إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

__________________

عنه من الأفعال والأقوال والتقارير سندا وتبيانا لأحكام الشرع ومقياسا وميزانا لحدود الدين ، آية رحمانية مؤيدة من عند الله بالكرامات والمعاجز وصنوف الخوارق ، وكل ذلك باذنه سبحانه ، ملجأ الناس في مهامهم الاخروية والدنيوية يهتدون بهداه ويستضيئون بنوره ، كيف وهو الرحمة الموصولة والآية المخزونة والامانة المحفوظة والباب المبتلى به الناس ، راع للامة يتصدى لتدبير أمورهم وانتظام معايشهم يحكم بينهم بالعدل يجرى الحدود ، يكون عزا للمؤمنين وذلا للكافرين ، خصما للظالمين وعونا للمظلومين ، حافظا لبيت المال باذلا له في مصارفه المقررة الشرعية ممتنعا عن صرف حبة منه في سبيل الأهواء والميول قائم بنشر الإسلام والدعوة اليه بالقول والعمل ، علم بين الامة تجسم فيه العلم والتقوى والفضيلة ، فهو بكل وجوده وتمام هويته يسوق الرعية الى مدارج الفضل والتقى ، ويدعوهم الى دار السّلام سوقا تقتضيه الفطرة فان الطبائع مجبولة على اتباع قائدها وسائقها في الأفعال والآداب ، وهو يدعو ملل الدنيا بأبلغ دعوة وأوفى بيان الى حقانية الإسلام والدين الذي يدان به الله عزوجل ، وكم فرقا بين الدعوة بالفعل والعمل وبين الدعوة بالقول واللسان ، وبالجملة الامام المنصوب من قبل الباري تعالى شأنه العزيز ذو صفات فاضلة وكرائم شريفة.

شريف النسب كريم الحسب منهاج الهدى والمحجة البيضاء والطريقة الوسطى ، مقتدى الورى ، ومصباح الدجى ، وعلم التقى وصاحب الحجى وكهف الورى ، ووارث الأنبياء والمثل الاعلى ، والدعوة الحسنى ، وحجة الله على أهل الآخرة والاولى ، محل معرفة الله ومسكن بركته ، ومعدن حكمته وحافظ سره ، وحامل كتابه والدليل على مرضاته ، المستقر في أمره والمخلص في توحيده ، عبده المكرم الذي لا يسبقه بالقول ويعمل بأمره ، أهل الذكر وعيبة العلم ، جرثومة الفضل الذي كان يسئل عنه في المعاضل ولا يسئل عن غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الصراط الواضح والنجم اللائح والقوام بأمر الله الذي اصطفاه بعلمه وارتضاه لغيبه ، واختاره لسره واجتباه بقدرته ، أعزه بهديه وخصه ببرهانه ، انتجبه لنوره ، وأيده بروحه ، رضيه خليفة في ارضه ، وجلله بكرامته ، غشاه برحمته ورباه بنعمته غذاه بحكمته ، وألبسه نوره ، رفعه في ملكوته ، حفظه بملائكته ، وجعله ناصرا لدينه و

٣٠١

__________________

حافظا لسره وخازنا لعلمه ، مستودعا لحكمته وترجمانا لوحيه ، منارا في بلاده ، دليلا على صراطه ، ومفزعا لمظلوم عباده ، ناصرا لمن لا يجد ناصرا ، مشيدا لاعلام الدين ، يشعب الصدع ويرتق الفتق ، ويميت الجور ويظهر العدل ، يقتل جبابرة الكفر وعمده ودعائمه ، ويقصم رؤس الضلالة ، يعظم جلال الله ويكبر شأنه ، يمجد كرمه ويديم ذكره ، يؤكد ميثاقه ويحكم عقد طاعته ، وينصح له في السرو العلانية ويدعو الى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويبذل نفسه في مرضاته. ويصبر على ما أصابه في جنبه ، يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد في الله حق جهاده حتى يعلن دعوته ويبين فرائضه ويقيم حدوده وينشر شرايع أحكامه ، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال والخلال ، سعد والله من والاه واتخذه مولاه ، وخاب من اعرض عنه وعاداه ، خسرت صفقة عبد أعرض عنه ونأى بجانبه ، شقى من آثر واختار غيره عليه ، ضل وأضل من تجمل وتبغل ومن حزب الأحزاب والجموع وصف الصفوف بصفين والأنبار ومن قسط ونكث ومرق ، ومن كانت كمية علمه بالقرآن الشريف بحيث لم يعرف معنى لفظي الكلالة والأب ، ومن رام حد المجنونة والزانية الحامل ، ومن كان مبلغ بلاغته وذوقه قوله (تمرة خير من جرادة) ، ومن كانت فظاظته وقساوته في حد دفن بناته في الجاهلية وهن أحياء ، فأنشدك بالله العلى العظيم وبحق الرسول الأكرم أيها الأخ المسلم المتمسك بالكتاب والسنة هل يجوز لدى العقل الذي أودعه الباري سبحانه متابعة هؤلاء واتخاذهم أئمة ونبذ من اجتمعت فيه تلك الكرائم الفاضلة ، وحتى متى الرقود والى متى التقليد على عمياء ، اللهم تعلم انه قد تمت الحجة عليهم وبانت المحجة ، فمن اهتدى فلنفسه ومن عمى فعليها ، وليت شعري ما عذر مسلم متمسك بالإسلام في تركه التأمل والفحص والتنقيب حتى يتبين له الحق ، ولا يؤخر من قدمه النقل والعقل ، فلنختم الكلام بأبيات لشاعر اهل البيت حسان العراق ، نابغة الأدب الشيخ محمد الكاظم الازرى وتخميسها للشيخ جابر الكاظمي حشرهما الله مع ساداتهما الأمجاد ، حتى يكون الختام مسكيا

كم له في العلى مقام على

وفخار من كل فضل ملي

٣٠٢

__________________

حيث فيه قد جاء نص جلى

لا فتى في الوجود الا على

ذاك شخص بمثله الله باها

ممكن غير ممكن بعيان

وصفه في بديع كل بيان

ان من كل عنه كل لسان

لا ترم وصفه ففيه معان

لم يصفها الا الذي سواها

هو خدن العلى وللعلم مأوى

كل فضل عنه مدى الدهر يروى

مذ سواه العلياء لم تر كفوا

ألفته بكر العلى فهي تهوى

حسن أخلاقه كما يهواها

ذاك للمصطفى الحبيب حبيب

وعلى شرعه القويم رقيب

ولسقم الدين الحنيف طبيب

عائد للمؤملين مجيب

سامع ما تسر من نجواها

ملكا النشأتين دنيا وأخرى

ملاء العالمين يمنا ويسرى

فهما راحتا الفيوضات طرا

وهما مقلتا العوالم يسرا

ها على وأحمد يمناها

ما له في العلا سواه مماثل

وأخ ناصر له في الزلازل

وابن عم في الخطب للروح باذل

من غدى منجدا له في حصار

الشعب إذ جد من قريش جفاها

قد رأى صورة الهدى من رآه

وأتى باب العلم من قد أتاه

من عن الغيب قد أماط غطاه

كم عرى مشكل فحل عراه

ليس للمشكلات الا فتاها

آية كل منحة تحتويها

آية كل مدحة لا تفيها

آية قد سمت علا بذويها

آية جاءت الولاية فيها

لثلاث يعدو الهدى من عداها

٣٠٣

هي خلافة الرّسول في إقامة الدّين وحفظ حوزة الملّة بحيث يجب اتّباعه على كافة الأمّة وشروط الامام الذي هو أهل للامامة ومستحقّها أن يكون مجتهدا في الأصول والفروع ليقوم بأمر الدّين ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش ، شجاعا قوى القلب ليقوى على الذّب من الحوزة ، عدلا لئلا يجور ، فانّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصرّ على الصّغائر ، عاقلا ليصلح للتصرّفات الشرعيّة بالغا لقصور عقل الصّبي ذكرا إذ النّساء ناقصات العقل والدّين حرا قرشيا فمن جمع هذه الصفات فهو أهل للامامة والزّعامة الكبرى ، واما العصمة فقد شرطها الشيعة الاماميّة والاسماعيليّة ، واستدلّ عليها هذا الرّجل بأنّ الحاجة إلى الامام بالأمور المذكورة ، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد ، ونقول : ما ذا يريد من العصمة؟ ان أراد وجوب الاجتناب في جميع أحواله عن الصّغائر والكبائر فلا نسلّم لزوم ذلك ، لأنّ صدور بعض الصغائر المعفوّ عنها مع اجتنابه عن الكبائر لا يوجب أن لا يكون منتصفا من الظالم للمظلوم ، وباقي الأمور المذكورة ، وان أراد وجود ملكة مانعة من الفجور فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ، لأنّا شرطنا أن يكون عدلا والعدل من له ملكة العصمة المانعة من الفجور ، وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة لأنّ الملكة كيفية راسخة في النفس متى يراد صدور الفعل عنه صدر بلا مشقّة وروية وكلفة ، وصدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفى وجود الملكة لعوارض لا يخلو الإنسان عنها كصاحب الملكة الخلقية من العفّة والشّجاعة قد يعرض له ما يعرضه إلى إصدار خلاف الملكة ، ومع ذلك لا تزول عنه الملكة ، فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصر في تركها وإن صدر عنه نادرا بعض الصغائر ، فاندفع هذا الاشكال ولم يلزم التسلسل كما ذكره ، وأما ما قال : إنّ أهل السّنة خالفوا ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة السّراق والفساق

٣٠٤

فأنت تعلم أنّ هذا من مفترياته ، لأنّ كتب أهل السنّة مشحونة بالقول بوجوب عدالة الأئمة (١) ، فالفاسق كيف يجوز عندهم أن يكون إماما والحال أنّه ضد العدل فعلم انه مفتر كذاب ونعم ما قلت فيه شعر :

إذا ما رأى طيبا في الكلام

بقاذورة الكذب قد دنّسه

يخلط بالطهر أنجاسه

فابن المطهر ما أنجسه

والباقي من الكلام قد علمت أجوبته غير مرّة انتهى.

أقول

فيه نظر من وجوه اما أولا فلأنّ ما ذكره من أنّ مبحث الامامة عند الأشاعرة ليس من اصول الدّيانات بل من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلفين إلخ دليل على عدم ديانتهم أو عدم اطلاعهم على حقائق اصول الدّين ، فانّ إنكارهم لأصالته مكابرة مردودة بما ذكره المصنّف : من أنّ الأئمّة حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم كحال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم ولقوّة هذا الدّليل أغمض عنه النّاصب ولم يتعرّض له بل تعرّض لما ذكره المصنّف بعد ذلك بقوله : ولأنّ الحاجة إلى الامام إلخ حيث قال : واستدلّ عليه هذا الرّجل بأن الحاجة إلى الامام إلخ فافهم ، ومن العجب أنّهم بالغوا في فرعيّة هذه المسألة حتّى قالوا : لا يجب البحث عنها ولا طلب الحقّ فيها بل يكفي فيها التقليد ، ولهذا لا يكفر مخالفها بل لا يفسق في ظاهر أقوالهم ، وإنّما التزموا ذلك لتحصل الغفلة عمّا اقترحوه من ثبوت الامامة بالاختيار دون النّص والاعتبار ، ولئلا يحصل الظفر بفساد ما انتحله خلفائهم من حقوق الأئمّة الأعلام واختلقوه (٢) من الأحاديث التي

__________________

(١) الا انهم وسعوا وتصرفوا في معنى العدالة التي هي من الكيفيات النفسانية الشريفة الفاضلة بحيث سوغوا الاقتداء بكل بر وفاجر ، وقبول الشهادة وإسماع الطلاق كذلك ، فراجع كلماتهم حتى تطمئن بصدق ما نقلناه من أقوالهم وشاهدناه من أفعالهم.

(٢) الاختلاق : في الاصطلاح الوضع والجعل.

٣٠٥

أسندوها (١) إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم ، ثمّ ناقضوا ذلك وصرّحوا بأنّ حقوق النبوّة من حماية بيضة الإسلام وحفظ الشّرع ونصب الألوية والأعلام في جهاد الكفّار والبغاة والانتصاف للمظلوم وإنفاذ المعروف وإزالة المنكر وغير ذلك من توابع منصب النبوّة ثابتة للامامة ، لأنّها خلافة عنها ، ولقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) وهو الامام بالاتّفاق ، فيجب معرفته أصالة لا من باب المقدمة ولما رووه في كتبهم كالحميدي في الجمع بين الصحيحين (٣) من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم قال من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ، وهو نصّ صريح في أنّ الامامة من الأصول للعلم الضروريّ بأنّ الجاهل بشيء من الفروع وإن كان واجبا لا تكون ميتته ميتة جاهليّة ، إذ لا يقدح ذلك في إسلامه ، وليس المراد من إمام زمانه القرآن المجيد كما زعموا وإلا لكان تعلّمه واجبا على الأعيان ، ولان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم أضاف الامام إلى الزّمان وفيه دليل على اختصاص أهل كلّ زمان بإمام يجب عليهم معرفته ومع القول بأنّه القرآن أو بعضه كالفاتحة لا يبقى لهذا التخصيص فائدة أصلا ، سيّما على مذهب الحنفي الذي لا يوجب تعلّم القرآن ولا الفاتحة ولا بعضا آخر منه ، بل يحكمون بكفاية أن يقال (٤) بالفارسية (دو برك سبز) كما هو المشهور بين الجمهور

__________________

(١) فقد تحقق من ذلك أن الامامة خلافة عن النبوة وقائمة مقامها ، وإذا كان كذلك كان كل ما استدللنا به على وجوب النبوة في حكمة الله تعالى فهو بعينه دال على وجوب الامامة في حكمته أيضا ، لأنها سادة مسدها قائمة مقامها لا فرق بينها وبينها الا في تلقى الوحى الإلهي بلا واسطة بشر ، وكذا الكلام في الشرائط ، وسيأتي تحقيق الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

(٢) النساء. الآية ٩٥.

(٣) رواه في كنز العمال (ج ١ ص ١٨٦ ط حيدرآباد).

(٤) كما يدل عليه ما نقله السرخسي عن أبي حنيفة في المبسوط (ج ١ ص ٣٧ ط مصر).

٣٠٦

فلا يكون هذا التأويل مطابقا لمقتضى الحديث قطعا بل قد صرح القاضي البيضاوي في مبحث الأخبار من كتاب المنهاج وجمع من شارحي كلامه بأنّ مسألة الامامة من أعظم مسائل اصول الدّين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة ، وقال الاسروشنى (١) من الحنفيّة في كتابه المشهور بينهم بالفصول الاسروشني بتكفير من لا يقول بامامة أبي بكر ، بل هم يناقضون ذلك بفعلهم أيضا حيث يتصدّون لقتل (٢) من ظنّ أنّ

__________________

وكذا ما في كتاب الفتاوى العالمگيرية (ج ١ ص ٦٤ طبع الآستانة) وكذا ما فيه أيضا في (ص ٦٥) وغيرها من كتبهم ، ومن الموارد التي صرح فيها بما ذكره مولانا القاضي من قضية (دو برك سبز) كتاب حيوة الحيوان للفاضل الدميري في مسألة مناظرة الحنفية مع الشافعية بحضرة السلطان فراجع.

(١) هو العلامة أبو الفتح مجد الدين محمد بن محمود بن حسين الحنفي المتوفى سنة ٦٣٢ أخذ عن أبيه وعن أستاذ أبيه صاحب الهداية وعن السيد ناصر الدين القتيل وغيرهما ، وله تصانيف وتآليف ، منها كتاب الفصول في الفقه وغيره والاسروشنى بالفتح ثم السكون وضم الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة ونون مكسورة قال ياقوت في المعجم (ج ١ ص ١٧٦ طبع بيروت) ان الأعرف أن بعد الهمزة شينا معجمة انتهى وكذا ضبطه السمعاني فراجعه ، وراجع الى الفوائد البهية لعبد الحي الهندي (ص ٢٠٠ طبع مصر) وكثيرا تزاد التاء المثناة الفوقانية بعد السين ويقال استروشنى وهو وهم وزلل فلا تغفل

(٢) ويكفى في ذلك أن تراجع الى كتب التراجم فتراها مشحونة بالشهداء من علماء الشيعة ولله در العلامة المجاهد الآية الأميني دامت بركاته في تأليفه كتاب شهداء الفضيلة وعليك بالنظر فيه فتجد أن المذكورين فيه هم علماء الشيعة الذين قتلوا في سبيل التشيع ومنهم الشيخان السعيدان الشهيدان الاول والثاني ومنهم مولانا الشريف القاضي مصنف الكتاب وممن قتل في هذا الشان جدي العلامة السيد أبو المجد الحسيني المرعشي وقد أشرنا في المقدمة أنه قتلته أكراد الشافعية باشارة من علمائهم وقد أضفنا على الكتاب أسامي عدة من الشهداء بعنوان الاستدراك فلاحظ.

٣٠٧

أبا بكر ليس بإمام أو قال أنا أعتقد أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خليفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم بلا واسطة لظنّ أدّاني إليه أو تقليد لبعض المجتهدين ، وبالجملة لو كانت هذه المسألة من الفروع لكفي فيها ظنّ المجتهد أو تقليد الغير ، فلا يكون سبيل إلى تخطئة المجتهد الذي ظنّ أو قال شيئا ممّا تقدّم فضلا عن قتله والحال أنّ فتواهم بل فعلهم بخلاف ذلك هذا ، واستدل (١) في المواقف وشرحه على أنّها من الفروع بأنّ نصب الامام واجب على الامّة سمعا لوجهين الاول أنّه تواتر اجماع المسلمين في الصدر الأوّل بعد وفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم على امتناع خلوّ الوقت (٢) عن إمام حتّى قال أبو بكر ألا إنّ محمّدا قد مات ولا بدّ لهذا الدّين ممّن يقوم به فبادر الكلّ إلى قبوله وتركوا أهمّ الأشياء وهو دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم والصّلاة عليه والتعزية لأهل البيت عليهم‌السلام وتسليتهم ، ولم يزل الناس بعد الخلفاء على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متّبع ، الثاني أنّ فيه دفع ضرر مظنون وأنّه واجب إجماعا ، وبيانه أنّا علمنا علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع إنّما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا انتهى ، وأقول : فيه وجوه من الخلل وصنوف من الزّلل ، أمّا في استدلاله على ذلك بأن نصب الامام واجب على الامّة إلخ ، فلانّه مصادرة على المطلوب لأنّ وجوب النصب على الامة متفرع على كونها من الفروع مع أن الوجوب السمعي

__________________

(١) شرح المواقف (ج ٢ ص ٤٦٤ ط مصر).

(٢) وذلك لا يتم الا بإمام من قبل الشارع يرجعون اليه فيما يعن لهم ، فإنهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء قل ما ينقاد بعضهم لبعض ، فيقضى ذلك الى التنازع والتواثب وانما يؤدى الى هلاكهم جميعا وتشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة الى نصب آخر بحيث لو تمادى لعطلت المعاش وصار كل أحد مشغولا بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه ، وذلك يودى الى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين. كذا في المواقف.

٣٠٨

منحصر في الكتاب والسّنة والإجماع ، والكلّ مفقود هاهنا باعتراف الخصم كما سيظهر لك قريبا ، وأيضا وجوب نصبه على الامّة يقتضي أنّهم إذا لم يتّفقوا لم يحصل انعقاد الامامة ، بل يجب إعادة النّظر مرّة بعد أخرى ، وقد لا يثمر شيئا من ذلك اتفاقهم لاختلاف الآراء غالبا وهو يبطل تعليقها على رأى الامّة وإلا لزم تعذّر نصب الامام أو جواز عمل كلّ فريق برأيه فيكون منصوب كلّ فريق إماما عليهم خاصّة وهو خلاف المطلوب ، واما قوله : تواتر إجماع المسلمين على امتناع خلوّ الوقت عن إمام إلخ فلأنّ امتناع خلوّ الزّمان (الوقت خ ل) عن الامام أعمّ من أن يكون منصوبا من الله ورسوله أو من قبل الامّة ، ولا دلالة للعامّ على الخاص ، فلا يستلزم المطلوب مع أنّ الإجماع المذكور حجّة عليهم ، لأنّا نجد كثيرا من الزّمان خاليا عن إمام جامع للشرائط المعتبرة عندهم وهي القرشيّة عندهم بالاتفاق ، والعدالة والاجتهاد على الخلاف ، والقول بوجوده في ناحية غير معلومة مكابرة ، واما قوله : فبادر الكلّ ، فلأنّ هذا الكلّ كان بعضا من الكلّ باتّفاق الكلّ فلا يكون حجّة على الكل عند الكل ، ولأنّه يحتمل أن تكون المبادرة للتفحص عن إمام منصوب من الله تعالى ورسوله ، واما قوله : وتركوا أهمّ الأشياء فلأنّ الذي ترك الامام ودفن الرّسول كان جائرا جاهلا زنديقا (١) لا عالما عادلا صديقا ، فليس ذلك مستلزما للمطلوب لقيام الاحتمال المذكور ، والشيعة يستدلون بفعلهم الشّنيع هذا على عصيانهم بل عدم ايمانهم واختيارهم الدّنيا على الآخرة وذلك لأنّهم يذكرون حديثا وهو أنّه من صلّى علىّ مغفور غفر له ذنوبه (٢) فلو كانوا مصدّقين بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أعرضوا عن هذه السعادة الكبرى والمغفرة العظمى مع أنّ المصلحة والمشورة في امور الدّين والدّنيا ما يفوت بيوم أو يومين ، فلو كان لهم ايمان ومروّة لصبروا للصّلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتعزية لأهل البيت عليهم‌السلام وإدخالهم في المشورة ، إذ النزاع كان معهم

__________________

(١) الزندقة الكفر باطنا مع التظاهر بالايمان.

(٢) رواه في مجمع الزوائد (ج ١٠ ص ١٦٠ ط مصر).

٣٠٩

ولذلك قال عليّ عليه‌السلام كيف الشورى والمشيرون غيّب (١) وليت شعري كيف صار ذلك واجبا فوريّا مع أنّه حين أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم أن يكتب في مرضه كتابا في هذا الباب منع منه عمرو قال : (٢) حسبنا كتاب الله كما سيجيء ، واما قوله ولم يزل النّاس إلخ

__________________

(١) وقال في خطبة له ع في نهج البلاغة (ص ٢٥٠ ط القديم بطهران): ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس ما الى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب أن يختار ، وقال ايضا في النهج (ص ٥٦١ ط القديم بطهران) في كلماته القصار في الحكم والآثار :

فان كنت بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيب

(٢) ذكر في صحيح البخاري (الجزء الاول ص ٣٠ ط الاميرية بمصر) وفي صحيح مسلم (الجزء الخامس ص ٧٦ ط الصبيح بمصر) وفي مجمع الزوائد (الجزء التاسع ص ٣٦ ط مصر) وفيه رواية عن عمر بن الخطاب غير ما رواه صاحب الصحيحين ، وفي حياة النبي (ج ٣ ص ٣٣٩ مخطوط) محمد بن سعد في الطبقات (ج ٤ باب مرض النبي) عن ابن عباس ، فقال عمر : ان رسول الله قد غلبه الوجع : حسبنا كتاب الله ، وفي رواية عن جابر بعد ذكر ما رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر بن الخطاب فرفضه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي رواية عن عمر بن الخطاب ان النسوة قلن اعطوا رسول الله بحاجته ، قال : عمر قلت : اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن اعينكن وإذا صح أخذتن بعنقه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هن خير منكم (انتهى ما في الطبقات على سبيل التلخيص) الى آخر ما نقل.

وروى الخطيب الكازروني في كتاب مولد النبي (باب مرض النبي مخطوط) فقال عمر : ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله.

وقال الحلبي في السيرة (ج ٣ ص ٣٨٢ ط مصر) باب مرض النبي : ما لفظه فقال بعضهم وهو سيدنا عمر ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن.

٣١٠

فلأنّه مكابرة وخلافه ظاهر لا يخفى على أحد ، واما قوله : لأنّ فيه دفع ضرر فلأنّ في نصب الامام بعد النبيّ وخلفه ضرر مظنون بل مجزوم به ، وكذا بعد ذلك في بعض الأوقات : واما قوله : لأنّا نعلم إلخ فلأنّ هذا القول مع عدم دلالته على المقصود اعتراف منه بأنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض لعدم الفرق بين المقصود والغرض ، والقول بأنّ مقصوده أو غرضه جلّ جلاله لا يكون باعثا على فعله مكابرة

__________________

وروى احمد في المسند (ج ١ ص ٣٢٥ الطبع المصري القديم) بهذا المضمون وروى سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص (ص ٩٨ ط النجف الأشرف) عن أبي حامد الغزالي في كتاب سر العالمين : أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته بيسير : أعطوني بدوات وبياض لأكتب لكم كتابا لا تختلفون فيه بعدي ، فقال عمر : دع الرجل انه ليهجر وفي شرح المواقف (ج ٢ ص ٤٧٩ ط مصر) قال عمر ان النبي قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله.

ويظهر من المناقب المرتضوية للمولى محمد صالح الترمذي الكشفى الحنفي من مشاهير علماء القوم في القرون المتأخرة : أن صدور تلك المقالة من الثاني في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبمحضره من المسلمات لديهم وانه تجاسر بقوله : ان هذا الرجل اشتد وجعه حسبنا كتاب الله ، وقال الترمذي بعد نقل هذه القضية : انها مما اتفق عليه ، والكتاب فارسي مشهور طبع مرات بالهند.

وفي كتاب مدارج النبوة للمحدث الشهير المولوى شاه عبد العزيز الدهلوي الهندي (ص ٥٣٢ طبع كان پور) وقد نقل ما هو صريح في ذلك.

ونص على ذلك المولى شمس الدين الهروي في كتاب السيرة (ص ٣٩ طبع بمبئى) وكذا في صحيح البخاري (ج ١ ص ٣٠ الطبع الجديد بمصر)

وفي صحيح مسلم (ج ٥ ص ٧٦ الطبع الجديد بمصر)

وفي مجمع الزوائد (ج ٩ ص ٣٤ طبع مصر) عدة روايات غير ما في الصحيحين فراجع

٣١١

صريحة كما لا يخفى ، وقد تحقق بما فصّلناه أنّ الامامة خلافة عن النّبوة قائمة مقامها كما أشار إليه المصنّف ، فإذا كان كذلك فكلّ ما استدللنا به على وجوب النبوّة في حكمة الله تعالى فهو بعينه دالّ على وجوب الامامة في حكمته أيضا ، لأنّها سادة مسدّها لا فرق بينها وبينها إلا في تلقي الوحى الإلهي بلا واسطة ، وكذا الكلام في الشرائط المعتبرة عندنا ، واما ما ذكره الناصب من اشتراط الاجتهاد فمردود بأنّ رتبة الامام أجل وأعلى من ذلك كما أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لما سيجيء في مباحث اصول الفقه من الأدلة الدّالة على ذلك : ومنها أنّ الاجتهاد قد يخطئ ووقوع الخطاء من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندنا كان محالا لثبوت عصمته كما مرّ ، فكذا الامام القائم مقامه كما سبق ، ولأنّ الامام وإن لم يكن مؤيّدا بالوحي لكنّه متمكّن من الإلهام ومطالعة اللوح المحفوظ كما يدلّ عليه كلام الشّيخ (١) ابن حجر العسقلاني في شرح ما رواه البخاري من حديث اعتراض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحسن عليه‌السلام أيام رضاعه عند وضع بعض تمرات الصّدقة في فمه بقوله : كخ كخ (٢) أما تعلم أن الصدقة حرام علينا ، فانّ الشيخ المذكور أجاب عن قول من استبعد اعتراض النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم على الحسن في حال رضاعه وعدم كونه مكلفا بعدم استواء حال الحسن عليه‌السلام وحال غيره ، لأنّ الحسن عليه‌السلام في تلك الحال كان يطالع اللّوح المحفوظ ، على أنّه لو بنى على كفاية اشتراط الاجتهاد في الامام فربّما لزم إفحامه ، لأنّه يقول له المكلف : لا يجب علىّ اتباعك حتّى أعرف أن ما تقوله صواب غير ناش عن حال غلبة القوّة الشهويّة ولا أعرفه إلّا بقولك وقولك ليس بحجّة دائما بل حال غلبة القوّة العقلية المساوقة للعصمة ، ولا أعرف أنّ هذه الحال هي تلك الحال فينقطع الامام ، لا يقال : لم لا يجوز

__________________

(١) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجزء فليراجع.

(٢) رواه أيضا في البيان والتعريف (ج ٢ ص ١٣٩ ط مصر) عن الصحيحين ولكن بدل اما تعلم اما شعرت وروى البخاري نظير ذلك فراجع ثم كلمة كخ اسم فعل بمعنى (الق)

٣١٢

معرفة صحّة قوله بكونه مجتهدا ، سلمنا لكن لم لا يجب قبول قوله كقبول قول المفتي فانّه يجب على المقلّد قبول قوله دائما وإن لم يكن معصوما ، لأنا نقول : أمّا مدّعي الاجتهاد فيلزم إفحامه أيضا لأنّه إذا ألزمه (١) المكلّف له أن يقول : إنّي اجتهدت فادّى اجتهادي إلى عدم وجوب قبول قولك في هذه الحالة فينقطع ، وأما وجوب قبول قوله كالمفتي فهو باطل لوجوه ، منها : أن قبول قول المفتي إنّما هو على العامي المحض الذي لا يتمكّن من معرفة الصّواب عن الخطاء بالاجتهاد ، أما من يتمكّن فلا يجب عليه قبول اجتهاد آخر (٢) ، ومنها ما هو مذكور في كتاب الألفين (٣) للمصنّف قدس‌سره فليرجع إليه من أراد زيادة الإفادة ، وأمّا اشتراطهم للبصارة بتدبير الحروب فهي من لوازم اشتراط العصمة ، إذا المعصوم مؤيّد ضرورة بالعقل والبصارة في ضروريّات الدّين وكذا الشجاعة ، ولعلّ النّاصب لما رأى أنّ دعوى الشجاعة المقرونة بصدور الآثار للثلاثة الذين فرّوا مرارا (٤) وذهبوا (٥) عريضا في غزوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما سيجيء مشكلة أردفها بقوله : قوي القلب ليكون

__________________

(١) هذا مبنى على أن يكون المجتهد مجتهدا مطلقا ، والمكلف المناظر معه مجتهدا متجزيا.

(٢) هذه المقدمة مذكورة في الرسالة التي عملها فخر الدين الرازي لبيان تفضيل مذهب الشافعي على غيره من المذاهب.

(٣) فراجع الألفين (ص ٤٩ طبع طهران سنة ١٢٩٦) وسماه بالالفين لاحتوائه على الفى دليل في امامة مولانا على عليه‌السلام وبطلان خلافة غيره.

(٤) فراجع مجمع الزوائد (ج ٢ ص ١ ـ ١٥٠ ط مصر) وشرح المواقف (ج ٢ ص ٤٧٥ ط مصر) وحياة محمد (ص ٢٩١) وتاريخ الطبري في غزوة احد (ج ٢).

(٥) إشارة الى ما سيجيء من خطابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعثمان حيث فر من الغزوة قد ذهبت (عريضا) وهو بفتح العين بمعنى طويلا.

٣١٣

مهربا له عند اعتراض أحد عليه في دعوى الشّجاعة لهم ، بأن يقول له على طريقة الرّجم بالغيب والرّمي في الظلام : إنّ قوّة القلب التي هي منشأ الشّجاعة أمر غيبي لا يعلمه إلا الله كانت حاصلة فيهم وإن لم يظهر فيهم لوازمها وآثارها ، وفيه ما فيه ، وأما العدالة فقد أغنى الامام ما اشترطنا فيه من العصمة عن اشتراط التي دونها في المرتبة فلا يخفى ما في استدلاله على اشتراط العدالة وعدم الجور بقوله : فانّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ، فانّه أخصّ من المدّعى كما لا يخفى ، واما اشتراط الحرية فهو ممّا لا كلام فيه ، وأما القرشية فليس بشرط لكنّه قد اتّفق كون أئمّتنا المعصومين الاثني عشر عليهم‌السلام من قريش من بني هاشم ثمّ من بني عبد المطلب ثمّ من آل النبيّ صلوات الله عليه وآله ، واما ثانيا فلأن قوله : واستدلّ عليه هذا الرّجل بأنّ الحاجة إلى الامام إلى آخر ما ذكره من الإيراد والتّرديد مردود أولا بأنّ ما أتى به من منع اللزوم منع للمدعى المستدلّ عليه ، فيكون خارجا عن قانون المناظرة ، وثانيا أنّا نختار أوّلا الشق الأوّل ونقول : إنّ المنع الذي ذكره بقوله لا نسلّم لزوم ذلك اما منع لوجوب الاجتناب عن الصغائر كما يدلّ عليه قوله : لأنّ صدور بعض الصغائر إلخ او منع لوجوب الاجتناب في جميع الأحوال أيضا ، والثاني ظاهر البطلان ، إذ من الأحوال حال الكهولة والشيخوخة والسّفر والحضر وحال القعود والقيام وحال كونه راكبا أو راجلا إلى غير ذلك ، ومن البين أنّ عدم انتصافه للمظلوم عن الظالم في بعض هذه الأحوال يخلّ بفائدة إمامته وكذا الأوّل ، لأنّ الكلام ليس في صدور الصغائر وفي إيجاب ذلك عدم الانتصاف عن الظالم للمظلوم بل في جواز صدور الصغائر والكبائر عنه واستلزام ذلك جواز أن يخطأ ولا ينتصف فيحتاج إلى إمام آخر وهكذا فيلزم التسلسل والحاصل أنّ الغرض من نصب الامام أن يبعّد المكلّفين عن الخطأ والعصيان ويقرّبهم إلى الطاعة والرّضوان ، فلو كان هو أيضا جائز الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر ، وذلك

٣١٤

الآخر أيضا لو لم يكن معصوما لاحتاج إلى ثالث وهكذا فلو لم يكن في شيء من المراتب إمام معصوم يلزم التسلسل ، وقد شابه هذا الدّليل دليل وجوب انتهاء الممكنات إلى الواجب تعالى دفعا للتّسلسل كما لا يخفى هذا ، وربما يكابر المخالف ويقول : ليس الغرض من الامام ما ذكرتم من التبعيد والتقريب ، بل الغرض منه حفظ أهل الإسلام وترتيب أمورهم على وجه النّظام حتّى لا ينتهي إلى الفتنة والفساد واختلال أحوال العباد ، وفي كلام النّاصب إشعار بهذا أيضا ، ودفعه ظاهر لأنّ نظام الأمور على الوجه المخالف للشريعة ليس بمطلوب للشارع ، فيجب أن يكون الامام معصوما وإلا لما كان نظام الأمور مع وجوده على الوجه الشّرعي ولا أقلّ من جهة معصيته فيحتاج إلى آخر يحصل منه الانتظام الشّرعي ويتسلسل ، وثالثا أنّا نختار الشقّ الثّاني ونقول : إنّ أكثر ما ذكره من أحكام الملكة باطل مخترع من عند نفسه سيّما ما ذكره بقوله : وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة فانّه دعوى كاذبة باطلة ، وما استدلّ عليه بقوله : لأنّ الملكة كيفيّة راسخة في النّفس متى يراد صدور الفعل إلخ أكذب منه ، وإنّما المذكور في الكتب المتداولة في تعريف الملكة ما أخذ فيه قيد الدّوام والضبط قال العلامة الدواني (١) في رسالته الفارسيّة المشهورة المعمولة في تحقيق معنى العدالة ما هذه عبارته : وچون نفس متمرّن بملكات ثلاث حكمت وعفّت وشجاعت گردد بر وجهى كه على الدّوام أفعال بر قانونى مضبوط ونهجى مقرّر از او صدور يابد بى تجشم رويّتى جديد وسعى مستأنف آن ملكه عدالت باشد» انتهى ، وقد عرّف ابن الحاجب (٢) في مختصره وغيره في غيره العدالة بأنّها كيفيّة راسخة تبعث المتّصف بها على ملازمة التّقوى والمروّة ، والرّسوخ والملازمة يقتضيان الدّوام وعدم التخلّف كما لا يخفى ،

__________________

(١) قد مرت ترجمته (ج ١ ص ٤٠ وج ٢ ص ١١)

(٢) قد مرت ترجمته (ج ١ ص ١٧٠)

٣١٥

وهل يقول عاقل : إنّ الكتابة إذا صارت ملكة لا ينافيها وقوع الغلط فيها بعد ذلك؟ بل الذي نقله هذا الناصب سابقا في شرح مسألة عصمة الأنبياء من تعريف الأشاعرة وهو أن لا يخلق الله فيهم ذنبا يقتضي الدّوام واللّزوم أيضا ، بل ما نقله من تعريف الحكماء ثمّة يستدعي ذلك أيضا ، فما ذكره من أنّ صدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة مقدّمة فاسدة مخالفة للعقل والنّقل ، نعم يمكن وقوع خلاف ملكة العدالة ظاهرا لعارض كالجبر بأن أوجر (١) الخمر في حلق صاحب تلك الملكة أو كوجوب الكذب لانقاذ النبيّ الذي قصده الأعداء فانّ ارتكاب الكذب هاهنا إنّما هو لكونه أقل القبيحين وقد قال الشارع عليه‌السلام : من ابتلى ببليّتين فليختر أيسرهما وحيث لا مخالفة للشّرع حقيقة في هاتين الصّورتين وما يحذو حذوها فلا يكون الإتيان بهما قادحا في ملكة العدالة ، ومن هذا الباب ما يصدر في حال التقيّة كما لا يخفى ، واما ثالثا فلأنّ إنكاره لما نسبه المصنّف إلى أصحابه من تجويزهم إمامة الفسّاق والسرّاق حيلة لا تفي بإصلاح ما أفسده أسلافه ، فقد قال الأسفرايني الشافعي (٢) في كتاب الجنايات من الينابيع : وتنعقد الامامة ببيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرّؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسّر حضورهم الموصوفين بصفات الشهود كامامة (٣)

__________________

(١) يقال : أوجره ايجارا إذا جعل الوجور في فيه والوجور : الدواء وكل ما يكرهه الشخص

(٢) قد مرت ترجمته ج ١ ص ١٠١ فراجع.

(٣) فبالله عليك أيها المنصف هل لم يكن في المدينة من اهل الحل والعقد الا نفر قليل وهم الذين اجتمعوا في السقيفة كلا ثم كلا أو لم يكن هناك عباس عم النبي وأولاده وعقيل وأولاده وبنو الحارث بن عبد المطلب وبنو مخزوم وغيرهم من كبراء بنى هاشم سادات الحرم وسائر الأكابر من المهاجرين والأنصار من أهلهما؟ ا ولم يكن حضورهم متيسرا؟ او لم يكونوا متصفين بصفات الشهود؟ وعليه فكيف تم أمر الامامة في حق أبي بكر ، وهل كان الا بالتمسك بلطائف الحيل في اذهاب حق من كان ثابت الحق الذي يدور معه حيثما دار؟

٣١٦

الصدّيق واستخلاف من قبله ولو لبعضهم كامامة (١) الفاروق وبجعله الشّورى كامامة (٢) عثمان وبقبول المولى من عهد المولى إلى موته بالقهر والاستيلاء ولو فاسقا أو جاهلا أو عجميا انتهى ، وقال شارح العقائد النسفيّة (٣) : إنّه لا ينعزل الامام بالفسق والجور (٤) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء ، والسّلف كانوا

__________________

(١) فيا معاشر العقلاء أنصفوا في الحكومة ؛ فلو كان أمر الخلافة شورى بين المسلمين فما معنى استخلاف شخص لشخص ، فهل هذا الا التهافت والتحكم الجدير بالتهكم واعتقادي المصيب الذي يوافقه كل لبيب منقب في استخراج علل القضايا أن المستخلف بالكسر أراد مكافئة المستخلف بالفتح على بيعته إياه فالأمر من باب (اطعم تطعم) فما جواب إخواننا أهل السنة والجماعة عند الله تعالى يوم فصل الخطاب في الغميضة عن هذه الشئون.

(٢) لو كانت الخلافة بالشورى فلم اختصت بست نفرات مع الشرط بمتابعة العدة التي أحدها عبد الرحمن بن عوف أولم يكن في المدينة من أهل الحل والعقد غيرهم أولم يكن الوصول الى غيرهم متيسرا ولا نرى على مبناهم حقا للخليفة أن يفعل كذلك ويجعل كبار الصحابة وسادات المسلمين ممنوعين من الدخول في هذه الجلسة الشورية ، واعتقادي في مسألة جعل الشورى بين الستة مع ذاك الشرط أن الثاني كان واقفا على بغض ابن عوف لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان مقصده ومقصوده حرمانه ع عن الخلافة وهذا ظاهر لمن سبر وغار في السير وأحوال الصحابة.

(٣) هو المحقق التفتازاني وقد مرت ترجمته (ج ١ ص ١٤٢).

(٤) وقال صاحب الكتاب المسمى بفصل الخطاب من الحنفية «ونزديك ما حكم سلطان جائر همچو سلطان عادل بود وطاعت وى هر چه نه در معصيت بود بايد داشتن واز پس وى بايد نماز گزاردن وخروج بر وى روا نبود» منه «قده».

٣١٧

ينقادون لهم ويقيمون الجمع (١) والأعياد بإذنهم انتهى ، وقال شارح الوقاية (٢) في فقه الحنفيّة لا يحدّ الامام حدّ الشرب ، لأنّه نائب من الله تعالى انتهى ، وإنّما تكلّفوا هذه الخرافات ليتيسّر لهم حفظ صحّة إمامة معاوية ويزيد وأمثالهم ، ومن قال منهم : إنّ الامام يشترط أن يكون من أهل العدالة فالظاهر أنّه شرط استحساني عنده لا شرط لازم (٣) كما قال في المطول (٤) : إنّ اعتقاد التنافي في شرط حسن قصر القلب ، وقال (٥) عليه الصّلاة والسّلام لا صلاة إلا بحضور القلب أي لا كمال

__________________

(١) الجمع : جمع الجمعة والمراد بها صلاة الجمعة.

(٢) الوقاية في فقه الحنفية لبرهان الشريعة محمود بن صدر الشريعة الاول الحنفي البخاري وشرحه جماعة وأشهر شروحها شرح المولى يوسف بن الحسين الكرماستى المتوفى سنة ٩٠٠ ثم شرح صدر الشريعة الثاني عبيد الله بن مسعود المتوفى سنة ٧٥٠ قال الفاضل الجلبى في الكشف : انه أشهر شروحه والمنسبق الى الأذهان.

(٣) والا لزم التناقض وكيف يقولون بذلك مع أن الامامة تحصل عندهم بالبيعة ، وقد وقعت البيعة على معاوية ويزيد وأضرابهما أكثر من المتقدمين من تيم وعدى. منه «قده»

(٤) في المختصر (ص ٨١ ط الجديد بطهران) (وفي المطول طبع عبد الرحيم ص ٦١٥).

(٥) وروى الحافظ السيوطي في الجامع الصغير (ج ١ ص ٤٨١ ط مصر) ما يشتمل على مضمونه ، وروى الغزالي في الاحياء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ان العبد ليصلى الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وانما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها.

وفي كتاب عين العلم وزين الحلم لمحمد بن عثمان بن عمر البلخي (ص ٤٩ طبع بمبئى في مطبعة الدت پرشاد) (حديث) لا ينظر الله الى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه وقال المولى على القاري في توضيحه اى لا ينظر نظر قبول ورحمه وعناية.

وقال البلخي في الكتاب المذكور (ص ٤٩) أيضا ما لفظه.

(حديث) ان العبد ليصلى الصلاة وانما يكتب ما عقل منها انتهى.

٣١٨

إلا بها فتدّبر ، واما ما قاله نظما فمقابل بما قلت ارتجالا شعر :

إذا ما رأى فاضلا في الأنام

بفضلة فيه لقد دنّسه

يلوث المطهّر بما فضله

فضول اصفهاني ما انجسه

قال المصنف رفع الله درجته

المبحث الثاني في أنّ الامام يجب أن يكون أفضل من الرعيّة ، اتّفقت الامامية (١) على ذلك وخالف فيه الجمهور فجوّزوا تقديم المفضول على الفاضل ، وخالفوا مقتضى العقل(٢)

__________________

(١) وكذا الزيدية وأبو عذبة من الماتريدية.

(٢) قد بينا في التعاليق السابقة شئون الامام والمراد منه ودلالة العقل على وجوب نصبه من قبل الله تعالى وكون الاعتقاد به من اصول الإسلام ، فيكون تصدى الناس لنصب امام آخر قياما في قباله تعالى شأنه العزيز ، فلا تصل النوبة الى وجوه الترجيح في انتخاب الامام ومع ذلك تعرض المصنف للبحث فيه مما شاة لهم فذكر مخالفة الاشاعرة لمقتضى حكم العقل بعدم جواز تقديم المفضول على الفاضل وتوضيحه أن جهات الفضيلة تنحصر في قسمين أحدهما الفضائل الناشئة من المولد كالحسب والشرف والنسب وثانيهما الفضائل الشخصية الغير المنوطة بالمولد وجامعها ما يحصل به ارتقاء النفس الى مدارج الكمال فمنه ما يحصل للنفس بلا واسطة الجوارح ومدخلية الاعمال الصادرة عنها فيه ومنه ما يحصل للنفس من ناحية الاعمال الصادرة عن الجوارح والأعضاء ، ولا يحصل الكمال العملي الحاصل من ناحية العمل الا بأمور الاول القوة الورعية الشديدة الباعثة للنفس الى طاعة الله والملزمة لها عليها الثاني الشجاعة المانعة عن تأثير أهواء النفوس الأخر في ردعه عن ملازمة التقوى والطاعة الثالث العلم بالمعارف الحقة والاحكام الشرعية كلياتها وتفاصيلها ودقائقها الرابع العلم بكيفية تطبيقها على الخارجيات من المعرفة بجزئيات الأمور لتتشخص موضوعات الاحكام عنده والا لا يكون عاملا بالحق بمجرد العلم بالكبريات بل يتوقف على العلم بالصغريات لتترتب عليهما فعلية تلك الكليات

٣١٩

ونصّ الكتاب ، فانّ العقل يقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ورفع مرتبة المفضول وخفض مرتبة الفاضل ، والقرآن نصّ على إنكار ذلك فقال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١) وقال الله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) وكيف ينقاد الأعلم الأزهد الأشرف حسبا ونسبا للأدون في ذلك كلّه انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : المراد من كون الامام أفضل من الرّعيّة إن كان كونه أحسب وأنسب وأشرف وأعرف وأعفّ وأشجع وأعلم فلا يلزم وجوبه عقلا كما ادّعاه على تقدير القول بالوجوب العقليّ ، لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الامامة على حفظ الحوزة والعلم بالرئاسة

__________________

وتعينها وتحققها في الخارج ، إذا عرفت ذلك فنقول : الامام انما يكون افضل من غيره إذا كان حائزا للفضائل المولدية والكمالات النفسانية والعملية المتوقفة على كونه عالما بالدين والمعارف الحقة والحقائق الالهية والاحكام الشرعية ، عارفا بالمصالح الواقعية وباهمها ومهمها وما يحفها من المفاسد ورجحان أية مصلحة على أية مفسدة واى مفسدة على اى مصلحة ، ويكون له من الورع الشديد والتقوى الأكيد ما يحجزه عن الاقدام على خلاف مصلحة من المصالح الشرعية ويلزمه على العمل بجميع ما تقتضيه على دقائقها ، ومن قوة النفس والشجاعة ما لا يهاب معها في سلوك طريق الحق عن الناس ولو تظاهروا عليه بأجمعهم ومن هذه حاله يكون اعلم وأقدر وأعمل بأمور الدين ونشره وترويجه واجراء أحكامه ونصب القضاة والحكام والولاة واعرف بمواقعها وكيفية العمل بها من المعرفة بأحوال الاشخاص وكيفية إنفاذ المصالح الشرعية فيهم فيكون ترجيح الغير عليه مخالفا لبديهة العقل.

(١) يونس. الآية ٣٥.

(٢) الزمر. الآية ٩.

٣٢٠