعده.

وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدوا للزعامة بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فهو عين القول بالتحريف.

وعلى ذلك ، فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة ، لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة ، سواء أنسخ الحكم أو لم ينسخ ، بل تردد الأصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته ، وفي جواز أن يمسه المحدث ، واختار بعضهم عدم الجواز.

نعم ذهبت طائفة من المعتزلة إلى عدم جواز نسخ التلاوة» (٨٧).

بل قال السيد الطباطبائي ـ قدس‌سره : «إن القول بذلك أقبح وأشنع من القول بالتحريف» (٨٨).

وقال المحقق الأوردبادي ـ قدس‌سره ـ : «وقد تطرف بعض المفسرين ، فذكروا في باب النسخ أشياء غير معقولة ...

ومنها : ما ذكره بعضهم من باب نسخ التلاوة : آية الرجم ...

وهذه أيضا من الأفائك الملصقة بقداسة القرآن الكريم من تلفيقات المتوسعين ...

وهناك جمل تضمنتها بطون غير واحد من الكتب التي لا تخلو عن مساهلة في النقل فزعم الزاعمون أنها آيات منسوخة التلاوة أو هي والحكم ، نجل بلاغة القرآن عما يماثلها ، وهي تذودها عن ساحة البراعة ، لعدم حصولها على مكانة القرآن من الحصافة والرصافة ، فمن ذلك ما روي عن أبي موسى ... ومنها : ما روي عن أبي : قال : كنا نقرأ : لا ترغبوا ...

وإن الحقيقة لتربأ بروعة الكتاب الكريم عن أمثال هذه السفاسف

__________________

(٨٧) البيان في تفسير القرآن : ٢٢٤.

(٨٨) الميزان في تفسير القرآن.

١٤٧

القصية عن عظمته ، أنا لا أدري كيف استساغوا أن يعدوها من آي القرآن وبينهما بعد المشرقين ، وهي لا تشبه الجمل الفصيحة من كلم العرب ومحاوراتهم فضلا عن أساليب القرآن الذهبية؟!

نعم ، هي هنات قصد مختلقوها توهين أساس الدين والنيل من قداسة القرآن المبين ، ويشهد على ذلك أنها غير منقولة عن مثل مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ الذي هو لدة القرآن وعدله.

وإني لا أحسب أنه يعزب عن أي متضلع في الفضيلة حال هذه الجمل وسقوطها حتى تصل النوبة في دفعها إلى أنها من أخبار الآحاد التي لا تفيد علما ولا عملا ، ولا يعمل بها في الأصول القطعية التي من أهمها القرآن ـ كما قيل ذلك ـ ...» (٨٩).

وقال الشيخ محمد رضا المظفر بعد كلام له : «وبهذا التعبير يشمل النسخ : نسخ تلاوة القرآن الكريم على القول به ، باعتبار أن القرآن من المجعولات الشرعية التي ينشئها الشارع بما هو شارع وإن كان لنا كلام في دعوى نسخ التلاوة من القرآن ليس هذا موضع تفصيله.

ولكن بالاختصار نقول : إن نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف ، لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي ، سواء كان نسخا لأصل التلاوة أو نسخا لها ، ولما تضمنته من حكم معا ، وإن كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة ، كقوله تعالى : (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) وقوله تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك ، ولا ظاهرتين ، وإنما أكثر ما تدل الآيتان على إمكان وقوعه» (٩٠).

هذا كله فيما يتعلق بالآيات والسور التي زعموا سقوطها من القرآن ...

__________________

(٨٩) بحوث في علوم القرآن ـ مخطوط ـ.

(٩٠) أصول الفقه ٢ : ٥٣.

١٤٨

وأما مشكلة إنكار ابن مسعود الفاتحة والمعوذتين ، فقط اضطربوا في حلها اضطرابا شديدا كما رأيت ، فأما دعوى أن ما روي عنه في هذا المعنى موضوع وأنه افتراء عليه فغير مسموعة ، لأن هذا الرأي عن ابن مسعود ثابت وبه روايات صحيحة كما قال ابن حجر ... وأما ما ذكروا في توجيهه فلا يغني ، إذ أحسن ما ذكروا هو : أنه لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن ، إنما أنكر إثباتهما في المصحف ، لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بإثباته ، ولم يبلغه أمره به ، وهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا (٩١).

ولو كان لمثل هذا الكلام مجال في حق مثل ابن مسعود لما جنح الرازي وابن حزم والنووي إلى تكذيب أصل النقل للخلاص من هذه العقدة كما عبر الرازي ...

ولماذا كل هذا الاضطراب؟ ألأن ابن مسعود من الصحابة؟!. إن الجواب الصحيح أن نقول بتخطئة ابن مسعود وضلالته في هذه المسألة ... وإلى ذلك أشار ابن قتيبة بقوله : «لا نقول إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار».

وأما قضية سورتي الحفد والخلع ... فنحن لم نراجع سند الرواية ، فإن كان ضعيفا فلا بحث ، وإن كان معتبرا ... فإن تم التأويل الذي أوردناه عن بعضهم فهو ... وإلا فلا مناص من تكذيب أصل النقل ...

قضية ابن شنبوذ

وهنا سؤال يتعلق بقضية ابن شنبوذ البغدادي ...

فهذا الرجل ـ وهو أبو الحسن محمد بن أحمد ، المعروف بابن شنبوذ البغدادي ، المتوفى سنة ٣٢٨ ـ مقرئ مشهور ، ترجم له الخطيب وقال : «روى عن خلق كثير من شيوخ الشام ومصر ، وكان قد تخير لنفسه حروفا من شواذ القراءات

__________________

(٩١) الإتقان ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧٢ ، شرح الشفاء ـ للقاري ـ ٤ : ٥٥٨. نسيم الرياض ٤ : ٥٥٨.

١٤٩

تخالف الاجماع يقرأ بها ، فصنف أبو بكر ابن الأنباري وغيره كتبا في الرد عليه.

وقال إسماعيل الخطبي في كتاب التاريخ : اشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ ، يقرئ الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف مما يروى عن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما مما كان يقرأ به قبل جمع المصحف الذي جمع عثمان بن عفان ، ويتتبع الشواذ فيقرأ بها ويجادل حتى عظم أمره وفحش وأنكره الناس ، فوجه السلطان فقبض عليه ... وأحضر القضاة والفقهاء والقراء ... وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره إلى الرجوع ، فأمر بتجريده وإقامته بين الهبازين وضربه بالدرة على قفاه ، فضرب نحو العشرة ضربا شديدا ، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة فخلي عنه وأعيدت عليه ثيابه واستتيب ، وكتب عليه كتاب بتوبته وأخذ فيه خطه بالتوبة» (٩٢).

نكتفي بهذا القدر من قضية هذا الرجل وما لاقاه من السلطان بأمر الفقهاء والقضاة ..!! ونتسأل : أهكذا يفعل بمن تبع الصحابة في إصرارهم على قراءاتهم حسبما يروي أهل السنة عنهم في أصح أسفارهم؟!

كلمة لا بد منها :

وهنا كلمة قصيرة لا بد منها وهي : أن شيئا من هذه السفاسف التي رواها القوم عن صحابتهم ـ الذين يعتقدون بهم بأصح أسانيدهم ، فاضطروا إلى حملها على النسخ ظنا منهم بأنه طريق الجمع بين صيانة القرآن عن التحريف وصيانة الصحاح ورجالها وسائر علمائهم ومحدثيهم عن رواية الأباطيل ... ـ غير منقول عن مولانا وسيدنا الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ولا عن أبنائه الأئمة الأطهار ، وغير وارد في شئ من كتب شيعتهم الأبرار.

__________________

(٩٢) تاريخ بغداد ١ : ٢٨٠ ، وفيات الأعيان ٣ : ٣٢٦ ، وقد ذكر ابن شامة القصة في المرشد الوجيز : ١٨٧ وكأنه يستنكر ما قوبل به الرجل ..!!.

١٥٠

خلاصة البحث :

ويتلخص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية :

١ ـ إن من أخبار نقصان القرآن ما لا اعتبار به سندا فهو خارج عن البحث.

٢ ـ إن الآثار الواردة في هذا الباب بسند صحيح أخبار آحاد والخبر الواحد لا يثبت به القرآن.

٣ ـ إن بعض هذه الآثار الصحيحة سندا صالح للحمل على التفسير وبيان شأن النزول ونحو ذلك ، فلا داعي لإبطاله.

٤ ـ إن حمل ما لا يقبل الحمل على بعض الوجوه المذكورة على نسخ التلاوة ساقط ، للوجوه الأربعة المذكورة ، والتي منها : أن القول بنسخ التلاوة هو القول بالتحريف ، بل أقبح منه.

٥ ـ إن إنكار ابن مسعود الفاتحة والمعوذتين خطأ وضلالة منه ، وتكذيب الخبر الحاكي لذلك باطل ، كما أن تأويل فعله ساقط.

٦ ـ إن ما سمي ب «سورتي الحفد والخلع» ليس من القرآن قطعا وإن رواه القوم عن جمع من الصحابة من غير أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، قال العلامة الحلي : «روى غير واحد من الصحابة سورتين ... فقال عثمان : اجعلوهما في القنوت ولم يثبتهما في المصحف ، وكان عمر يقنت بذلك ، ولم ينقل ذلك من طريق أهل البيت ، فلو قنت بذلك جاز لاشتمالهما على الدعاء» (٩٣).

٧ ـ إن ضرب ابن شنبوذ وقع في غير محله ـ كمصادرة كتاب «الفرقان» ـ من حيث أن الذنب للصحابة ورواة الآثار الواردة عنهم أو الموضوعة عليهم حول الآيات.

__________________

(٩٣) تذكرة الفقهاء ١ : ١٢٨.

١٥١

ثم رأينا الحافظ ابن الجزري يلمح إلى ما استنتجناه حيث ترجم لابن شنبوذ وشرح محنته وذكر أنها كانت كيدا من معاصره ابن مجاهد الذي كان يحسده وينافسه ، وإلا فإن الإقراء بما خالف الرسم ليس مما يستوجب ذلك ، بل نقل عن الحافظ الذهبي ذهاب بعض العلماء قديما وحديثا إلى جوازه .. قال ابن الجزري : «وكان قد وقع بينه وبين أبي بكر بن مجاهد على عادة الأقران ، حتى كان ابن شنبوذ لا يقرئ من يقرأ على ابن مجاهد وكان يقول : هذا العطشي ـ يعني ابن مجاهد ـ لم تغبر قدماه في هذا العلم ، ثم إنه كان يرى جواز القراءة بالشاذ وهو ما خالف رسم المصحف الإمام ، قال الذهبي الحافظ : مع أن الخلاف في جواز ذلك معروف بين العلماء قديما وحديثا. قال : وما رأينا أحدا أنكر الإقراء بمثل قراءة يعقوب وأبي جعفر ، وإنما أنكر من أنكر القراءة بما ليس بين الدفتين. والرجل كان ثقة في نفسه صالحا دينا متبحرا في هذا الشأن ، لكنه كان يحط على ابن مجاهد ...» (٩٤).

٨ ـ إن ما لا يقبل الحمل على بعض الوجوه يجب رده ورفضه ، فإن أذعن القوم بكونه مختلقا مدسوسا في الصحاح سقطت كتبهم الصحاح عن الاعتبار وإلا توجه الرد والتكذيب إلى الصحابي المروي عنه كما هو الحال بالنسبة إلى ابن مسعود في قضية الفاتحة والمعوذتين وهو قول سيدنا أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «أخطأ ابن مسعود ـ أو قال : كذب ابن مسعود ـ وهما من القرآن ...» (٩٥).

وهكذا يظهر أن القول بعدالة الصحابة أجمعين ، والقول بصحة أحاديث الصحاح ـ وخاصة الصحيحين ـ مشهور أن لا أصل لهما. وسيأتي مزيد بيان لذلك ـ في الفصل الخامس والأخير ـ إن شاء الله تعالى.

للبحث صلة ...

__________________

(٩٤) غاية النهاية في طبقات القراء ٢ : ٥٢.

(٩٥) وسائل الشيعة ٤ : ٧٨٦.

١٥٢

من التراث الأدبي المنسي في الأحساء

الشيخ كاظم الصحاف

الشيخ جعفر الهلالي

الشيخ كاظم بن الشيخ علي بن الشيخ محمد بن الشيخ حسين الصحاف الأحسائي ، وهو شاعر آخر من شعراء الأحساء المنسيين.

ولادته :

ولد الشاعر المذكور في الكويت سنة ١٣١٣ ه (١).

نشأته ودراسته :

نشأ المترجم له في الكويت على يد أخيه الشيخ حسين الذي مر ذكره في الحلقة السابقة المنشورة في العدد السابق من نشرة «تراثنا» ويظهر أن أباه توفي وهو صغير ، فكان ملازما لأخيه الشيخ حسين ، وقد سافر به أخوه إلى النجف الأشرف ، وكان أول تحصيله على يد أخيه ، وبعد وفاة أخيه انقطع إلى الدرس والتحصيل على يد جماعة من العلماء منهم الشيخ سلمان السلمان الأحسائي ، فقد أخذ عنه المنطق والمعاني والبيان ومعالم الأصول ، كما أنه أخذ بعض دروسه في

__________________

(١) ذكر السيد هاشم الشخص في كتابه عن علماء وأدباء الأحساء ، أن المترجم له ولد سنة ١٣١٢ ه ، وعلى ما أتذكر أن ما أثبته من تاريخ ولادته كنت قد أخذته من المترجم له عند التقائي به في الأحساء.

١٥٣

الفقه على يد السيد محمد بن السيد حسن الصافي ، كما درس أيضا على يد الشيخ منصور المرهون القطيفي ، وحضر دروس حجة الإسلام والمسلمين السيد ناصر الأحسائي في الفقه ، ودرس الحكمة على يد الميرزا موسى الحائري.

وجاء في كتاب «نفائس الأثر» (٢) عن كتاب «تذكرة الأشراف في آل الصحاف» عن المترجم له نفسه ، أنه بعد أن ارتقى في معارفه وتحصيله العلمي اعتمد عليه الميرزا موسى الحائري فأرسله إلى مدينة سوق الشيوخ في العراق ليقوم هناك بالأمور الشرعية والحقوق الحسبية ، فمكث هناك مدة ثم عاد إلى الكويت ـ مسقط رأسه ـ وقام بصلاة الجماعة في مسجد الصحاف بأمر الميرزا موسى الحائري وولده الميرزا علي ، لكنه لم يقم فيها طويلا ـ أيضا ـ فغادرها إلى الأحساء بلد آبائه ومحط أغلب أسرته وموطنه الأصلي ، ونزل بعد وصوله إليها في ضيافة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ موسى أبو خميس أحد أكبر علماء الأحساء آنذاك ، وقد درس أيضا على يده بعض علوم الحكمة ، كما سعى الشيخ أبو خميس في زواج المترجم له فتزوج هناك واستقرت به الحال في الهفوف عاصمة الأحساء.

وكان بالإضافة إلى فضيلته العلمية خطيبا حسينيا مارس الخطابة حتى آخر حياته ، وينقل عن المترجم له أن لديه وكالة في الأمور الشرعية والحسبية من الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، كما أن له وكالة في الموضوع نفسه من الشيخ حبيب آل قرين الأحسائي (٣) نزيل البصرة.

أدبه وشعره :

زاول المترجم له نظم الشعر وكان مكثرا فيه وشعره بين الجيد والمتوسط ، وبدأ يضعف في آخر حياته ، وقد ساهم في كثير من المناسبات الدينية فمدح بعض

__________________

(٢) نفائس الأثر ... للسيد هاشم الشخص ـ آنف الذكر ـ ترجم فيه لمجموعة كبيرة من علماء وأدباء الأحساء ، وهو لا يزال قيد التأليف ، وسبق أن تحدثنا عنه في إحدى الحلقات السابقة.

(٣) الشيخ حبيب آل قرين ، كان أحد المراجع الأعلام في التقليد ، سكن البصرة في منطقة «گردلان» عبر نهر شط العرب ، وكان من الأتقياء وقد اعترف له بالمنزلة العلمية الإمام الراحل كاشف الغطاء

١٥٤

علماء عصره ، ونظم في العقائد والردود وغالبية شعره في أهل البيت عليهم‌السلام.

آثاره :

خلف المترجم له مجموعة من الآثار الأدبية والعلمية ، لا تزال كلها مخطوطة ويخشى عليها من الضياع والتلف ، وهي كالآتي :

١ ـ روضة الرحمن في أحاديث رمضان.

٢ ـ البيان في أحوال بدء الإنسان.

٣ ـ النمط الأوسط والحجة على من فرط أو أفرط ، وهو كتاب يشتمل على الأصول الخمسة.

٤ ـ السبيكة الذهبية في معرفة مذهب الجعفرية.

٥ ـ الجوهرة البديعة ، في معرفة أصل الشيعة وأصولها ، أقام فيها الأدلة العقلية والنقلية من كتب علماء أهل السنة.

٦ ـ لوح الفوائد ونور المقاصد ، يحتوي على أسرار علمية وفوائد بدنية.

٧ ـ الحق والصواب بين السؤال والجواب ، في الأصول الخمسة.

٨ ـ الفصول في الأصول ، منظومة شعرية تبحث في الأصول الخمسة أيضا ، موجودة عندنا ، وهي مما سننشره هنا من شعر المترجم له.

٩ ـ الدليل الحاسم على فتح الطلاسم ، وهي قصيدة رد بها الشاعر على قصيدة إيليا أبي ماضي ، قرأ علي الشاعر بعض فصولها عند زيارتي له في مدينة الأحساء ، وهي قصيدة رائعة مشبعة بالأدلة التي نقض بها أوهام أبي ماضي ، ولكن للأسف الشديد لم يتيسر لي في تلك الفترة نسخها ، وقد توفي الشاعر بعد فترة ونرجو أن نوفق للحصول عليها من بعض ورثته ، ويخشى عليها من الضياع.

__________________

عند زيارته ـ أي كاشف الغطاء ـ للبصرة ونزل دار أحد علمائها ، وقد زاره الشيخ حبيب ، فعند خروجهم من الدار قدمه كاشف الغطاء فأبى ، فقال له كاشف الغطاء ـ قدس‌سره ـ : تقدم فلو قدموا حظهم قدموك. سمعت هذا من والدي الشيخ عبد الحميد الهلالي ـ رحمه‌الله ـ.

١٥٥

١٠ ـ الدر الثمين في مدح النبي وآله الطاهرين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، وهو ديوان شعر.

١١ ـ اللؤلؤ المنثور في مآتم عاشور ، وهو ديوان شعر ـ أيضا ـ فيه لكل يوم من محرم قصيدة مناسبة إلى ليلة الحادي عشر.

١٢ ـ العقد الأزهر في قصائد صفر ، وهو ديوان شعر ـ أيضا ـ يحتوي على قصائد حسينية في أحداث الكوفة والشام والرجوع إلى المدينة.

وفاته :

كانت وفاة الشاعر في الكويت ـ مسقط رأسه ـ وذلك في ١٠ شعبان سنة ١٣٩٩ ه ، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ، تغمده الله برحمته.

وهذه نماذج من شعره نعرضها هنا بين يدي القارئ الكريم ، فمن ذلك هذه القصيدة التي قالها في مدح الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ جاري فيها القصيدة الكوثرية للسيد رضا الهندي :

أسناء الفجر لنا أسفر

بجبينك أم بدر أزهر

وثنايا الثغر تلوح لنا

أم ذاك البرق أم الجوهر

ما البدر جمالك إذ يبدو

ما السيف لحاظك ما الجؤذر

يا ريم الحي وأخت البدر

ونور الصبح إذا أسفر

(٥) رقي لفتى صب أرق

لك طول الليل غدا يسهر

وله عيدي وعدي وصلي

فالفضل بدا لمن استأثر

فإلى م فؤادك لا يحنو

يا أخت البدر متى نسهر

إن كان بدا مني ذنب

فبمدح أبي حسن يغفر

كنز الأعمال سنى الإجلال

وساقي الخلق من الكوثر

(١٠) قطب المحراب أبو الأطياب

وليث الغاب متى قد كر

أفنى الأبطال بصارمه

ولمرحب جندل في خيبر

١٥٦

وبواحدة أردى عمرا

فغدت في الدهر له تذكر

قسما بخلافته العليا

وبغامض باطنه الأنور

لولاه الدين لما ارتفعت

منه الأركان ولم تشهر

فمراشده وفوائده

ومآثره عنه تؤثر (١٥)

ملك عدل وصل فصل

علم حكم فيما قدر

أولاه الله الملك وما

قد شاد به فله عمر

أو يعجزه الفلك الأعلى

وبإذن الله له سير

يا من أنكرت له فضلا

فالشمس هنالك لا تنكر

فلئن ماثلت به أحدا

ما الرمل يماثل بالجوهر (٢٠)

فإلى مولاي أبي حسن

نعم في الكون فلا تحصر

هي روح جناني في الدنيا

ونعيم جناني في المحشر

وبه نفسي أمنت ونجت

في الحشر من الفزع الأكبر

وبزعم القاصر أني قد

أطنبت بفضلك يا حيدر

فاقبل يا قدوة أعمالي

ما استيسر من مدح الأحقر (٤) (٢٥)

وقال مخمسا بيتي المتنبي في مدح الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

لله نور المرتضى علم الهدى

بدر تبلج بالضياء مدى المدى

رمت الحدود فلم أجده محددا

(وتركت مدحي للوصي تعمدا

إذ كان نورا مستطيلا شاملا)

ناء عن الادراك جوهر قدسه

إذ كان متصفا بأحمد جنسه

زيت يكاد يضيء قبل ممسه

(وإذا استطال الشئ قام بنفسه

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا)

__________________

(٤) نظم الشاعر هذه القصيدة في النجف الأشرف وألقاها في مسجد الخضراء بمناسبة عيد الغدير سنة ١٣٨٨ ه.

١٥٧

وقال في رثاء الإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ :

أي خطب دك السما والجبالا

وبه الأرض زلزلت زلزالا

أي شهر أبكى السماء دماء

ودهى العرش حزنه واستمالا

أي عام قد جدد الحزن دأبا

وعلينا قد هيج الإعوالا

أي يوم أبكى النبيين قدما

وبكته من قبلنا أجيالا

(٥) هو يوم الحسين أعظم يوم

قد أرانا بحزنه الأهوالا

أترانا ننسى الحسين فريدا

أم ترانا ننسى به الأبطالا

أم ترانا ننسى الأحبة جمعا

يوم فيه سروا هلالا هلالا

أم ترانا ننسى الشباب عليا

من حكى المصطفى النبي خصالا

أم ترانا ننسى زعيم المعالي

قمر الحق يوم بالسيف صالا

(١٠) أم ترانا ننسى الرضيع بسهم

ذبحوه وما سقوه الزلالا

أم ترانا ننسى الرضيع بسهم

ذبحوه وما سقوه الزلالا

أم ترانا ننسى النساء بسبي

أم ترانا ننسى النياق الهزالا

إن يوم الحسين ما زال غضا

بالأسى راح يغمر الأجيالا

قد عقدنا له المآتم ليلا

ونهارا مدى الزمان وصالا

(١٥) ورأينا البكا عليه لزاما

فاتخذناه سنة وامتثالا

قد بكاه الرسول والآل جمعا

وبكته الأصحاب حالا فحالا

وبكته الزهراء في كل وقت

ونعته كرامة وجلالا

وبكته الأجيال عاما فعاما

بدموع تحكي السحاب انهمالا

وهذا نموذج آخر من شعره ، وهي قصيدة ذات فصول نظمها في أصول الاعتقاد الخمسة ، قال :

الفصل الأول في التوحيد :

يثبت العقل من طريق منير

ليس يخفى على النبيه البصير

أن للخلق والعوالم ربا

خالقا ما له بها من نظير

١٥٨

واجبا واحدا سميعا بصيرا

حاكما عالما بما في الضمير

فاعترفنا به ولسنا نراه

أنه خالق بغير مشير

حيث أنا إذا وجدنا ضياء

دل معنى على وجود المنير (٥)

أو رأينا في البيد أقدام سير

دل عقلا على وجود المسير

أو وجدنا بها عقال بعير

دل عقلا على وجود البعير

فسماء أبراجها بارتفاع

تجري فيها محاكم التدبير

وأراض فجاجها بانخفاض

ما تدل على اللطيف الخبير؟!

* * *

إن رب السما إله قديم

وهو فرد لم يحوه التقسيم (١٠)

لو فرضنا : مع الإله شريكا

حادد الله مذ أتى التحكيم

لرأينا الخلاف في الكون باد

بين حكميهما ولا يستقيم

ولجاءت رسل الشريك إلينا

مثلما جاءنا رسول حكيم

فوجودا مع الشريك تعالى

بل وذهنا لم يحوه التوهيم

لا تصفه بجوهر لا ضياء

لا بجسم جل الإله القديم (١٥)

لا بكم ولا بأنى وكيف

لا كشئ جل الإله العظيم

ما حوته أرض ولا في سماها

لا ولا فوق عرشها مستقيم

لو أجزنا عليه من ذاك شيئا

جاز عقلا في ذاته التجسيم

وإذا شئت أن توحد ربا

مخلصا يستطاب منه النعيم

فقل الله ما له من مثيل

وتعالى وهو السميع العليم (٢٠)

* * *

هلك المدعي وضل وأهلك

أن كنه الإله بالعقل يدرك

أين حد العقول عن درك ذات

قد تجلت عن الحدود بلا شك

أين أفلاطها وأين ابن سينا

وأرسطو وما لهم فيه مدرك

كلما أفتكوا العقول بمعنى

رجعت عن جلالة الذات تفتك

١٥٩

(٢٥) حاولوا نعتها بدقة فكر

لينالوا بها طريقا ومسلك

فتجلت عن المنال وعزت

عن دنو لهم به كان تمسك

كلما حاولوا الوصول بعزم

قذفتهم إلى الرسوم بمهلك

قسما في جلاله مذ تجلى

وبملك بدا له ليس يملك

لم يحيطوا به على أي علم

خاب من كان يدعيه ويؤفك

(٣٠) سيد المرسلين مذ حار فيه

قال : زدني فلست أعرف كنهك

أين عيسى المسيح أم أين موسى

عن جلال لقدسه ليس يدرك

خر موسى لنوره مذ تجلى

وذرى الطور من سناه تدكدك

الفصل الثاني في العدل :

إن صنع الإله في الثقلين

كان عدلا في عالم النشأتين

حيث أن الإله لم يبد شيئا

دون علم مذ أوجد الكونين

(٣٥) فبطور الحكمين عقلا وشرعا

كان عدلا مذ أوجد الحكمين

وأمد الأنام منه بلطف

قبل خلق السماء في يومين

وأقات الأوقات لا لاحتياج

باقتدار والنفع للعالمين

فلهذا بذاته كان عدلا

وبفعل العباد في الخافقين

ومن العدل أنه باقتدار

مدهم بالقوى على قدرتين

(٤٠) وهداهم بفضله من قديم

بعقول تهدي إلى النجدين

إن يشأ ذا عصوا بغير اضطرار

أو يشأ ذا اهتدوا إلى الحسنيين

ليس جبرا وليس تفويض لكن

هو أمر في أوسط الأمرين

فهولا يظلم العبيد بشئ

جل ربي عن ذاك في العالمين

الفصل الثالث في النبوة :

ومذ الله كان قدما عليما

أبدع الصنع محكما مستقيما

(٤٥) حيث أن القبيح يصدر جهلا

من جهول وكان فيه ...

كيف أن الحكيم يفعل شيئا

فيه قبح وكان فيه حكما

١٦٠