تيسير وتكميل شرح ابن عقيل على ألفيّة ابن مالك - ج ١

الدكتور محمّد علي سلطاني

تيسير وتكميل شرح ابن عقيل على ألفيّة ابن مالك - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمّد علي سلطاني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العصماء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على المعلم الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد :

فإن القرآن الكريم هو دستور المسلم في حياته العامة والخاصة ، وهذا الدستور يضم بين دفتيه ما يريده الله تعالى للمسلم من اعتقاد وعمل ، فالمسلم الحريص على نيل رضى الله في الدنيا والفوز بجنته في الآخرة ؛ لا بد أن يكون حريصا على فهم كتاب الله ليكون أقدر على فهم ما يريده تعالى من عباده ، وفهم كتاب الله لا يتأتّى إلا بتعلّم اللغة العربية ، لأن القرآن الكريم يمثل الذروة العليا في الأساليب العربية ، وقد صرح سبحانه في كتابه العزيز بذلك في عشرة مواضع من سور :

(النحل / ١٠٣) و (الشعراء / ١٩٥) و (يوسف / ٢) و (الرعد / ٣٧) و (طه / ١١٣) و (الزّمر / ٢٨) و (فصّلت / ٣) و (الشّورى / ٧) و (الزّخرف / ٣) و (الأحقاب / ١٢).

فكان من ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ونوّه سبحانه بسمو أدائه واستواء أحكامه حين قال في سورة الزّمر (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

٣

وثمة أدلة كثيرة في كتاب الله وآياته تشعر كلّ مسلم بضرورة إتقان العربية ليكون فهمه للقرآن على الوجه المنشود والمستوى الأمثل ، ليحقق هذا الفهم السليم لكلام الله ما يراد منه في نفس المسلم وعقله وحياته وسلوكه وعلاقاته.

من ذلك قوله تعالى في سورة (الأنفال / ٢) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

فكيف يتاح للمؤمن أن يزداد إيمانا إذا تليت عليه أيات الله وهو لا يفهم مضمونها .. بل إن زيادة الإيمان لا بد أن تبدأ بسلامة الفهم ، ليفكر فيها بعقله الذي يتّسع ويتفتح ليدرك ما فيها من الحقائق الباهرة فيخشع قلبه ، وتدمع عينه وتلين نفسه ، ويكتمل تسليمه .. مصداقا لقوله تعالى في سورة (الحشر / ٢١) (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقوله تعالى في سورة (النحل / ٩٨) (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ،) وقوله تعالى في سورة (المزّمّل / ٢٠) (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

ولا يقصد بهذه القراءة إصدار الأصوات بالمدّ والغنّة والإخفاء والإظهار فحسب ، بل إن هذه وسائل تؤدي إلى أن يأخذ المعنى امتداده الكامل في النفس والعقل والشعور .. أما العقل والقلب فينبغي أن يكونا في تمام تفتّحهما عند القراءة أو الاستماع ليكون التدبّر والفهم والخشوع وتصدع الجبال .. مصداقا لقوله تعالى في سورة (محمد / ٢٤) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقوله تعالى في سورة (النحل / ٤٤)

٤

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقوله تعالى في سورة (الأعراف / ٢٠٤) (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فما أثر هذا الاستماع والإنصات إذا اقتصر على متابعة الأصوات المترددة مهما بلغ صاحبها من إتقانها وحسن إخراجها .. بل المراد الفهم والتدبّر وإعمال العقل والفكر ، ولا يتأتى هذا كلّه إلا بتعلم العربية بدرجاتها كلّها في سعي للوصول إلى درجة القرآن الكريم ومرتبته التي فاقت كلّ درجات فصحاء العرب وبلغائهم ، بدليل عجزهم عن محاكاته وتقليده حين تحدّاهم سبحانه ـ وهم أرباب البلاغة وفرسان البيان ـ بقوله تعالى في سورة (البقرة / ٢٣) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وقوله تعالى في سورة (يونس / ٣٨) (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ).

ولعل في كلام الله تعالى دعوة مباشرة إلى تعلم العربية لغة القرآن الكريم حيث يقول سبحانه في سورة (الرحمان) (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فتعليم القرآن لا يقصد منه الحفظ لأصواته وألفاظه فحسب ، بل المقصود فهمه وتدبّره والعمل به. وقوله تعالى في سورة (النمل / ٩٢) (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ).

فقد ربط تعالى بين إسلام المرء وتلاوته للقرآن ، والتلاوة كما أسلفنا ليست تطبيقا لقواعد التجويد فحسب ، بل إنها مقرونة بفهم تام لمدلولات حروفه وألفاظه وعباراته ، وأسرار ذلك من تقديم وتأخير ، وحذف وذكر ، ورفع ونصب وجر ، وما يترتب على كل حال منها من المعاني ، ليكون التدبّر تاما والتفكر صحيحا .. مما يؤدي إلى خشوع القلب ، وعبرة العين ، وتمكّن

٥

الإيمان وزيادته مصداقا لقوله تعالى (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). (الأنفال / ٢).

ولم نذهب بعيدا ، فهؤلاء الجنّ أنفسهم لم يتأتّ لهم الإيمان إلا بعد سماع القرآن الكريم وفهم معانيه مما أدّى بهم إلى الإيمان وذلك في قوله تعالى في سورة (الجن / ١) (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ). فكيف أدركوا هدايته إلى الرشد لو لم يفهموا معانيه ..

فمن لا يتعلم العربية ويوغل في هذا التعلم مخلصا لا يحظى ببغيته من فهم كتاب الله على الوجه الأمثل ، يؤيد ذلك قوله تعالى في سورة (فصلت / ٣) (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فالعلم بالعربية يسبق قراءة القرآن وتدبّره وفهم ما انطوت عليه آياته من الإحكام والتفصيل.

ولعل من حكمة الله تعالى أنه سهّل لطالب العربية طريقه بأكثر مما يتوقع الطالب نفسه ، بدليل أنّ من أتقن العربية من غير أهلها يفوقون أبناءها في العدد والمستوى بما لا يقاس ، في القديم والحديث ، حتى إنّ معظم أئمة العربية وأئمة علوم الشريعة هم من غير العرب. وتكفي عودة سريعة إلى أمهات مصادر اللغة والنحو والتفسير والفقه والحديث وأشباهها لتدلّنا بوضوح على صحة ما نقول .. يصدّق ذلك ويؤيده قوله تعالى في أربعة مواضع في القرآن الكريم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر / ١٧).

وكلمة (الذكر) هنا واسعة في مدلولها ، فهي تعني الحفظ والتذكّر ، كما تعني سهولة الفهم وانسياب القرآن الكريم وجاذبيته .. كلّ هذا يؤكده تعالى بمؤكدات لغوية عدة ، ابتداء باللام التي هي جواب قسم مقدّر ، وبعدها (قد) وتعني التحقيق المؤكّد ، وبعدها الفعل بصيغة الماضي لتدلّ على

٦

أن هذا الأمر وهو تيسير القرآن لطالبيه أمر قد تقرر وانتهى ولا مراء فيه ، وبعد ذلك كله استفهام مقرون بالتعجب من عدم إدراك الناس لهذا .. (فهل من مدّكر) بهذه الحروف المشدّدة المبدلة ، فلم يجعلها تعالى (فهل من ذاكر أو متذكر) بل (مدّكر بما فيها من إبدال بعد إبدال (١) التماسا لقوة الدلالة ، ليكون النطق أيسر وأشدّ ، والإثارة أقوى وأدلّ.

والكافرون أنفسهم أدركوا قدرة القرآن على التأثير في سامعه إذا كان هذا السامع ممن يفقه العربية ، فقد وصف تعالى موقف الكافرين العرب زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخوفهم من سماع القرآن الكريم المؤثّر برفعة أدائه العربي وقوة أسلوبه حيث يقول سبحانه في سورة (فصلت / ٢٦) (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فهم يخشون تأثيره إذا سمعوه لقدرتهم على فهم بيانه العربي الرفيع.

وخبر أبي سفيان وأبي جهل والأخنس بن شريق في هذا الشأن متداول معروف (٢).

ولعل هذا يفسر لنا ضعف تأثير البيان القرآنيّ في عرب هذا العصر وهو جهلهم بالأساليب العربية الرفيعة ، واكتفاؤهم منها بأدنى المستويات التي تكفي للتفاهم في ما بينهم على المستوى العامي الشائع ، ولهذا ترى قلة إسلام العرب من غير المسلمين بالرغم من سماعهم الدائم للقرآن الكريم يتلى في الإذاعات المختلفة وأجهزة التلفاز والأشرطة المسجّلة وفي المناسبات الاجتماعية الكثيرة.

وهذه الظاهرة قديمة ، فجهل العربية أو الضّعف في تحصيلها يؤدي إلى رقة إيمان المسلم وتناقصه من جهة ؛ وإلى إعراض غير المسلم عن الدخول في

__________________

(١) مذتكر ـ مذدكر ـ مدّكر.

(٢) انظر تفصيل الخبر في سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٧

الإسلام من جهة أخرى ، لأنه يسمع القرآن الكريم ولا يفهم منه إلا اليسير ، يؤيد ذلك قول قديم لشيخ سيبويه وهو الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت ١٧٠ ه‍) «إنّ أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية» مصداقا لقوله تعالى في سورة (الزمر / ٩) (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهذا استفهام بمعنى النفي.

وليس معنى هذا أنّ كل من يفقه العربية يدخل الإيمان إلى قلبه لدى سماعه كتاب الله يتلى عليه .. بل إن للكبر والجحود والتعصب والإصرار دورا كبيرا في إعراض المعرضين عن دين الله ، بدليل قوله تعالى في سورة (لقمان / ٧) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً). وقوله تعالى في سورة (الجاثية / ٨) يقصد الفئة نفسها ممن يعلم ويستكبر : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

فتعلّم العربية على الوجه الأكمل ، والإخلاص في هذا التعلّم للارتقاء به إلى الأسلوب القرآني ؛ يفتح للمسلم مغاليق كتاب الله ، ويطلعه بعمق على ما فيه ليصل إلى مرتبة الإيمان الأمثل ، بل ويزداد إيمانا كلما تلا أو تليت عليه آيات من كتاب الله.

ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب ، بل إن كثيرا من الخلافات التي وقعت بين الفقهاء يعود معظمها إلى اختلافهم في فهم أساليب العربية ، فيعودون إلى كلام العرب وأقوال النحاة ليحتكموا إليها ويحكّموها ..

والأمثلة كثيرة على تأثير فهم العربية في خلافات الفقهاء. من ذلك اختلافهم في قضية مسح الرأس في الوضوء كلّه أو بعضه لاختلافهم في معنى الباء بين أن تكون للإلصاق أو للبعضية أو الزيادة في قوله تعالى في

٨

سورة (المائدة / ٦) (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ،) وكذلك اختلافهم في الآية نفسها في غسل الرجلين أو مسحهما لاختلافهم في إعراب (أرجلكم) فهل هي معطوفة على الرؤوس بالجر ، أو أنها منصوبة بفعل محذوف ، فقد قرئت بالجر والنصب كما في معجم القراآت (٢ / ١٩٤ ـ ١٩٥) ولا يستطيع أن يفصل في هذه الخلافات ويهدى إلى الموقف السديد من فقهاء الشريعة إلا متقن للعربية متعمق في فهم أسرارها.

فمما يحققه متقن العربية في ميدان فقه النص القرآني جوانب عدة :

ـ منها حسن اختياره بمعرفته أثر حركة الإعراب في تغيير المعاني القرآنية واختلافها.

ـ ومنها عصمته من الانزلاق إلى فساد المعنى بسبب التأثّر بالشائع من الألفاظ والأساليب.

أما حسن الاختيار بفضل معرفة أثر حركة الإعراب في تغيير المعاني القرآنية واختلافها فأمره دقيق مثير. وفيه احتمالان :

أولهما : أن يكون تغيّر الحركة بسبب خطأ من القارئ ، مما قد يؤدّي أحيانا إلى نقيض المعنى وفساده. من ذلك ما روي عن أحد الأعراب الفصحاء وقد وفد إلى البصرة ليتعلم قراءة القرآن الكريم على أحد القرّاء آنذاك ، فأقرأه القارئ قوله تعالى في سورة (التوبة / ٣) (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بجرّ (رسوله) الثانية. فقال الأعرابي معقبا (إن كان الله قد برئ من رسوله فأنا منه أبرأ). وكان أبو الأسود الدؤليّ شيخ علماء عصره (ت ٦٩ ه‍) مارا في تلك اللحظة وسمع القراءة وتعليق الأعرابي فقال مستنكرا : لا يا أعرابي ،

٩

ليست القراءة كما سمعت .. بل هي (ورسوله) بالرفع. فقال الأعرابي من فوره (إنني أبرأ ممن برئ منهم الله ورسوله).

فقد نقلته حركة الإعراب في لحظات من موقف إلى موقف آخر تبعا للمعنى الناجم عن الحركة. وكانت هذه الواقعة ونظائر لها من أسباب شروع أبي الأسود نفسه بالبدء بوضع قواعد علم النحو.

ـ أما الاحتمال الثاني فيكون فيه كلا وجهي الإعراب صحيحا في القراءة وقرئ بهما ، غير أن المعنى يختلف من قراءة إلى أخرى ، ويكون في إحدى القراءتين ضعيفا.

من ذلك قوله تعالى في سورة (البقرة / ٢١٤) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ).

فقد وردت القراآت بنصب الفعل (يقول) وبرفعه (١) ، ويختلف المعنى تبعا لذلك فيهما.

ـ فالمعنى الذي تقدمه قراءة النصب هو أن المؤمنين مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يوم الخندق) أصابتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا فصبروا وطال صبرهم حتى بلغ منتهاه إلى أن يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. وذلك بنصب الفعل (يقول) بأن المضمرة وجوبا بعد حتى. ومن خصائص (أن) المصدرية الناصبة دلالتها على المستقبل ، فحين نضمرها وننصب الفعل بعدها فذلك دلالة على مرور وقت طويل إلى أن يقع الفعل.

أما إذا قرأنا برفع الفعل (يقول) فالدلالة المعنوية هي قصر أمد صبر المؤمنين ، فحين مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا قال الرسول والذين آمنوا

__________________

(١) معجم القراآت القرآنية ١ / ١٦٥.

١٠

معه متى نصر الله. أي زلزلوا فقال الرسول كما نص عليه العكبريّ في إعراب القرآن (١) ، وهو معنى لا يرقى إلى معنى قراءة النصب كما هو واضح.

ولهذا كانت قراءة النصب أوسع انتشارا ، فقد قرأ بها خمسة من أصحاب القراآت السبع المتواترة ، وقرأ بالرفع اثنان منهم فقط هما نافع والكسائي.

ـ وأما العصمة والاحتراز من الانزلاق إلى فساد المعنى بسبب التأثّر بالشائع من الأساليب فنمثل لها بقوله تعالى في سورة (البقرة / ٤٧ و ١٢٢) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

فالله سبحانه يذكّر بني إسرائيل بنعمه الكثيرة التي غمرهم بها في تاريخهم الماضي بوصفهم من أوائل الأمم التي تلقت كتابا سماويا ، ويذكّرهم بأنه سبحانه في هاتيك العصور فضّلهم على العالمين بالهداية والتكريم فنكصوا ونكثوا ونقضوا وأعرضوا وقتلوا الأنبياء والمصلحين .. فالموقف هنا موقف تذكير لهم بتفضيلهم على العالمين في الماضي. وهذا ما تبيّنه حركة فتح همزة (أنّ).

أي اذكروا نعمتي عليكم وتفضيلي إياكم. فالحرف (أنّ) إذا كان مفتوح الهمزة يؤوّل مع ما بعده بمصدر ، وهي القراءة الوحيدة لهذه الآية الكريمة ولم يقرأ أحد بكسر الهمزة البتة كما أثبتت ذلك كتب القراآت ومعاجمها (٢).

أما إذا قرأ أحد بكسر همزة (إنّ) وهو خطأ لا يصح ارتكابه فإنه يغيّر المعنى تغييرا جذريا ليصبح تفضيل بني إسرائيل على العالمين دائما مستمرا

__________________

(١) انظر التبيان في إعراب القرآن ١ / ١٧٢.

(٢) انظر معجم القراآت ١ / ٥٣ و ١٠٩.

١١

إلى يوم الدين ، وهو ليس مرادا البتة بدليل أن أحدا لم يقرأ في هذا الموضع سوى بفتح الهمزة.

وبعد : فهذا غيض من فيض مما تقدّمه معرفة العربية من مزايا للمسلم الذي يسعى إلى فهم شرع الله على الوجه الأمثل ، وإلى معرفة أسرار كتابه الكريم.

فلنشمّر عن ساعد الجدّ ، ونقبل على تعلم لغة كتاب الله بعد أن أكرمنا سبحانه بوفرة الفرص ، وفسح لنا في العمر لنحقق الرفعة في الدنيا والسعادة في الآخرة ، مصداقا للحديث النبوي «خيركم من تعلّم القرآن وعلمه» ونرتقي إلى حيث أراد الله سبحانه لأهل العلم أن يرتقوا ، مستجيبين لأمره تعالى حيث يقول في سورة (طه / ١١٤).

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

وعلم النحو هو الطريق القويم إلى تعلم لغة كتاب الله ، تعلّما يعصم بعون الله من التردد والزلل.

ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير

والحمد لله رب العالمين

أد. محمد علي سلطاني

١٢

(نشأة النحو العربي)

كان العرب في جاهليتهم يقيمون في شبه الجزيرة العربية لا يختلطون بغيرهم من الأجانب إلا لماما .. وقد أدى ذلك إلى فصاحة لهجاتهم .. وقوة بيانهم وابتعادهم عن اللحن والتحريف ...

ولقد كانت «قريش» في وضع كريم يجعل منها سيّدة لقبائل العرب الأخرى فهي التي تستأثر بخدمة البيت الحرام .. ويحج إليها العرب كل عام .. لأغراض اقتصادية كالتجارة وتبادل السلع .. وأهداف أدبية كشهود مجامع الخطابة والشعر في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز .. تلك المجامع التي كانت ملتقى للشعراء والخطباء من جميع أنحاء الجزيرة العربية للتفاخر بالأنساب .. والتباري في الخطابة .. والتهاجي بالشعر ... والاحتكام في كل ذلك إلى النابهين من الشعراء والخطباء ليحكموا لهم أو عليهم وقد اشتهر من هؤلاء الحكام النابغة الذّبياني الذي كان حكمه نافذا لا يرد وقد تمكنت قريش بما أتيح لها من هذه العوامل أن تكون أنقى القبائل لهجة وأفصحهم لغة ، وأوفرهم حظا من البيان ... فسادت لغتها على سائر اللهجات .. وتبارى الأدباء في استعمالها فانتشرت في أنحاء الجزيرة العربية ... وكان ذلك مؤذنا بنزول القرآن بها ..

وعند ما أشرقت شمس الإسلام على الجزيرة العربية .. ودخل الناس في دين الله أفواجا اضطر العرب إلى الانتشار في الأرض .. والاتصال بالناس ، والاختلاط بغيرهم من الأعاجم في سائر الأمصار المفتوحة ..

إذ كانوا هم المجاهدين الذين يتحركون بالدعوة الجديدة إلى شتى أنحاء العالم .. وقد أنشأوا على مر الأيام علاقات واشجة بأهل هذه البلاد. وتبادلوا معهم التجارة .. ثم تزوجوا منهم .. فنشأت ناشئة جديدة من المولدين لا تستطيع ضبط لسانها .. ومن هنا أخذت سلائق العرب تفسد ، وطبيعتهم تنحرف ـ فظهر اللحن .. ثم أخذ يستشرى ويتسع حتى أزعج الغيورين على الفصحى. وأقلق نفوسهم ..

١٣

وقد بدآ ظهور اللحن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. فقد رووا أن رجلا لحن بحضرته فقال لمن حوله : «أرشدوا أخاكم فقد ضلّ»

وكان معظم هذا اللحن على ألسنة الطارئين من الموالي والمتعربين كسلمان الفارسي الذي كان يرتضخ (١) لكنة فارسية ، وبلال مولى أبي بكر الذي كان يرتضخ لكنة حبشية ، وصهيب الذي كان يرتضخ لكنة رومية ..

كما حدث أن كاتب أبى موسى الأشعري كتب عنه كتابا إلى ابن الخطاب يقول فيه : «من أبو موسى الأشعري الخ ...» فلما قرأه عمر رضي‌الله‌عنه أرسل إلى أبى موسى : «أن قنّع كاتبك سوطا (٢)».

ومرّ عمر يوما على قوم يتعلمون رمي السّهام فلم يعجبه رميهم ـ فأنّبهم فقالوا له : «إنّا قوم متعلمين» ، فأفزعه ذلك وقال : «والله لخطؤكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم!!».

ولكن هذا اللحن كان قليلا أيام الخلفاء الراشدين ـ ثم كثر فيما بعد واتّسعت دائرته بسبب مخالطة الأعاجم ، والإصهار إليهم ... واتساع الفتوح الإسلامية ...

ولكنه كان سبّة تحط من قدر العظيم حتى أواخر عهد الدولة الأموية ولقد أثر عن عبد الملك بن مروان قوله : «شيّبني ارتقاء المنابر وتوقّع اللحن» :

ولقد عدوا من اللحّانين : عبد الله بن زياد وكانت أمه فارسية ـ والوليد بن عبد الملك الذي أشفق عليه والده فلم يبعث به إلى البادية ليفصح لسانه ـ وتربّى في المصر ـ وتعلّم العربية بالصناعة ـ فدبّ اللحن إلى لغته وخالد بن عبد الله القسري وكانت أمه نصرانية ـ ومع ما أثر عنه من لحن فقد كان خطيبا مفوّها.

__________________

(١) يرتضخ لكنة ـ أي يستعمل لهجة.

(٢) قنّع أي اضرب.

١٤

وذكروا أن أربعة من العرب لم يلحنوا في جد ولا هزل وهم : «الشعبي وعبد الملك والحجاج وابن القرّية» على أنه قد عدّ بعض اللحن على الحجاج

وقيل : إن أول لحن وقع بالبادية قولهم : «هذه عصاتي» والصواب عصاي وأول لحن وقع بالعراق قولهم : حىّ على الفلاح بكسر الياء والصواب فتحها فتقول : «حيّ على الفلاح».

وذكر ابن الأثير في المثل السائر ـ وهي قصة تساق لمعرفة السبب المباشر في وضع النحو العربي ـ أن أبا الأسود الدؤلي دخل على ابنته بالبصرة فقالت له : يا أبت : ما أشدّ الحرّ ـ فقال لها : شهر ناجر فقالت : إنما أخبرتك ولم أسألك فأتى عليا كرم الله وجهه فقال له : ذهبت لغة العرب ـ ويوشك إن تطاول عليها الزمن أن تضمحل فقال له عليّ : وما ذاك؟ فأخبره الخبر فقال : هلمّ صحيفة. ثم أملى عليه : (الكلام لا يخرج عن اسم وفعل وحرف) .. وقد روى في هذا المجال قصة أخرى مشابهة وهي أن أبا الأسود سمع ابنته تلحن إذ قالت له : ما أحسن السماء ، فقال : نجومها فقالت : لم أرد أي شيء أحسن فيها ـ إنما أتعجب من حسنها! فقال لها أبوها : قولي : ما أحسن السماء! ثم دفعه ذلك إلى التفكير في وضع قواعد النحو ـ والروايتان عندنا صحيحتان ولا تعارض بينهما .. فقد تتكرر المسألة في وقتين متقاربين أو متباعدين ..

ونحن نستفيد منها أن الواضع لعلم النحو هو أبو الأسود (١). سواء كان بإشارة من علي بن أبي طالب أم بدافع من نفسه .. وفي بعض الروايات أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر أبا الأسود بوضعه وقيل زياد .. ولكن كيف بدأ أبو الأسود مهمته؟ أو بالأحرى كيف وضع النحو؟

قام أبو الأسود بضبط المصحف ووضع نقطا وعلامات تدل على الحركات المختلفة .. ثم توالت حركة التأليف بعد ذلك .. بدأت هذه

__________________

(١) أبو الأسود الدؤلي توفي سنة ٦٧ ه‍.

١٥

الحركة بإثارة بعض مسائل نحوية حول آيات من كتاب الله ـ وأبيات من الشعر ـ وقيل إن عيسى الثقفي المتوفى سنة ١٤٩ ه‍ جمع تلك المسائل في كتابين سماهما (الجامع والإكمال) ولكن لم يصل إلينا شيء منهما ـ ثم جاء نابغة العرب والمسلمين الخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٧٥ ه‍ فكان له في النحو نظر أدق ، وعلم أوسع ، وتتبّع للنصوص والشواهد أكثر من سابقيه .. فوضع كثيرا من أصول هذا العلم على نحو يقترب من الأسلوب الذي نقرأه الآن ، ولكنه لم يترك في ذلك كتابا مؤلفا ـ وإنما أفضى بخلاصة فكره إلى تلميذه النابه «سيبويه» الذي ضم إلى علم أستاذه خلاصة آرائه وآراء معاصريه ، ثم رتّب ذلك كله وضمّنه كتابه القيم «الكتاب» الذي نال ثقة العلماء ـ وذاع أمره في كل بقاع الدنيا .. وما زال حتى وقتنا هذا مالىء الدنيا وشاغل النّاس ـ حتى لقد قيل : من لم يقرأ كتاب سيبويه فليس جديرا أن يكون نحويا .. وصار الكتاب إذا أطلق انصرف إلى كتاب سيبويه إعظاما لشأنه.

ولقد كان أساس هذه الدراسات هو القرآن الكريم والحديث الشريف.

والشعر الموثوق بصحته. ومشافهة العرب والرحلة إليهم ـ وتحمّل العلماء في سبيل ذلك جهودا مضنية ، ولم تكن قبائل العرب كلها صالحة للأخذ عنها ـ بسبب القرب من الحضر ومخالطة الأعاجم ـ فكانت قبائل قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين أهلا للثقة بها والاطمئنان إليها .. لبعدها عن مواطن اللحن. ولهذا أخذوا عنها ...

أما قبائل حمير ولخم وجذام وقضاعة وغسان وإياد وثقيف فلم تكن أهلا للثقة بسبب مجاورة الأعاجم ، وتسرب اللحن إلى ألسنتها ، ولذلك استبعدها العلماء فلم يأخذوا عنها.

نشأة المذهب البصري والسمات المميزة له :

سبق علماء البصرة بالعراق إلى تدوين مسائل النحو ـ وذلك بعد طول اتصال بعرب البادية للأخذ عنهم ، وقد كانت البصرة قريبة من بادية نجد ـ وعلى ثلاثة فراسخ من المربد الذي آل أمره إلى سوق أدبي للشعر

١٦

والمناظرة .. وكان النحويون يقصدونه لتلقي الشعر من أفواه العرب ـ وكان يهاجر إلى البصرة الكثير من علماء المدن المجاورة ليتعلموا النحو وينقلوه إلى بلادهم ـ فهذه العوامل ساعدت البصريين على تدوين قواعد النحو واللغة قبل غيرهم بنحو قرن من الزمان ...

ولقد تجمعت لدى البصريين نصوص كثيرة بدءوا بعدها يدرسون ويستقرون ويستنبطون القواعد .. وقد تشددوا في التمسك بقواعدهم ورأوا عدم الخروج عليها مهما تكن الدواعي. وأهدروا ما خرج عليها من لغات القبائل التي لم يثقوا بها .. واعتبروه خطأ وشذوذا. وإذا ورد ما يخالف مذهبهم في نصوص لا مجال للطعن فيها تأولوها وأجهدوا أنفسهم في تخريجها ، وإذا عجزوا عن ذلك قالوا : إنه شاذ لا يقاس عليه أو ضرورة.

وقد أهدروا بسبب ذلك كثيرا من الاستعمالات العربية لبعض القبائل ـ فجاء استقراؤهم ناقصا. وكانوا يرمون من وراء هذا التشدد إلى ضبط اللغة ولو بإهدار بعضها.

ونحن لا يسعنا إلا أن نحمد للبصريين هذا الجهد الكبير في الحفاظ على اللغة في وقت كاد سيل اللحن يجتاحها .. ولكننا في الوقت ذاته نأخذ عليهم هذا التضييق المرهق في أمور اللغة .. وإهدار كثير من الاستعمالات العربية مع أنها قد تكون لغة أو لهجة لهذه القبيلة أو تلك.

وعلى رأس المدرسة البصرية سيبويه وكتابه ومن أشهر علمائهم أبو عمرو ابن العلاء ـ والأخفش ويونس بن حبيب واليزيدي والجرمي والمازني والمبرد والزجاج وابن السراج وغيرهم .. ويمكننا تلخيص سمات هذا المذهب فيما يلي :

١ ـ الحزم الصارم والتشدد الزائد في قبول الشعر المروي وعدم اعترافهم إلا بالقليل من القبائل العربية الموثوق بها .. وقلما يعتمدون على خبر الآحاد.

١٧

٢ ـ الثقة التامة بقواعدهم والاعتداد بآرائهم وتخطئتهم للروايات التي تنافي مذهبهم مهما يكن مصدرها.

٣ ـ تأوّل كل ما يخالف مذهبهم ـ ولو كان عربيا فصيحا وتكلف العنت في ذلك فإذا عجزوا عن التأويل حكموا بشذوذه ..

نشأة المذهب الكوفي والسمات المميزة له :

جاءت المدرسة الكوفية متأخرة عن مدرسة البصرة بنحو قرن من الزمان ، بعد أن تأصلت القواعد .. ورسخت المعايير عند البصريين ـ فاتخذوا لأنفسهم مذهبا خاصا يضاهي المذهب البصري ، وينافسه ـ وقد أخذوا على البصريين أن قواعدهم ضيقة بسبب استقرائهم الناقص ـ وترك لغات بعض القبائل ـ وإهمال القياس.

كان الكوفيون أكثر رواية للشعر من البصريين ، لهذا جعلوا كل ما ورد عن العرب إماما لهم لا يخطّئونه ، ولا يعتسفون في تأويله .. ويجيزون القياس عليه ـ فكان مذهبهم بذلك أسمح وأوسع. وأيسر وأسهل ـ ومن هنا نشأ الخلاف بين المذهبين في كثير من الفروع. وإذا كانت الكوفة تعتمد على سوق الكناسة الذي يقابل المربد عند البصريين وتلتقي فيه بالشعراء والخطباء والعلماء إلا أنها لبعدها عن البادية قلّ نزوح العرب إليها .. وبخاصة من صحت لهجاتهم .. ولم يكن للكناسة ما للمربد من شهرة واسعة وأثر بعيد .. ومن هنا انتشر المذهب البصري انتشارا هائلا واتسع مداه في كثير من الجهات .. بعكس المذهب الكوفي ..

أما أئمة المذهب الكوفي .. فعلى رأسهم أبو جعفر الرؤاسي وتلميذاه الكسائي والفراء ـ ومن أشهر علمائهم ـ هشام بن معاوية الضرير ـ ـ وابن السّكيت ـ وابن الأعرابي ـ والطّوال ـ وثعلب ـ وابن كيسان ـ وابن سعدان ـ والأنباري ـ ونفطويه ...

ويمكن تلخيص السمات الغالبة على الكوفيين فيما يلى :

١ ـ العناية بكل ما يسمعون من شعر عربي واحترام كل ما ورد عن العرب وعدم رفض شيء منه.

١٨

٢ ـ الاحتجاج بالشواهد ـ ولو كان الشاهد واحدا أو مجهول الأصل ـ وبناء القواعد على ذلك وقد قيل : إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه.

٣ ـ التسامح في كل ما يصلهم من نصوص وعدم الحكم على شيء بالضرورة ـ وعدم نزوعهم إلى التأويل أو الاعتساف فكان مذهبهم بذلك واسعا مفتوحا.

موازنة خاطفة بين المذهبين :

كان البصريون أكثر استنباطا وأوثق رواية من الكوفيين ـ حتى لقد كان الكوفيون يثقون في روايتهم ويعملون بها .. ولم يحدث العكس ..

ثم كان البصريون هم السابقين في وضع القواعد وتقرير المسائل .. وقد تألق منهم علماء كانوا أعلاما في اللغة والنحو ... فكانت شخصيتهم عامل جذب لهذا المذهب ، وسبيلا إلى شهرته وذيوعه ـ وكان الكوفيون أقل تدقيقا وأضعف رواية وأكثر تساهلا مما جعل مذهبهم واسعا مفتوحا ـ كما ابتعدوا عن التكلف والتضييق الذي اشتهر به البصريون.

ولسنا نزكي مذهبا على مذهب تزكية مطلقة ولكن بحسبنا أن نقف عند قوة الدليل لا متحيزين ولا متعصبين .. وإن كان في النهاية مذهب البصريين أوثق ... ومذهب الكوفيين أيسر وأوسع ..

وقد تصدى العلماء لوضع كتب في قضية الخلاف بين المذهبين منهم أبو البقاء العكبري المتوفى سنة ٦١٦ ه‍ الذي وضع كتابا في هذا الموضوع باسم «التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين» كما ألف العلامة الجليل أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة ٥٧٧ ه‍ كتابا أسماه «الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين» ذكر فيه مئة وإحدى وعشرين مسألة فيها خلاف بين المذهبين.

هذا ونشير هنا إلى أن الخلاف بين هاتين المدرستين كان واسعا .. وقد حدثت بينهما مناظرات ومناقشات بدأت هادئة بين الخليل والرؤاسيّ ثم اشتدت بين سيبويه والكسائي ومن جاء بعدهما ـ واستمرت إلى أواخر

١٩

القرن الثالث الهجري ـ ثم خفت حدة الجدل والخصومة بعد هذا .. حيث جاء من عرض المذهبين ونقدهما واختار منهما مذهبا خاصا وعلى رأس هؤلاء العلامة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري الكوفي المتوفى سنة ٢٩٦ ه‍ فقد قرب بين المذهبين ومزج بينهما وإن كان إلى البصريين أميل.

من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين :

نسوق إليك أيها الطالب عدة مسائل وقع فيها الخلاف بين المذهبين نسوقها باختصار شديد .. ونترك التوسع فيها للمستقبل حين ترد في أماكنها من كتب النحو وهاكها :

١ ـ (لو لا) ترفع الاسم بعدها نحو (لو لا علي لأكرمتك) كما يقول الكوفيون. وفال البصريون : مرفوع بالابتداء.

٢ ـ اللام الأولى في (لعل) أصلية عند الكوفيين وقال البصريون : زائدة.

٣ ـ يجوز للضرورة ترك صرف المنصرف عند الكوفيين وقال البصريون : لا يجوز.

٤ ـ الياء والكاف في (لولاي ولولاك) في موضع رفع عند الكوفيين وقال البصريون : بل في موضع خفض.

٥ ـ الاسم المبهم نحو (هذا) أعرف من العلم عند الكوفيين وقال البصريون : العلم أعرف.

٦ ـ لا يجوز تقديم خبر (ليس) عليها عند الكوفيين وقال البصريون : يجوز.

٧ ـ فعل الأمر مقتطع من المضارع المجزوم بلام الأمر وجزء منه عند الكوفيين ، وقال البصريون : الأمر قسم برأسه.

٨ ـ إضافة النيّف إلى العشرة أجازه الكوفيون فقالوا : (خمسة عشر) ومنعه البصريون.

٩ ـ العطف على الضمير المخفوض يجيزه الكوفيون ، وقال البصريون : ممنوع.

١٠ ـ تقديم معمول اسم الفعل عليه يجيزه الكوفيون ويمنعه البصريون.

٢٠