معارج الأصول

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

معارج الأصول

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: محمد حسين الرضوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

الفصل الاول

فيما يتعلق بصيغة الأمر ، وفيه مسائل :

[ المسألة ] الاولى : لا شبهة في وقوع لفظة الأمر بالحقيقة على القول المخصوص ، واختلف في وقوعه على الفعل ، فأنكر ذلك قوم ، واعتمده آخرون وتوسط أبو الحسين فقال : هو مشترك بين القول المخصوص وبين الشيء والصفة والشأن والطريق ، وهو المختار.

لنا : ان القائل إذا قال : هذا أمر بالفعل علم القول ، وان قال : مستقيم علم الشأن ، وان قال لاجله جاء زيد علم الشيء والغرض ، وان اطلقه حصل التوقف وهو دلالة الاشتراك ، ولا يجوز أن يكون لفظ الأمر حقيقة في مطلق الفعل ، والا لسمي الشرب اليسير أمرا.

احتج من خصه بالقول : بأن الاصل عدم الاشتراك.

وجوابه : ان الاصل ظاهر لاقاطع ، وقد ( ترك ) (١) الظاهر لقيام الدلالة.

واحتج من جعله حقيقة في الفعل بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : « فاتبعوا أمر فرعون » (٢).

__________________

١ ـ في نسخة : يترك.

٢ ـ هود / ٩٧.

٦١

الثاني : قوله تعالى : « وما أمرنا الا واحدة » (١).

الثالث : ان ( أمرا ) في الفعل جمعه ( أمور ) ، والجمع دلالة الحقيقة.

الرابع : ( انه ) (٢) مستعمل في الفعل ، والاستعمال دلالة الحقيقة.

والجواب عن الاول : انه محمول على القول ، [ و ] يؤيده قوله : « فاتبعوا ».

وعن الثاني : لا نسلم أن المراد بذلك الفعل ، والا لكانت أفعاله كلها واحدة

بل الشأن ، أي : شأننا ذلك.

وعن الثالث : لا نسلم أن التصرف دلالة الحقيقة.

سلمنا ، لكن لا نسلم أن ( أمورا ) جمع ( أمر ) ، فانه لا فرق بين قولهم : أمر فلان مستقيم ، وبين قولهم : ( أمور فلان مستقيمة ) (٣).

سلمنا [ ه ] ، لكن اطلاق ذلك ( لخصوص ) (٤) كونه شأنا ، لا ( لعموم ) (٥) كونه فعلا.

وعن الرابع : لا نسلم أن الاصل في الاستعمال الحقيقة.

سلمنا [ ه ] ( لكن ) (٦) معارض بأن الاصل عدم الاشتراك.

المسألة الثانية : الأمر القولي : هو استدعاء الفعل بصيغة ( افعل ) أو ما جرى مجراها على طريق الاستعلاء ، إذا صدرت ( من مريد لايقاع الفعل ) (٧).

__________________

١ ـ القمر / ٥٠.

٢ ـ في بعض النسخ : وهو.

٣ ـ في نسخة : اموره مستقيمة.

٤ ـ في نسخة : بخصوص.

٥ ـ في نسخة : بعموم.

٦ ـ في نسخة : لكنه.

٧ ـ في نسخة : من مريد الايقاع.

٦٢

شرطنا الصيغة المخصوصة احترازا من الخبر والتمني وشبهه إذا تضمن الاستدعاء.

وشرطنا الاستعلاء احترازا ممن طلب متذللا ملتمسا.

وشرطنا الارادة ـ على ما اختاره المرتضى رحمه‌الله ـ خلافا للاشعرية وجماعة من الفقهاء.

لنا : ان الصيغة ترد أمرا كقوله تعالى : « اقم الصلاة » (١) وغير أمر كقوله : افعلوا ما شئتم ، ولا مخصص [ له ] الا الارادة ، لبطلان ما عداه من الاقسام

احتج المخالف بوجهين :

أحدهما : لو لم يكن الأمر أمرا الا بالارادة ، لما صح الاستدلال بالأمر على الارادة.

الثاني : ان أهل اللغة قالوا : الأمر هو قول القائل لغيره : ( افعل ) [ كذا ] مع الرتبة ، ولم يشترطوا الارادة ، فجرى ذلك مجرى استعمال لفظ الانسان في ( موضوعه ) (٢) فانه لا يفتقر إلى الارادة.

وجواب الاول : انا لا نستدل على الارادة بالأمر من حيث كان أمرا ، بل من حيث هو على صيغة ( افعل ) وقد تجرد ، لأن هذه الصيغة موضوعة لطلب المراد حقيقة ، فإذا ( تجردت ) (٣) وجب حملها على موضوعها.

وجواب الثاني : سلمنا ( عدم ) (٤) اشتراطها ( لفظا ) (٥) لظهورها ، ولكن

__________________

١ ـ هود / ١١٤.

٢ ـ في نسخة : موضعه.

٣ ـ في نسخة : تجرد.

٤ ـ في بعض النسخ : بعدم.

٥ ـ في بعض النسخ : نطقا.

٦٣

لا نسلم عدم اشتراطها في نفس الأمر ، كما لم يشترطوا انتفاء القرائن ، وليس تمثيل تسمية الانسان مما نحن فيه ، ( لأنا لا نخالف ) (١) عند اطلاق هذه اللفظة انها تحمل على الأمر ، بل الخلاف : هل يسمى أمرا وان لم يرد الفعل؟.

المسألة الثالثة : لفظة ( افعل ) حقيقة في الطلب بلا خلاف ، وهل هي حقيقة في التهديد أم لا؟ الاظهر عدمه ، والا لتوقف الذهن في فهم أحد الامرين عند الاطلاق وهو باطل.

وأيضا : فانها حقيقة في الطلب ، فليكن مجازا في غيره دفعا للاشتراك.

المسألة الرابعة : لفظة ( افعل ) حقيقة في الوجوب ، وقال آخرون : الايجاب [ و ] هو اختيار الشيخ أبي جعفر رحمه‌الله.

وقال أبو هاشم : هي للندب ، إذا صدرت من الحكيم ، وكان ( المقول ) (٢) له في دار التكليف.

وتوقف آخرون.

وقال المرتضى : هي مشتركة ( بينهما ) ، (٣) نظرا إلى اللغة قال : [ و ] أو امر الشارع المطلقة تحمل على الوجوب ، مدعيا في ذلك الاجماع. حجتنا : ان العقلاء يذمون العبد الممتنع عند قول سيده : ( افعل ) مع اطلاق الأمر ، ويعللون حسن ذمه بمجرد ترك الامتثال ، ولا معنى للوجوب الا هذا. وما يشيرون إليه من القرائن تفرض ارتفاعه ، واستحقاق الذم باق بحاله قطعا.

احتج المرتضى رحمه‌الله : بانها وردت للايجاب والندب ، والاصل في الاستعمال الحقيقة.

__________________

١ ـ في نسخة : لأن سيدا لا يخالف وفي أخرى : لأنه لا نخالف.

٢ ـ في نسخة : القول.

٣ ـ في نسخة : بينها.

٦٤

وجوابه : كما أن الاصل [ في الاستعمال ] عدم التجوز ، فالاصل عدم الاشتراك.

المسألة الخامسة ، صيغة الأمر الواردة بعد الحظر كحالها قبله ، وقال قوم : تفيد بعد الحظر : الاباحة.

لنا : أن صيغة الأمر تفيد طلب الفعل ، والاباحة تفيد التخيير فيه ، فلم يكن مستفادا منها ، وغير ممتنع انتقال الشيء من الحظر إلى الوجوب.

احتج الخصم : بقوله تعالى : « وإذا حللتم فاصطادوا » (١).

وجوابه : معارض بقوله : « فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين » (٢).

المسألة السادسة : ذهب الجبائيان إلى أن الأمر المطلق لا يقتضي التعجيل وجوزا التأخير عن [ أول ] أوقات الامكان. وصار آخرون إلى تحريم التأخير واختاره الشيخ. وقال المرتضى رحمه‌الله بالاشتراك.

والظاهر : أنه لا اشعار [ فيه ] بفور ولا تراخ.

لنا : انه [ ورد ] مع الفور تارة ، ومع التراخي أخرى ، فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما ، صونا للكلام عن الاشتراك والتجوز.

وأيضا : فان قول القائل ( افعل ) هو طلب ( الفعل ) (٣) في المستقبل ( وجرى ) (٤) مجرى ( تفعل ) في كونه اخبارا عن الفعل في المستقبل ، وكما يجوز وقوعه بعد مدة ، فكذلك الامر.

__________________

١ ـ المائدة / ٢.

٢ ـ التوبة / ٥.

٣ ـ في نسخة : للفعل.

٤ ـ في بعض النسخ : فجرى.

٦٥

احتج القائلون بالفور : بقوله تعالى : « فاستبقوا الخيرات » (١) وبأنه لو جاز تأخيره ، فاما مع بدل ، ويلزم سقوط المبدل وهو باطل ، أو لا معه وهو ينافي الوجوب.

وجواب الاول : انه استدلال على غير المطلوب.

وجواب الثاني : منقوض بما لو صرح بالتأخير.

المسألة السابعة : الأمر بالشيء على الاطلاق لا يقتضي التكرار ، خلافا لبعض الاصوليين.

لنا وجهان :

أحدهما ان السيد إذا أمر عبده بدخول الدار ، ثم فعل ، لم يحسن ( منه ) (٢) ذمه على ترك المعاودة.

الثاني : لو أفاد التكرار ( لعم ) (٣) الاوقات ـ لعدم الاولوية ـ وهو باطل.

احتج المخالف بوجهين :

الاول : لو لم يفد التكرار لما اشتبه على سراقة حين قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أحجتنا هذه لعامنا [ هذا ] أم للابد؟ ».

الثاني : ان فيه احتياطا فيجب المصير إليه.

وجواب الاول : ان هذا لا يصلح حجة للقائلين بالتكرار ، بل لاصحاب الاشتراك ، ولا ( فرج ) (٤) أيضا لاولئك ، لأنا لا نسلم أن الاشتباه بالنظر إلى اللفظ ، بل لم لا يجوز أن يكون اعتقده مماثلا للصلاة والصيام!؟ فأراد ازالة

__________________

١ ـ البقرة / ١٤٨.

٢ ـ في نسخة : فيه.

٣ ـ في نسخة : يعم.

٤ ـ في نسخة : فرح.

٦٦

هذا الاشتباه.

ويدل على أنه ليس للتكرار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو قلت هذا ( لوجب ) (١) لأنه اشعار بكون الوجوب مستفادا من قوله ، لامن اللفظ.

وجواب الثاني : ان الاحتياط يجب مع عدم الدلالة على عدم وجوب التكرار ، وأما مع وجودها فلا.

المسألة الثامنة : الأمر المعلق على شرط ، أو صفة ، لا يتكرر بتكررهما ، سواء كان شرطا حقيقيا كقوله : ان كان الزاني محصنا فارجمه ، أو مؤثرا كقوله : ان زنى فارجمه ، ومثال الصفة : « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » (٢).

وقال قوم : انه يتكرر بتكررهما.

لنا وجهان :

الاول : ان السيد إذا قال لعبده : ان دخلت السوق فاشتر لحما ، لا يقتضي التكرار.

والثاني : لو أفاد الأمر مع الشرط التكرار ، لم يخل : اما أن يفيده لفظا أو معنى ، والقسمان باطلان :

أما اللفظ فظاهر.

وأما المعنى : فلانه لو أفاد [ ذلك ] لكان ذلك لكون الشرط كالعلة عندهم وذلك باطل ، لأن الشرط يقف عليه تأثير المؤثر ، فلا يمنع ( تكرار ) (٣) الشرط دون العلة ، ( فلا يحصل الحكم ) (٤) وإذا كان اللفظ لا يقتضي التكرار ، والشرط

__________________

١ ـ في نسخة : وجب.

٢ ـ المائدة / ٣٨.

٣ ـ في نسخة : تكرر.

٤ ـ في نسخة : فلا يحصل العلم الحكم.

٦٧

لا يقتضيه ، ( فمجموعهما ) (١) كذلك.

المسألة التاسعة : الأمر المقيد بالشرط منتف عند انتفاء الشرط خلافا للقاضي.

لنا : ان قول القائل : اعط زيدا درهما ان اكرمك ، جار مجرى قولنا :

الشرط في ( اعطائه ) (٢) اكرامك ، وفي الثاني ينتفي العطاء عند انتفاء الاكرام فكذلك في مسألتنا.

وأيضا : فان الشرط : هو ما ( يتوقف ) (٣) عليه الحكم ، فلو حصل بدونه لم يكن شرطا.

ولا حجة للمخالف في قوله تعالى : « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاءان أردن تحصنا » (٤) لأنه لما ذكر الاكراه شرط ارادة التحصن ليتحقق الاكراه [ فيها ].

المسألة العاشرة : إذا تكررت الاوامر ، فان اختلف المأمور به ، تعدد كقوله : صل صم. فان تماثلا : فاما أن يصح ( فيهما ) (٥) التزايد أو لا يصح ، فان صح : فاما أن يكون الثاني معطوفا أو لا يكون ، فهيهنا ثلاثة أقسام :

الاول : أن يصح فيه التزايد ولم يكن معطوفا ، فعند القاضي يفيد غير ما أفاده الاول ، الا أن تمنع العادة منه ، أو يكون الثاني معرفا كقولك : اسقني ماءا ... اسقني ماءا ، فانه لا يتكرر عادة ، فكذلك : صل ركعتين. صل الركعتين لأن الظاهر أن الالف واللام للعهد ، فإذا تجرد عن العادة والتعريف تعددا.

وتوقف أبو الحسين.

__________________

١ ـ في نسخة فبمجموعهما.

٢ ـ في نسخة : عطائه.

٣ ـ في بعض النسخ : يقف.

٤ ـ النور / ٣٣.

٥ ـ في نسخة : فيها.

٦٨

لنا : [ انه ] لو حمل الثاني على الاول ، لكان الثاني تكرارا أو تأكيدا وكلاهما خلاف الاصل.

الثاني : أن يكون الثاني معطوفا : فان لم يكن معرفا أفاد غير ما أفاده الاول كقوله : صل ركعتين وصل ركعتين. ( وان ) (١) كان الثاني معرفا كقوله : صل ركعتين وصل الركعتين ، يجب هيهنا التوقف ، لأن اللام للعهد ، والعطف يقتضي المغايرة ، فتعارضا.

الثالث : أن يكون مما لا يصح فيه التزايد : فان كانا عامين أو خاصين اتحدا سواءا كان بعطف أو بغير عطف ، [ و ] أما ان كان أحدهما عاما والاخر خاصا : فان كان الثاني معطوفا قال القاضي : لايدخل تحت الاول ، مراعاة لحكم العطف والاولى التوقف. وان كان الثاني غير معطوف كقوله : صم كل يوم. صم يوم الجمعة ، فان الثاني تأكيد قطعا ، وقال قوم بالتوقف.

المسألة الحادية عشر : تعليق الحكم على العدد لا يدل على نفي ما زاد عليه ولا ما نقص عنه ، من حيث اللفظ ، بل باعتبار زائد ، لأن الاعداد مختلفة فلم يجب اتفاقها في الحكم.

احتج الخصم بوجهين :

أحدهما : أنه لو لم يدل لم يكن لذكر العدد فائدة.

الثاني : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل عليه : « ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم » (٢) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لازيدن على السبعين ، فلولم يسبق إلى فهمه بأن ما زاد بخلافه ، لما قال ذلك.

وجواب الاول : انه يدل ( بطريق دليل ) (٣) الخطاب ، وسنبين ضعفه.

__________________

١ ـ في نسخة : فان

٢ ـ التوبة / ٨٠.

٣ ـ في نسخة : بدليل طريق ،

٦٩

وعن الثاني : لا نسلم أنه عقل ( من ) (١) اللفظ ، بل لأن الاصل جواز الغفران ، ونحن لا نأبى العلم بذلك ( بدليل ) (٢) آخر كما نعلم حظر ما زاد على الثمانين في القذف بدليل الاصل.

المسألة الثانية عشر : الحكم المعلق على الاسم لا يدل على [ نفي ] حكم ما عداه ، سواءا كان خبرا كقوله : زيد في الدار ، أو ايجابا كقوله : أكرم زيدا خلافا لأبي بكر الدقاق.

لنا : لو صح ذلك لما صح الاخبار عن ( الانسان ) (٣) بشيء الا بعد العلم بانتفائه عما عداه ، وهو باطل.

وأيضا : فكان يلزم أن يكفر الانسان بقوله : موسى رسول الله ، لأنه يتضمن نفي الرسالة عن غيره.

احتج : بأن تعليق الحكم على الاسم يقتضي فائدة ، ولا فائدة الا اختصاصه بالحكم.

وجوابه : منع المقدمة الاخيرة.

المسألة الثالثة عشر : تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفيه عما عداها نظرا إلى اللفظ ، ولا يمنع أن ( يستدل ) (٤) على ذلك : بالاصل ، أو بدليل آخر خلافا لمعظم أصحاب الشافعي ، وأبي عبد الله البصري.

لنا : لو دل لدل اما بلفظه ، أو بفحواه ومعناه ، والقسمان باطلان ، أما الملازمة فظاهرة ، وأما بطلان دلالته بلفظه : فانه ليس في اللفظ ذكر ما عدا الصفة

__________________

١ ـ في نسخة : عن ،

٢ ـ في نسخة : من دليل.

٣ ـ في نسخة : انسان.

٤ ـ في نسخة : نستدل.

٧٠

وأما الفحوى : فلا تدل الا بطريق التعليق واللزوم ، ولا لزوم بين تعلق الحكم عند صفة وانتفائه عند أخرى ( فانه ) (١) قد ورد معلقا على الصفة وانتفى عن غيرها كقوله : « في سائمة الغنم زكاة » ، وورد لامع انتفائه كقوله : « ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق » (٢) فيجعل حقيقة للقدر المشترك بينهما ، وهو ثبوته عند الصفة حسب ، صونا للكلام عن الاشتراك والمجاز.

احتج الخصم : بأنه لوثبت الحكم مع انتفاء الصفة لكان تعليقه على الصفة عريا عن الفائدة ، ويجري مجرى قولك : الانسان الاشقر لا يعلم الغيوب ، و : الاسمر إذا نام لا يبصر.

وجواب الاول : منع الملازمة ، وهذا لأن هيهنا فوائد غير ما ذكروه :

منها : اعلام السامع أن الحكم متناول للصفة ، لئلايتوهم خروجها [ عنه ] كقوله مثلا : « ولا تقتلوا أولادكم .. » الخ ، لأنه لولا اعتبار الخشية لامكن أن يتوهم أن القتل جائز معها ، فذكر ذلك ليعلم ثبوت التحريم عندها أيضا.

ومنها : أن تكون المصلحة تقتضي اعلام حكم الصفة بالنص ، وما عداها بالنظر والفحص.

وأما ( التمثيل بالاشقر والاسمر فلا نسلم أن الاستقباح جاء من حيث ) ذكرهما (٣) بل من حيث هو بيان للواضحات.

وأيضا : فما ذكروه معارض بقولنا : تجوز التضحية بالشاة العوراء فانه

__________________

١ ـ في نسخة كتبت كلمة ( الثاني ) بدل ( فانه ).

٢ ـ الاسراء / ٣١.

٣ ـ في بعض النسخ : ذكروا.

٧١

لا يدل على نفي ( الصحة ) (١) عن الصحيحة.

الفصل الثاني

في المأمور به ، وفيه مسائل :

[ المسألة ] الاولى : الأمر بالاشياء على طريق التخيير يفيد وجوب الكل على البدل ، وقال قوم : الواجب واحد لا بعينه ، وقال آخرون : الواجب واحد ، وهو يتعين باختيار المكلف.

ومعنى كون الكل واجبا : أنه لا يجوز الاخلال بجميعها ، ولا يجب الجمع بين اثنين منها ، فان كان الخصم يسلم ذلك ، فهو وفاق ، وان أنكره حصل الخلاف.

لنا : لو كان الواجب معينا لما خير المكلف ، والا لكان تخييرا بين الواجب وغيره.

لا يقال : يتعين باختيار المكلف.

لأنا نقول : الوجوب حاصل قبل الاختيار ، فالموصوف به قبل الاختيار اما الكل على البدل ، وهو مذهبنا ، أو البعض ، وذلك ينافي التخيير. وليست المسألة كثيرة الفائدة.

المسألة الثانية : الأمر يقتضي الاجزاء [ و ] نعني بذلك : سقوط التعبد عند الاتيان بالمأمور [ به ] وقال القاضي : ان معنى وصف العبادة بكونها مجزية : هو أنه لا يجب قضاؤها.

وهذا باطل ، لأن كثيرا من العبادات لا تقضى وان لم تكن مجزيه كصلاة الجمعة ، والعيدين إذا اختل بعض شرائط صحتها. ولأن القضاء يمكن تعليله

__________________

١ ـ في بعض النسخ : الاجزاء.

٧٢

بأن العبادة غير مجزية ، والعلة غير المعلول.

وانما قلنا ان الأمر يقتضى الاجزاء بهذا التفسير ، لأن وجوب المأمور به يدل على اختصاصه بالمصلحة ، فلو لم يكن الاتيان [ به ] على ذلك الوجه ( كافلا ) (١) ( بتحصيل ) (٢) المصلحة المطلوبة ، لما حصل الأمر [ به ].

لا يقال : الحجة التي حصل الوطء فيها يجب اتمامها ولا تجزي.

لأنا نقول : تجزى في البراءة من عهدة الأمر المتناول للمضي فيها ، ولا تجزي في سقوط القضاء.

المسألة الثالثة : الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده نطقا. وخالف في ذلك قوم.

لنا : أن أهل اللغة فرقوا بين صيغتي الأمر والنهي ، والفرق دليل على قطع الشركة.

حجة المخالف : ان الأمر بالشيء مريد له ، وارادته للشيء كراهية ضده.

وجوابه : منع الثانية.

وأما من جهة المعنى : فالامر بالشيء على وجه الوجوب يدل على كراهية تركه وضده ( إذا ) (٣) كان له ضد واحد ، لأن الواجب تركه قبيح الا أن هذا ليس من دلالة اللفظ في شيء.

المسألة الرابعة : ما لا يتم الواجب الا به : ان لم يتمكن المكلف من تحصيله لم يكن واجبا ، وان تمكن : فان توقف عليه الوجوب لم يجب ، وان توقف عليه الواجب لزم وذلك كنصب السلم لصعود السطح.

__________________

١ ـ في نسخة كافيا.

٢ ـ في نسخة : لتحصيل.

٣ ـ في نسخة : وان.

٧٣

لنا : ان الأمر مطلق ، والشرط مقدور ، فيجب ، والا لكان التكليف من دونه تكليفا ( بما ) (١) لا يطاق.

الفصل الثالث

في مباحث الأمر المؤقت ، وفيه مسألتان :

المسألة الاولى : الفعل : اما أن يزيد على الوقت ، ولا يجوز التعبد بايقاعه فيه ، أو يكون مساويا [ له ] كصوم يوم معين ، وهو جائز اجماعا ، أو يقصر عن الوقت كقوله تعالى : « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل » (٢) والاكثرون على جوازه. ومنع بعض الحنفية ذلك ، وقال بعضهم : الوجوب مختص بأول الوقت ، وقال آخرون : بآخره ، وقال ( ابو الحسين ) (٣) هو مراعى.

لنا : ان الوجوب معلق على الوقت ، فيجب أن يكون في كله ، والا لكان في بعضه ، وهو ترجيح من غير مرجح ، أو لا في شيء منه وهو باطل بالاجماع.

حجة المخالف : لو وجب في أول الوقت لقبح تركه فيه.

وجوابه : انا نقول : يترك إلى بدل ، وهو العزم عند قوم ، وعند آخرين : هو فعله بعد ذلك ، فلا يلزم قبح ( تركه ) (٤) ، كخصال الكفارة.

المسألة الثانية : إذا لم يفعل الموسع في أول الوقت ، لا يجب العزم ، وقال الشيخ « ره » : يجب العزم.

لنا : لو وجب العزم ، لسقط التكليف بالفعل في الثاني ، لأنه ان قام العزم

__________________

١ ـ في بعض النسخ : لما.

٢ ـ الاسراء / ٧٨.

٣ ـ في بعض النسخ : أبو الحسن.

٤ ـ في نسخة : لتركه.

٧٤

مقامه ، كفى في الاتيان بمقتضى الأمر ، فلو وجب في الثاني بذلك الأمر ، لزم أن يكون الأمر للتكرار ، وقد أبطلناه.

فرعان :

الاول : الأمر الموقت بزمان معين ، لا يقتضى فعله فيما بعده إذا عصى المكلف بتركه ، لأن الأمر لا يدل على ما عدا ذلك الوقت ، لا بمنطوقه ، ولا بمعناه.

الفرع الثاني : الأمر المطلق اذالم يفعله المكلف في أول وقت الامكان هل يجب الاتيان به في الثاني؟

قال من نفى الفور : نعم. واختلف القائلون بالفور على قولين.

احتج مسقطوه : بأن قوله : افعل ، يجري مجرى قوله : افعل في الان الثاني من الأمر ، ولو صرح بذلك ، لما وجب الاتيان به فيما بعد ، لما سلف.

احتج الموجب : بأن الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الاطلاق ، وذلك يوجب استمرار الامر.

الفصل الرابع

في المباحث المتعلقة بالمأمور ، وفيه مسألتان :

[ المسألة ] الاولى : إذا تناول الأمر جماعة. فاما على سبيل الجمع ويسمى فرض [ عين ، كقوله : « أقيموا الصلاة » (١) ، أو لا على سبيل الجمع ويسمى ] [ فرض ] كفاية ، والفرض فيه موقوف على العلم ، أو غلبة الظن. فان [ علم أو ] ظن قوم أن غيرهم يقوم به سقط عنهم ، وان علموا [ أو ] ظنوا ان غيرهم لا يقوم به وجب عليهم.

__________________

١ ـ البقرة / ٤٣.

٧٥

المسألة الثانية : الكفار مخاطبون بالعبادات ، وأنكر ذلك بعض الحنفية.

لنا : وجهان :

أحدهما : كل خطاب تناول الناس ، تناولهم ، كقوله : « يا أيها الناس اعبدوا » (١) وعارض الكفر لا يصلح معارضا ، لأنه يمكن ازالته.

الثاني : قوله تعالى : « ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين » (٢) وقوله : « وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة » (٣) ، ووجه الدلالة : توجيه الذم إليهم على ترك [ الصلاة و ] الزكاة ، والذم لا يتحقق مع عدم الوجوب.

لا يقال : الذم انما توجه بانضمام كونهم مشركين ، وبانضام التكذيب بيوم الدين.

لأنا نقول : الظاهر ( تعلق ) (٤) الذم بكل واحد من الخصال المذكورة.

الفصل الخامس

في مباحث النهي ، [ وفيه مسألتان ] :

المسألة الاولى : النهي : هو قول القائل لغيره. لا تفعل ، أو ( ما جرى ) (٥) مجراه ، على سبيل الاستعلاء ، مع كراهية المنهي عنه ، وتقريره ما مر.

وهو يقتضي التحريم :

____________

١ ـ البقرة / ٢١.

٢ ـ المدثر / ٤٢.

٣ ـ فصلت / ٦ ، ٧.

٤ ـ في نسخة : توجه.

٥ ـ في نسخة : أجرى.

٧٦

أما أولا : فلان العقلاء يستحسنون ذم من خالف مقتضى النهي ، إذا صدر ممن تجب طاعته.

وأما ثانيا : ـ وهو يخص مناهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ( لقوله ) (١) تعالى : « وما نهاكم عنه فانتهوا » (٢).

المسألة الثانية : النهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات ، لا في المعاملات ونعني بالفساد : عدم ترتب الاحكام ، كالاجزاء في العبادات ، وكانتقال الملك في البيع ، وحصول البينونة بالطلاق.

وانما قلنا ذلك : لأن النهي يقتضي كون ما تناوله مفسدة ، والامر يقتضي كونه مصلحة ، وأحدهما ضد الآخر ، فالآتي ( بالمنهي ) (٣) [ عنه ] لا يكون آتيا بالمأمور [ به ] ، ويلزم عدم خروجه عن عهدة الامر.

وأما في المعاملات : فانه لا يدل ، لأنه لو دل : [ لدل ] أما بالمطابقة ، أو ( الالتزام ) (٤) ، والقسمان باطلان ، أما المطابقة فظاهر.

وأما الالتزام : فلعدم اللزوم بين النهي و [ بين ] الفساد ، لأنه لو صرح ( بالنهي ) (٥) وأخبر بأن المخالفة ليست مفسدة ، لم يتناف ، وذلك يدل على عدم اللزوم.

احتج : بقوله عليه‌السلام : « من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد ».

__________________

١ ـ في نسخة : فقوله.

٢ ـ الحشر / ٧.

٣ ـ في نسخة : بالنهي.

٤ ـ في نسخة : بالالتزام.

٥ ـ في نسخة : بالمنهى.

٧٧

وأيضا : فان الصحابة كانت تحكم بفساد الحكم عند سماع النهي عنه.

وجواب الاول : لا نسلم أنه ادخل في الدين ما ليس منه ، وانما يكون ذلك باعتقاد كونه من الدين ، وأما ( أحكامه ) (١) فلا نسلم انها ليست من الدين.

وجواب الثاني : سلمنا أن الصحابة حكمت عنده ، لكن لابه ، يدل على ذلك حكمها في موضع آخر بالصحة مع سماع النهي ، كالنهي عن بيع حاضر لباد ، وتلقي الركبان.

__________________

١ ـ في نسخة : الاحكام.

٧٨

الباب الثالث

في العموم والخصوص

وفيه فصول :

٧٩
٨٠