إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

أقول

استدلال النّاصب وأصحابه على عدم الحرمة منحصر في هذه الرّواية وما يشاكلها ممّا شنع عليه الخصم فان استند في الحكم بعدم الحرمة بهذه الرّواية كان مصادرة (١) ، وإن كان له دليل آخر من القرآن والإجماع فليذكر حتّى ينظر في دلالته على أنّ قول أبي بكر مزمارة الشيطان صريح في أنّه فعل الشيطان ولم ينكر عليه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله هذا ، ولعلّه أراد بجواز اللّعب المذكور في موضعه قوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) (٢) الآية كما استدلّ به عبيد (٣)

__________________

(١) المصادرة على المطلوب عبارة عن جعل المدعى عين الدليل أو جزئه وهي على أربعة أقسام (١) أن يكون المدعى عين الدليل (٢) أن يكون جزئه (٣) أن يكون موقوفا عليه صحة الدليل (٤) أن يكون موقوفا عليه صحة جزء الدليل ، والكل باطل للزوم الدور الباطل ، وتجمع المصادرة بالمصادرات و (ح) كثيرا ما يشتبه الأمر على الناظر ، ولا يميز المصادرات جمع المصادرة باصطلاح آداب البحث والمناظرة عن المصادرات المصطلحة في الميزان وهي عبارة عن المبادي التصديقية التي غير بينة بنفسها ، وأخذها المتعلم من المعلم بالإنكار والشك فلا تغفل.

(٢) الحديد. الآية ٢٠.

(٣) هو العلامة المولى نظام الدين عبيد الله الزاكانى القزويني ، الفقيه المحدث الشاعر الأديب الرياضي الفلكي من مشاهير بلاد العجم في المجون والظرائف ، أورده العلامة البحاثة المتتبع الميرزا عبد الله أفندى في باب العين من كتابه النفيس رياض العلماء وأثنى عليه وقال ستر علمه هزله.

وكذا ذكره المؤرخ حمد الله المستوفى القزويني في تاريخ گزيده ص ٨٤٥ وقال ما محصله : انه من طائفة (زاكان) فرع من بنى خفاجة نزلوا بلدة قزوين إلخ وله آثار لطيفة ،

٢٤١

الزّاكانى في رسالة الأخلاق (١) من جانب أصحاب مذهب المختار فليضحك وليّه قليلا (٢) ، واما ما احتمله من أنّ أبا بكر لم يعلم جواز ذلك في العيد فكفى نقصا له حيث جهل ما علمته طفلته الصغيرة والجاريتان واما ما ذكره من تتمّة الحديث فهو من إضافاته ومخترعاته التي لا تروج إلّا على جاهل مثله ، مع ما فيه من لزوم جهل أبي بكر بما علمه الأطفال والسوقية كما مرّ واما ما ذكره من أنهنّ كنّ يظهرن السّرور بمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عبادة مدفوع بأنّ السّرور عبادة ، لكن ما قرنوه به من اللّعب مع الدّف معصية ، والكلام فيه وفي رقص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واما ما ذكره من أنّ ترك المروءة في أمثال هذه الأمور التي توجب الالفة والموافقة وتطييب الخواطر وتشريع المسائل جائز مردود بأن كثيرا ممّا يعدّ من ترك المروءة ويقدح في العدالة اتفاقا ربّما يوجب الالفة والموافقة مع جماعة لا يبالون بترك المروءة والتقوى ، فعلى قياس ما ذكره يلزم أن يكون

__________________

منها المنظومة الشهيرة السائرة (موش وگربه) أى الفارة والهرة وقد طبعت مرات ، وترجمت بالالسنة المختلفة ، وخمست وسدست وسبعت وكتاب المنتخبات في الظرائف ، ورسالة أخلاق الاشراف ، ورسالة دلگشا ، ورسالة التعريفات وكتاب في الفقه ، وأكثر تآليفه وتصانيفه على سبيل الدعابة والهزل وما ذلك الا لأغراض عقلائية في ذلك ، وحتى يتمكن من افشاء الحق وشرح حال أبناء الزمان في سترة وبالجملة الرجل من النوابغ في الأدب.

توفى سنة ٧٧٢ وقيل سنة ٧٧١ وقيل غير ذلك ، وكان ولده المولى إسحاق الزاكانى أيضا من الأدباء والبلغاء ، فراجع المقدمة التي كتبها المرحوم فقيد التاريخ الميرزا عباس خان اقبال الآشتياني على الكليات للمترجم وطبع بطهران سنة ١٣٣٤.

(١) فراجع رسالة أخلاق الاشراف للزاكانى (ص ١٨ طبع طهران).

(٢) اقتباس من قوله تعالى في سورة التوبة الآية ٨٢.

٢٤٢

جائزا وهو ممّا لا يقول به عاقل مسلم ، وأما إرادة تشريع المسائل فقد علمت ما فيه.

قال المصنف رفع الله درجته

وفي الصحيحين (١) أن ملك الموت لما جاء ليقبض روح موسى عليه‌السلام لطمه موسى فقلع (ففقأ خ ل ظ) عينه فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى مع عظمته وشرف منزلته وطلب قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة؟ وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت عليه‌السلام ذلك وهو مأمور من قبل الله تعالى انتهى.؟

قال النّاصب خفضه الله

أقول الموت بالطبع مكروه للإنسان وكان موسى عليه‌السلام رجلا حادّا كما جاء في الأخبار والآثار ، فلمّا صحّ الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت ، وبعثته الحدة على أن لطم ملك الموت كما أنّه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وهذا الاعتراض وارد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه الله تعالى إيّاها هدى ورحمة ، ويمكن أن يقال : كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح وطرح كتاب الله تعالى وكسر لوحه إهانة لكتاب الله ، وكيف يجوز له ضرب هارون وهو نبيّ مرسل ، وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر من الصّفات البشرية ، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء ، وأمّا عند ابن المطهر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء ولو لم يكن القرآن متواترا ، ونقل لابن المطهر الحلي أن موسى ألقى الألواح وأخد برأس أخيه يجرّه إليه لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه

__________________

(١) رواه البخاري في (ج ٤ ص ١٥٧ ط مصر) باب وفات موسى (ع) ورواه مسلم في (ج ٧ ص ١٠٠ ط مصر صبيح).

٢٤٣

الاعتراضات ، فلو أنّه أنصف من نفسه يعلم أنّ ما نقول في تعصبّه حقّ انتهى.

أقول

وقد حكم القاضي عياض المالكي أيضا بصحّة الحديث ، لأنّه مذكور في كتابين سمّاهما مؤلّفاهما بالصّحيح ، وأجاب عمّا يتضمّنه من نسبة الذّنب إلى موسى عليه‌السلام بأنّ الحديث ليس فيه ما يحكم على موسى بالتعدّي وفعل ما لا يجب له إذ هو ظاهر الأمر بين الوجه جائز الفعل ، لأنّ موسى دافع من نفسه مدافعة من أتاه لإتلافها ، وقد تصوّر له في صورة آدمي ولا يمكن أنّه علم حينئذ أنّه ملك الموت فدافعه عن نفسه مدافعة أدّت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصوّر له فيها الملك امتحانا من الله فلمّا جاءه بعد وأعلمه الله أنّه رسوله إليه استسلم انتهى ، وفيه ما فيه أمّا أولا فلأنّ عدم إمكان الاستعلام ممنوع إذ كثيرا ما تتصوّر الملائكة للأنبياء بصورة غيرهم ويعلمون بهم (١) على أنّ في الحديث أنّ ملك الموت لما رجع إلى ربّه ، وقال : أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه وقل له يضع يده إلخ ، وهذا قرينة شعوره بالملك ، واما ثانيا فلأنّه لا وجه للاختيار والامتحان بعد القول بأنّه فعل الواجب من المدافعة فافهم ، وقد يجاب بحمل فقأ عينه على المجاز من قولهم فقأ عين حجّته ، فالمراد صكّه ولطمه بالحجّة وفقأ عين حجّته ، وفيه أنّه لا يلائم ما وقع في

الحديث بقوله : فرد الله عليه عينه ، وايضا فما المباحثة الواقعة مع ملك الموت عند قبض روحه حتّى يحتاج إلى إيراد حجّته وإبطاله ، وأجاب بعضهم بأنّه يحتمل أن يكون هذا الفعل وقع منه من غير اختيار ، لأنّ للموت سكرات انتهى ، وأقول : هذا الجواب الخارج عن الصّواب مأخوذ عمّا سيجيء من قول الثاني في شأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الرّجل ليهجر أو ليهذو على اختلاف الرّوايتين ، فانظروا أيّها الاخوان بنظر الإنصاف والعناية أنّ سعة ميدان الغواية إلى أى غاية؟ ثمّ ليس الكلام في مجرّد نسبة الذنب إلى

__________________

(١) كما ورد في كتب الفريقين من تصور جبرائيل بصورة (دحية الكلبي) فراجع المظان.

٢٤٤

موسى عليه‌السلام بل في سخافة اعتقادهم أيضا أنّ ملك الموت مع تلك القدرة والتأييد من الله تعالى يعجز عن مقاومة موسى عليه‌السلام في حال مرضه وضعفه بحيث يتلف عينه ويحتاج إلى الشكاية عند ربّه إلى غير ذلك من المضحكات التي يتلهى بها الصبيان فتأمل فان الفكر فيهم طويل ، واما ما ذكره الناصب من المعارضة بقصّة غصّة موسى عليه‌السلام في إلقاء الألواح وجرّ رأس أخيه فلا يصلح للمعارضة أصلا ، لأنّ له محملا صحيحا وتأويلا جميلا قد ذكره السّيد الشريف المرتضى علم الهدى رضي‌الله‌عنه (١) واستحسنه فخر الدّين الرّازى (٢) وذكره في تفسيره الكبير ، وهو أنّ بنى إسرائيل كانوا في نهاية سوء الظن بموسى عليه‌السلام حتّى أنّ موسى عليه‌السلام لما غاب عنهم غيبته قالوا لهارون عليه‌السلام : أنت قتلته ، فلما وعد الله موسى عليه‌السلام بثلاثين ليلة وأتمّها بعشرة وكتب له في الألواح من كلّ شيء فرجع فرأى في قومه ما رأى ، فأخذ برأس أخيه ليدنيه من نفسه ويتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون عليه‌السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقا على موسى عليه‌السلام (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) لئلا يظن القوم انك تريد أن تضربني وتؤذيني انتهى ، وأقول لا يخفى أنّ أخذ اللّحية والرأس عند الملاقاة والمشاورة عادة جارية بين العرب إلى الآن ، ولو كان ذلك للاهانة لقارنت لطمة واحدة ولنقل وإذ ليس فليس ، ثم أقول : يجوز أن يكون ذلك الاعتراض والتعرض من باب قولهم : إياك أعني واسمعي يا جاره (٣) بل قيل إن أكثر أساليب

__________________

(١) مذكور في كتاب تنزيله الأنبياء (ص ٨٣ طبع تبريز).

(٢) مرت ترجمته في (ج ١ ص ١١٠).

(٣) هو مثل مشهور قال المفضل بن سلمة بن عاصم الكوفي في كتاب الفاخر (ص ١٢٩ طبع ليدن) : ان أول من قال ذلك سهل بن ملك الفزاري وذلك أنه خرج يريد النعمان فمر ببعض أحياء طي فسئل عن سيد الحي ، فقيل له حارثة بن لام فأم رحله فلم يصبه شاهدا ، فقالت له أخته انزل في الرحب والسعة فنزل فأكرمته وألطفته (ولاطفته ظ) ،

٢٤٥

الإنذارات المتوجّهة إلى الأنبياء عليهم‌السلام كقوله تعالى : (١) (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) الآية من هذا القبيل ، والحاصل أنّ إلقاء الألواح (٢)

__________________

ثم خرجت من خبائها فرأى أجمل أهل دهرها وكانت عقيلة قومها وسيدة نسائها ، فوقع في نفسه منها شيء فجعل لا يدرى كيف يرسل إليها ولا ما يوافقها من ذلك فجلس بفناء الخباء يوما وهي تسمع كلامه وهو ينشد :

يا اخت خير البدو والحضارة

كيف ترين في فتى فزاره

أصبح يهوى حرة معطاره

إياك أعنى واسمعي يا جاره

فلما سمعت قوله عرفت انه إياها يعنى فقالت ما ذا يقول ذى عقل أريب ، ولا رأى مصيب ولا أنف نجيب ، فأقم ما أقمت مكرما ، ثم ارتحل إذا شئت مسلما ، فاستحى من قولها وقال ما أردت منكرا وا سوأتاه ، قالت صدقت وكأنها استحيت من تسرعها الى تهمته ، فارتحل فأتى النعمان فحباه وأكرمه ، فلما رجع نزل على أخيها فبينما هو مقيم عندهم تطلعت اليه نفسها وكان جميلا ، فأرسلت اليه أن اخطبنى ان كان لك في يوما من الدهر حاجة فانى سريعة الى ذلك ، فخطبها وتزوجها وسار بها الى قومه انتهى.

وأورده الميداني في المجمع بعين هذه القصة وألفاظها ، وقال بعد تمامها : انه يضرب به مثلا لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئا غيره انتهى فراجع ص ٣٢ من ج ١ من الكتاب.

(١) الحاقة. الآية ٤٤.

(٢) وبالجملة حكم الأفعال يختلف باختلاف النيات والمصالح فجاز أن يكون إلقاء الألواح أو كتاب الله في الأرض اهانة مستلزمة للذنب والارتداد في بعض الأحوال دون بعض ، وذلك كما أن مولانا أمير المؤمنين (ع) أمر أصحابه في حرب الصفين أن يرموا أصحاب معاوية حين رفعوا المصاحف على رأس الرماح إظهارا للاستشفاع به مع ظهور أن الرمي كان يلحق المصاحف أيضا ، فقال (ع): لا تتوقفوا عن الحرب والرمي ، فان هذا قرآن صامت وأنا قرآن ناطق ، فان هذا يدل على أن رمى المصحف جائز لمصلحة الدين وهذا الكلام منه (ع) قد نقله عنه أهل السنة أيضا في مؤلفاتهم ولم يطعنوا فيه فافهم منه «قده».

٢٤٦

انّما كان لمصلحة إظهار الغضب على القوم وانزجارهم عمّا صدر عنهم من الغواية ولا مصلحة دينيّة في لطم ملك الموت وفقأ عينه ، بل كان المصلحة في تمكينه كما مرّ ، واما ما ذكره من كسر الألواح وقصة إهانة كتاب الله تعالى فذلك من إضافات النّاصب عدوّ الله وعدوّ أنبيائه وأوليائه كما لا يخفى ، ومن أين علم أن قصد موسى من إلقاء الألواح كان إهانة كتاب الله تعالى دون ما ذكرناه من المصلحة ، ولو صحّ قصده لذلك لكفى قدحا في عصمته سواء دعاه الحدّة إلى ذلك أو غيرها ، وأما قوله وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر إلخ فيوجب خروج إمامه فخر الدّين الرّازي (١) وشيخه صاحب المواقف (٢) عن أهل الحقّ حيث حملوا ذلك على ما حمله عليه ابن المطهّر طهّر الله رمسه ممّا لا ينافي طهارة الأنبياء عليهم‌السلام ، فالعجب أنّ النّواصب يحملون الآيات التي ظاهرها عتاب الأنبياء عليهم‌السلام على ترك الأولى والأفضل على ظواهرها ويحكمون عليهم بالمعاصي والخطاء مع دلالة العقل على وجوب تنزيههم عن ذلك ، ومع وجود المحامل لظواهر تلك الآيات ، ويحملون هذيانات عمر بن الخطاب وكلماته التي ظاهرها منكر ومرتبته أقلّ من مراتب الأنبياء عليهم‌السلام بأضعاف لا تحصى على خلاف ظاهرها ويمنعون من جواز حملها على ظواهرها مع أنّ كلامه لا محمل له ويتركون العمل بظاهره بغير تأويل واضح وتوجيه بين ، وهلّا ساووا بينه وبين الأنبياء الذينهم في محلّ التعظيم؟ وما ذاك إلا من قلّة الإنصاف وشدّة العصبية والاعتساف ، وأما قوله : ولو لم يكن القرآن متواترا ونقل لابن المطهّر أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لكان ينكر هذا إلخ ، فرجم بالغيب ورمى في الظلام كما لا يخفى ، ومن أين علم أنّه لم يكن يحمله على ما ذكرناه من المحمل الذي ارتضاه مرتضى الشّيعة

__________________

(١) قد مرت ترجمته في (ج ١ ص ١١٠).

(٢) قد مرت ترجمته في (ج ١ ص ٤٧).

٢٤٧

ووافق فيه فخر الدّين الرّازي وغيره.

قال المصنف رفع الله درجته

وفي الجمع بين الصحيحين (١) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في صفة حال الخلق يوم القيامة : وأنّهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم فيأتون نوحا فيعتذر إليهم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم : إنّ ربّي قد غضب غضبا لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله ، وإنّي قد كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري ، وفي الجمع بين الصحيحين (٢) انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لم يكذب إبراهيم النبيّ عليه‌السلام قط إلا ثلاث كذبا ، كيف يحلّ لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء وكيف يبقى الوثوق بشرائعهم مع الاعتراف بتعمّد كذبهم انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عرفت فيما مضى أنّ الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب واما الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لمّا صحّ الحديث فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته كما قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٣) ، وكان مراده إلزامهم ، ونسبة الفعل إلى كبيرهم ، لأنّ الفاس الذي كسر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام فالكذب المأوّل ليس كذبا في الحقيقة ، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهرا وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة انتهى.

__________________

(١) رواه المسلم في رواية طويلة (ج ١ ص ٨ ـ ١٢٧ ط مصر) والبخاري (ج ٤ ص ١٤١ ط مصر).

(٢) رواه في صحيح البخاري بسندين عن أبي هريرة (ج ٤ ص ١٤٠ ط مصر) وفي صحيح مسلم (جزء ٧ ص ٩٨ طبع صبيح.)

(٣) الأنبياء الآية ٦٣.

٢٤٨

أقول

قد مرّ أنّ الإجماع لم ينعقد على العصمة عن الكذب على إطلاقه ، بل خصّها الأشاعرة بما بعد النبوّة ، واما ما ذكره من أنّ المراد بكذبات إبراهيم ما كان في صورة الكذب لا حقيقته فممّا يأبى عنه استعذار إبراهيم عليه‌السلام عن شفاعة النّاس بأنّه كذب ثلاث كذبات فلا يليق بطلب الشّفاعة من الله تعالى ، وايضا يأبى عنه قوله عليه‌السلام في الرّواية الثانية : إنّ إبراهيم لم يكذب قطّ إلا ثلاث كذبات فانّ ما يفيده سوق الكلام من الحصر والتأكيد بقوله قطّ يدلّ على أنّه أراد حقيقة الكذب كما لا يخفى ، والحاصل أنّا نعلم أنّ الكذب الذي يتراءى في الآية ليس بكذب بل هو من المعاريض (١) التي يقصد بها الحقّ وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال صاحبك

__________________

(١) قال المحقق التفتازاني في شرح التلخيص طبع الآستانة ص ٣٧٤ ما لفظه : ان الكناية إذا كانت عرضية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور كان المناسب أن يطلق عليها اسم التعريض يقال عرضت لفلان وبفلان إذا قلت وأنت تعنيه ، فكأنك أشرت به الى جانب. وتريد جانبا آخر ومنه (المعاريض) في الكلام وهي التورية بالشيء عن الشيء ، وقال صاحب الكشاف الكناية أن نذكر الشيء بغير لفظ الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج اليه جئتك لأسلم عليك فكأنه امالة الكلام الى عرض يدل على المقصود ويسمى (التلويح) لأنه يلوح منه ما يريده ، وقال ابن الأثير في المثل السائر : التعريض هو اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي او المجازى بل من جهة التلويح والاشارة ، ويختص بالمركب كقول من يتوقع صلة : والله انى محتاج فانه تعريض بالطلب مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازا وانما فهم المعنى من عرض اللفظ أى جانبه ، وفي الخبر عنهم عليهم‌السلام ان لكلامنا معاريض ، ومن ثم ترى المحققين من علمائنا الكرام يؤكدون الجد والجهد في فقه الحديث وكانت كتب الروايات المأثورة عن الأئمة (ع) مركز الافادة والاستفادة والإجازة والمناولة والعرض

٢٤٩

وقد كتبت كتابا بخطّ في غاية الحسن أنت تكتب هذا وصاحبك امّيّ لا يحسن الخط ، فقلت له : بل كتبته أنت كان قصدك بذلك الجواب تقريره ذلك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للامّي ، لكن الكلام في الكذب المذكور في الحديث المنقول ، فانّه إذا لم يكن ذلك الكذب كذبا حقيقة كما ذكر أوّلا لم يكن به بأس كما ذكره ثانيا فما وجه ما وصف في متن الحديث من شدّة غضبه تعالى في ذلك حتّى يئس إبراهيم عن قبول شفاعته وعدل إلى الاعتذار.

قال المصنف رفع الله درجته

وفي الجمع بين الصحيحين (١) أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نحن أحق بالشك من إبراهيم (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢) (ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد) (٣) ولو لثبت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الدّاعي (٤) كيف يجوز؟! لهؤلاء القوم الاجتراء على النبيّ

__________________

والقراءة اهتماما بشأن الأثر ، والأسف كل الأسف في نبذها وراء الأظهر والاشتغال بما حاكته حيكة يونان ونسجته أرباب العرفان ، فترى الرجل المتوغل في وليدات تلك الادمغة راجلا في فهم الخبر ، كيف والاستفادة من كلامهم عليهم‌السلام والاستنارة من انوار بياناتهم تحتاج إلى انس بتلك الدراري واليواقيت بعد كون المستفيد صيرفيا في الرجال والدراية ، وأرجو من فضله تعالى أن يوقظنا من سنة الغفلة حتى نصرف الأعمار العزيزة فيما أومأنا اليه والله المعين.

(١) رواه البخاري في الصحيح (ج ٤ ص ١٤٧ ط صبيح مصر) ورواه مسلم في (ج ٧ ص ٩٨ ط مصر).

(٢) البقرة. الآية ٢٦٠.

(٣) هود. الآية ٨٠.

(٤) رواه في صحيح البخاري (ج ٤ ص ١٤٧ ط مصر) وفي صحيح مسلم (ج ٧ ص ٩٨).

٢٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشك في العقيدة انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : كان من عادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التواضع مع الأنبياء كما قال لا تفضلوني على يونس بن متى وقال لا تفضلوني على موسى قد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء عليهم‌السلام ، فذكر ثبات إبراهيم في الايمان ، والمراد من الحديث أنّ إبراهيم مع ثباته في الايمان وكمال استقامته في إثبات الصانع والحشر كان يريد الاطمئنان ويقول ولكن ليطمئنّ قلبي فغيره أحقّ بهذا التردّد الذي يوجب الاطمئنان ، وأمّا التّرحّم على لوط فهو أمر واقع ، فانّ لوطا كان يأوي إلى ركن شديد كما قال : أو آوي إلى ركن شديد فترحّم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه كان ضعيفا ، وليس فيه الدلالة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاب لوطا في اويه إلى ركن شديد ، واما قوله : لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي ففيه وصف يوسف عليه‌السلام بالصّبر والتثبّت في الأمور وأنّه صبر مع طول السّجن حتّى تبيّن أمره ، فانظروا معاشر النّاظرين هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى الأنبياء مع أنّ الحديث صحّ وهو بطعن في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نعوذ بالله من رأيه الفاسد انتهى.

أقول

لا دلالة للجملة الاولى من الحديث على إرادة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله للتواضع مع إبراهيم ، وأىّ تواضع في إثباته له الشكّ الذي هما بريئان عنه في الواقع؟ مع صراحة كلامه المحكي في القرآن على أنّه لم يزد الشك ، بل قال ذلك لزيادة الاطمئنان ولاعتضاد النّقل بالعقل ، وبهذا ظهر أنّ ما ذكره الناصب من المراد بالحديث لا يرتبط بالشك قطعا هذا ، وقد نقل القسطلاني (العسقلاني خ ل) شارح البخاري عن الشافعي أنّه قال : معنى الحديث أنّ الشكّ يستحيل في حقّ إبراهيم ولو كان الشكّ متطرّقا

٢٥١

إلى الأنبياء عليهم‌السلام لكنت أحقّ به من إبراهيم وقد علمتم أنّ إبراهيم لم يشك فإذا لم أشكّ أنا ولم أرتب في القدرة على الاحياء فإبراهيم أولى بذلك انتهى ، وأقول : هذا التأويل الطويل العليل المشتمل على التمويه والتسويل يوجب إلحاق الحديث بالتعمية والالغاز (١) فكان يجب على الشّافعي أن يسأل الله تعالى طول عمره

__________________

(١) لا يذهب عليك ان المتقدمين من أرباب الكتب قد يعبرون بعلم الاحاجى والاغاليط وقد يذكرون علم الالغاز او التعمية وكثيرا ما يشتبه الأمر على الراجل في ضروب الكمالات ويظن ان الثلاثة مترادفة ، وليس كذلك بحسب المصطلح لدى أهلها ، فالاحاجى جمع احجية كالاضحية ، وهو علم يبحث فيه عن الألفاظ المخالفة لقواعد العربية بحسب الظاهر وتطبيقها عليها ، إذ لا يتيسر ادراجها فيها بحسب القواعد المشهورة ، وموضوع هذا العلم الألفاظ المذكورة من الحيثية المذكورة ، والغرض منه تحصيل ملكة تطبيق الألفاظ التي تتراءى بحسب الظاهر مخالفتها لقواعد لسان العرب ، والاحتياج الى هذا العلم من حيث ان ألفاظ العرب قد يوجد فيها ما يخالف قواعد العلوم العربية بحسب الظاهر بحيث لا يتيسر ادراجه فيها بمجرد معرفة تلك القواعد فاحتيج الى هذا الفن ، وقد صنفت في المحاجات عدة كتب منها كتاب المحاجات لأبي المعالي سعد بن على الوراق الحطيرى المتوفى سنة ٥٦٨ ، ومنها كتاب المحاجات لجار الله الزمخشرىّ المتوفى سنة ٥٣٨ ، وشرحه للشيخ علم الدين على بن محمد السخاوي الدمشقي المتوفى سنة ٦٤٣ وقد سلك الحريري في المقامة السادسة والثلاثين المسماة بالملطية مسلك المحاجات فراجع واما علم الالغاز فهو علم يتعرف منه دلالة الألفاظ على المراد دلالة خفية في الغاية لكن لا بحيث تنبو عنها الأذهان السليمة بل تستحسنها وتنشرح إليها بشرط أن يكون المراد من الألفاظ الذوات الموجودة في الخارج ، وبهذا يفترق عن المعمى لأن المراد في باب الالغاز من الألفاظ اسم شيء من الإنسان وغيره ، والحاصل أن هذا المدلول الخفي ان لم يكن ألفاظا وحروفا بلا قصد دلالتهما على معان آخر بل ذوات موجودة يسمى اللغز وان كان ألفاظا وحروفا دالة على معان مقصودة يسمى معمى ، وبهذا يعلم ان اللفظ

٢٥٢

ليصحب هذا الحديث أينما سار ويذكر تأويله لمن تلقى ظاهره بالإنكار ، ونقل عن الزركشي(١)

__________________

الواحد يمكن أن يكون معمى ولغزا باعتبارين ، لان المدلول إذا كان ألفاظا ، فان قصد بها معان أخر يكون معمى ، وان قصد ذوات الحروف على أنها من الذات يكون لغزا ، ويحتاج حلهما الى لطف قريحة وذوق سليم تدرك بها المناسبة بين الدال والمدلول الخفي ، على وجه مقبول لدى ذوى الأذواق السليمة والأذهان المستقيمة ، وقد الفت وصنفت فيهما عدة كتب ورسائل ونبعت نوابع ، فمن ذلك كتاب المعميات للعلامة المير سيد حسين المعمائى ، ورسالة المعميات لسام ميرزا ابن السلطان المؤيد الغازي (شاه اسماعيل) الماضي الموسوي الصفوي ، وكتاب الالغاز للسيد عز الدين حمزة الصادقي النسب الدمشقي المتوفى سنة ٨٧٤ ، وكتاب الذخائر الاشرفية للقاضي عبد البر بن شحنة المتوفى سنة ٩٢١ ، وكتاب الشيخ عبد الرحيم بن الحسن الاسنوى المتوفى سنة ٧٧٢ ، وكتاب الشيخ عبد الوهاب السبكى المتوفى سنة ٧٧١ ، ورسالة أستاذي العلامه الشيخ محمد الحسين الشيرازي النجفي المتوفى ببلدة (سرمن رأى) الى غير ذلك ، ومن الامثلة الشهيرة في اللغز قول الشاعر في القلم

وما غلام راكع ساجد

أخو نحول دمعه جارى

ملازم الخمس لأوقاتها

منقطع في خدمة الباري

وقال آخر في الميزان

وقاضى قضاة يفصل الحق ساكتا

وبالحق يقضى لا يبوح فينطق

قضى بلسان لا يميل وان يمل

على احد الخصمين فهو مصدق

هذا ملخص ما يستفاد من كشف الظنون والدستور ، ومفتاح السعادة ، والا بجد ، والمدائن.

(١) هو العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري المنهاجى العالم الأصولي الأديب الشاعر كان أبوه بهادر مملوكا لبعض الأكابر وتعلم ابنه محمد في صغره صنعة (الزركش) ثم حفظ المنهاج في الفقه فقيل له المنهاجى ، أخذ العلم عن الاسنوى ومغلطاي والبلقينى ، له كتب منها كتاب تشنيف المسامع في شرح

٢٥٣

أنّه قال ذكر صاحب (١) الأمثال السائرة أنّ أفعل يأتي في اللغة لنفى المعنى عن الشيئين نحو الشيطان خير من زيد أى لا خير فيهما وكقوله تعالى (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) (٢) أى لا خير في الفريقين ، وعلى هذا فمعنى قوله : نحن أحق بالشك من إبراهيم لا شك عندنا جميعا وهو أحسن ما يتخرج عليه هذا الحديث انتهى ، وأقول : قبحه ظاهر إذ قياس ما نحن فيه على العبارتين السابقتين يقتضي أن يكون معناها نفي الأحقية بالشكّ لا نفي الشكّ وهذا ظاهر لا يشكّ فيه المتأمّل ، واما ما ذكره من أنّ في الجملة الثالثة وصف يوسف عليه‌السلام بالصبر والتثبّت في الأمور إلخ فمدفوع بأنّه مع ذلك يتضمّن إظهار النبيّ عليه‌السلام عدم صبره على ذلك في سبيل الله وأنّه لو كان في مقام يوسف لأجاب دعوة زليخا وهذا هو محط التشنيع الذي ينبغي براءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه وهذا ما أراده المصنّف قدس‌سره ، واما الجملة الثانية فهي وإن كانت في نفسها ظاهرة فيما ذكره الناصب ، لكن مجموع ما ذكره من الجمل

__________________

جمع الجوامع في اصول الفقه للتاج السبكى ، وكتاب يقظة العجلان في الأصول أيضا وكتاب العريش في حكم الحشيش ، توفى بالقاهرة سنة ٧٩٤ هكذا في الكنى وو الألقاب للمحدث القمي (ج ١ ص ٢٦٦) ، أقول ويعرف أصوله لدى الفريقين بأصول الزركشي وينقل عنه العلامة الصالح المازندراني «قده» في شرح الزبدة كثيرا ، وهناك زركشى آخر وهو الشيخ شهاب الدين صاحب كتاب تلخيص شرح الهداية في الفقه الحنفي والشرح للسغناقى ، توفى الزركشي هذا سنة ٧٣٨ كما في الفوائد لعبد الحي الهندي أبي الحسنات طبع مصر ص ١٦ والمراد هنا هو الاول فلا تغفل.

(١) المراد به اللغوي المحقق الأديب النحوي ، ابو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة ٢٢٤ كما في كشف الظنون (ج ١ ص ١٦٧ طبع الآستانة) وعليه شروح كثيرة ، منها شرح البكري المتوفى سنة ٤٨٧ وغيره.

(٢) الدخان. الآية ٣٧.

٢٥٤

الثلاثة حديث واحد مذكور في صحيح البخاري (١) والاولى والثالثة صريحتان في الشكّ وعدم الصبر ، فيلزم أن تكون الثّانية أيضا واقعة على ما يناسبه سياقهما بأن فهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منها أنّ الباعث للوط عليه‌السلام على الالتجاء لركن شديد ضعف اعتقاده وفتور اعتماده ، واتّكاله على الله تعالى ، ولهذا أوّله القسطلاني بانّ المعنى لو أراد لآوى إليه ولكن آوى إلى الله انتهى ، ويؤيد ما ذكرناه ما ذكره (٢) البخاري بعيد ذلك من قوله باب قصّة لوط عليه‌السلام حدّثنا أبو اليمان (٣) أخبرنا شعيب (٤) حدثنا أبو الزناد (٥) عن الأعرج (٦)

__________________

(١) فراجع البخاري (ج ٤ ص ١٤٨ ط مصر).

(٢) أورده في البخاري (ج ٤ ص ١٤٨ ط مصر).

(٣) قال الخزرجي في الخلاصة (ص ٧٦ ط مصر) ما لفظه : الحكم بن نافع القضاعي الهزاني أبو اليمان الحمصي عن حريز بن عثمان وشعيب بن أبي حمزة وطائفة : وعنه عبد الله الدارمي ورجاء بن المرجا وأبو زرعة الدمشقي وخلق ، الى أن قال : انه مات سنة ٢٢٢ ، وقيل سنة ٢٢١.

(٤) قال الخزرجي في الخلاصة (ص ١٤١ ط مصر) ما لفظه : شعيب بن أبي حمزة الأموي مولاهم أبو بشر الحمصي أحد الإثبات المشاهير عن نافع وابن المنكدر والزهري وعنه أبو اسحق الفزاري وعثمان بن سعيد بن كثير وأبو اليمان الى أن قال : مات سنة ١٦٣.

(٥) عبد الله بن ذكوان الأموي مولاهم ، أبو الزناد المدني يكنى أبا عبد الرحمن كان أحد الأئمة ، عن أنس وابن عمر وعمر بن أبي سلمة مرسلا وعن الأعرج فأكثر وابن المسيب وطائفة ، وعنه موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر ومالك والليث والسفيانان وخلق ، قال البخاري أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج ، مات فجأة سنة ١٣٠ ، وقيل سنة ١٣١ ، كما في الخلاصة للخزرجى (ص ١٦٦ ط مصر).

(٦) قال الذهبي في التذكرة (ج ١ ص ٩١ ط حيدرآباد) ما لفظه : ابو داود عبد الرحمن ابن هرمز مولا ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني كاتب المصاحف ، سمع

٢٥٥

عن أبي هريرة (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يغفر الله للوط أن كان ليأوى إلى ركن شديد انتهى ، فان فيه دلالة على أن لوطا يحتاج أن يستغفر له إن قال ذلك وقصر في الصبر على أذى القوم والله المستعان.

__________________

أبا هريرة وأبا سعيد الخدري وعبد الله بن بحينة وجماعة ، حدث عنه الزهري وأبو الزناد وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد وعبد الله بن لهيعة وآخرون ، الى أن قال : فتوفى في سنة ١١٧.

(١) هو عبد الرحمن وقيل : عبد الله ، والاول أشهر ، ابن عدنان بن عبد الله الأزدي الدوسي الصحابي المشهور الذي عده عدة من أكابر القوم في وضاعى الحديث ، قال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج. ٢ ص ٦٩٨ ط حيدرآباد) انه أسلم عام خيبر ، وتوفى سنة ٥٧ وقيل ٥٨ ، وقال الواقدي ٥٩ ، وقال بعض : انه مات بالعقيق ، وصلّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان أميرا يومئذ على المدينة وحكى في سفينة البحار (ج ٢ ص ٧١٣ ط النجف) عن كتاب ربيع الأبرار للزمخشري أنه قال : وكان يعجبه أى أبا هريرة المضيرة جدا فيأكلها مع معاوية ، وإذا حضرت الصلاة صلّى خلف على ، فإذا قيل له : قال : مضيرة معاوية أدسم وأطيب ، والصلاة خلف على أتم فكان يقال له : شيخ المضيرة. ويقول : اللهم ارزقني ضرسا طحونا ومعدة هضوما ودبرا نثورا ، ثم الرجل وان اعتمد عليه إخواننا أهل السنة الا أن الحق الحقيق بالقبول أنه لا قيمة لمروياته وكونه من الوضاعين حسب ميول أرباب السلطة والنفوذ كما أشرنا اليه في أوائل المجلد الاول ، ولله در العلامة المجاهد الآية الباهرة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي أدام الله بركته حيث أنار المحجة وأتم الحجة في كتابه النفيس (ابو هريرة) ومن لاحظه من القوم متجنبا عن الاعتساف والعصبية الباردة تراث الجاهلية ، نبذ مرويات المترجم وراء الظهر وشاركنا في عدم الاعتماد عليها عصمنا الله وإياهم من الزلل آمين آمين.

٢٥٦

قال المصنّف رفع الله درجته

وفي الصحيحين (١) وقال بينما الحبشة يلعبون عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحرابهم (٢) فدخل عمر فأهوى إلى الحصى (الحصباء) فحصاهم بها فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعهم يا عمر ، وروى الغزالي (٣) في إحياء علوم الدّين أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالسا وعنده جوار يتغنّين ويلعبن فجاء عمر فاستأذن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للجواري : اسكتن فسكتن فدخل عمر وقضى حاجته ثمّ خرج ، فقال لهن : عدن فعدن إلى الغناء ، فقلن يا رسول الله : من هذا الذي كلما دخل قلت اسكتن وكلّما خرج قلت عدن إلى الغناء ، فقال هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل ، كيف يحلّ لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيرى عمر أشرف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبيّ يؤثره انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : أمّا لعب الحبشة بالحراب فانه كان يوم العيد وقد ذكرنا أنّه يجوز اللهو يوم العيد بالاتفاق ، ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللّعب بالحراب لأنّه ينفع في الحرب ، وفيه المهارة من طعن الحربة وكيفيّة تعليمه وإلقائه في الحرب ، وكلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به ، ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه ، فعلّمه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واما ما روى عن الغزالي فان صحّ يمكن حمله على جواز اللّعب مطلقا وفي أيّام الأعياد ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمعه لضرورة التشريع حتّى يعلم أن اللهو ليس بحرام ، وربّما كان عمر يمتنع منه ومكّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عدم السّماع ليعلم أنّ الأولى تركه ، وسمع هو كما ذكرنا لضرورة التشريع ، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمر من

__________________

(١) أورده في صحيح البخاري (ج ٤ ص ٣٨ ط مصر) باب اللهو بالحراب

(٢) الحراب جمع الحربة : آلة للحرب من الحديد قصيرة محددة.

(٣) قد مرت ترجمته في المجلد الاول ص ١٤٥ فراجع.

٢٥٧

امّته وممّن يتعلّم منه الشريعة انتهى.

أقول

ما ذكره من أنّ ذلك اللّعب كان يوم العيد رجم بالغيب كما مرّ ، وما ذكره من أنّه يجوز اللهو يوم العيد دعوى من غير دليل ، ودعواه الاتّفاق على جواز ذلك ممنوع ، لظهور مخالفة الشيعة ومن وافقهم في ذلك ، اللهم إلّا أن يريد اتّفاق الفسّاق من أهل النّصب والنفاق عليه ، وليس في اتفاقهم رواج ونفاق (١) كما لا يخفى ، ومن هذا يعلم أيضا بطلان قوله : ويمكن أن يكون تجويز ذلك إلخ ، وقد علم بطلان قوله : ويمكن أن يكون عمر إلخ ، بما ذكرناه في بعض الفصول السابقة فتذكر ، وأما قوله وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمعه لضرورة التّشريع إلخ فيقال في جوابه : ثبت العرش ثمّ انقش (٢) ، وهل كون ذلك شرعيا إلّا أوّل البحث والنزاع ، وكذا الكلام في توجيهه لما روى الغزالي ، وبالجملة ما ذكره النّاصب من التأويلات الباردة الشبيهة بتأويلات الباطنيّة من الملاحدة الماردة ممّا يأبى عنها ما نسب في الرّواية إليه عليه‌السلام من قوله : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل ، فانّ ما هو جائز أو مكروه لا يوصف بالباطل ، فيلزم منه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مريد لسماع الباطل دون عمر ، وهذا كفر محض ممّن يعتقده كما لا يخفى علي من آمن بالله ورسوله فضلا عن استلزامه أشرفيّة عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ، على أنّ ما يكون تشريعه ضروريّا لا يكون تركه أولى فتأمّل

قال المصنّف رفع الله درجته

وفي الصّحيحين (٣) عن أبي هريرة قال : أقيمت الصلاة وعدلت الصّفوف قياما قبل

__________________

(١) النفاق بفتح النون : رواج البيع

(٢) العرش من البيت سقفه والكلام من الأمثال المولدة يضرب فيما لو ادعى شخص دعوى تتوقف على مبنى غير مسلم الثبوت.

(٣) رواه في صحيح البخاري (ج ١ ص ٥٩ ط مصر).

٢٥٨

أن يخرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا قام في مصلاه ذكر أنّه جنب ، فقال لنا : مكانكم ، فلبثنا على هيأتنا قياما ثمّ رجع فاغتسل ثمّ خرج إلينا ورأسه يقطر فكبّر فصلّينا ، فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى النّاس بأنّه يحضر في الصّلاة ويقوم في الصّف وهو جنب؟ وهل ذلك إلا من تقصيره في عبادة ربّه وعدم المسارعة إليها؟ وقد قال الله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١) (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٢) فأىّ مكلّف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي الجمع بين الصحيحين (٣) عن أبي هريرة قال صلّى بنا رسول الله (النبيّ) صلى‌الله‌عليه‌وآله إحدى صلاتي العشى قال محمّد وأكثر ظني أنّها العصر ركعتين ، ثمّ سلّم ثمّ قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يكلّماه وخرج سرعان النّاس وقالوا : أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعى ذا اليدين قال يا نبيّ الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال لم أنس ولم أقصر ، وقال بلى قد نسيت ، قال : صدق ذو اليدين فقام فصلّى ركعتين ثمّ سلّم ، فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف يجوز منه عليه‌السلام أن يقول ما نسيت؟ ، فان هذا سهو في سهو ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّهما لم يذكرا ذلك للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد مرّ فيما سبق جواز السّهو والنسيان على الأنبياء ، لأنّهم بشر سيّما إذا

__________________

(١) آل عمران. الآية ١٣٣.

(٢) المائدة. الآية ٤٨.

(٣) رواه في صحيح البخاري (ج ٢ ص ٦٨ ط ١٣١٤ مصر) وفي صحيح مسلم (ج ٢ ص ٧٦ ط مصر) بأدنى تغاير في بعض الألفاظ والتعابير بما لا يهم نقله.

٢٥٩

كان السّهو موجبا للتشريع ، فانّ التشريع في الأعمال الفعلية آكد وأثبت من الأقوال فما ذكر من حديث تذكر الجنابة فمن باب النسيان وفيه تشريع العمل بعد النسيان إذا تذكر ، ولهذا ترجم (١) البخاري الباب الذي ذكر فيه هذا الحديث بقوله : باب إذا ذكر في المسجد أنّه جنب يخرج كما هو ولا يتيمّم ، ولا يلزم من هذا نقص ، وما ذكر من سهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصّلاة فهو سهو يتضمّن التشريع فلا بأس به ، وما ذكره من نسيانه السّهو فهذا أيضا يتضمّن التشريع لأنّه شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصّلاة في أثناء الصلاة وكذا الكلام القليل ، والعجب أنّه قال : كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر مانسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأىّ عجب في هذا؟ فان الامام كثيرا مّا يسهو والمأمومون لا يسهون ، فلا يلزم من هذا تفضيل المأموم على الامام ، وهل هذه الكلمات إلا ترّهات ومزخرفات انتهى.

أقول

قد سبق الكلام منّا أيضا على ما ارتكبه من الجواز وعلى ما استدلّ عليه من أنّ النبيّ بشر وعلى جعل السّهو والنسيان وسيلة إلى التّشريع ، واما ما خصّ هذا المقام به من أنّ التشريع في الأعمال الفعليّة آكد فممنوع بل القضية منعكسة لجواز أن يكون التشريع الفعلي مخصوصا به بخلاف الأمر القولي العام ، وبهذا يعلم ضعف ما التزم صحته من التشريعات الفعلية المتتالية ، واما قوله : لأنه شرع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة ففساده ظاهر ، لأنّ ظهور تشريع النسيان لم يكن متوقفا على أن يقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الصلاة قائما على خشبة المسجد واضعا يديه عليها ، ثمّ يدخل الحجرة ثمّ يخرج فيسأل عنه فيجيب بأربع كلمات ثمّ يسأل عنه فيجيب بمثل الأوّل مع أنّ التكلم بكلام الآدميين والفعل الكثير مبطل

__________________

(١) في (ج ١ ص ٥٩ ط مصر) والمراد انه عنوان الباب كذا.

٢٦٠