إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، (١) والكفر ليس بحق وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٢) ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، (٣) (وَما ظَلَمْناهُمْ) (٤) ، (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ، (٥) ، (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٦) انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب جميع المليين أنّ أفعال الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال المخلوقين فانّ أفعال المخلوقين مشتملة على التفاوت والاختلاف والظلم ، وأفعال الله تعالى منزّهة عن هذه الأشياء ، فالآيات الدّالة على هذا المعنى دليل جميع الملّيّين ولا يلزم الأشاعرة شيء منها ، لأنّهم لا يقولون : إنّ أفعال العباد أفعال الله تعالى حتّى يلزم المحذور ، بل إنّهم يقولون : أفعال العباد مخلوقة لله مكسوبة للعبد ، وهذا التّفاوت والاختلاف والظلم بواسطة الكسب والمباشرة ، فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالإنسان وغيره من المخلوقات ، فانّ الاختلاف والتّفاوت واقعان فيها لا محالة ، فهذا التّفاوت والاختلاف في تلك الأشياء بما ذا ينسب وبأىّ شيء ينسب فلينسب إليه اختلاف أفعال العباد (٧) وأمّا الاستدلال بقوله : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) على أنّ الكفر ليس خلقه فباطل ، لأنّ الكفر مخلوق لا خلق ،

__________________

(١) الحجر. الآية ٨٥.

(٢) النساء. الآية ٤٠.

(٣) فصلت. الآية ٤٦.

(٤) هود. الآية ١٠١.

(٥) غافر. الآية ١٧.

(٦) الاسراء. الآية ٧١.

(٧) فيه اعتراف الناصب بأن الله تعالى يخلق القبيح من الكفر وغيره ، وكفى ذلك في كفره وكفر أصحابه من الاشاعرة الفاجرة. منه «قده».

٤١

ولو كان كلّ مخلوق حسنا لوجب أن لا يكون في الوجود قبيح ، وهو باطل لكثرة المؤذيات والقبائح المتحققة بخلق الله تعالى على ما سيجيء ، وأما الاستدلال بقوله (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) على أنّ الكفر ليس مخلوقا لله تعالى لأنّه ليس بحقّ فباطل ، لأنّ معنى الآية : انّا ما خلقنا السّماوات والأرض إلا متلبّسين بالحقّ والصّدق والجدّ ، لا بالهزل والعبث كما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) و (ما خَلَقْناهُما) إلا بالحق (١) ولو كان المعنى وما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما ، إلّا بكون كلّ مخلوق حقّا لأفاد أنّ الكفر حقّ ، وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام ، نعم ربّما فهم ذلك الأعرابي الجافّ (٢) الحلّي الرّاطن ذلك المعنى من كلام الله «انتهى».

أقول

قد مرّ بيان أن نفي الأشاعرة الظلم عن الله تعالى إنّما هو بحسب اللّفظ دون المعنى والحقيقة ، وأنّ الكسب باطل بما مرّ مرارا وسيجيء في موضعه ، وأمّا قوله : فالتّفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالإنسان وغيره من المخلوقات ، ففيه نظر من وجهين ، الاول : أنّه يشعر بأنّ في خلق الإنسان ونحوه من مخلوقات الله تفاوتا واختلافا أيضا ، وهذا مع مخالفته لنصّ الآية مناف أيضا لما قاله سابقا : من أنّ أفعال الله تعالى منزّهة عن التفاوت والاختلاف ، والثاني : أنّه فهم من نفي الاختلاف الواقع في الآية نفى الاختلاف بحسب الأنواع والأشخاص

__________________

(١) الدخان. الآية ٣٩.

(٢) قف على بذاءة لسان الرجل وقلة أدبه وسلوكه في سبيل العلميات مسلك المكارين والجمالين والحجامين ، فبالله عليك أهكذا سيرة العلماء وطريقة العقلاء عصمنا الله تعالى من العصبية الباردة الجاهلية.

٤٢

ونحوها ، ولهذا وقع في ورطة مخالفة القرآن ومناقضة نفسه ، وليس كذلك بل المراد من التفاوت والاختلاف المنفيّ في الآية عدم التناسب والنّظام بحيث يقول الناظر الفهم : لو كان كذا لكان أحسن ، كذا في تفسير النيسابوريّ : ومن البيّن أنّ أكثر أفعال الإنسان بهذه الحيثيّة ، وأما ما ذكره : من أنّ الكفر مخلوق لا خلق فغير قادح في استدلال المصنّف بالآية لأنّها كما قصد المصنّف إنّما دلّ على حسن المخلوق لا الحلق لأنّ الحسن المفهوم من قوله تعالى : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، إنّما يتعلّق بكلّ شيء خلقه ، بالخلق المفهوم من خلق الماضي في قوله : خلقه ، ولا ريب في أنّ الشيء الذي خلقه الله هو مخلوقه لا خلقه ، قوله : ولو كان كلّ مخلوق حسنا إلخ قلنا : بطلان اللازم ممنوع قوله : لكثرة المؤذيات والقبائح المتحققة قلنا : هذا مع كونه منافيا لإنكاره سابقا كون القبائح صادرة من الله تعالى مردود بأنّه إن أراد من المؤذيات والقبائح ما عدا الأفعال الصّادرة عن العباد كخلق الحيات والعقارب والسباع ونحوها فقد بيّنا سابقا أنّها ليست بقبيحة عند التأمّل في خواصّها ، وكون نفعها أكثر من ضررها ، وإن أراد به ما يشمل أفعال العباد كالسّرقة واللّواطة والزّنا فلا نسلّم أنّها صادرة من الله تعالى ، بل هو أوّل المسألة ، وأمّا ما ذكره من أنّ معنى الآية أنّا ما خلقنا السمّاوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ والصّدق إلخ ففيه أنّه على تقدير تسليم أن يكون الحقّ والصدق والجدّ ، معان متقاربة كما يدلّ عليه ظاهر كلامه ، لا معنى للاية إلا أن تكون تلك

الأشياء حقّا لا أنّ الحقّ أمر آخر مباين لها متلبّس بها مصاحب لها كالحجر الموضوع بجنب الإنسان ، وبهذا علم أنّ قوله : وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام دليل على اعوجاج فطرته المرّ المرواني ، وقصور فهمه عن إدراك واضحات المعاني ، فانّه لا يفهم أنّ ما ذكره من تفسير الآية هل هو مضمون كلام المصنّف أو يدفعه ويمنعه

٤٣

ولا يدري أين يذهب رأسه؟ وبأيّ شيء يشتعل أو ينطفي نبراسه؟ (١) والحمد لله على خلاصنا من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة بالباطل ، ومعارضتهم الحقّ بأغث (٢) ما يكون من الكلام

قال المصنّف رفع الله درجته

الرابع : الآيات الدّالة على ذمّ العباد على الكفر والمعاصي كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٣) والإنكار والتّوبيخ مع العجز عنه محال ، ومن مذهبهم أنّ الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره فكيف يوبّخه عليه!؟ وقال الله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٤) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومن المعلوم أنّ رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثمّ يقول : ما منعك من التّصرّف في حوائجي قبح منه ذلك ، وكذا قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (٥) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٦) وقوله : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (٧) ، (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٨) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٩) (عَفَا اللهُ

__________________

(١) النبراس بكسر النون وسكون الموحدة المصباح والجمع النبارس والنباريس ، وقد يطلق على السنان ، وعلى الأبار المتقاربة والمراد هنا المعنى الاول.

(٢) من غث وأغث الحديث : فسد :

(٣) البقرة. الآية ٢٨.

(٤) الكهف. الآية ٥١.

(٥) النساء. الآية ٣٩.

(٦) ص. الآية ٧٥.

(٧) طه. الآية ٩٢.

(٨) المدثر. الآية ٤٩.

(٩) الانشقاق. الآية ٢١.

٤٤

عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (١) (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٢) وكيف يجوز أن يقول لم تفعل؟ مع أنّه ما فعله وقوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٣) ، (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٤)؟ قال الصاحب ابن عبّاد (٥) : كيف يأمر بالايمان ولم يرده؟ وينهى

__________________

(١) التوبة. الآية ٤٣.

(٢) التحريم. الآية ١.

(٣) آل عمران. الآية ٧١.

(٤) آل عمران. الآية ٩٩.

(٥) هو الوزير الأديب الفاضل الجليل ابو القاسم اسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد ابن أحمد بن إدريس الديلمي المعروف بكافى الكفاة والصاحب والعلامة الوزير كان نابغة في العلوم سيما الأدب والكلام استوزره مؤيد الدولة وأخوه فخر الدولة من الملوك الديالمة البويهيين وكان من بيت الوزارة والفضل ، قال ابو سعيد الرستمي في حقه.

شعر

ورث الوزارة كابرا عن كابر

موصولة الاسناد بالاسناد

يروى عن العباس عباد وزا

رته واسماعيل عن عباد

وكان ره كثير البر والفضل على العلماء والسادات ، الألسن والأقلام قاصرة عن ذكر مكارمه ومحامده ، وكفى في نبله وعلو كعبه ما أورده المخالفون من فضائله في كتبهم وكان شديد الولاء في حق الذرية العلوية ، وله في مديحهم قصائد وأبيات رائقة ويحكى انه كان سبطه السيد الگلستانى جالسا ذات يوم في حجره وهو طفل فقال الصاحب ارتجالا.

الحمد لله حمدا دائما أبدا

إذ صار سبط رسول الله لي ولدا

وله تصانيف وتآليف ، منها : الا بانة عن مذهب أهل العدل بحجج من القرآن والعقل في الامامة واثبات حقية مذهب الشيعة ، وكتاب ديوان الرسائل وكتاب عنوان المعارف وكتاب جوهرة الجمهرة في تلخيص جمهرة ابن دريد وكتاب المحيط في اللغة وكتاب التذكرة وكتاب الأمثال ورسالة الفرق بين الضاد والظاء وكتاب الكشف عن مساوي شعر

٤٥

عن الكفر وقد أراده؟ ويعاقب على الباطل وقدّره ، وكيف يصرفه عن الايمان ثمّ يقول (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (١) ، ويخلق فيهم الكفر ثمّ يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)؟ ، ويخلق فيهم لبس الحقّ بالباطل ثم يقول : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ، وصدهم عن سواء السبيل ثمّ يقول: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، وحال بينهم وبين الايمان ثم قال (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا

__________________

المتنبي ونهج السبيل والقضاء والقدر وغيرها من الكتب والرسائل النفيسة.

ولد سنة ٣٢٤ وقيل ٣٢٦.

توفى سنة ٣٨٥ وقيل ٣٨٧ ببلدة رى ونقل نعشه الى أصفهان ودفن بمقبرته المعروفة الى الآن في باب (طوقچى).

قال أبو الحسن الهمداني في رثائه

يبكى الأنام سليل عباد العلا

والدين والقرآن والإسلام

مات المعالي والعلوم بموته

فعلى المعالي والعلوم سلام

فراجع الى الريحانة ج ٦ ص ٦٩ الى ٧٥.

ثم المطلب الذي ينقله مولانا المصنف العلامة موجود في رسالة الجبر والتفويض للصاحب وسمعت أن كلية دانشگاه طبعها او بصدد طبعها.

ثم ليعلم أن كافى الكفاة الوزير الصاحب أخذ علم النحو عن جماعة منهم أبو سعيد السيرافي وابن فارس اللغوي وأبو بكر بن كامل وأبو بكر بن مقسم وغيرهم بحيث صار من أعلام النحاة.

وأخذ اللغة عن ابن فارس وغيره من أعيان هذا العلم.

وأخذ الكلام عن أبى محمد الرازي كما في بعض المجاميع المخطوطة.

وأخذ التفسير والحديث عن جماعة من محدثي بغداد وغيرهم من علماء سائر الأمصار.

وممن أكثر الأخذ والرواية عنه على بن الحسين السعدآبادي والروياني وغيرهما.

(١) يونس. الآية ٣٢.

٤٦

بِاللهِ) (١) ، وذهب بهم عن الرّشد ثمّ قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثمّ قال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٣) «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد سبق أنّ ذمّ العباد على الكفر لكونهم محلّ الكفر ، والكاسبين المباشرين له والإنكار والتوبيخ في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) لكسبهم الكفر ، وهم غير عاجزين عن الكسب لوجود القدرة على الكسب وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم بحسب الإيجاد والخلق ، والأوّل كاف في ترتّب التوبيخ على فعلهم ، وأما ما ذكره من أنّ مذهبهم أنّ الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه وهو لا يقدر على غيره فكيف يوبّخه عليه فقد ذكرنا جوابه فيما سبق أنّ التوبيخ باعتبار الكسب والمحلّية لا باعتبار التّأثير والخالقيّة ، وقد ذكرنا فيما سبق : أنّ هذا يلزمهم في العلم بعينه وكذا حكم باقي ما ذكر من الآيات المشتملة على توبيخ الله تعالى عباده بالشّرك والمعاصي فانّ كلّ هذه التّوبيخات متوجهة إلى العباد باعتبار المحلّيّة والكسب ، لا باعتبار الخلق ، وأما ما ذكره من كلمات الصّاحب ابن عباد فهو كان رجلا وزيرا متشدّقا (٤) في الإنشاء معتزليّا ذكر الكلمات وسردها على وتيرة أرباب التّرسّلات والمراسلات ، وليس فيه دليل ، وما أحسن ما قيل في أمثال كلامه شعر :

كلامك يا هذا كبندق فارغ

خليّ عن المعنى ولكن يقرقر

«انتهى»

__________________

(١) النساء. الآية ٣٩.

(٢) التكوير. الآية ٢٦.

(٣) المدثر. الآية ٤٩.

(٤) من تشدق : توسع في الكلام من غير احتياط.

٤٧

أقول

قد سبق أنّ القول بالمحليّة والكسب لا محلّ له عند العقل ، ولا يكسب لهم خيرا ولا يصلح وجها لتوجّه الإنكار والتّوبيخ من الله تعالى إلى العباد ، ولا يكفي في ترتبهما على فعلهم ، وقد سبق أنّ مظنّة لزوم مثل ذلك علينا في العلم من قبيل (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (١) ، وكذا الكلام في باقي ما ذكر من الآيات وأما ما ذكره في دفع كلمات صاحب ابن عباد رحمه‌الله : من أنّه كان رجلا وزيرا متشدّقا معتزليا ، فلا يخفى ما فيه إذ لا يقدح شيء من الوزارة وبلوغ الفصاحة والبلاغة والاعتزال في فضل الرّجل وحسن مقاله ، انظر إلى ما قال ، ولا تنظر إلى من (٢) قال ، لكن النّاصب جعل ذلك وسيلة للهرب عن جوابه ، ولم يمنعه عنه ما كان له بنفسه من إعجابه ، ثم ما ذكر : انّه كان من أهل الاعتزال إنّما نشأ عن جهله بأحوال الرّجال وإنّما كان الصاحب رحمه‌الله شيعيا إماميا بالغا إلى نصابه (٣) نشأ في حجر التّشيع ، وأرضع من لبابه (٤) على رغم أنف النّاصب وأصحابه كما حقّقه أرباب التّاريخ في بابه ، وأما ما ذكره من الشعر المشعر بأنّه رغم كلام الصّاحب

__________________

(١) الحجرات. الآية ١٢.

(٢) الكلمة من درر الكلمات نسبت الى مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام.

(٣) ولا يخفى لطف التعبير عن كونه شيعيا اثنى عشريا ببلوغ النصاب.

(٤) إشارة الى كون الصاحب كافى الكفاة عريفا في التشيع أصيلا في ولاء آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب الآباء والأمهات ، كما أشرنا اليه عند التعرض لنبذ من ترجمته المنيفة.

ثم ان مولانا القاضي الشهيد قال في هامش الكتاب في هذا الموضع ما لفظه : هذه إشارة الى كونه اثني عشريا فانه لب التشيع ، وباقى طوائف الشيعة قشر باطل «انتهى».

٤٨

خاليا عن المعنى فلينصف أولياء النّاصب أنّ الخالي عن المعنى هو الكسب الذي اضطربوا في تحصيل معناه كما بيّناه ، أو الكلام المنقول عن الصاحب الذي جلّ أن يوصف لفظه إلّا بالدّر المنظوم ، وكؤوس معانيه إلّا بالرحيق المختوم ، لكنّ الجاهل المعاند الذي ختم الله على قلبه فلا يتقي من الله تعالى ولا يستحي من النّاس ولا يبالي بما أطلق به لسانه لا يعجز عن الإتيان بمثل هذا الشعر الذي كلام شيخه الأشعري الخالي عن الشعور أولى به ، ولا غرو أنّ الحقّ ينكره الجهول سيّما الفضول (١) الذي هو على شفا (٢) جرف مهول كما قيل شعر :

الحقّ ينكره الجهول لأنّه

عدم التصوّر فيه والتصديقا

وهو العدوّ لكلّ ما هو جاهل

فإذا تصوّره يعود صديقا

قال المصنّف رفع الله درجته

الخامس الآيات التي ذكرها الله تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم ، وتعليقها بمشيتهم قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٣) (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٤) ، (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (٥) (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٦) (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٧) ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٨) ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ

__________________

(١) لا يخفى ما في التعبير بالفضول من الإيماء الى اسم الناصب وهو الفضل بن روزبهان

(٢) متخذ من قوله تعالى في سورة التوبة الآية ١٠٩.

(٣) الكهف. الآية ٢٩.

(٤) فصلت. الآية ٤٠.

(٥) التوبة. الآية ١٠٥.

(٦) المدثر. الآية ٤٣.

(٧) المدثر. الآية ٥٥ وعبس الآية ١٢.

(٨) المزمل. الآية ١٩.

٤٩

مَآباً) (١) ، وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشيّة عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى بقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) (٢) (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)(٣) «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : هذه الآيات تدلّ على أنّ للعبد مشيئة وهذا شيء لا ريب فيه ، ولا خلاف لنا فيه ، بل النزاع في أنّ هذه المشيئة التي للعبد هل هي مؤثرة في الفعل موجدة إيّاه أو هي موجبة للمباشرة والكسب؟ فإقامة الدّليل على وجود المشيئة في العبد غير نافعة له ، وأما قوله : قد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه ، وأضافها إلى الله تعالى بقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ، فنقول : هذا الإنكار بواسطة إحالة الذّنب على مشيئة الله تعالى عنادا أو تعنّتا (٤) فأنكر الله عليهم عنادهم ، وجعل المشيئة الالهيّة علّة للذّنب ، وهذا باطل ، ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) كيف نسب عدم الاشراك إلى المشية : ولو لا أنّ الإنكار في الآية الاولى لجعل المشيئة علّة للذّنب ، وفي الثانية لتعميم حكم المشيئة الموجبة للخلق ، لم يكن فرق بين الاولى والثّانية والحال أنّ

__________________

(١) النبأ. الآية ٣٩.

(٢) الانعام. الآية ١٤٨.

(٣) الزخرف. الآية ٢٠.

(٤) الفرق بين العناد والتعنت بعد اشتراكهما في كونهما دالين على اللجاج ، أن العناد يقال فيما كان صاحبه عالما بكون ما يذهب اليه مخالفا للحق بخلاف التعنت فانه أعم ، أو الفرق أن العناد حيثما كان صاحبه لجوجا ولدودا ، والتعنت حيثما يظهر اللداد أو غير ذلك.

٥٠

الاولى واردة للإنكار على ذلك الكلام وهو منقول عنهم ، والثّانية من الله تعالى من غير إنكار فليتأمل المتأمّل ليظهر عليه الحقّ «انتهى».

أقول

قد مرّ بيان أنّ إثبات القدرة والمشيئة بدون التّأثير لا محصّل له ، وأنّ القول بالكسب لا أثر له في دفع الجبر ، وأما ما ذكره من أنّ هذا الإنكار بواسطة إحالة الذّنب على مشيئة الله تعالى إلخ ففيه أنّ صريح الآية اعتقادهم أنّ مشيئة الله تعالى علّة لشركهم وكون الشّرك ذنبا أو غيره غير مفهوم من لفظ الشّرك ، وإنّما فهم من خارج ، والقول بعلّيّة مشيئة الله تعالى وعلمه للشّرك وجميع أفعال العباد ممّا شارك فيه الأشاعرة مع المشركين ، وقد نفاها الله تعالى ، كما قرّره المصنّف فالعدول عن جعل مشيئة الله تعالى في الآية علّة لنفس الشّرك وجعله علّة لوصف كونه ذنبا صرف للآية عن ظاهرها والبناء على الكسب بالمعنى الذي ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني وفخر الدين الرّازي (١) حيث قالا : إنّ حقيقة الكسب صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصّلاة والقتل مثلا كلتاهما حركة وتتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فأصل الحركة لقدرة الله تعالى وخصوصيّة الوصف بقدرة العبد ، وأورد عليه أنّ امتياز المطلق عن مقيّداته إنّما هو في العقل دون الخارج ، وهو لا يصحّح كون كلّ من هذين التمايزين مقدورا بقدرة أخرى ، وأما ما ذكره من أنّه لو لا التأويل الذي ذكره في الآية الاولى ، لما فرق بينها وبين الآية الثّانية فدفعه هين والفرق بيّن ، لأنّ المراد بالمشيئة في الآية المشيئة المطلقة يعني أنّ الله تعالى لوشاء عدم الشّرك منّا لما أشركنا ، لكنّه لم يشأ ذلك ، وحاصل الإنكار أنّكم كاذبون في أنّ الله تعالى لم يشأ

__________________

(١) قد سبقت ترجمتهما في (ج ١ ص ٢٤٧ و ١١٠)

٥١

عدم شرككم ، لأنّه تعالى شاء ذلك بالمشيئة التكليفيّة الاختياريّة التفويضيّة ، بأن تختاروا عدم الشّرك بارادتكم ومشيئتكم فارتكبتم بسوء اختياركم الشّرك وتركتم التوحيد ، والمراد بالمشيئة في الآية التي ذكرها النّاصب المشيئة الاجبارية الاضطراريّة ، وحاصل هذه الآية أنّ الله تعالى لو أراد عدم شركهم بالمشيئة الاجبارية لما أمكنهم الشّرك ، لكن لم يشأ ذلك على هذا الوجه لمنافاته غرض التكليف كما مرّ ، ولا منافاة بين معنى الآيتين على هذا ، ولا تكلّف في التأويل كما ترى ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١) وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) (٢).

قال المصنّف رفع الله درجته

السادس الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال (الإقبال خ ل) والمسارعة إليها قبل فواتها كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٣) ، (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) (٤) ، (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٥) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (٦) (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) (٧) (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) (٨) (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (٩)

__________________

(١) الانعام. الآية ١٤٩.

(٢) الشورى. الآية ٨.

(٣) الانعام. الآية ١٣٣.

(٤) الأحقاف. الآية ٣١.

(٥) الأنفال. الآية ٢٤.

(٦) الحج. الآية ٧٧.

(٧) البقرة. الآية ٢١.

(٨) النساء. الآية ١٧٠.

(٩) الزمر. الآية ٥٥.

٥٢

وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (١) ، فكيف يصحّ الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور ممنوعا عاجزا عن الإتيان به؟ وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزّمن قم ، ولمن يرمى من شاهق جبل احفظ نفسك فكذا هاهنا «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : أمر العباد بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف ، وقد سبق فائدة التكليف وأنّه ربّما يصير داعيا إلى إقبال العبد إلى الله تعالى وخلق الثّواب والعقاب عقيب التكليف والبعثة ، وعمل العباد كخلق الإحراق عقيب النّار فكما أنّه لا يحسن أن يقال : لم خلق الله تعالى الإحراق عقيب النّار؟ كذلك لا يحسن أن يقال : لم خلق الثّواب والعقاب عقيب الطاعة والمعصية ، فانه تعالى مالك على الإطلاق ، ويحكم ما يريد ، وأمّا قوله : كيف يصحّ الأمر بالطاعة والمأمور به (٢) عاجز ، فالجواب ما سبق أنه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ، والكلام في الخلق والتأثير لا في الكسب والمباشرة «انتهى».

أقول

قد سبق أنّ العبد بطبعه لا يخلو عن الفعل والترك ، فلا حاجة له في ذلك إلى التكليف فبقى أن يكون التكليف للحثّ على الخيرات والزّجر عن المعاصي كما ذكره المصنف قدس‌سره ، وقد سبق أيضا أنّ نفى السببيّة الحقيقيّة سفسطة لا يلتفت إليها ، وأنّ المالك على الإطلاق إنّما يحسن منه التّصرف على الوجه الحسن ، فإذا تصرّف لا على وجه يستحسنه العقل السّليم يذمّ ويحكم عليه بالسّفه ، وأما ما ذكره في الجواب

__________________

(١) الزمر. الآية ٥٤.

(٢) اى الشخص المأمور بالطاعة والامتثال واللام الداخلة على الوصف موصولة فلا تغفل.

٥٣

من أنّه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ، فقد مرّ وسيجيء دفعه بابطال الكسب بأىّ معنى كان إن شاء الله تعالى.

قال المصنّف رفع الله درجته

السابع الآيات التي حثّ الله تعالى فيها على الاستعانة به كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١)،(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٢) ،(اسْتَعِينُوا بِاللهِ)(٣)، فإذا كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي كيف يستعان به (يستفاد منه خ ل) وأيضا يلزم بطلان الألطاف والدّواعي ، لأنّه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد فأىّ نفع يحصل للعبد من اللّطف الذي يفعله الله!؟ لكنّ الألطاف حاصلة كقوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (٤) (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (٥) (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (٦) (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (٧) ، (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٨) انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق ، ولا يستعاذ به ،

__________________

(١) الحمد. الآية ٥.

(٢) النحل. الآية ٩٨.

(٣) الأعراف. الآية ١٢٨.

(٤) التوبة. الآية ١٢٦.

(٥) الزخرف. الآية ٣٣.

(٦) الشورى. الآية ٢٧.

(٧) آل عمران. الآية ١٥٩.

(٨) العنكبوت. الآية ٤٥.

٥٤

فانّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة ، ولو كان الأمر كما ذكروا لانسدّ باب الدعاء والطلب من الله تعالى ، لأنّه خالق الأشياء ، وهذا من التّرهات التي لا يتفوّه بها عاقل فضلا عن فاضل «انتهى».

أقول

يتوجّه عليه أنّ الخلق بدون كسب العبد لمّا لم يوجب عندهم ثوابا ولا عقابا ، فلا حاجة إلى الاستعاذة ، والقول بأنّ الاستعاذة عن الخلق يجوز أن تكون لئلا تؤدي الخلق إلى الكسب مردود ، بأنّ هذه التأدية إن كانت بالجبر فيلزم أن يكون الكسب أيضا بالجبر ، فيلزم الجبر المحض ، وإن كان باختيار العبد فلا وجه للاستعاذة فيه عن الله تعالى فتدبّر.

قال المصنّف رفع الله درجته

الثامن الآيات الدّالة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم ، وإضافتها إلى أنفسهم كقوله تعالى حكاية عن آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ، (١) وعن يونس عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) وعن موسى عليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)(٣) ، وقال يعقوب عليه‌السلام لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٤) وقال يوسف عليه‌السلام: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ، (٥) وقال نوح عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) (٦) ، فهذه الآيات تدلّ على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين

__________________

(١) الأعراف. الآية ٢٣.

(٢) الأنبياء. الآية ٨٧.

(٣) القصص. الآية ١٦.

(٤) يوسف. الآية ١٨.

(٥) يوسف. الآية ١٠٠.

(٦) هود. الآية ٤٧.

٥٥

لأفعالهم «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدلّ على اعتقادهم بكونهم خالقين والمدّعى هو هذا وفيه التنازع ، فانّ كلّ إنسان يعلم أنّه فاعل للفعل ، ولكنّ الكلام في الخلق والإيجاد فليس فيها دليل لمدّعاه «انتهى».

أقول

يدفعه أنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة (١) والضّرورة قاضية بذلك أيضا ، وقد مرّ مرارا ما في احتمال الكسب من الهذر والفساد ، فما بقي لهم إلا العناد.

قال المصنّف رفع الله درجته

التاسع الآيات الدّالة على اعتراف الكفّار والعصاة ، بأنّ كفرهم ومعاصيهم كانت منهم كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٢) إلى قوله : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٣) ، وقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٤) ، (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) (٥) إلى قوله : فكذبنا وقوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٦) «انتهى».

__________________

(١) اى تكون أفعالنا صادرة عنا لان الأصل في الإطلاق الحقيقة.

(٢) السباء. الآية ٣١.

(٣) السباء. الآية ٣٢.

(٤) المدثر. الآية ٤٣.

(٥) الملك. الآية ٨.

(٦) الأعراف. الآية ٣٩.

٥٦

قال النّاصب خفضه الله

أقول : اعتراف الكفّار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة ، وهو أنّ الكسب من العبد والخلق من الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ، أي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السّيئة ، وكلّ هذا يدلّ على أن للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة ، ويجزى به ، ولا يدلّ على ما هو محلّ النّزاع وهو كونه خالقا لفعله وموجدا إيّاه فليس فيها دلالة على المقصود «انتهى».

أقول

يتوجّه عليه أنّ ما حكم به بديهة العقول السّليمة والبرهان العقليّ لا يظهر خلافه في الآخرة ، لما عرفت من إحكام قاعدة الحسن والقبح العقليّين ، وما ذكره من الآية لا تدلّ على إرادة ما اخترعوه من الكسب الذي لا محصل له ، لظهور أنّ الكسب في الآية ليس بالمعنى الذي اخترعوه فلا يصح الاستدلال بها على مذهبهم فهو في ذلك مطالب بالبيان ودونه خرط القتاد.

قال المصنّف رفع الله درجته

العاشر الآيات التي ذكر الله فيها ما يحصل منهم من التحسّر في الآخرة على الكفر وطلب الرّجعة ، قال الله تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا) ، (١) قال : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) (٢) (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (٣) (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) ، (٤) أو يقول :

__________________

(١) الفاطر. الآية ٣٧.

(٢) المؤمنون. الآية ٩٩.

(٣) السجدة. الآية ١٢.

(٤) السجدة. الآية ١٢.

٥٧

(حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (١) «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : التّحسّر وطلب الرّجعة لاكتساب الأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة التي من جملتها اعتقاد الشّركاء لله تعالى كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من الملّيّين كالمعتزلة وتابعيهم ، وليس في هذه الآيات دليل على دعواهم «انتهى».

أقول

قد مرّ أنّ الكسب والاكتساب بالمعنى الذي اخترعوه بمعزل عن لغة القرآن. وأما ما نسبه إلى أهل العدل من اعتقاد شركاء لله تعالى فهو أولى بالأشعريّة المثبتين للصّفات الزّائدة القديمة كما سبق بيانه ، بل القول بالكسب وكونه مؤثّرا في وصف الطاعة والمعصية يستلزم ما هو أشدّ من الشّرك الذي توهّموه من قول أهل العدل باستناد أفعال العباد إليهم كما مرّ بيانه ، بل يلزمهم فيه مشاركة المجوس بل النصارى حذو النّعل بالنعل والقذّة بالقذّة (٢) كما سبق.

قال المصنّف رفع الله درجته

فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) ، (٣) ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فما عذر فضلائهم؟ وهل يمكنهم الجواب عن

__________________

(١) الزمر. الآية ٥٨.

(٢) قال في النهاية : اى يقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان وقد تكرر ذكرها في الحديث. أقول : قد سبق نقل بعض ما ذكر فيه هذا المثل من الحديث (ج ١ ص ٩).

(٣) فصلت. الآية ٤٢.

٥٨

هذا السؤال كيف تركتم هذه النّصوص ونبذتموها (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا)؟ (١) إلا بانا طلبنا الحياة الدّنيا وآثرناها على الآخرة ، وما عذر عوامهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم واتّباعهم في عقائدهم؟ وهل يمكنهم الجواب عن هذا السؤال كيف تركتم هذه الآيات وقد جاءكم بها النّذير ، وعمرناكم ف (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)؟ (٢)؟ إلا بأنّا قلّدنا آبائنا وعلمائنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر مع كثرة الحلاف وبلوغ الحجة إلينا ، فهل يقبل عذر هذين القبيلين؟ وهل يسمع كلام الفريقين؟ «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عرفت فيما مضى أنّ النّص مالا يحتمل خلاف المقصود ، وقد علمت في كلّ الفصول من استدلالاته بالآيات أنّها دالة على خلاف مقصوده ، فهي نصوص مخالفة لمدّعاه ، والعجب أنّه يفتخر ويباهي بإتيانها ، ثم يقول : ما عذر علمائهم وعوامهم؟ فنقول : أمّا عذر علمائهم فإنهم يقولون يوم القيامة : إلهنا كنّا نعلم أنّ لا خالق في الوجود سواك ، وأنت خلقت كلّ شيء ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة ، فان تعذّبنا فنحن عبادك ، وإن تغفر لنا فبفضلك وكرمك ، ولك التّصرف فينا كيف شئت ، وأما عذر عوامهم فانّهم يقولون : إلهنا إنّ نبيّك محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرنا بأن نكون ملازمين للسّواد الأعظم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليكم بالسّواد الأعظم(٣) ، ورأينا في أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله السّواد الأعظم كان أهل السنة والجماعة ، فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم ، ورأينا أنّ المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود يخفون مذهبهم ويسمونه التقية ، ويهربون من كلّ شاهق إلى شاهق ، ولو نسب إليهم أنهم معتزليون ، أو شيعة ، يستنكفون عن

__________________

(١) إشارة الى قوله تعالى في سورة آل عمران. الآية ١٨٧.

(٢) إشارة الى قوله تعالى في سورة فاطر. الآية ٣٧.

(٣) رواه في كنز العمال (ج ١ ص ١٦٠) وتقدم ذكره في الجزء الاول من الكتاب.

٥٩

هذه النسبة ، فعلمنا أنّ الحق مع السواد الأعظم فتبعناهم «انتهى».

أقول

قد بينا فيما سبق : أنّ النص ليس ما توهمه من ظاهر تعريفه المذكور ، بل هو ما لا يحتمل خلاف المقصود ولو بمعونة القرائن الواضحة ، وأما ما ذكره : من أنّ الآيات كانت دالة على خلاف مقصود المصنف فبناه في ذلك كما مرّ على أنّ لفظ الفعل المذكور في بعض تلك الآيات بمعنى الكسب الذي اخترعه الأشعري ، وكذا ما ذكر فيها بلفظ الكسب ، وأنت تعلم أنّ لفظ الفعل والكسب لم يجيء في اللّغة بالمعنى الذي اخترعه من المحلّية والمقارنة ونحوهما ، ولا يدلّ عليه بإحدى الدّلالات الثلاث ، فاحتمال إرادته الكسب بذلك المعنى كما هو خلاف مقصود المصنف مخالف لمقصود الله تعالى أيضا ، فلا يقدح في استدلال المصنف بها على مقصوده ، ولا يدفع كونها نصا في معناها الحقيقي ، وأما ما ذكره الناصب في تقرير عذر علماء نحلته ، فهو مما لا يبيض وجوههم ، إذ يكذّبهم الله تعالى في ذلك ويقول لهم : كيف يصح دعواكم أنه لا خالق في الوجود سواك وأنت خلقت كلّ شيء؟ مع أنكم أثبتم صفات سبعة زائدة قديمة ، وأنكرتم كونها مخلوقة لي وأنكم نسبتموني إلى الظلم والسفه حيث نفيتم عن أنفسكم الفعل وأثبتم الكسب بالمعنى الذي لا يوجب استحقاق العقاب والثواب ، وأما التضرع إلى الله بأنك إن تعذّبنا فنحن عبادك وإن تغفر لنا فبفضلك ، فمشترك بين قاطبة أهل الإسلام لا اختصاص له بالأشاعرة ، وأما التصرف كيف شاء ، فإن أراد به أنواعا وأصنافا من الثّواب أو العقاب التي يستحقها المكلّف في استحسان العقل فصادق ، لكن لا يفيده ، وان أراد به التصرّف الحسن والقبيح فهو سبحانه منزّه عن القبيح فيرد بذلك برى على (ردّ على خ ل) وجوه ضراعتهم ، وأمّا ما ذكره في عذر العوام ، فهو عذر غير مسموع ، إذ يقول الله تعالى لهم في ردّ ذلك : من أين علمتم أنّ معنى السّواد الأعظم ذلك؟

٦٠