تراثنا ـ العدد [ 12 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 12 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٢

أبي جامع العاملي النجفي ، من أعلام القرن الثاني عشر ، وأسرته تعرف بآل أبي جامع وآل محيي الدين.

فرغ من تبييضه في ١٣ جمادى الثانية سنة ١١٢٠ ه.

١ ـ نسخة تامة كتبت سنة ١٢٣١ ه ، في المكتبة المركزية لجامعة طهران ، رقم ١٨ ، في ٢٨٩ ورقة.

٢ ـ نسخة في مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام ، في مشهد ، رقم ٨٥٠٨.

٣ ـ نسخة في مكتبة كلية الحقوق في جامعة طهران ، رقم ١ / ١٩٥ ن ص ٥٠١.

٤ ـ نسخة في مكتبة المحدث الأرموي ـ رحمه‌الله ـ ، في طهران.

(٢٦)

شرح شواهد مجمع البيان

لأبي محمد محمد حسين بن عماد الدولة محمد طاهر الشريف الوحيد ، المتوفى سنة ١١١٢ ه.

١ ـ نسخة في المكتبة المركزية لجامعة طهران ، رقم ١١٧١ ، في ١١١ ورقة ، ذكرت في فهرسها ٦ / ٢٢٩١ ـ ٢٣٠١.

٢ ـ نسخة في مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام ، في مشهد ، رقم ٤٨٧٤ ، من سورة الرعد للنهاية.

٣ ـ نسخة كتبت سنة ١٢٥٧ ه ، في مكتبة آية الله المرعشي العامة ، في قم ، رقم ٢٤٧١ ، في ٢٧٩ ورقة ، ذكرت في فهرسها ٧ / ٦٣.

(٢٧)

شرح شافية أبي فراس

للسيد أبي جعفر محمد بن أمير الحاج الحسيني ، كان حيا سنة ١١٧٣ ه.

١ ـ نسخة كتبت سنة ١٢٨٣ ه ، في مكتبة آية الله المرعشي العامة ، في

٤١

قم ، رقم ٣٣٧٩ ، ذكرت في فهرسها ٩ / ١٥٦.

٢ ـ نسخة كتبت سنة ١٢٧٧ ه ، في مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام ، في مشهد ، رقم ٤٨٤٤.

* * *

٤٢

التحقيق في نفي التحريف

(٦)

السيد علي الميلاني

(الطائفة الثالثة)

وهم الذين لم يأخذوا بما دلت عليه تلك الأحاديث ولم يتبعوا الصحابة فيما تحكيه عنهم تلك الآثار ، وهم بين راد عليها الرد القاطع ، وبين مؤول لها على بعض الوجوه ... وقد انصبت كلمات الرد والنقد ـ في الأغلب ـ على الآثار المحكية ـ التي ذكرنا بعضها في الفصل الأول تحت عنوان (كلمات الصحابة والتابعين في وقوع الحذف والتغيير والخطأ في القرآن المبين) ـ بالطعن في الراوي أو الرواية أو الصحابي ... على تفاوت فيما بينها في المرونة والخشونة ...

رد أحاديث الخطأ في القرآن

قال الطبري بعد ذكر مختاره : (وإنما اخترنا هذا على غيره لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب (والمقيمين) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا ، وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبي ما يدل على أن الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] يعلمون

٤٣

من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ولقنوه للأمة تعليما على وجه الصواب ، وفي نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به في الخط مرسوما أدل دليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب) (١).

وقال الداني : (فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عباس عن عثمان أن المصاحف لما نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن ، فقال : اتركوها فإن العرب ستقيمها ـ أو ستعربها ـ بلسانها. إذ ظاهره يدل على خطأ في الرسم.

قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة ، ولا يصح به دليل من جهتين ، إحداهما : أنه ـ مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه ـ مرسل ، لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ، ولا رأياه ، وأيضا فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان ، لما فيه من الطعن عليه ، مع محله من الدين ومكانه من الإسلام ، وشدة اجتهاده في بذل النصيحة ، واهتباله بما فيه الصلاح للأمة. فغير متمكن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم ، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ، ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده. هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحل لأحد أن يعتقده.

فإن قال : فما وجه ذلك عندك لو صح عن عثمان؟

قلت : وجهه أن يكون عثمان أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم) (٢).

وقال الزمخشري : ([والمقيمين] نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٩.

(٢) تاريخ القرآن ـ لمحمد طاهر الكردي ـ ص ٦٥ عن المقنع.

٤٤

مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم ...) (٣).

وقال الرازي : (وأما قوله : [والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة] ففيه أقوال ، الأول : روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. واعلم : أن هذا بعيد ، لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!) (٤).

وقال الزمخشري في الآية (... حتى تستأنسوا ...) بعد نقل الرواية عن ابن عباس فيها : (ولا يعول على هذه الرواية) (٥).

وقال الرازي فيها : (واعلم أن هذا القول من ابن عباس فيه نظر ، لأنه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشك في كل القرآن ، وأنه باطل) (٦).

وقال النيسابوري : (روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، ولا يخفى ركاكة هذا القول ، لأن هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ، فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟!) (٧).

وقال ابن كثير في (... حتى تستأنسوا ...) بعد نقل قول ابن عباس : (وهذا غريب جدا عن ابن عباس) (٨).

وقال الخازن في (... والمقيمين ...) : (اختلف العلماء في وجه نصبه ،

__________________

(٣) الكشاف ١ / ٥٨٢.

(٤) التفسير الكبير ١١ / ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٥) الكشاف ٣ / ٥٩.

(٦) التفسير الكبير ٢٣ / ١٩٦.

(٧) تفسير النيسابوري ٦ / ٢٣ هامش الطبري.

(٨) تفسير ابن كثير ٣ / ٢٨٠.

٤٥

فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان : أنه غلط من الكتاب ، ينبغي أن تكتب : والمقيمون الصلاة. وقال عثمان بن عفان : إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم ، فقيل له : أفلا تغيره؟! فقال : دعوه ، فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا. وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره.

وأجيب عما روي عن عثمان بن عفان وعن عائشة وأبان بن عثمان : بأن هذا بعيد جدا ، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك ، فكيف يتركون في كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم ، فلا ينبغي أن ينسب هذا لهم. قال ابن الأنباري : ما روي عن عثمان لا يصح لأنه غير متصل ، ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره. وقال الزمخشري في الكشاف : ولا يلتفت إلى ما زعموا ...) (٩).

وقال في (... حتى تستأنسوا ...) : (وكان ابن عباس يقرأ : حتى تستأذنوا. ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب. وفي هذه الرواية نظر لأن القرآن ثبت بالتواتر) (١٠).

وقال الرازي في الآية (إن هذان لساحران) : (القراءة المشهورة إن هذان لساحران. ومنهم من ترك هذه القراءة ، وذكروا وجوها أخر [فذكرها ووصفها بالشذوذ ، ثم قال :] واعلم أن المحققين قالوا : هذا القراءات لا يجوز تصحيحها ، لأنها منقولة بطريق الآحاد ، والقرآن يجب أن يكون منقولا بالتواتر ، إذ لو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن ، لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك ، فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة ، ولما كان ذلك باطلا فكذلك ما أدى إليه ، وأما الطعن في القراءة

__________________

(٩) تفسير الخازن ١ / ٤٢٢.

(١٠) تفسير الخازن ٣ / ٣٢٣.

٤٦

المشهورة فهو أسوأ مما تقدم من وجوه :

أحدها : أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يفضى إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كل القرآن ، وأنه باطل وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضا بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.

وثانيها : أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى ، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحنا وغلطا ، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أن فيه لحنا وغلطا.

وثالثها : قال ابن الأنباري : إن الصحابة هم الأئمة والقدوة ، فلو وجدوا في المصحف لحنا لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم ، مع تحذيرهم من الابتداع وترغيبهم في الاتباع ...) (١١).

وقال أبو حيان الأندلسي في (... والمقيمين ...) بعدما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها : (ولا يصح عنهما ذلك ، لأنهما عربيان فصيحان) (١٢).

وقال القنوجي : (وعن عائشة أنها سئلت عن (المقيمين) وعن قوله (إن هذان لساحران) و (الصابئون) في المائدة ، فقالت : يا ابن أخي ، الكتاب أخطأوا.

وروي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ عن المصحف وأتي به قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيره؟! فقال : دعوه ، فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.

قال ابن الأنباري : وما روي عن عثمان لا يصح ، لأنه غير متصل ، ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره ، ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟! وقال الزمخشري في الكشاف : ولا يلتفت ...) (١٣).

__________________

(١١) تفسير الكبير ٢٢ / ٧٤.

(١٢) البحر المحيط ٣ / ٣٩٤.

(١٣) فتح البيان ٦ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

٤٧

وقال في (إن هذان لساحران) : (فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة بوجه تصح به وتخرج به عن الخطأ ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف) (١٤).

وقال الآلوسي في (والمقيمين) : (ولا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن وأن الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبد الله وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي ، إذ لا كلام في نقل النظم متواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا. وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال : قد أحسنتم وأجملتم ... فقد قال السخاوي : إنه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ، فإن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ـ وهم هم ـ كيف يقيمه غيرهم؟!) (١٥).

فهذه كلمات في رد هذه الأحاديث ، ويلاحظ أن بعضهم يكتفي (بالاستبعاد) ، وآخر يقول : (فيه نظر) ، وثالث يقول : (لا يخفى ركاكة هذا القول) ، ورابع يقول : (لا يلتفت ...) ، وخامس يقول : (غريب).

ومنهم من يجرأ على التضعيف بصراحة فيقول : (لا يصح) ، وفي (الإتقان) عن ابن الأنباري أنه جنح إلى تضعيف هذه الروايات (١٦) وعليه الباقلاني في (نكت الإنتصار) (١٧) وجماعة.

لكن بعضهم يستدل ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث ، لأن القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن ، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان ، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل ...

وجماعة ذهبوا إلى أبعد من كل هذا ، وقالوا بوضع هذه الأحاديث

__________________

(١٤) فتح البيان ٦ / ٩٤.

(١٥) روح المعاني ٦ / ١٣ ـ ١٤.

(١٦) الإتقان ٢ / ٣٢٩.

(١٧) نكت الإنتصار : ١٢٧.

٤٨

واختلاقها ، من قبل أعداء الإسلام ...

فيقول الحكيم الترمذي (١٨) : (... ما أرى مثل هذه الروايات إلا من كيد الزنادقة ...) (١٩)

ويقول أبو حيان الأندلسي : (ومن روى عن ابن عباس أن قوله : (حتى تستأنسوا) خطأ أو وهم من الكاتب ، وأنه قرأ حتى (تستأذنوا) فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس برئ من هذا القول) (٢٠).

وهكذا عالج بعض العلماء والكتاب المتأخرين والمعاصرين هذه الأحاديث ، فنرى صاحب (المنار) يقول :

(وقد تجرأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ، وعد رفع (الصابئين) هنا من هذا الغلط. وهذا جمع بين السخف والجهل ، وإنما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أن النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ...) (٢١).

ويقول : (وقد عد مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصح كلام وأبلغه ، وقيل : إن (المقيمين) معطوف على المجرور قبله ... وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة وإن عده الجاهل أو المتجاهل غلطا ولحنا. وروي أن الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة ، فإن صح ذلك عنه وعمن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءة ، وإلا فهي كالعدم.

وروى عن عثمان أنه قال : إن في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، وقد ضعف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع. فالصواب أنها موضوعة ، ولو صحت لما صح أن يعد ما هنا من ذلك اللحن ، لأنه

__________________

(١٨) وهو الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي ، صاحب التصانيف ، من أئمة علم الحديث ، له ترجمة في تذكرة الحفاظ ٢ / ٦٤٥ وغيرها.

(١٩) نوادر الأصول.

(٢٠) البحر المحيط ٦ / ٤٤٥.

(٢١) المنار ٦ / ٤٧٨.

٤٩

فصيح بليغ ...) (٢٢).

وهو رأي الرافعي ومحمد أبو زهرة ، فقد وصف محمد أبو زهرة هذه الأحاديث المنافية لتواتر القرآن ب : (الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم ، التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي ، التي تجمع كما يجمع حاطب ليل ، يجمع الحطب والأفاعي ، مع أن القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار).

ثم استشهد بكلام الرافعي القائل : (... ونحسب أن أكثر هذا مما افترته الملحدة) وقال : (وإن ذلك الذي ذكره هذا الكاتب الإسلامي الكبير حق لا ريب فيه) (٢٣).

تأويل أحاديث الخطأ في القرآن

فهذا موقف هؤلاء من هذا القسم من الأحاديث والآثار ، وعليه آخرون منهم لم نذكر كلماتهم هنا اكتفاء بمن ذكرناه ...

وقد اغتاظ من هذا الموقف جماعة واستنكروه بشدة ... ومن أشهرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ، الذي تحامل على الزمخشري ومن كان على رأيه قائلا بعد الحديث عن ابن عباس (كتبها وهو ناعس) : (وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحته ، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته ـ إلى أن قال ـ وهي والله فرية بلا مرية ، وتبعه جماعة بعده ، والله المستعان.

وقد جاء عن ابن عباس نحو ذلك في قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه. أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيد عنه.

وهذه الأشياء ـ وإن كان غيرها المعتمد ـ لكن تكذيب المنقول بعد صحته ليس من دأب أهل التحصيل ، فلينظر في تأويله بما يليق) (٢٤).

__________________

(٢٢) المنار ٦ / ٦٤.

(٢٣) المعجزة الكبرى : ٤٣.

(٢٤) فتح الباري ٨ / ٣٠١.

٥٠

لكن العجب من ابن حجر لماذا أحال التأويل اللائق إلى غيره وقد كان عليه أن يذكره بنفسه وهو بصدد الدفاع عن الأحاديث الصحاح؟!

نعم ، نظر بعضهم في تأويله وذكرت وجوه ، فقال الداني بالنسبة إلى ما روي عن عثمان ـ على فرض صحته ـ : (وجهه أن يكون أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم).

وأجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلها بأن المراد : (أخطأوا في الاختيار وما هو الأولى للجمع عليه من الأحرف السبعة ، لا أن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.

فمعنى قول عائشة : (حرف الهجاء) ألقي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة ، وكذا معنى قول ابن عباس : (كتبها وهو ناعس) يعني : فلم يتدبر الوجه الذي هو أولى من الآخر. وكذا سائرها) (٢٥).

وأتعب السيوطي نفسه في هذا المقام ، فإنه بعد أن أورد الآثار بين وجه الإشكال فيها وتصدى لتأويلها ... ولننقل عبارته كاملة لننظر هل جاء (بما يليق)؟ :

قال : (هذه الآثار مشكلة جدا ، وكيف يظن بالصحابة أولا : أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن ، وهم الفصحاء اللد؟! ثم كيف يظن بهم ثانيا : في القرآن الذي تلقوه من النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] كما أنزل ، وحفظوه وضبطوه وأتقنوه؟! ثم كيف يظن بهم ثالثا : اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته ... ثم كيف يظن بهم رابعا : عدم تنبههم ورجوعهم عنه؟!

ثم كيف يظن بعثمان : أنه ينهى عن تغييره؟! ثم كيف يظن أن القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ ، وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف؟! هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة.

وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة :

أحدها : أن ذلك لا يصح عن عثمان ، فإن إسناده ضعيف مضطرب

__________________

(٢٥) الإتقان ٢ / ٣٢٩.

٥١

منقطع ، ولأن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم؟! وأيضا : فإنه لم يكتب مصحفا واحدا بل كتب عدة مصاحف.

فإن قيل : إن اللحن وقع في جميعها فبعيد اتفاقها على ذلك ، أو في بعضها. فهو اعتراف بصحة البعض ، ولم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان في مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف قط مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءة ، وليس ذلك باللحن.

الثاني : على تقدير صحة الرواية ، فإن ذلك محمول على الرمز والإشارة.

الثالث : أنه مؤول على أشياء خالف لفظها رسمها ... وبهذا الجواب وما قبله جزم ابن أشتة في كتاب (المصاحف).

وقال ابن الأنباري في كتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان) في الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك : (لا تقوم بها حجة ، لأنها منقطعة غير متصلة ، وما يشهد عقل بأن عثمان وهو إمام الأمة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام فيتبين فيه خللا ويشاهد في خطه زللا فلا يصلحه ، كلا والله ما يتوهم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز ، ولا يعتقد أنه أخر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده ، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه.

ومن زعم ـ أن عثمان أراد بقوله : أرى فيه لحنا. أرى في خطه إذا أقمناه بألسنتنا كان الخط غير مفسد ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب ـ فقد أبطل ولم يصب ، لأن الخط منبئ عن النطق ، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه ، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق ، ومعلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن ، متقنا لألفاظه ، موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي ...

ثم قال ابن أشتة : أنبأنا محمد بن يعقوب ، أنبأنا أبو داود سليمان بن

٥٢

الأشعث ، أنبأنا أحمد بن مسدة ، أنبأنا إسماعيل ، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن ، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ، قال : لما فرغ من المصحف أتي به عثمان فنظر فيه فقال : أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه ، ويتضح معنى ما تقدم ، فكأنه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى فيه شيئا كتب على غير لسان قريش ، كما وقع لهم في (التابوة) و (التابوت) ، فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش ، ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ، ولم يترك فيه شيئا. ولعل من روى تلك الآثار السابقة عنه حرفها ، ولم يتيقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم منه ما لزم من الإشكال ، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك. ولله الحمد.

وبعد ، فهذه الأجوبة لا يصح منها شئ عن حديث عائشة. أما الجواب بالتضعيف فلان إسناده صحيح كما ترى ، وأما الجواب بالرمز وما بعده فلان سؤال عروة عن الأحرف المذكورة لا يطابقه ، فقد أجاب عنه ابن أشتة ـ وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية ـ بأن معنى قولها (أخطأوا) أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه ، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز ...

وأقول : هذا الجواب إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها ، وأما والقراءة على مقتضى الرسم فلا.

وقد تكلم أهل العربية عن هذه الأحرف ووجهوها أحسن توجيه ، أما قوله : (إن هذان لساحران) ففيه أوجه ... وأما قوله : (والمقيمين الصلاة) ففيه أيضا أوجه ... وأما قوله : (والصابئون) ففيه أيضا أوجه ...) (٢٦).

فهذا ما يتعلق ب (كلمات الصحابة والتابعين ...)

أحاديث جمع القرآن بين الرد والتأويل

وأما الأحاديث التي رووها حول جمع القرآن ، المتضاربة فيما بينها ، والتي

__________________

(٢٦) الإتقان ٢ / ٣٢٠ ـ ٣٢٦.

٥٣

اعترف بعضهم كمحمد أبو زهرة بوجود روايات مدسوسة مكذوبة فيها (٣٧) فقد حاولوا الجمع بينها ، ثم رفع التنافي بينها وبين أدلة عدم التحريف والبناء على أن القرآن مجموع في عصر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبأمر منه ... وإليك بيان ذلك بالتفصيل :

لقد تضاربت روايات أهل السنة حول جمع القرآن ، وعلى ضوئها اختلفت كلمات علمائهم ... والمتحصل من جميعها : أن الجمع للقرآن كان على مراحل ثلاث ، الأولى : على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، حيث كتب في الرقاع والعسب ... والثانية : على عهد أبي بكر ، وكان بانتساخه من العسب والرقاع وغيرها وجعله في مكان واحد ... والثالثة : على عهد عثمان ، والذي فعله ترتيبه وحمل الناس على قراءة واحدة ... هذا ما كادت تجمع عليه كلماتهم.

والجمع في عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان (حفظا) و (كتابة) معا ، أما حفظا فإن الذين جمعوا القرآن في عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كثيرون (٢٨). وأما كتابة فإن القرآن لم يكن كاملا في الكتابة على عهده عند الذين حفظوه كاملا ، لكن كانت كتابته كاملة عند الجميع ، فهو مكتوب كله عند جميعهم ، وما ينقص من عند واحد يكمله ما عند الآخرين ، إلا إنه كان متواترا كله عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في عصره حفظا (٢٩).

فعمد أبو بكر إلى جمعه ، إذ أمر ـ بعد يوم اليمامة ـ بجمع تلك الكتابات وجمع القرآن منها بتأليفه وتدوينه (٣٠).

ثم لم كثرت فيه القراءات ووقعت في لفظه الاختلافات جمع عثمان المصاحف من أصحابها وحمل الناس على قراءة واحدة من بينها وأعدم سائر المصاحف المخالفة لها.

لكن استخلاص هذه النتائج من تلك الأحاديث ، ودفع الشبهات التي

__________________

(٢٧) المعجزة الكبرى : ٣٣.

(٢٨) مباحث في علوم القرآن : ٦٥.

(٢٩) المعجزة الكبرى : ٢٨.

(٣٠) الإتقان ١ / ٦٢ ، مناهل العرفان ١ / ٢٤٢ ، إعجاز القرآن : ٢٣٦.

٥٤

تلحق بالقرآن ، يتوقف على النظر في ما ورد في هذا الباب سندا ومتنا والجمع بينها بحمل بعضها على البعض بقدر الإمكان ، وهذا أمر لا بد منه ... فنقول :

أولا : لقد وردت عن بعض الصحابة أحاديث فيها حصر من جمع القرآن على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في عدد معين ، اتفق عبد الله بن عمرو وأنس بن مالك على أنهم (أربعة) على اختلاف بينهما في بعض أشخاصهم ...

فعن عبد الله بن عمرو أنهم : عبد الله بن مسعود ، سالم ، معاذ بن جبل ، أبي ابن كعب (٣١).

وعن أنس بن مالك ـ في حديث عن قتادة عنه ـ هم : أبي بن كعب ، معاذ بن جبل ، زيد بن ثابت ، أبو زيد. قال : من أبو زيد؟ قال : أحد عمومتي (٣٢).

وفي آخر ـ عن ثابت عنه ـ ، قال : (مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد).

فأي توجيه صحيح لحصر جماع القرآن في أربعة؟ وكيف الجمع بين ما روي عن الصحابيين ، ثم بين الحديثين عن أنس؟

قال السيوطي : (قد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة ، وقال المازري : لا يلزم من قول أنس (لم يجمعه غيرهم) أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك ... قال : وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا مستمسك لهم فيه ، فإنا لا نسلم حمله عليه ظاهره) ثم ذكر السيوطي كلاما للقرطبي ونقل عن الباقلاني وجوها من الجواب عن حديث أنس ثم قال : (قال ابن حجر : وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف) (٣٣).

ثانيا : قد اختلفت أحاديثهم في (أول من جمع القرآن) ففي بعضها أنه

__________________

(٣١) صحيح البخاري ٦ / ١٠٢ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤٩.

(٣٢) صحيح البخاري ٦ / ١٠٢. واختلف في اسم أبي زيد هذا. أنظر الإتقان ١ / ٧٤.

(٣٣) الإتقان ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٧.

٥٥

(أبو بكر) وفي آخر (عمر) وفي ثالث (سالم مولى أبي حذيفة) وفي رابع (عثمان).

وطريق الجمع بينها أن يقال : إن أبا بكر أول من جمع القرآن أي دونه تدوينا ، وأن المراد من : (فكان [عمر] أول من جمعه في المصحف) أي : أشار على أبي بكر أن يجمعه ، وأن المراد فيما ورد في (سالم) : أنه من الجامعين للقرآن بأمر أبي بكر ، وأما (عثمان) فجمع الناس على قراءة واحدة.

ثالثا : في بيان الأحاديث الواردة في كيفية الجمع وخصوصياته في كل مرحلة. أما في المرحلة الأولى ، فقد رووا عن زيد قوله : (كنا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نؤلف القرآن من الرقاع ...) (٣٤) ورووا عنه أيضا : (قبض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولم يكن القرآن جمع في شئ) (٣٥) وأنه قال لأبي بكر لما أمره بجمع القرآن : (كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟!) (٣٦).

إلا أنه يمكن الجمع بين هذه الأخبار بحمل النافية على عدم تأليف القرآن وجمعة بصورة كاملة في مكان واحد ، بل كانت كتابته كاملة عند الجميع ...

وهكذا تندفع الشبهة الأولى.

وأما في المرحلة الثانية : فإنه وإن كان أمر أبي بكر بجمع القرآن وتدوينه بعد حرب اليمامة ، لكن الواقع كثرة من بقي بعدها من حفاظ القرآن وقرائه ، مضافا إلى وجود القرآن مكتوبا على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ... فلا تطرق الشبهة من هذه الناحية في تواتره. وأما الحديث : (إن عمر سأل من آية من كتاب الله كانت مع فلان قتل يوم اليمامة ...) فإسناده منقطع (٣٧) فالشبهة الثانية مندفعة كذلك.

وأما جمع القرآن من العسب واللخاف وصدور الرجال ـ كما عن زيد ـ فإنه لم يكن لأن القرآن كان معدوما ، وإنما كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولم يكتبوا من حفظهم. وأما قوله :

__________________

(٣٤) المستدرك ٢ / ٦٦٢.

(٣٥) الإتقان ١ / ٢٠٢.

(٣٦) صحيح البخاري ٦ / ٢٢٥.

(٣٧) الإتقان ١ / ٥٩.

٥٦

وصدور الرجال : فإنه كتب الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن ، فكان يتتبعها من صدور الرجال ليحيط بها علما (٣٨).

وأما قول أبي بكر لعمر وزيد : (اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه) فقد قال الشيخ أبو الحسن السخاوي في (جمال القراء) : معنى هذا الحديث ـ والله أعلم ـ من جاء كم بشاهدين على شئ من كتاب الله تعالى. أي : من الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن ولم يزد على شئ مما لم يقرأ أصلا ولم يعلم بوجه آخر (٣٩).

وأما معنى قوله في الآية التي وجدها عند خزيمة فقال ابن شامة : (ومعنى قوله : فقدت آية كذا فوجدتها مع فلان ، أنه كان يتطلب نسخ القرآن من غير ما كتب بأمر النبي ، فلم يجد كتابة تلك الآية إلا مع ذلك الشخص ، وإلا فالآية كانت محفوظة عنده وعند غيره. وهذا المعنى أولى مما ذكره مكي وغيره (٤٠) : إنهم كانوا يحفظون الآية لكنهم نسوها ، فوجودها في حفظ ذلك الرجل فتذاكروها وأثبتوها ، لسماعهم إياها من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٤١).

وأما أن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده ، فهي رواية مخالفة للمعقول والمنقول (٤٢) وإن أمكن تأويلها ببعض الوجوه.

وهكذا تندفع الشبهة الثالثة.

وأما في المرحلة الثالثة : فإن عثمان ـ عندما اختلف المسلمون في القراءة ـ أرسل إلى حفصة يطلب منها ما جمع بأمر أبي بكر قائلا : (أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد

__________________

(٣٨) المرشد الوجيز : ٥٧.

(٣٩) المرشد الوجيز : ٧٥.

(٤٠) كالزركشي في البرهان ١ / ٢٣٤.

(٤١) المرشد الوجيز : ٧٥.

(٤٢) الجواب المنيف في الرد على مدعي التحريف : ١٢١.

٥٧

ابن ثابت و... فنسخوها في المصاحف ...) (٤٣).

هذا هو الواقع في هذه المرحلة ، وما خالفه يطرح أو يؤول كالحديث الذي روي : أنه كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان. أوله ابن حجر على أن المراد من (الشاهدين) هو (الحفظ والكتابة) ، وناقش البيهقي في سنده وتبعه ابن شامة وصبحي الصالح (٤٤) ، قال ابن شامة بعد أن رواه : (وأخرج هذا الحديث الحافظ البيهقي في كتاب المدخل بمخالفة لهذا في بعض الألفاظ وبزيادة ونقصان فقال : جلس عثمان على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنما عهد كم بنبيكم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ منذ ثلاث عشرة سنة ، وأنتم تختلفون في القراءة ، يقول الرجل لصاحبه : والله ما تقيم قراءتك. قال : فعزم على كل من كان عنده شئ من القرآن إلا جاء به ، فجاء الناس بما عندهم ، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله. ثم قال : من أعرب الناس؟ قالوا : سعيد بن العاص ، قال : فمن أكتب الناس؟ قالوا : زيد بن ثابت كاتب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، قال : فليمل سعيد وليكتب زيد قال : فكتب مصاحف ففرقها في الأجناد فلقد سمعت رجالا من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقولون : لقد أحسن.

قال البيهقي : فيه انقطاع بين مصعب وعثمان. وقد روينا عن زيد بن ثابت أن التأليف كان في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. وروينا عنه أن الجمع في الصحف كان في زمن أبي بكر والنسخ في المصاحف كان في زمن عثمان ، وكان ما يجمعون أو ينسخون معلوما لهم ، فلم يكن به حاجة إلى مسألة البينة.

قلت : لم تكن البينة على أصل القرآن ، فقد كان معلوما كما ذكروا إنما كانت على ما أحضروه من الرقاع المكتوبة ، فطلب البينة عليها أنها كانت كتبت بين يدي رسول الله ، وبإذنه على ما سمع من لفظه على ما سبق بيانه ، ولهذا قال :

__________________

(٤٣) صحيح البخاري ٦ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٤٤) مباحث في علوم القرآن : ٧٦.

٥٨

فليمل سعيد. يعني من الرقاع التي أحضرت ، ولو كانوا كتبوا من حفظهم لم يحتج زيد فيما كتبه إلى من يمليه عليه.

فإن قلت : كان قد جمع من الرقاع في أيام أبي بكر ، فأي حاجة إلى استحضارها في أيام عثمان؟

قلت : يأتي جواب هذا في آخر الباب) (٤٥).

قال أبو شامة : (وأما ما روي من أن عثمان جمع القرآن أيضا من الرقاع كما فعل أبو بكر فرواية لم تثبت ، ولم يكن له إلى ذلك حاجة وقد كفيه بغيره ... ويمكن أن يقال : إن عثمان طلب إحضار الرقاع ممن هي عنده وجمع منها وعارض بما جمعه أبو بكر أو نسخ مما جمعه أبو بكر ، وعارض بتلك الرقاع أو جمع بين النظر في الجميع حالة النسخ ، ففعل كل ذلك أو بعضه استظهارا ودفعا لوهم من يتوهم خلاف الصواب ، وسدا لباب القالة : إن الصحف غيرت أو زيد فيها أو نقص) (٤٦).

وأما ما رووا عن ابن مسعود من الطعن في زيد بن ثابت فكله موضوع (٤٧). وإن عمل زيد لم يكن كتابة مبتدأة ولكنه إعادة لمكتوب ، فقد كتب في عصر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وإن عمله لم يكن عملا آحاديا بل كان عملا جماعيا (٤٨).

وأما المصاحف التي أمر بتحريقها ـ قال بعضهم ـ : (فإنها ـ والله أعلم ـ كانت على هذا النظم أيضا ، إلا أنها كانت مختلفة الحروف على حسب ما كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سوغ لهم في القراءة بالوجوه إذا اتفقت في المعنى ـ وإن اختلفت في اللفظ ـ) (٤٩).

قال : (ويشهد ذلك ما روي عن محمد بن كعب القرظي ، قال : رأيت

__________________

(٤٥) المرشد الوجيز : ٥٨ ـ ٥٩.

(٤٦) المرشد الوجيز : ٧٥.

(٤٧) مباحث في علوم القرآن : ٨٢.

(٤٨) المعجزة الكبرى : ٣٣.

(٤٩) مقدمتان في علوم القرآن : ٤٥.

٥٩

مصاحف ثلاثة : مصحفا فيه قراءة ابن مسعود ، ومصحفا فيه قراءة أبي ، ومصحفا فيه قراءة زيد. فلم أجد في كل منها ما يخالف بعضها بعضا) (٥٠).

وهكذا تندفع الشبهة الرابعة.

رد أحاديث نقصان القرآن :

وأما أحاديث نقصان القرآن فالمعروف بينهم حملها على نسخ التلاوة ، لئلا يلزم ضياع شئ من القرآن ، ولا الطعن فيما أخرجه الشيخان وما رواه الأئمة الأعيان ، وقد ذكروا لها أيضا وجوها من التأويل سنذكرها.

ولكن ـ مع ذلك ـ نجد فيهم من يطعن في بعض تلك الأحاديث فعن ابن الأنباري في : (ابن آدم لو أعطي واديا) ، ورواية عكرمة : (قرأ علي عاصم (لم يكن) ثلاثين آية هذا فيها) : (إن هذا باطل عند أهل العلم ، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبي بن كعب لا يفرقان فيهما هذا المذكور في لم يكن) (٥١).

وقال بعضهم في (آية الحمية) : (روي عن عطية بن قيس ، عن أبي إدريس الخولاني : إن أبا الدرداء ركب إلى المدينة في نفر من أهل دمشق ومعهم المصحف ليعرضوه على أبي بن كعب وزيد وغيرهما ، فغدوا على عمر ، فلما قرؤا بهذه الآية : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية .. قال عمر : ما هذه القراءة؟ فقالوا : أقرأنا أبي ... ، فهذه وما يشبهها أحاديث لم تشتهر بين نقلة الحديث ، وإنما يرغب فيها من يكتبها طلبا للغريب) (٥٢).

وقال فيما ورد عن زر عن أبي بن كعب في عدد سورة الأحزاب (٥٣) : (يحمل ـ إن صح ، لأن أهل النقل ضعفوا سنده ـ على أن تفسيرها ...) (٥٤).

__________________

(٥٠) مقدمتان في علوم القرآن : ٤٧.

(٥١) مقدمتان في علوم القرآن : ٨٥.

(٥٢) مقدمتان في علوم القرآن : ٩٢.

(٥٣) في لفظ رواية كتاب (مقدمتان في علوم القرآن) : (الأعراف).

(٥٤) مقدمتان في علوم القرآن : ٨٢.

٦٠