معارج الأصول

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

معارج الأصول

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: محمد حسين الرضوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

الغلط ، لوجود الدلالة المانعة من ذلك في حقه.

والجواب عن الثاني : ان حكمه للانسان بشيء من حق أخيه ليس بغلط ، لأنه هو الحكم المأمور به شرعا ، سواء كان مطابقا للباطن أو لم يكن ، والاصابة ليس الا [ في ] العمل بالاوامر الشرعية على الوجه الذي عين له وهو موجود فيما يحكم به.

المسألة الثالثة : الاحكام اما أن تكون مستفادة من ظواهر النصوص المعلومة على القطع ، والمصيب فيها واحد ، والمخطئ لا يعذر ، وذلك ما يكون المعتقد فيه لا [ يتغير ] بتغير المصالح.

واما أن تفتقر إلى اجتهاد ونظر ، ويجوز اختلافه باختلاف المصالح ، فانه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه ، فان أخطأ لم يكن مأثوما ، ويدل على وضع الاثم عنه وجوه :

أحدها : انه مع استفراغ الوسع يتحقق العذر ، فلا يتحقق الاثم.

الثاني : أنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الاحكام الشرعية اختلافا شديدا حتى يفتى الواحد منهم بالشيء ويرجع عنه إلى غيره ، فلو لم يرتفع الاثم لعمهم الفسق وشملهم الاثم ، لأن القائل منهم بالقول اما أن يكون استفرغ وسعه [ في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن ، فان لم يكن ، تحقق الاثم ، وان استفرغ وسعه ] ثم لم يظفر ، ولم يعذر ، تحقق الاثم أيضا.

الثالث : الاحكام الشرعية تابعة للمصالح ، فجاز أن تختلف بالنسبة إلى المجتهدين ، كاستقبال القبلة ، فانه يلزم كل من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أن يستقبل تلك الجهة ـ إذ لم يكن له طريق إلى العلم ـ ثم تكون الصلوات مجزية لكل واحد منهم ، وان اختلفت الجهات.

فان قيل : لا نسلم أن مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم ، و

١٨١

ذلك لأن الواقعة لابد فيها من حكم شرعى ، ولابد من نصب دلالة على ذلك الحكم ، فلو لم يكن للمكلف طريق إلى العلم بها ، ( لكان ) (١) نصبها عبثا ( و ) (٢) لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ الوسع ، وذلك تكليف بما لا يطاق.

والجواب : قوله : [ و ] لابد من نصب دلالة. قلنا : [ مسلم ] ، لكن ما المانع أن يكون فرض المكلف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها ، ومع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لاذلك الحكم ، ومثاله : جهة القبلة فان مع العلم بها يجب التوجه ، ومع عدم العلم [ يكون ] فرضه التوجه إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلة ، وكذلك العمل بالبينة عند ظهور العدالة و ( خفاء ) (٣) الفسق ، [ ولو ظهر ] فسقها لوجب اطراحها ، فما المانع أن يكون الأدلة التي وقع فيها النزاع كذلك؟ ألا ترى أن العموم يخص مع وجود المخصص ، ويعمل بعمومه مع عدم المخصص؟!

الفصل الثاني

في القياس ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : القياس في الوضع : هو المماثلة.

وفى الاصطلاح : عبارة عن الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم

__________________

١ ـ في نسخة : كان.

٢ ـ في نسخة : أو.

٣ ـ في نسخة : أخفاء.

١٨٢

آخر ، لتساويهما في علة الحكم.

فموضع الحكم المتفق عليه يسمى : أصلا.

وموضع الحكم المختلف فيه يسمى : فرعا.

والعلة : هي الجامع الموجب لاثبات مثل حكم الاصل في الفرع ، فان كانت العلة معلومة ، ولزوم الحكم لها معلوما من حيث هي ، كانت النتيجة علمية ، ولا نزاع في كون مثل ذلك دليلا ، وان كانت العلة مظنونة ، أو كانت معلومة ، لكن لزوم الحكم لها (١) ـ خارجا عن موضع الوفاق ـ مظنونا ، كانت النتيجة ظنية ، وهل هو دليل في الشرعيات؟ فيه خلاف.

المسألة الثانية : النص على علة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت الحكم ان ثبتت العلة ، كقوله : الزنا يوجب الحد ، والسرقة توجب القطع. أما إذا حكم في شيء بحكم ثم نص على علته فيه : فان نص مع ذلك على تعديته وجب ، وان لم ينص ، لم يجب تعدية الحكم الا مع القول بكون القياس حجة ، مثاله : إذا قال : الخمر حرام لانها مسكرة ، فانه يحتمل أن يكون [ التحريم ] معللا [ بالاسكار مطلقا ، ويحتمل أن يكون معللا ] باسكار الخمر ، ومع الاحتمال لا يعلم وجوب التعدية.

المسألة الثالثة : من الناس من منع من التعبد بالقياس عقلا ، وأكثرهم قالوا بجوازه.

احتج المانع بوجوه :

أحدها : ان العمل [ بالقياس ] اقدام على ما لا يؤمن كونه مفسدة ، فيكون قبيحا ، كالاقدام على ما يعلم كونه مفسدة.

الثاني : ان القياس موجب للظن مع امكان العمل بالعلم ، فيكون باطلا.

__________________

١ ـ زاد في نسخة : كان.

١٨٣

الثالث : ان عمومات القرآن والسنة المتواترة كافلة بتحصيل الاحكام الشرعية ، والقياس : ان طابقها فلا حاجة إليه ، وان نافاها لم يجز العمل به.

[ و ] احتج شيخنا المفيد « ره » لذلك [ أيضا ] بأنه لا سبيل إلى علة الحكم في الاصل ، فلا سبيل إلى القياس ، أما الاولى : فلان العلة اما أن تعلم بطريق علمي أو ظني ، والقسمان باطلان أما العلم فظاهر ، وأما الظن فلانه لاحكم له الا عن امارة ، والامارة مفقودة ، ومع عدم الوقوف على علة الحكم تستحيل تعديته.

والجواب عن الاول : ان الامن [ من ] المفسدة يحصل بتقدير وجود الدلالة الشرعية ، كما في غيره من الأمور المظنونة.

والجواب عن الثاني : انا لا نستعمل القياس في موضع يكون العلم بالحكم ممكنا ، بل في موضع يفقد العلم [ بالحكم ].

و [ الجواب ] عن الثالث : لا نسلم أن عمومات القرآن كافلة بالاحكام ، فان في مسائل الديات والمواريث والبيوعات وغيرها ، ما يعلم خروجه عن مدلولات العموم.

والجواب عن احتجاج المفيد أن نقول : لا نسلم أنه لا سبيل إلى تحصيل علة الحكم.

قوله : اما أن يعلم بطريق علمي أو ظنى. قلنا : لم لا يجوز أن يكون علميا؟ كما إذا نص الشارع على العلة ، سلمنا أنها لا تكون علمية ، فلم لا تكون ظنية؟!.

قوله : الظن لا حكم له الا عن امارة. قلنا : سلمنا ذلك ، والامارة قد تحصل بالطرق التي أشار إليها مثبتوا القياس ، كالدوران والسبر ، فانه مهما ثبت الحكم عند شيء ، وانتفى عند انتفائه ، كان ذلك امارة دالة على التعليل ،

١٨٤

وكذلك إذا ( عددت ) (١) أوصاف محل الوفا ، وأبطلت الا قسما واحدا ، غلب على الظن أنه علة الحكم ، وذلك كاف في حصول الظن أن الحكم معلل بتلك العلة.

المسألة الرابعة : الجمع بين الاصل والفرع قد يكون بعدم الفارق ، ويسمى : تنقيح المناط. فان علمت المساواة من كل وجه ، جاز تعدية الحكم إلى المساوي ، وان علم الامتياز أو جوز ، لو تجز التعدية الا مع النص على ذلك ، لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية ، وعدم ما يدل على التعدية.

وقد يكون الجمع بعلة موجودة في الاصل والفرع ، فيغلب على الظن ثبوت الحكم في الفرع ، ولا يجوز تعدية الحكم ـ والحال هذه ـ بما ( سندل ) (٢) عليه.

فان نص الشارع على العلة ، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية الحكم ، وكان ذلك برهانا.

ولنفرض أمثلة توقف ( منها ) (٣) على التحقيق :

الاول : قوله عليه‌السلام ـ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل ـ : « أينقص إذا جف؟ فقيل : نعم ، ( فقال ) (٤) : لا ، اذن » فقد علل التحريم بنقصانه عند الجفاف ، وشاهد الحال ( يقضى ) (٥) أنه لا اعتبار بما عدا تلك العلة من

__________________

١ ـ في بعض النسخ : عدت.

٢ ـ في نسخة : يستدل.

٣ ـ في نسخة : بها

٤ ـ في نسخة : قال.

٥ ـ في نسخة : يقتضى

١٨٥

أوصاف الاصل ، فكأنه نص على أن كل ما نقص بعد الجفاف من الربويات ، لا يجوز بيعه مثلا بمثل.

ويمكن التوقف هنا ، فان من المحتمل أن يكون النقصان موجبا للمنع من البيع في الرطب بالتمر خاصة ، لجواز اشتماله على ما يوجب اختصاص النهى. غاية ما في الباب أن ذلك لا يعلم ، لكن عدم العلم بالشيء لا يدل على انتفائه في نفس الامر.

الثاني : انه إذا قال : وطأت عامدا في شهر رمضان ، فقال : عليك الكفارة أو قال : ملكت عشرين دينارا وحال عليها الحول ، فقال : عليك الزكاة ، علم أن الحكم متعلق بذلك ، ولا اعتبار بأوصاف السائل ، بل يحكم بأن كل من اتفق له ذلك ، ثبت له ذلك الحكم.

الثالث : إذا حكم في واقعة وعلم بشاهد الحال أن الحكم فيها باعتبارها لا باعتبار محلها ، عدي الحكم ( لما روى ) (١) أن عليا عليه‌السلام قضى في دابة تنازعها اثنان ، وأقاما البينة : أنها لمن شهد له بالنتاج ، فلا يقصر الحكم على الدابة ، بل يعدى إلى كل ما حصل فيه هذا المعنى.

المسألة الخامسة : ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا ، وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر على معارضة.

ويمكن أن يحتج لذلك : بأن الحق في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعين أن يعمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ،

__________________

١ ـ في نسخة : كما روى.

١٨٦

فلابد ( في ) (١) العمل بأحدهما من مرجح ، ( والقياس مما يصلح ) (٢) أن يكون مرجحا ، لحصول الظن به فتعين العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أن القياس مطرح في الشرع.

لأنا نقول : بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين على الآخر ، وهذا لأن فائدة كونه مرجحا كونه ( دافعا ) (٣) للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، ويكون العمل به ، لا بذلك القياس ، وفي ذلك نظر.

المسألة السادسة : قال شيخنا المفيد « ره » : « خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضى بالنظر فيه (٤) الى العلم ، وربما يكون ذلك اجماعا أو شاهدا من عقل ، أو حاكما من قياس ».

فان عنى بالقياس البرهان ، فلا اشكال ، وان عنى القياس الفقهي ، فموضع النظر ، لأن الخبر بتقدير أن لا يكون حجة ، فمع انضياف ذلك القياس الفقهي [ ان ] صار حجة : فاما لكونه خبرا ، وذلك نقض لما يذهب إليه من طرح العمل بالخبر ، وان كان بالقياس ، لزم منه اثبات حكم شرعى بالقياس الفقهي ، وهو باطل ، إذ لا فرق بين أن يثبت به الحكم أو الدلالة الدالة على الحكم.

المسألة السابعة : القائلون بجواز التعبد بالقياس عقلا ، منهم من يقول : ورد التعبد به ، وهم الأكثر ، وأطبق أصحابنا على المنع من ذلك الا شاذا [ منهم ].

__________________

١ ـ في نسخة : من

٢ ـ في نسخة : فالقياس ما يصلح

٣ ـ في نسخة : رافعا

٤ ـ اضاف في نسخة : دليل

١٨٧

لنا وجوه :

الاول : ان العمل بالقياس عمل بالظن ، والعمل بالظن غير جائز ، أما الاولى فظاهرة. و [ أما ] الثانية : فبقوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (١) وبقوله « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » (٢) وبقوله : « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » (٣).

لا يقال : مع وجود الدلالة عليه ، لا يكون عملا بالمظنون ، بل بالمقطوع به ، كالعمل بالشاهدين والحكم ( بالارش ) (٤) واستقبال القبلة.

لأنا نقول : وجد المنع فوجب طرده ، فإذا خرج ما أشرتم إليه وجب تناوله لما بقي ، عملا بمقتضى الدليل ، وسنبطل ما يزعمون أنه دليل على العمل به ، فيبقى ما ذكرناه من الدليل سليما عن المعارض.

الثاني : أجمعت الامامية على ترك العمل به ، ونقل عن أهل البيت عليهم‌السلام المنع منه متواترا نقلا ينقطع به العذر.

الثالث : لو تعبدنا بالعمل به لوجدت الدلالة عليه ، لكن الدلالة مفقودة ، فالعمل به غير جائز.

أما الملازمة : فلان التكليف يستدعي وجود دلالة ، والا لكان التكليف به ـ من دون دلالة [ عليه ] ـ تكليفا بما لا سبيل إلى العلم به ، وهو تكليف بالمحال.

وأما بطلان [ اللازم ] : فبالإستقراء.

الرابع : لو ورد التعبد به ، لاشتهر ذلك بين أهل الشرع ، لكن ذلك

__________________

١ ـ الاسراء / ٣٦

٢ ـ يونس / ٣٦

٣ ـ البقرة / ١٦٩

٤ ـ في نسخة : بالاروش.

١٨٨

باطل.

أما الملازمة : فلان الاستدلال به مما يعم ، والوقائع التي تستدرك بالقياس كثيرة عندهم ، والعادة قاضية بأن مثل ذلك مما يشتهر العلم به ، فلما لم يشتهر دل على بطلانه.

لا يقال : قد اشتهر ذلك بين الصحابة حتى أن خصومكم ( تدعي ) (١) الاجماع عليه.

لأنا نقول : لو كان كذلك لما اختص الخصم بعلمه دوننا ، لما ذكرناه من عموم البلوى به ، وزوال الاغراض الباعثة على اخفائه.

[ و ] احتج بعض أصحابنا [ أيضا ] : بأن القول بورود التعبد به مع بطلان الحجج التي ذكرها الخصم مما لا يجتمعان ، والثابت بطلانها ، فلا يكون التعبد به ثابتا.

بيان أنهما لا يجتمعان : أن القائل بكونه حجة يتمسك في ذلك بالوجوه التي يذكرونها ، فهو يقول : انها حق والمنكر له يبطلها ويمنع من كونه حجة فالقول بكونه حجة مع أن تلك الحجج باطلة ، قول ليس لاحد ، فيكون منفيا.

لا يقال : نحن نجوز أن يكون غير ما ذكر دليلا على كون القياس حجة ، فلا يلزم من القول ببطلان هذه الحجج بطلان القياس.

لأنا نقول : مع القول بكونه حجة وتجويز وجود حجة لم يذهب ذاهب إلى القول ببطلان هذه الحجج المذكورة.

واحتج الجمهور على وقوع التعبد به بوجوه معقولة ومنقولة.

أما المعقول : فقالوا : القياس يفيد الظن ، والعمل بالظن واجب. أما افادة الظن فظاهرة ، وأما [ أن ] العمل بالظن واجب ، فلما ثبت من أن التحرز

__________________

١ ـ في نسخة : يدعون.

١٨٩

من الضرر المظنون واجب كالمعلوم.

وأما المنقول : ( فوجوه ) (١) :

الاول : قالوا : أجمعت الصحابة على العمل بالقياس ، فيكون حجة.

أما أن الصحابة عملت به ، فلان بعض الصحابة عمل به ، ولم يظهر من الباقين انكار [ ه ] ، وقد بينا أن مثل ذلك حجة ، فيما سلف.

أما أن بعض الصحابة عمل به فمن وجهين :

أحدهما : أن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة ، وليس تمسكهم فيها بالنص ، فتعين أنهم عولوا على الاجتهاد

الثاني : انهم استدلوا في كثير من المسائل بالقياس وأشاروا إلى التشبيه بين المسائل ، كما قال ابن عباس : « ألا يتق الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أب الاب أبا ». وما روي من قول عمر لأبي موسى : « وقس الأمور برأيك ». وما روى عنه أنه قضى في زوج ، وأم ، واخوة لام ، وأخوة لاب وام أن للام : السدس ، وللزوج : النصف ، وللاخوة من الام : الثلث ، فقال الباقون : « هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة؟! » فشرك بينهم ، وغير ذلك من المسائل.

وأما أن الباقين لم ينكروا ، فلانه لو حصل ذلك لظهر ، لأن القياس من الاصول التي لو وقعت فيها المناكرة لظهرت.

وأما أن مثل ذلك اجماع ، فلان سكوتهم لا يحتمل الا الرضا به ، لما عرف من تحرج الصحابة في انكار الباطل والمنع من العمل به.

الوجه الثاني : قوله عليه‌السلام لمعاذ وأبي موسى : « بم تقضيان؟ قالا : إذا لم

__________________

١ ـ في نسخة : فلوجوه.

١٩٠

نجد الحكم ( في ) (١) الكتاب والسنة ، نقيس الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به. فقال : أصبتما ». وقوله عليه‌السلام لابن مسعود : « اجتهد برأيك ».

الوجه الثالث : نبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على القياس ، وذلك اذن في العمل به ، أما تنبيهه فبقوله لعمر ـ وقد سأله عن القبلة ـ : « لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟! » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للخثعمية : « أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزي؟ فقالت : نعم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فدين الله أحق أن يقضى ».

الوجه الرابع : قوله تعالى : « فاعتبروا يا أولى الابصار » (٢) والاستدلال بهذه الآية ضعيف.

والجواب عن الاول : قوله : العمل بالظن واجب. قلنا : متى؟ إذا أمكن العلم ، أو [ إذا ] لم يمكن ، ونحن قادرون على تحصيل الاحكام من ظواهر النصوص المعلومة ، سلمنا أنه لا طريق الهيا الا بالقياس ، لكن لا نسلم وجوب العمل بالظن ، إذ لو وجب ذلك ، لوجب العمل بقول الشاهد الواحد ، لا بل كان يجب العمل بقول المدعى بمجرده إذا غلب على ظن الحاكم صدقه ، حتى يمعل بقول مدعى النبوة من دون المعجز.

لا يقال : منعت الأدلة من العمل بما ذكرته.

لأنا نقول : لو كان الظن وجها لوجوب العمل ، لاطرد ذلك ، كما أن رد الوديعة لما كان وجها موجبا لم يختلف وجوب الفعل الذي يقع عليه ، [ على ] أن الدلالة قد منعت من ذلك ، وهو قوله تعالى : « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » (٣).

__________________

١ ـ في بعض النسخ : من.

٢ ـ الحشر / ٢.

٣ ـ البقرة / ١٦٩.

١٩١

وأما الجواب عن المنقول فنقول : لا نسلم أن الصحابة عملت به ، قوله : عمل بعض ولم ينكر الباقون ، قلنا : لا نسلم أن بعضا عمل ، قوله : اختلاف الصحابة مع استبعاد أن يكون مستندهم [ النص دليل على العمل. قلنا : لم لا يجوز أن يكون مستندهم ] النصوص؟! والاستبعاد الذي ذكر تموه لا يفيد اليقين قوله : استدلوا على كثير من المسائل بالقياس. قلنا : هذا منقول بطريق الآحاد فلا يثمر العلم ، سلمنا [ صحة ] نقلها ، لكن لا نسلم أنهم استندوا في ذلك إلى القياس ، وان كان معنى القياس فيه موجودا.

أما ( قصة ) (١) ابن عباس فانه يحتمل أنه رأى ابن الابن يسمى ابنا ، وكذلك أب الاب يسمى أبا ، ( فألزمه ) (٢) التسوية ظنا أنه انما عمل ( في ) (٣) أحدهما بوقوع الاسم عليه ، والاخر مثله في تناول اللفظ ، وليس ذلك قياسا.

[ وأما ] قول عمر : « قس الأمور برأيك » فغاية ما أمره بالمقايسة ، فجائز أن يكون أراد التسوية في مدلولات الالفاظ.

وأما ( الشركة ) (٤) : فلا نسلم أن الاخوة للاب والام استدلوا بالقياس ، بل بطريق أن ولد الام يستحقون الثلث ، ومن كان من ولد الاب والام فهو من ولد الام.

قوله : لو انكر الباقون لظهر. قلنا : أولا لا نسلم أن السكوت دليل الرضا فانه يحتمل وجوها كثيرة غير ذلك ، وقد ذكر [ نا ] ذلك في باب الاجماع ، سلمنا أنه يدل على الرضا ، لكن لا نسلم أنهم سكتوا ، ولم لا يجوز أن يكونوا

__________________

١ ـ في نسخة : قضية.

٢ ـ في نسخة : لزمه.

٣ ـ في نسخة : من ، وفي أخرى : بأحدهما.

٤ ـ في نسخة : المشتركة.

١٩٢

أنكروا ذلك ، قوله : لو كان لنقل. قلنا : لا نسلم ذلك ، سلمنا [ ه ] لكن لا نسلم أنه يجب استمرار النقل حتى يتصل بنا ، ثم نقول : يجب أن ينقل ذلك متواترا أو آحادا ، الاول ممنوع ، والثاني مسلم ، وقد نقل الانكار في مواضع :

منها : ما روي عن أبى بكر أنه قال : « أي سماء تظلني؟! وأي أرض تقلني؟! إذا قلت في كتاب الله برأيي ».

وعن عمر أنه قال : « فان جاءك ما ليس في الكتاب والسنة ، فاقض بما أجمع عليه أهل العلم ، فان لم تجد فلا عليك أن لا تقضي ».

وعن ابن عباس : « تتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم ».

وقال : إذا قلتم في دين الله بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله ، وحرمتم كثيرا مما أحل الله ».

والجواب عن خبر أبي موسى ومعاذ أن نقول : هو خبر واحد ، لا يجوز العمل به في مسألة علمية ، ثم هو مطعون فيه بوجوه : منها : أنه مرسل ، ومنها : أن بعض المحدثين روى أنه لما قال « اجتهد » قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « اكتب [ كتابا ] إلى ، أكتب اليك ».

ثم نقول : لا نسلم أن قوله : « [ أجتهد ] برأيي » (١) اشارة إلى القياس ، بل كما يحتمل ذلك ، يحتمل أنه أراد الاجتهاد في العمل بدلالة الاصل ، ( وبدلالة ) (٢) الاحتياط ، وغير ذلك من وجوه الاجتهاد ، ومع الاحتمال يجب التوقف.

والجواب عن تنبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على القياس أن نقول : هي أخبار آحاد لا توجب العمل في مسألة علمية ، على أنا نطالب بصحتها ، ولو سلمناها [ لما ]

__________________

١ ـ في نسخة : اجتهد برأيك.

٢ ـ في بعض النسخ : ودلالة.

١٩٣

كان ذلك أمرا بالقياس ، لأن التشبيه لا يقتضي تعدي الحكم ، كما لو قال : عبدى ( سالم ) حر لأنه حبشي ، لم يغلب على الظن أنه يريد عتق كل حبشي له.

وأما الآية : فبعيدة عن الدلالة على مرادهم ، لأن ظاهرها الأمر بالاتعاظ فأين ذلك من قياس الفرع على الاصل؟!.

١٩٤

الباب العاشر

وهى خاتمة الكتاب

في فصول مختلفة :

١٩٥
١٩٦

الفصل الاول

في المفتي والمستفتي ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الاحكام الشرعية ، وقال الجبائي : يجوز ذلك في مسائل الاجتهاد ، دون ما عليه دلالة ( قطعية ) (١) ومنع بعض المعتزلة ذلك في الموضعين.

لنا : اتفاق علماء ( الاعصار ) (٢) على الاذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أن اجماع أهل كل عصر حجة.

الثاني : لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه ، لكان ذلك اما قبل وقوع الحادثة أو عندها ، والقسمان باطلان ، أما قبلها فمنفي بالاجماع ، ولأنه يؤدي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك ، فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه ، وأما عند نزول الواقعة فذلك متعذر ، لاستحالة اتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين.

لا يقال : هذا لازم في المسائل العقلية الاعتقادية ، مع انه لا يسوغ فيها التقليد.

__________________

١ ـ في بعض النسخ : قاطعة.

٢ ـ في نسخة : الامصار.

١٩٧

لأنا نقول : تلك حصولها سهل بأوائل الأدلة ، وهي عقائد مضبوطة ، وليس كذلك الفقه وحوادثه ، لانتشارها ، وانفراد كل مسألة منها بدليل [ على ] حياله.

واحتجوا لذلك أيضا : بقوله : « فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون » (١)

ويمكن أن يقال : سلمنا وجوب السؤال ، ولكن لا نسلم وجوب العمل.

واحتجوا أيضا : بقوله تعالى : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون » (٢).

ولقائل أن يقول : الانذار مما يوجب الحذر لكن قد يكون باعثا على النظر في الأدلة ، فلم لا يجوز أن يكون هو المراد؟!

واحتج المانعون بوجوه :

الاول : قوله تعالى : « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » (٣) ، و « لا تقف ما ليس لك به علم » (٤) ، و : « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » (٥)

وثانيها : أنه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة ، فيكون قبيحا ، لأن المفتي جائز الخطأ ، فكل ما يفتي به يجوز أن يكون مخطئا فيه ، فيكون الاقدام على العمل ، على ما لا يؤمن كونه مفسدة ، وقبح ذلك ظاهر.

وثالثها : لو جاز التقليد في الشرعيات ، لجاز في ( العقليات ) (٦) ، والثاني

__________________

١ ـ الانبياء / ٧.

٢ ـ التوبة / ١٢٢.

٣ ـ البقرة / ١٦٩.

٤ ـ الاسراء / ٣٦.

٥ ـ يونس / ٣٦.

٦ ـ في نسخة : القطعيات.

١٩٨

محال ، ( فالأول ) (١) مثله.

والجواب عن الآيات أن نقول : خص منها العمل بشهادة الشاهدين ، واستقبال [ جهة ] القبلة مع الظن عند عدم العلم ، والظن بأروش الجنايات وقيم المتلفات ، وانما خص لوجود الدلالة ، كذا هنا.

وعن الثاني : أن الامن من المفسدة ، بما أشرنا إليه من الدلالة الدالة على جواز العمل بالفتوى.

وعن الثالث : بالفرق بين الامرين بتشعب مسائل الفقه وكثرة أدلتها ، وسهولة أدلة الكلام وقلتها ، وبأن العقليات الغرض فيها الاعتقاد ، فلا يبنى الا على العلم ، والشرعيات يجوز التعويل فيها على الظنون عند وجود الدلائل الدالة على اشتمالها على المصلحة.

المسألة الثانية : لا يجوز تقليد العلماء في اصول العقائد ، خلافا للحشوية.

ويدل على ذلك وجوه :

أحدها : قوله تعالى : « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » (٢).

الثاني : ان التقليد : قبول قول الغير من غير حجة ، فيكون جزما في غير موضعه ، وهو قبيح عقلا.

الثالث : لو جاز تقليد المحق لجاز تقليد المبطل ، لأنه اما أن يكون تقليد المحق مشروطا بالعلم بكونه حقا أو لم يكن ، ويلزم من الاول طلب العلم ( وأن لا ) (٣) يكون تقليدا » ، وان جاز تقليد المحق [ من ] دون العلم بكونه حقا لزم

__________________

١ ـ في نسخة : والاول.

٢ ـ البقرة / ١٦٩.

٣ ـ في نسخة : وان ، وفي أخرى : والا.

١٩٩

تقليد المبطل ، لاشتراكهما في سبب الاتباع ، وهو مجرد التقليد ، ( وإذا ) (١) ثبت أنه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه؟ قال شيخنا أبو جعفر « ره » : نعم ( وخالفه ) (٢) الأكثرون.

احتج « ره » : باتفاق فقهاء ( الاعصار ) (٣) على الحكم بشهادة ( العامي ) (٤) مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلة القاطعة.

لا يقال : قبول الشهادة انما كان لأنهم يعرفون أوائل الأدلة ، وهو سهل المأخذ.

لأنا نقول : ان كان ذلك حاصلا لكل مكلف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة فيحصل الغرض وهو سقوط الاثم ، وان لم يكن معلوما لكل مكلف لزم أن يكون الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلة ( للشاهد ) (٥) منهم ، لكن [ ذلك ] محال ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحكم باسلام الاعرابي [ من ] غير أن يعرض عليه أدلة الكلام ، ( ولا يلزمه ) (٦) بها ، بل يأمره بتعلم الأمور الشرعية اللازمة كالصلاة وما أشبهها.

المسألة الثالثة : الذي [ يسوغ ] له الفتوى هو العدل العالم بطرق العقائد الدينية الأصولية ، وبطرق الاحكام الشرعية وكيفية استنباط الاحكام منها.

وبالجملة : يجب أن يعرف جميع ما يتوقف عليه كل واقعة يفتي فيها ،

__________________

١ ـ في نسخة : وان

٢ ـ في نسخة : وخالف

٣ ـ في اكثر النسخ : الامصار

٤ ـ في نسخة : الراوى

٥ ـ في نسخة : للمشاهد

٦ ـ في نسخة : ولا يلزم

٢٠٠