معارج الأصول

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

معارج الأصول

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: محمد حسين الرضوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

بحيث إذا سئل عن لمية ذلك الحكم أتى به وبجميع أصوله التي ( يبتنى ) (١) عليها. وانما وجب ذلك ، لأن الفتوى مشروطة بالعلم بالحكم ، وما لم يكن عارفا بتلك الأمور لا يكون عالما به ، لأن الشك في احدى مقدمات الدليل (٢) أو في مقدمات مقدماته ، شك في الحكم ، ولا تجوز الفتوى مع الشك في الحكم.

[ و ] إذا تقرر هذا : فلا يجوز ( للمفتي ) (٣) أن يتعرض للفتوى حتى يثق من نفسه بذلك ، ولا يجوز للمستفتي أن يستفتيه حتى يعلم منه ذلك من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه اياه ، ولا يكتفي العامي بمشاهدة المفتي متصدرا ، ولا داعيا إلى نفسه ، ولا مدعيا ، ولا باقبال العامة عليه ، ولا اتصافه بالزهد والتورع ، فانه قد يكون غالطا في نفسه أو مغالطا.

وإذا ثبت ذلك : فان كان في البلد واحد بهذه الصفة تعين للفتوى ، وان كان أكثر : فان تساووا في العلم والعدالة جاز استفتاء كل منهم ، فان اختلفوا في الفتوى ـ والحال هذه ـ كان المستفتي مخيرا في العمل بقول أيهم شاء وان كان أحدهم أرجح في العلم والعدالة وجب العمل ( بفتواه ) (٤). وان اتفق اثنان أحدهما أعلم والاخر أكثر عدالة وورعا ، قدم الاعلم ، لأن الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر.

__________________

١ ـ في بعض النسخ : يبنى.

٢ ـ في نسخة اضافة : أو في مقدمات الدليل.

٣ ـ في نسخة : من المفتى.

٤ ـ في نسخة : بقوله.

٢٠١

تفريع

العالم إذا كان من أهل الاجتهاد وحصل له حكم الواقعة بنظر صحيح ، لم يجز له العدول إلى العمل بفتوى من هو أعلم [ منه ] ، لأنه عدول عما يعلم الى ما يظن ، وكذا ( ان ) (١) لم يجتهد ، لم يجز له الرجوع إلى قول الاعلم ، لأن تحصيل العلم ممكن في حقه.

أما إذا أشكل عليه طريق الواقعة جاز له الرجوع الى الاعلم ، لأنه بالنسبة إليه في تلك الواقعة كالعامي.

المسألة الرابعة : لا يجوز للعامي أن يفتي بما ينقله عن العلماء ، سواءا نقل عن حي أو ميت ، لأنه قول بما لا يعلم فكان حراما.

المسألة الخامسة : إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة ، ثم وقعت بعينها في وقت آخر ، [ فان ] كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى ، وان نسيه افتقر الى استئناف نظر ، فان أدى نظره إلى الاول فلا كلام ، وان خالفه وجب الفتوى بالأخير ، والاولى تعريف من استفتاه [ أولا ] ، لأنه عامل بقوله وقد رجع عنه ، فلو استمر لبقي عاملا بالفتوى من غير دليل ولا فتوى مفت.

الفصل الثاني

في مسائل مختلفة :

المسألة الاولى : اتفق أهل العدل على قبح التصرف فيما فيه مضرة خالية ( من ) (٢) نفع ، وكذا ما لا منفعة فيه ، وكذا ما علم وجه قبحه كالظلم.

____________

١ ـ في نسخة : إذا.

٢ ـ في بعض النسخ : عن.

٢٠٢

واختلفوا فيما عدا ذلك مما ينتفع به ولا يعلم كونه واجبا ولا مندوبا ، فقال قوم : انه على الحظر ، وهو مذهب طائفة منا وقال الآخرون : على الاباحة ، وهو اختيار المرتضى « ره » ، وتوقف آخرون فيه عقلا ، وأباحوا منها ما دل عليه الشرع ، وهو اختيار شيخنا المفيد ره.

احتج القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، فيكون قبيحا.

أجاب الآخرون بأنا لا نسلم أنه تصرف بغير اذن المالك ، وهذا لأن الأدلة التي نذكرها يلزم منها الاذن ، سلمنا أنه لم يأذن ، لكن كما لم يأذن لم يحظر ، ثم نقول : لا نسلم أن مال الغير يحرم التصرف فيه الا مع المنع ، أو مع مضرة تتوجه على المالك ، أو فوت مصلحة له ، يدل على ذلك أنا نستبيح الاستناد الى جدار الغير من غير اذنه ، وكذا نستضيء بضوء مصباحه ، ولا علة لذلك الا خلوه من غرض يقتضي المنع ، والاشياء بالنسبة إلى الله سبحانه تجري هذا المجري.

ثم ما ذكر تموه منقوض بالتنفس في الهواء فانه يستباح عقلا من غير توقف على اذن.

لا يقال : ذلك لمكان الضرورة ، لأنا نقول : لو كان كذلك لما جاز أن نستبيح منه الا ما يدفع الضرورة ، وليس كذلك ثم نقول : لو قبح منه الاقدام لأنه تصرف في مال الغير ، لقبح الاحجام ( لمثل ) (١) ذلك ، إذ تصرف في نفسه ـ اقداما ( أو ) (٢) احجاما ـ تصرف في ملك الغير ، فيلزم الجمع بين النقيضين.

احتج القائلون [ بالاباحة ] بوجوه :

__________________

١ ـ في نسخة : بمثل.

٢ ـ في نسخة : و.

٢٠٣

الاول : ان ذلك تحصيل لمنفعة خالية عن الضرر ، فتكون حسنه ، أما الاولى : فلان المالك سبحانه لا ينتفع ولا يستضر ولا ينقص ملكه شيء ، وأما المنتفع فلانا نتكلم على هذا التقدير ، وأما الثانية : فيدل عليها وجهان : الاول : أن مثل ذلك خال عن وجوه القبح ، والثاني : أن الاستظلال بجدار الغير يحسن من غير اذن مالكه ، ولا وجه لحسنه الا عدم استضرار المالك وانتفاع المستظل ، وهذا الوجه حاصل فيما ذكرنا [ ه ] فيجب أن يحسن.

لا يقال : هذا باطل بالربا والزنا وغير ذلك من المحرمات ، فان المالك لا يستضر بفعلها ، وهي نافعة للفاعل ، فلو كان وجها يقتضي الحسن لما قبح شيء منها.

لأنا نقول : ورود النهي عنها دليل على اشتمالها على مفسدة عائدة إلى المكلف تقتضي المنع ، وليس كذلك ما نحن فيه.

الوجه الثاني : لو لم تكن ( المشتهيات ) (١) على الاباحة لزم أن يكون تعالى فاعلا للقبيح ، لكن هذا اللازم محال ، وبيانه : ( انه ) (٢) بتقدير أن لا يكون مخلوقه للانتفاع : اما أن يكون في خلقها غرض حكمي ، واما أن لا يكون ، ويلزم من الثاني العبث ، وان كان : فاما النفع عائد إليه تعالى وهو محال ، واما الضرر عائد إلى غيره ، وهو قبيح ، لعدم الوجوه المقتضية لحسنه ، فتعين أن تكون للانتفاع.

ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون فيه غرض غير الانتفاع؟ وهو اما امتناع المكلف منه ، لتحصيل الثواب بمنع النفس عن تناوله ، أو ليستدل بها على الصانع سبحانه ، أوغير ذلك من الوجوه.

__________________

١ ـ في بعض النسخ : المشتبهات.

٢ ـ في نسخة : أن.

٢٠٤

فان قالوا : خلقها يحسن مع عدم التكليف.

كان لقائل أن يمنع ذلك. وكذلك ( ان قالوا ) : (١) يمكن الاستدلال على الصانع سبحانه من دونها بغيرها.

قلنا : العقل لا يمنع من ترادف الأدلة ولا يقبحه.

الوجه الثالث : قالوا قد علمنا حسن التنفس في الهواء من دون اذن المالك والاستظلال بجدار الغير والاستضاءة (٢) بمصابيحه ، والعلة في ذلك أنه لا ضرر فيه على المالك ولا على غيره ، إذ لا وجه يضاف إليه الجواز الا ( ذاك ) (٣) ولأن ذلك الحكم يدور مع هذه العلة وجودا وعدما ، فيجب أن يحسن التصرف فيما ذكرناه للاشتراك في الموجب.

الوجه الرابع : الاستدلال بالشرع على الاباحة ، وهو أمران : القرآن ، والاجماع.

أما القرآن : فقوله تعالى : « خلق لكم ما في الارض جميعا » (٤) وقوله تعالى : « قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق » (٥) وقوله : « احل لكم الطيبات » (٦).

وأما الاجماع : فلان أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر الى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الاذن فيها من الشرع أو [ لم ] يعلم ، ولا

__________________

١ ـ في نسخة : أن يقول.

٢ ـ في النسخ : الاستضواء.

٣ ـ في بعض النسخ : ذلك.

٤ ـ البقرة / ٢٩

٥ ـ الاعراف / ٣٢

٦ ـ المائدة / ٥.

٢٠٥

يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكل أن يعلم التنصيص على ( الاباحة ) (١) ويعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لاسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الاذن.

المسألة الثانية : إذا ثبت حكم في وقت ، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، هل يحكم ببقائه على ما كان؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دلالة ، كما يفتقر نفيه الى الدلالة.

حكي عن المفيد « ره » : أنه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه ، وهو المختار.

وقال المرتضى « ره » : لا يحكم بأحد الامرين الا لدلالة.

مثال ذلك : المتيمم إذا دخل في الصلاة ، فقد أجمعوا على المضي فيها ، فإذا رأى الماء في اثناء الصلاة ، هل يستمر على فعلها استصحابا للحال الاول؟ أم يستأنف الصلاة ( بوضوء ) (٢) فمن قال بالاستصحاب قال بالاول ، ومن ( اطرحه ) (٣) قال بالثاني.

لنا وجوه :

الاول : ان المقتضي للحكم الاول ثابت فيثبت الحكم ، والعارض لا يصلح ( رافعا ) (٤) له ، فيجب الحكم بثبوته ( في ) (٥) الثاني.

أما أن مقتضي الحكم الاول ثابت ، فلانا نتكلم على هذا التقدير.

____________

١ ـ في بعض النسخ : اباحته.

٢ ـ في بعض النسخ : لوضوء.

٣ ـ في نسخة : طرحه.

٤ ـ في نسخة : دافعا ، و ( له ) محذوفة من احدى النسخ.

٥ ـ في نسخة : على.

٢٠٦

وأما أن العارض لا يصلح رافعا ، فلان العارض انما هو احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم ، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كل واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن ( رافع ) (١).

الوجه الثاني : الثابت أولا قابل للثوبت ثانيا ـ والا لانقلب من الامكان الذاتي الى الاستحالة ـ فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم الا ( لمؤثر ) (٢) ، لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه الى الآخر ( لا ) (٣) لمؤثر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثر ، فيكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب.

الوجه الثالث : عمل الفقهاء باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، والموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف ، ( فيثبت ) (٤) العمل به.

أما الاولى : فكمن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، فانه يعمل على يقينه ، وكذلك بالعكس ومن تيقن طهارة ثوبه في حال ، بني على ذك حتى يعلم ( رافعها ) (٥) ومن ( شهد ) (٦) بشهادة بنى على بقائها حتى يعلم رافعها ، ومن غاب غيبة منقطعة ، [ حكم ] ببقاء أنكحته ، ولم تقسم أمواله ، وعزل نصيبه في المواريث ، وما ( ذاك ) (٧) [ الا ] لاستصحاب حال حياته.

__________________

١ ـ في نسخة : دافع.

٢ ـ في نسخة : بالمؤثر.

٣ ـ في بعض النسخ : الا.

٤ ـ في نسخة : فثبت.

٥ ـ في بعض النسخ : خلافها.

٦ ـ في نسخة : يشهد.

٧ ـ في نسخة : ذلك.

٢٠٧

وهذه العلة موجودة في مواضع الاستصحاب ، [ فيجب العمل به ].

الوجه الرابع : أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب ( بقاء ) (١) الحكم على ما تقتضيه البراءة الاصلية ، ولا معنى للاستصحاب الا هذا.

فان قال : ليس هذا استصحابا ، بل هو ابقاء الحكم على ما كان ، لا حكما بالاستصحاب.

قلنا : [ نحن ] نعني بالاستصحاب هذا القدر ، لا نعني به شيئا سوى ذلك.

احتج المانع :

بأن ذلك ( حكم ) (٢) بغير دليل ، فيكون باطلا.

أما انه حكم بغير دليل ، فلأن ثبوت الحكم بالدليل في وقت أو في حال لا يتناول ما عدا تلك الحال وذلك الزمان ، فلو حكم بذلك الحكم في الحال الثاني ، لكان حكما بغير دليل.

وأما أن الحكم بغير دليل باطل ، فبالاتفاق.

الوجه الثاني : لو كان الاستصحاب حجة ، لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم خروجه أن يقطع ببقائه فيها وكذا كان يلزم إذا علم أن زيدا حي ، [ ثم ] انقضت مدة ولا يعلم فيها موته ، أن يقطع ببقائه ، وكل ذلك باطل.

الوجه الثالث : استدل بعض الجمهور بأن العمل بالاستصحاب يلزم منه التناقض ، فيكون باطلا ، وذلك أن الاستدلال به كما يصح أن يكون حجة للمستدل ، يصح مثله لخصمه ، فانه إذا قال : الثابت قبل وجود الماء للمصلي المضي في صلاته ، فيثبت ذلك الحكم إذا وجد الماء ، كان لخصمه أن يقول :

__________________

١ ـ في نسخة : ابقاء.

٢ ـ في بعض النسخ : عمل.

٢٠٨

الثابت اشتغال ذمته بصلاة متيقنة ، فيجب أن يبقى الشغل ، ( أو ) (١) يقول : قبل الصلاة لو وجد الماء لما جاز [ له ] الدخول فيها بتيممه ، فكذلك بعد الدخول فيها.

والجواب عن الاول : أن نقول : قوله : ان ذلك عمل بغير حجة. ( قلنا ) : (٢) لا نسلم ، لأن الدليل دل على أن الثابت لا يرتفع الا برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه ، كان بقاء الثابت راجحا في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح لازم.

قوله في الوجه الثاني : لو كان الاستصحاب حجة ، لوجب القطع ببقاء ما يعلم الانسان وقوعه في الازمان المنقضية إذا لم يعلم له رافعا. قلنا : نحن لا ندعي القطع ، ولكن ندعي رحجان الاعتقاد لبقائه ، وذلك يكفي في العمل به.

قوله في الوجه الثالث : يلزم منه التناقض.

( لا نسلم ) (٣) ، إذ ليس كل موضع يستعمل فيه الاستصحاب يفرض فيه ذلك الفرض ، ووجود التعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث تسلم عن المعارض ، كما في أخبار الآحاد والقياس ، عند من يعمل بهما.

والذى نختاره نحن : أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم ، فان كان يقتضيه مطلقا ، وجب القضاء باستمرار الحكم ، كعقد النكاح مثلا ، فانه يوجب حل الوطء مطلقا ، فإذا وقع الخلاف في الالفاظ التي يقع بها الطلاق كقوله أنت خلية ، وبرية ، فان المستدل على [ أن ] الطلاق لا يقع ( بها ) (٤) لو قال : حل الوطء

__________________

١ ـ في نسخة : و.

٢ ـ في نسخة : قلت.

٣ ـ في نسخة : فلا نسلم.

٤ ـ في بعض النسخ : بهما.

٢٠٩

ثابت قبل النطق بهذه ، فيجب أن يكون ثابتا بعدها ، لكان استدلالا صحيحا ، لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أن الالفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيكون الحكم ثابتا ، عملا بالمقتضي.

لا يقال : المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنه باق ، فلم يثبت الحكم.

لأنا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت ، ( فلزم ) (١) دوام الحل ، نظرا الى وقوع المقتضي لا الى دوامه ، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع ، فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ، فليس ذلك عملا بغير دليل. وان كان يعني به أمرا وراء ذلك ، فنحن مضربون عنه.

المسألة الثالثة : النافي للحكم : ان قال : لا أعلم ، لم يكن عليه دليل ، لأن قوله لا يعد مذهبا ، وان قال : أعلم انتفاء الحكم ، كان عليه اقامة الدليل كما يلزم المثبت ، وسواء نفى حكما شرعيا أو عقليا ، ويدل على ذلك وجهان :

الاول : ان النافي جازم بالنفي فيكون مدعيا للعلم به ، فاما أن يكون علمه اضطرارا أو استدلالا ، والاول : باطل ، لأنا [ لا ] نعلم ذلك ، فتعين الثاني ويلزم من ذلك تعويله على مستنده ان كان معتقدا ، وابرازه ان كان مناظرا ، ليتحقق دعواه وليتمكن من تركيب الحجة على مناظره.

الثاني : [ لو لم يلزم ] النافي اقامة الدلالة ، لزم من ذلك ( التفصي ) (٢) من الأدلة في كل دعوى ، لكن ذلك باطل.

وبيان ذلك : ان المدعي لقدم العالم إذا طولب بالدلالة ، عدل عن هذا اللفظ ، بأن يقول : ليس العالم بحادث ، فيسقط عنه الدليل ، لكن لو صح ذلك له ، لامكن خصمه أن يقول : ليس العالم بقديم ، فيسقط عنه الدليل أيضا ، و

____________

١ ـ في نسخة : فيلزم.

٢ ـ في بعض النسخ : التقضى.

٢١٠

بطلان ذلك ظاهر.

احتج الخصم :

بأن ( النفي ) (١) عدم ، والعدم لا يفتقر الى الدلالة.

وبأن اثبات الاحكام موقوف على ثبوت الأدلة ، فيكون عدمها مستندا الى عدم الأدلة ، كما أن المعجز دلالة على النبوة ، وعدمها دليل على عدم النبوة ، ويؤيد ذلك قوله عليه‌السلام : « البينة على المدعي واليمين على ( من انكر ) (٢) ».

والجواب :

قوله : النفي عدم. قلنا : هذا صحيح ، لكن الجزم بذلك النفي هو المفتقر الى الدلالة.

قوله : اثبات الاحكام يفتقر الى الدلالة ، فيكفي في نفيها عدم الدلالة. قلنا : هذا محض الدعوى ، فما الدليل عليه؟ فان من علم دليل الثبوت جزم به ، ومن عدمه فانه يجوز ثبوت الحكم كما يجوز عدمه ، إذ عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول كما يدعيه.

قوله : عدم المعجز دليل على عدم النبوة. قلنا : لا نسلم ، فان من لا يعلم معجز النبي ، لا يجوز له الجزم بنفي ( نبوته ) (٣) ، أما إذا ادعى النبوة ولا معجز له ، فانا ننفي ( نبوته ) (٤) لا لعدم المعجز ، [ بل ] لعلمنا عقلا أنه لو كان نبيا لكان له معجز ، فنستدل بعدم اللازم على عدم الملزوم ، وذلك من الأدلة القاطعة ، فكان مستند الحكم بانتفاء ( نبوته ) (٥) إلى ذلك الدليل ، لا إلى مجرد عدم المعجز

____________

١ ـ في نسخة : المنع.

٢ ـ في نسخة : المنكر.

٣ و ٤ و ٥ ـ في نسخة : ثبوته.

٢١١

وكذا إذا حكمنا بانتفاء واقعة ، لو وقعت لعلمت ، مثل انكار مدينة قريبة لم يسمع ببنائها ، أو وقوع حادثة في ملأ ولم تسمع منهم ، فانا نحكم بانتفاء ذلك كله ، لأن ذلك مما لو كان لظهر ، فلما لم يظهر ، دل ذلك على عدمه.

وأما قوله عليه‌السلام : « واليمين على من أنكر » فانا نقول : لا نسلم أن القول قوله من غير حجة ، بل الحجة معه بتقدير عدم البينة من طرف المدعي ، وذلك انه إذا ادعى عليه عينا فانها تكون في يده ، واليد دلالة [ على ] الملك ، فكان الحكم باليد لا بعدم البينة بمجرده ، وان ادعى عليه دينا ، فالاصل براءة الذمم ، فهو مستدل بالاصل على أن ايجاب اليمين عليه يجرى مجرى الحجة في جنبه شرعا ، وذلك مما يدل على أنه لم يثبت قوله بعدم البينة ، إذ لو ثبت ثبوتا باتا [ تاما ] لما كلف [ اليمين ].

وإذا ثبت هذا ، فاعلم : أن الاصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية ، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا ، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الاصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا ، [ لكان ] عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، ولا يستمر (١) هذا الدليل الا ببيان مقدمتين :

احداهما : انه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ( نضبط ) (٢) طرق الاستدلالات الشرعية ، ونبين عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن ( نبين ) (٣) أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه احدى تلك الدلائل ، لأنه لو لم يكن عليه دلالة ، لزم التكليف [ بما لا طريق للمكلف الى

__________________

١ ـ كذا في النسخ ولعل الصحيح : ولا يتم.

٢ ـ في نسخة تضبط.

٣ ـ في نسخة : أن يتبين.

٢١٢

العلم به ، وهو تكليف ] بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك ( الأدلة ) (١) لما كانت أدلة الشرع منحصرة [ فيها ] ، لكن قد بينا انحصار الاحكام في تلك الطرق.

وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم. والله أعلم.

الفصل الثالث

( فيما ألحق ) (٢) بأدلة الاصول وليس منها ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : إذا اختلف الناس على أقوال ، وكان بعضها يدخل في بعض ـ كما اختلف في حد الخمر ، فقال قوم : ثمانون ، وآخرون : أربعون وفي دية اليهودي ، فقيل : كدية المسلم ، وقيل : ثمانون ، وقيل : على النصف وقيل : على الثلث ـ هل يكون الاخذ بالاقل حجة؟ حكم بذلك قوم ، وأنكر [ ه ] آخرون.

أما القائلون [ بذلك ] فقالوا : قد حصل الاجماع على وجوب الأقل ، والاجماع حجة ، واختلف في الزائد ، والبراءة الاصلية نافية له ، فيثبت الأقل بالاجماع ، ( وينفى ) (٣) الزائد بالاصل ، لأن التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية وقد بينا أن مع عدمها يكون العمل بالبراءة الاصلية [ لازما ].

لا يقال : الذمة مشغولة بشيء ، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمة ، وفي الأقل خلاف ، وبالاكثر تبرأ الذمة يقينا ، فيجب الاخذ به احتياطا لبراءة الذمة.

__________________

١ ـ في نسخة : الدلالة.

٢ ـ في نسخة : فيما يتعلق

٣ ـ في نسخة : وينتفى.

٢١٣

لأنا نقول : لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا ، لأن الاصل دال على خلوها ، فلا تشتغل الا مع قيام الدليل ، وقد ثبت اشتغالها بالاقل ، فلا يثبت اشتغالها بالاكثر ، [ والاشتغال بالاكثر ] مغاير للاشتغال المجرد ، ومغاير للاشتغال بالاقل فيكون الاشتغال بالاكثر والاشتغال المطلق منفيا بالاصل.

لا يقال : فان لم يثبت دلالة على الأكثر ، فانه من الممكن أن يكون هناك دليل ، ولا يلزم من عدم الظفر به عدمه ، فكان العمل بالاكثر أحوط.

لأنا نقول : ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الاصل ، لأنا قد بينا أن مع تقدير عدم الدلالة الشرعية يجب العمل بالبراءة الاصلية ، وذلك يرفع ما أوما [ نا ] إليه من الاحتمال.

المسألة الثانية : إذا اختلف ( الامة ) (١) على قولين ، هل يجب الاخذ بأخفهما حكما بتقدير عدم الدلالة على كل واحد منهما ـ؟ صار إلى ذلك قوم وقال آخرون : بالاثقل ، والكل باطل.

واحتج الاولون : بالنقل والعقل.

أما النقل : فقوله تعالى : « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » (٢) وقوله : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (٣) وقوله عليه‌السلام : « لا ضرر في الاسلام » وقوله : « بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ».

[ و ] أما العقل : فلان احتمال الاخف مساو لاحتمال الاثقل في عدم الدلالة والاخذ ( بالاثقل ) (٤) احتياط لحق الله سبحانه ، وهو غني لا يتضرر ، وبالاقل

__________________

١ ـ في بعض النسخ : الامامية.

٢ ـ البقرة / ١٨٥.

٣ ـ الحج / ٧٨.

٤ ـ في نسخة : بالاكثر.

٢١٤

تخفيف عن العبد ، وهو فقير يتضرر ، فيكون ( الترخيص ) (١) في حق من لا ( يتضرر ) (٢) أولى.

احتج القائلون بالاثقل بوجهين :

أحدهما : أن العمل بالاثقل أحوط ، فيجب الاخذ به.

الثاني : أن العمل بالاثقل افضل ، فيجب العمل به ، أما أنه أفضل : فلقوله عليه‌السلام : « أفضل العبادات أحمزها » وأما انه إذا كان أفضل وجب العمل به فلان الافضل خير ، فيجب الاستباق إليه بقوله : « فاستبقوا الخيرات » (٣).

والجواب :

أما الآيات ، فالجواب عن الاولى : لا نسلم أن ارادة اليسرلا تتناول الاثقل بل هو يسر [ كما أن الاخف يسر ] ، ثم لا يلزم من ارادة اليسر اختصاصها بالايسر.

وعن الثانية : لا نسلم أن الاثقل حرج ، فان قال : الحرج هو الضيق ، وهو يتناول الاثقل ، قلنا : لو تناول الاثقل لاجل ضيق المشقة ، لتناول الاخف فالاولى : صرف الضيق إلى ما يقصر عنه الطاقة ، [ فيكون متناولا للاثقل ، لأنه مما يدخل تحت الطاقة ].

والجواب عن الخبر الاول : أن نقول : نفي الضرر يتناول الجميع ، وهو متروك الظاهر ، فيحمل على ما وقع الاتفاق على تركه.

وعن الخبر الثاني : أن الخفيف والثقيل سهل سمح ، إذ كل واحد منهما دون طاقة العبد.

ثم الخبران معارضان بقوله عليه‌السلام : « الحق ثقيل مري ، والباطل خفيف وبي ».

__________________

١ ـ في نسخة : الترجيح.

٢ ـ في نسخة : يستضر.

٣ ـ البقرة / ١٤٨.

٢١٥

والجواب عن المعقول : أن نقول : قوله : ان الله سبحانه غني لا يتضرر فيكون الترخيص في حقوقه. قلنا : حقوق الله لا تنفك عن مصلحة عائدة الى العبد ، فيكون الترخيص فيها ترخيصا في حق المتضرر ، فعدوله حينئذ يكون تركا ( لمصلحة ) (١) ، وهو غير جائز.

ويمكن أن يجاب الآخرون بأن نقول : قوله : العمل بالاثقل أحوط. قلنا : سنبين أن الاحتياط دلالة ضعيفة ، بل باطلة.

قوله : العمل بالاثقل أفضل. قلنا : متى؟ إذا ثبت أنه مأمور [ به ] ، أو إذا لم يثبت ، ونحن فلا نسلم أنه مأمور [ به ] ، قوله عليه‌السلام : « أفضل العبادات أحمزها » قلنا : لا نسلم ( أنه ) (٢) عبادة ، وانما يثبت ذلك إذا ثبت أنه مأمور به.

المسألة الثالثة : العمل بالاحتياط غير لازم. وصار آخرون : إلى وجوبه وقال آخرون : مع اشتغال الذمة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب.

مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الاناء فقد نجس ، واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة؟ أم لابد من سبع ، وفيما عدا الولوغ ، هل يطهر بغسلة؟ أو لابد من ثلاث.

احتج القائلون بالاحتياط : بقوله عليه‌السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا ، فيجب أن لا يحكم ببراءتها الا بيقين ، ولا يقين الا مع الاحتياط.

والجواب عن الحديث : أن نقول : هو خبر واحد ( لا نعمل ) (٣) بمثله في

__________________

١ ـ في نسخة : لمصلحته.

٢ ـ في نسخة : أنها.

٣ ـ في نسخة : لا يعمل.

٢١٦

مسائل الاصول ، سلمنا [ ه ] ، لكن الزام المكلف بالاثقل مظنة الريبة ، لأنه الزام مشقة لم يدل الشرع عليها ، فيجب اطراحها بموجب الخبر.

والجواب عن الثاني : أن نقول : البراءة الاصلية ـ مع عدم الدلالة الناقلة ـ حجة ، وإذا كان التقدير [ تقدير ] عدم الدلالة الشرعية على الزيادة ، كان العمل بالاصل أولى ، وحينئذ لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا ، بل لا نسلم اشتغالها الا بما حصل الاتفاق عليه ، أو اشتغالها بأحد الامرين.

ويمكن أن يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الاناء ، واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن يؤخذ بما حصل الاجماع عليه في الطهارة ( ليزول ) (١) ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة.

المسألة الرابعة : شريعة من قبلنا هل هي حجة في شرعنا؟ قال قوم : نعم ما لم يثبت نسخ ذلك الحكم بعينه ، وأنكر الباقون ذلك ، وهو الحق.

لنا : وجوه.

الاول : قوله تعالى : « وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى » (٢).

الثاني : لو كان متعبدا بشرع غيره ، لكان ذلك الغير أفضل ، لأنه يكون تابعا لصاحب ذلك الشرع ، لكن ذلك باطل بالاتفاق.

الثالث : لو كان متعبدا بشرع غيره ، لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع لكن ذلك باطل ، لأنه لو وجب لفعله ، ولو فعله لاشتهر ، ولوجب على الصحابة والتابعين بعده والمسلمين إلى يومنا هذا متابعته عليه‌السلام على الخوض فيه ، ونحن نعلم من الدين خلاف ذلك.

الرابع : لو كان متعبدا بشرع من قبله ، لكان طريقه إلى ذلك اما الوحي أو

__________________

١ ـ في نسخة : فيزول.

٢ ـ النجم / ٣.

٢١٧

النقل [ و ] يلزم من الاول أن يكون شرعا له لا شرعا ليغره ، ومن الثاني التعويل على نقل اليهود ، وهو باطل ، لأنه ليس بمتواتر ، لما تطرق إليه من القدح المانع من افادة اليقين ، ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل لعدم الثقة.

واحتج الآخرون :

بقوله تعالى : « فبهديهم اقتده » (١) وبقوله : « ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا » (٢) وبقوله : « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا » (٣) وبقوله : « انا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين » (٤) وبقوله : « انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون » (٥).

وبأنه عليه‌السلام رجع في معرفة الرجم في الزنا إلى التوارة.

أجاب الاولون :

عن الآية الاولى : بانها تتضمن الأمر بالاقتداء بهديهم كلهم ، فلا يكون ذلك اشارة إلى شرعهم ، لأنه مختلف ، فيجب صرفه إلى ( ما اتفقوا ) (٦) عليه ، وهو دلائل العقائد العقلية ، دون الفروع الشرعية.

وعن الثانية : بأن ملة ابراهيم عليه‌السلام المراد بها العقليات ، دون الشرعيات يدل على ذلك قوله : « ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه » (٧) فلو

__________________

١ ـ الانعام / ٩٠.

٢ ـ النحل / ١٢٣.

٣ ـ الشورى / ١٣.

٤ ـ النساء / ١٦٣.

٥ ـ المائدة / ٤٤.

٦ ـ في نسخة : ما اتفق.

٧ ـ البقرة / ١٣٠.

٢١٨

أراد الشرعيات لما جاز نسخ شيء منها ، [ وقد نسخ كثير من شرعه ، فتعين أن المراد منه العقليات ].

وعن الآية الثالثة : أنه لا يلزم من وصية نوح بشرعنا ، أنه أمره به ، بل يحتمل أن يكون ( وصاته ) (١) به أمرا منه بقبوله عند ( انتهاء اعقابهم ) (٢) إلى زمانه عليه‌السلام ، أو وصاه به بمعنى أطلعه عليه وأمره بحفظه.

ولو سلمنا أن المراد أنه شرع لنا ما شرع لنوح ، لاحتمل أن يكون المراد به من الاستدلال بالمعقول على العقائد الدينية ، ولو لم يحتمل ذلك لم يبعد أن يتفق الشرعان ( ثم ) (٣) لا يكون شرعه حجة علينا من حيث ورد على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق الوحي ، فلا تكون شريعته شريعة لنا ، باعتبار ورودها عنه.

وعن الآية الرابعة : أن المساواة في الوحي لا تستلزم المساواة في الشرع.

وعن الآية الخامسة : ان ظاهرها يقتضي اشتراك الانبياء جميعا في الحكم بها ، وذلك غير مراد ، لأن ابراهيم ونوحا وادريس وآدم لم يحكموا بها ، لتقدمهم على نزولها ، فيكون المراد : أن الانبياء عليهم‌السلام يحكمون بصحة ورودها عن الله ، وأن فيها نورا وهدى ، ولا يلزم أن يكونوا متعبدين بالعمل بها ، كما أن كثيرا من آيات القرآن منسوخة وهي عندنا نور وهدى.

وأما رجوعه عليه‌السلام في ( تعرف ) (٤) حد الرجم [ في التوارة ] ، فلا نسلم أن مراجعته ( التوراة ) (٥) ليعرفه ، بل لم لا يجوز أن يكون ذلك لاقامة الحجة على

__________________

١ ـ في نسخة : وصاية.

٢ ـ في نسخة : انتهائهم.

٣ ـ في بعض النسخ : لم.

٤ ـ في نسخة : تعريف.

٥ ـ في نسخة : للتوراة.

٢١٩

من أنكر وجوده في التوراة؟!.

المسألة الخامسة : الاستقراء : هو الحكم على جملة بحكم ، لوجوده فيما اعتبر من جزئيات تلك الجملة ، ومثاله : أن تستقرئ الزنج ، فتجد ( كل موجود منهم ) (١) أسود ، فتحكم بالسواد على من لم تره كما حكمت على من رأيته. وحاصله التسوية من غير جامع ، ومثاله من الفقهيات : إذا اختلف في الوتر ، فنقول : هو مندوب ، لأنه لو كان واجبا لما جاز أن يصلى على الراحلة (٢) ، لكنه يصلى على الراحلة ، والمقدم مستفاد من الاستقراء إذ لا شيء من الواجب يصلى على الراحلة ، والاستثناء معلوم بالاجماع.

وهل مثل ذلك حجة في الاحكام؟ الحق أنه ليس بحجة ، لأن موارد الاحكام مختلفة ، فلا يلزم من اختصاصها ببعض الاعيان ، وجودها في الباقي ، [ ولأن ثبوت الحكم فيما وجد ، قد يكون مع وجوده في الباقي ] ، وقد يكون مع فقده ، ومع الاحتمال لا يجوز الحكم بأحدهما دون الآخر [ و ] لأن وجود الحكم في فرد من أفراد النوع ، لا يلزم منه وجوده في باقى الافراد ، فكذا وجوده فيما هو أكثر من الواحد.

فان قيل : مع كثرة الصور يغلب الظن أن الباقي مماثل لما وجد والعمل بالظن واجب.

قلنا : لا نسلم أنه يغلب على الظن [ ان الباقي مماثل لما وجد ] ، إذ لاتعلق بين ما رأيت وما لم تره ، ولا بين ما علمته من ذلك وما لم تعلمه ، ولو سلمنا حصول الظن ، لكن الظن الحاصل من غير امارة لا عبرة به ، وليس وجود الحكم فيما رأيته من أجزاء الجملة ، امارة لوجوده في الباقي ، سلمناه ، لكن

__________________

١ ـ في بعض النسخ : الموجود منهم.

٢ ـ اضاف في نسخة : إليه.

٢٢٠