إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

أقول

لا يخفى أنّ القاضي إنّما عدل عن تفسير شيخه الأشعريّ إلى هذا لمّا رأى فساد ذلك فهو شاهد لنا على ما ادّعينا من ظهور فساد كلام الأشعري ، واعتراف الناصب بفساد كلام القاضي شهادة بأنّه ليس لهم للكسب تفسير له محصّل ، ولهذا قال بعضهم : إنّه غير معقول ولا معلوم كما نقله المصنّف قدس‌سره ، وكفى بذلك شناعة ، وأما ما ذكره من أنّ هذا الابطال مشهور مذكور في كتب الأشاعرة إلخ فنقول : نعم مذكور في كتب متأخري الأشاعرة لكنّه من تصرّفات الاماميّة لظهور انقراض المعتزلة قبل ذلك بستمائة سنة تقريبا ، ووضوح أنّ الأشاعرة لا يهتمّون بابطال مطالب أنفسهم بل هم قاصرون عن أمثال هذا الدّقيق من الإبطال ، ولم يدّع المصنّف أنّ ذلك من خواصّه حتّى يكون وجوده في كتب من تقدّمه من الأشاعرة أو الاماميّة مكذبا له ، وأما ما ذكره في أوّل الحرف من جوابه ، فانحرافه عن الحقّ ظاهر لأنّ غاية ما يلزم من جواز إسناد صفة الفعل إلى العبد أن يكون وصفا له بحال متعلّقة كحسن الغلام وهو وصف مجازي لا يصلح لبناء ثواب العبد وعقابه مثلا عليه ، وأما ما ذكره بقوله : فجوابه أنّ الطاعة حسنة إلخ فمردود بما عرفت من بطلان كون الحسن والقبح شرعيّين ، وبما مرّ من تقبيح قولهم : بأنّه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى وتزييف مؤاخذة المحلّ بالقبح المخلوق فيه من الله تعالى. واما ما ذكره من أنّ مراد القائل إنّ هناك شيء تنسب إليه أوصاف الفعل إلخ ففيه أنّه إعادة لكلام القائل بعبارة أخرى ، ويتوجّه عليه ما يتوجّه على ذلك : من أنه رمى في الظلام فلا يصلح لبناء المذهب عليه والاحتجاج به على الأقوام ، وكفى هذا خللا وفسادا في الكلام.

١٤١

قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الثالث عشر في أنّ القدرة متقدّمة (١) ذهبت الاماميّة والمعتزلة كافة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعل ، وقالت الأشاعرة هاهنا : قولا غريبا عجيبا وهو أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه لا بزمان ولا بآن (٢) ، فلزمهم من

__________________

(١) قد أسلفنا في ج ١ ص ٤٧٣ مقالات في مسألة القدرة ، وذكرنا أن فيها مباحث ومشاحات. كالنزاع في ان القدرة موجبة للفعل بذاتها أولا ، وكالنزاع في تعريف القدرة وتعيين الملاك فيها ، فبعضهم عبر بان القدرة ان يكون الشخص بحيث ان شاء فعل وان شاء ترك ، وبعض المتكلمين قال : انها بحيث ان يكون ان شاء فعل وان لم يشاء لم يفعل.

وكالنزاع في أنها لا بد أن تكون متقدمة على الفعل بمعنى ان الذات تكون متصفة بها قبل وقوع الفعل وصدوره منها أم لا ، ذهبت العدلية من الامامية والزيدية والمعتزلة وأكثر الحكماء الى الاول ، وأكثر الاشاعرة الى الثاني ، والاول هو الحق المحقق المؤيد بالعقل والمنصور بالنقل كما سيتضح ذلك ان شاء الله تعالى.

وكالنزاع في أنها هل تتعلق بالضدين أم لا الى غير ذلك من المسائل التي وقع فيها الخلاف ، طوينا عن ذكرها كشحا اقتناعا بما ذكر في شرح المواقف للشريف المحقق الجرجاني وغيره من المطولات.

(٢) قال ابن سينا في رسالة الحدود المطبوعة ببلدة بمبئى في مجموعة من آثاره ص ٥٩ ما لفظه : الزمان مقدار الحركة من جهة التقدم والتأخر والآن هو طرف موهوم يشترك فيه الماضي والمستقبل من الزمان وقد يقال : ان الزمان صغير المقدار عندهم متصل بالآن الحقيقي من جنسه (انتهى).

وقال بعض المتكلمين كما في الدستور (ج ٢ ص ١٩) : الزمان عبارة عن متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر موهوم كما يقال آتيك عند طلوع الشمس معلوم متجدد ومجيئه موهوم ، فإذا قرن ذلك الموهوم بذلك المعلوم زال الإبهام ، وعند

١٤٢

ذلك محالات ، منها تكليف ما لا يطاق ، لأنّ الكافر مكلّف بالايمان إجماعا منّا ومنهم ، فإن كان قادرا عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه ، وان لم يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق ، وقد نصّ الله تعالى على امتناعه فقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ، والعقل دلّ عليه وقد تقدّم ، وإن قالوا انّه غير مكلّف حال كفره لزمهم خرق الإجماع من أنّ الله تعالى أمره بالايمان بل عندهم أنّه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلّفا «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب الأشاعرة أنّ القدرة الحادثة مع الفعل وأنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن فلنفرض وجوده فيه فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك ، بل هي حال الفعل هذا خلف محال ، لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع النقيضين أعني كونه متقدّما وغير متقدّم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون ممكنا ، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات ، وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله

__________________

الحكماء على ما ذهب اليه أرسطو الزمان هو مقدار حركة الفلك الأعظم وبعبارة أخرى هو كم متصل قائم بحركة الفلك المحدد الى غير ذلك من التعاريف التي ذكرت في كتب الحكمة والكلام والمصطلحات العلمية وجلها من قبيل شرح الاسم والتعريف اللفظي كما لا يخفى.

ثم ان في الزمان مباحث كالبحث عن كونه موجودا أو موهوما صرفا ، وكالبحث عن منشإ اعتباره ونحوهما تركناها اكتفاء بما ذكرت في مظان هذه الأمور فراجع إليها.

(١) البقرة. الآية ٣٨٦.

١٤٣

فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر ، فتعيّن أن تكون موجودة معه وهو المطلوب ، هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى ، وأما ما ذكر من لزوم المحالات بأنّ الكافر مكلّف بالايمان بالإجماع فإن كان قادرا على الايمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل وهو خلاف مذهبهم وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق ، فجوابه أنّا نختار أنّه غير قادر على الايمان حال الكفر ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ، لأنّ شرط صحّة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلّف به متعلقا للقدرة ، أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل في الايمان ، فانّه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه لكن تركه بالتّلبس بضدّه الذي هو الكفر مقدور له حال كونه كافرا «انتهى».

أقول

قد أجاب أصحابنا عن الدّليل الذي نقله عن الأشاعرة أوّلا بالنقض بالقدرة القديمة فان قيل : لا يلزم من وجود القدرة القديمة قبل الفعل وجود تعلّقها قبله ، فالقدرة القديمة تعلّقها مع الفعل ومقدورية الفعل إنّما تجب في زمان تعلّق القدرة به ، قلنا : فليجز مثل ذلك في القدرة الحادثة وهو أن تكون نفسها موجودة قبل الفعل وتعلّقها مقارنا للفعل ، وثانيا بالحل وهو تحقيق معنى قوله : حصول الفعل قبل وقوعه محال بانّه قد يراد به معنيان ، الاول أنّ حصول الفعل في زمان قبل زمان الفعل مشروطا بشرط كونه قبله محال ، والثاني أنّ حصول الفعل في زمان قبل زمان حصوله لكن غير مشروط بشرط كونه قبله محال ، ولا اشتباه في استحالة المعنى الأوّل لكنّه لا ينافي المقدورية وإمكان حصول الفعل من القادر ، لأنّ هذا المحال لم يلزم من وجود الفعل في ذلك الزّمان وحده حتّى يلزم امتناعه قبله فيه بل منه مع فرض كون

١٤٤

ذلك الزّمان قبل زمان الفعل مقارنا لعدمه ، فيكون هذا المجموع محالا دون الفعل وحده ، بل هو ممكن في ذاته قطعا ، فلا يتّصف بالامتناع الذّاتي ، بل الامتناع بالغير ، وذلك لا ينافي تعلّق القدرة به ، والمعنى الثّاني غير محال ، فإنّه يمكن أن يزول عن ذلك الزّمان وصف كونه قبل زمان وقوع الفعل ويحصل بدله وصف كونه زمان وقوع الفعل فلا يلزم اجتماع النّقيضين ، وهذا كما يقال : قعود زيد محال بشرط قيامه إذ يمتنع كونه قائما وقاعدا ، وليس بمحال في زمان قيامه ، إذ يمكن أن ينعدم القيام ويوجد بدله القعود هذا ، وأما ما ذكره في جواب لزوم المحالات : من أنّ شرط صحّة التّكليف عندنا أن يكون الشيء المكلف به متعلّقا للقدرة أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة إلخ فمردود بأنّه مبنيّ على أنّ القدرة متعلّقة بأحد الطرفين وقد مرّ ما فيه فتذكر.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها الاستغناء عن القدرة ، لأنّ الحاجة إلى القدرة ، إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود وهذا إنّما يتحقّق حال العدم ، لأنّ حال الوجود هو حال الاستغناء عن القدرة ، لأنّ الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة إلى القدرة ، على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة البتّة ، لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو الله تعالى ، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول ، لأنّه خلاف مذهبهم «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : الحاجة إلى القدرة اتصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار حتّى يصح كونه محلا للثّواب والعقاب ، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل لا يتحقّق له صورة الاختيار ، والله تعالى حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى ، ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن

١٤٥

يكون البحث عنها فضولا «انتهى».

أقول

من البيّن أنّ الصّفة التي يخرج الاتّصاف بها العبد من الاضطرار في الفعل يجب أن تكون مؤثّرة في الفعل وإلّا لكانت لغوا ضائعا ، وأيضا إذا لم تكن القدرة مؤثّرة كيف يعلم حدوثها مع الفعل ، وكيف يتحقّق بها صورة الاختيار مع أنّ القول بالصّورة لا معنى له ، وأيضا قد مرّ أنّ القدرة صفة تؤثّر على وفق الإرادة ، وقال شارح العقائد (١) : إنّها صفة أزليّة تؤثّر في المقدورات عند تعلّقها بها ، فإذا لم تكن قدرة العبد مؤثّرة لم تكن قدرة ، وأما ما ذكره من أنّ الله تعالى حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى ، ففيه أنّ المصنّف لم يقل : إنّ مصلحة خلق القدرة منحصرة في التأثير حتّى يتّجه أن يقال : يحتمل أن يكون للحكيم في خلقه مصالح أخرى لا تحصى ، بل الكلام في أنّ المصلحة في خلق القدرة في العبد كما يدلّ عليه مفهوما هو التّأثير في الفعل ، فإذا لم تكن مؤثّرة لم تكن حاجة في ذلك إلى خلقها ، ويكون البحث عنها من هذه الجهة فضولا ، وهذا لا ينافي اعتداد البحث عنها من جهة أخرى ولمصلحة أخرى ، وهل الذي ذكره النّاصب إلّا مثل أن يقال : مثله أنّ الفرس مخلوقة لمصلحة الكتابة ، فإذا قيل له : إنّ هذه المصلحة لا تظهر في الفرس ، فيكون القول بكون تلك مصلحة خلقه لغوا يجيب بأنّه يجوز أن يكون في خلق الفرس مصالح أخرى لا تحصى وفساده ممّا لا يخفى ، هذا. ويقال لهم : أليس تأثير القدرة في الفعل آكد من تأثير الآلة؟ فلا بدّ من بلى ، فيقال : إذا كان فاقد الآلة وتأثيرها عندكم يعذر في التّرك وجب مثله في فاقد القدرة وتأثيرها ، فيكون الكافر معذورا في ترك الايمان ، ويقال لهم؟ في قولهم : بعدم تقدّم القدرة على الفعل : متى يقدر

__________________

(١) المراد به شرح عقائد النسفي وإذا اطلق ينصرف الى شرح المحقق التفتازاني.

١٤٦

أحدنا على الانتقال من الشّمس إلى الظلّ إن قلتم يقدر وهو في الشّمس تركتم مذهبكم ، وإن قلتم : وهو في الظلّ فأىّ حاجة إلى القدرة حينئذ ، فان قالوا يقدر حالة الانتقال قلنا : ليس بين كونه في الشّمس وكونه في الظل حالة تسمى حالة الانتقال وتكون متقدّمة على أحدهما متأخرة عن الآخر ، ويقال لهم : ما عندكم في رجل قتل نفسه أقدر على قتلها وهو حىّ؟ فهو الذي نقول : أو وهو ميّت ، فكيف يقدر الميّت على أن يقتل؟ ثمّ إذا كان قد حصل الموت بالقتل فعلى أىّ شيء قدر؟.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها إلزام حدوث قدرة الله أو قدم العالم ، لأنّ القدرة مقارنة للفعل وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال لأنّ قدرة الله تعالى تستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما ، ولأنّ القدم مناف للقدرة ، لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر ، ومن اعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد ، والكلام في أحكامها مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل البتّة ، وأنّه لا مؤثّر غير الله ، فأيّ فرق بين القدرة واللّون والمقدار وغيرها بالنسبة إلى الفعل إذا كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة لتأثيره ، وقال أبو علي بن سينا (١) ردّا عليهم : لعلّ القائم لا يقدر على القعود «انتهى».

__________________

(١) هو رئيس الحكماء فيلسوف المسلمين مجمع الفضائل والعلوم صاحب الأفكار الابكار في الفلسفة والطب والرياضيات الشيخ أبو على الحسين بن عبد الله بن الحسين بن على بن سينا البلخي البخاري ، كان من أعاجيب الدهر في العلم والذكاء والدهاء والأبصار والسماع والاستشمام ، وبالجملة هو ممن استفاد منه الحكماء والأطباء والفلكيون والمنطقيون وغيرهم من القدماء والمتأخرين من أهل المشرق والمغرب.

توفى في مستهل رمضان سنة ٤٢٧ وكانت ولادته ٣٩١.

وكان شاعرا بارعا ، وله منظومات معروفة في الطب وغيره رائقة نفيسة ، منها القصيدة

١٤٧

قال النّاصب خفضه الله

أقول : حاصل هذا الاعتراض أنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره تعالى ، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته أو من قدم قدرته قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزليّة إجماعا متعلّقة في الأزل بمقدوراته ، فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا ، وأجاب شارح المواقف عن هذا الاعتراض بأنّ القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا (١) ، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم حادث عليه ، ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقا معنويّا لا يترتّب عليه وجود الفعل ولها تعلّق آخر حال حدوثه تعلقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنويّ قدم آثارها ، فاندفع (٢) الاشكال بحذافيره (٣)

__________________

النفسية الشهيرة التي مطلعها.

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع

وشرحها جمع كثير بشروح شريفة.

وله تصانيف وتآليف منها القانون في الطب الإشارات في الميزان والحكمة الخطب التوحيدية لسان العرب في اللغة الشفاء النجاة في المنطق الحكمة المشرقية الحكمة العرشية الإنصاف المبدأ والمعاد المدخل في الموسيقى كتاب الحدود رسالة حي بن يقظان رسالة القولنج عيون الحكمة وغيرها من الآثار القلمية فراجع الريحانة (ج ٥ ص ٣٨١) والوفيات والروضات والشذرات واخبار الحكماء وغيرها.

(١) لان القدرة الحادثة عرض ، والعرض لا يبقى زمانين عندهم.

(٢) مذكور في شرح التجريد بلا إيراد عينه.

(٣) الحذافير جمع الحذفور بالضم والحذفار بالكسر : الجمع الكثير.

١٤٨

وأمّا ما ذكره من التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل ، فبالحرى أن يتعجّب من تعجّبه لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد وهي من صفات الكمال ، فالبحث عنها لكونها من الاعراض والكيفيّات النفسانيّة وعدم كونها مؤثّرة في الفعل من جملة أحوالها المحمولة عليها ، فلم لم يباحث عنها؟ ، وأما قوله : أن لا فرق بينها وبين اللون فقد أبطلنا هذا القول فيما سبق مرارا بأنّ اللّون لا نسبة له إلى الفعل ، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار ويخرج بها العبد من الجبر المطلق ، ويترتّب على فعله الثّواب والعقاب والتّكليف والله أعلم ، قال الامام الرّازي (١) : القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ الأفعال المختلفة الحيوانيّة ، وهي القوّة العضليّة التي هي بحيث متى انضمّت إليها إرادة أحد الضدّين حصل ذلك الضد ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء ، وهي قبل الفعل والقدرة أيضا تطلق على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معا وإلا اجتمعا في الوجود ، بل هي إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، وذلك لاختلاف الشّرائط ، وهذه القدرة مع الفعل ، لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثر التامّ ، ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ولذلك حكم بأنّها مع الفعل وأنّها لا تتعلّق بالضدّين والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد القوة العضليّة فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلّقها بالأمور المضادّة ، فهذا وجه الجمع بين المذهبين ، وبهذا يخرج (٢) جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : لعلّ القائم لا يقدر على القعود فانّه غير قادر بمعنى أنّه لم

__________________

(١) قد مرت ترجمته في أوائل هذا الجلد من الكتاب. والجزء الاول ص ١١٠.

(٢) خرج المسألة ، بين لها وجها والتخريج المصطلح عند المحدثين مأخوذ منه.

١٤٩

يحصل له بعد القوّة المستجمعة لشرائط التأثير وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضليّة انتهى.

أقول

وبالله التوفيق : أنّ جواب شارح المواقف ممّا ذكر الشّارح (١) الجديد للتجريد أيضا من غير إيراد عليه ، وكنت أظنّه واردا إلى الآن ، وقد سنح (٢) لي عند النظر إلى هذا المقام أنّه مردود ، لأنّ كلام المصنّف مبنيّ على إلزام آخر للأشاعرة ، بيانه أنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ صفات الله تعالى موجودات زائدة قائمة به وقد صرّحوا بأنّها ليست جواهر حذرا عن أن يلزمهم شرك النصارى القائلين بالذّوات القديمة فلا بدّ أن تكون أعراضا لانحصار الموجود في الجوهر والعرض فالتزام التفرقة بين القدرة الالهيّة وقدرة العبد بكون أحدهما عرضا لا يجوز بقاؤها دون الأخرى تحكم قصدوا به الفرار عن الإلزام ، فظهر أنّ اللازم لهم في الحقيقة أمران ، إحداهما ما ذكرناه من التحكّم البارد ، والآخر ما ذكره المصنّف من الإلزام الوارد ، فحال النّاصب في استفادته من كلام شارح المواقف مع أداء ذلك إلى تقوية مطلوبه وتضعيف مهروبة كحال الحمار الذي أشار إليه الشاعر بقوله. شعر :

ذهب (٣) الحمار ليستفيد لنفسه

قرنا فآب وما له أذنان

وأما ما زعمه من أنّ كلام الرّازي يصير وجها للجمع بين المذهبين ففاسد ، إذ يتوجّه عليه ما اعترض به صاحب المواقف أيضا ، وحاصله أنّ الامام إن أراد بالقدرة

__________________

(١) قد مرت ترجمته في أوائل هذا المجلد من الكتاب.

(٢) سنح الرأى : عرض.

(٣) أورد الميداني في ج ١ من مجمع الأمثال ص ١٩٣ المثل هكذا : ذهب الحمار يطلب قرنين فعاد مصلوم الأذنين.

١٥٠

القدرة القديمة فليست مستجمعة لشرائط التأثير ، وإن أراد الحادثة فليست مؤثّرة ، واما ما ذكره من أنّه يخرج بهذا جواب أبي عليّ بن سينا فهو مدخول بما يتّصل بذلك من كلام أبي علي لتصريحه فيه بأنّ القدرة ليست إلا القوّة التي يكون لها التأثير بالقوّة ، وردّه على من فسّره بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، فكيف يردّ عليه بهذا التفسير؟ وهو الحكيم الإسلامي المقنّن (١) للأوضاع والقوانين ، وقد بالغ في ذلك حتّى حكم بالعمى على القائل به من بعض الأوائل ، والذين وافقوهم من الأشاعرة حيث قال : في فصل القوّة والفعل والقدرة والعجز من إلهيّات الشّفا : وقد قال بعض الأوائل وغاريقون (٢) ، منهم أنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير ، فالقائل بهذا القول كأنّه يقول : إنّ القاعد ليس يقوى على القيام ، أى لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم؟ وأنّ الخشب ليس في جبلّته أن ينحت منه باب فكيف ينحت؟ وهذا القائل لا محالة غير قوي على أن يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى انتهى ، وايضا ما اشتهر من أنّ القدرة صفة تؤثر (مؤثرة خ ل) على وفق الإرادة وكذا التفسير الذي نقلناه سابقا عن شارح (٣) العقائد يدفع وقوع إطلاقها على ما استجمع

__________________

(١) فيه لطف إيماء الى كتاب القانون للشيخ.

(٢) هو من فلاسفة يونان ويعبر في بعض الكتب عنه ب (افريطون) قبال في كتاب تاريخ سلاطين يونان وحكمائها الذي أصله انجليزى وترجم بالفارسية في (ص ٣٩ طبع بمبئى) ما حاصله : ان هذا الحكيم كان من أجلة الحكماء ومن أعيان تلاميذ سقراط الحكيم فائقا على سائر أصحابه ، شريك البحث مع أفلاطون ، فلما قتل سقراط انتقل افريطون مع عدة من تلاميذ أفلاطون الى بلدة اسن (اتن خ ل) وجعل يعلم الحكمة لأهلها الى آخر ما ذكره.

(٣) المراد التفتازاني حيثما يطلق ، وعليه فقد مرت ترجمته في ص ١٤٢ من الجزء الاول.

١٥١

الشرائط ، ويشعر بأنّه اصطلاح جديد وتمحّل عنيد كحيل عمرو بن العاص ارتكبوه للخلاص عن تشنيع الخواصّ ولات حين مناص (١).

قال المصنّف رفع الله درجته

المطلب الرابع عشر في أنّ القدرة صالحة للضدّين (٢) ، ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فانّهم قالوا القدرة غير صالحة للضدّين ، وهذا مناف لمفهوم القدرة فانّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل وإذا شاء أن يترك ترك ، فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير لم يكن الآخر مقدورا ، فلم يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب الأشاعرة أنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله ، بل قالوا : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورين مطلقا سواء كان متضادّين أو متماثلين أو مختلفين لا معا ولا على سبيل البدل بل القدرة الواحدة لا تتعلّق إلا بمقدور واحد ، وذلك لأنّها مع المقدور ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر ، ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الاماميّة أنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة وأنا أقول : ولعلّ النّزاع لفظيّ لا على الوجه الذي ذكره الامام الرّازي (٣) ، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلقا بمقدور واحد وهو الكائن عند حدوث الفعل فكلّ فرد له متعلّق ، والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلّقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا تعلّق واحد ، والمعتزلي لا يقول

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى في سورة ص الآية ٣.

(٢) وسيأتي التفصيل في ذلك.

(٣) قد مرت ترجمته في أوائل هذا المجلد. والجزء الاول ص ١١٠.

١٥٢

إنّ الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث وحصل منه الفعل فعين ذلك الفرد لا يتعلّق بضدّه بل يقول : إنّ القدرة الحادثة مطلقا تتعلّق بالضدّين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ، فالنّزاع لفظيّ تأمّل وأما ما ذكره من أنّه يوجب عدم كون القادر قادرا لأنّه إذا لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون مضطرّا لا قادرا ، فالجواب عن ذلك أنّه إن أريد بكونه مضطرّا أنّ فعله غير مقدور له فهو ممنوع ، وإن أريد به أنّ مقدوره ومتعلّق قدرته متعيّن وأنّه لا مقدور له بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه ولا منازعة لنا في تسميته مضطرّا ، فانّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا ترى أنّ من أحاط به بناء من جميع جوانبه بحيث يعجز عن التقلب من جهة إلى أخرى فانّه قادر على الكون في مكانه بإجماع منّا ومنهم مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره «انتهى».

أقول

قد مرّ أنّ القول بأنّ القدرة مع الفعل مهدوم ، فالبناء عليه يكون ملوما مذموما ، وأمّا ما أظهر التفرّد به من جعل النّزاع لفظيّا فساقط جدّا ، وهو دليل كونه متفرّدا فيه وذلك لأنّ مبناه على ما خان فيه النّاصب أوّلا حيث قيّد القدرة بالواحدة وبدّل صلاحيّتها للضّدّين بتعلقها بهما ، فانّ المسألة على وجه عنون به المصنّف هاهنا وغيره في غيره هو أنّ القدرة صالحة للضدّين ، وقال النّاصب عند تقرير المبحث أقول : مذهب الأشاعرة أنّ القدرة صالحة للضدّين ، وقال النّاصب عند تقرير المبحث أقول : مذهب الاشاعرة أنّ القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدّين ، ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ الكلام في أصل القدرة بلا قيد الواحدة وفي صلاحيّتها دون تعلقها كلام شارح العقائد في مسألة الاستطاعة حيث قال : إنّ القدرة صالحة للضّدّين عند أبي حنيفة (١) حتّى أنّ القدرة المصروفة

__________________

(١) هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه ، وقيل هرمزد الفارسي الأصل والنسب

١٥٣

__________________

البغدادي المسكن والمدفن ، امام الحنفية أحد أئمة أهل السنة والجماعة ، ويعبر عنه في كتب الحنفية بالإمام الأعظم تارة والامام المعظم أخرى وامام العراق ثالثة ، أخذ الفقه والحديث عن مولانا الصادق عليه‌السلام روى عنه عليه‌السلام وعن عطاء ونافع والأعرج وفي سماعة عن الصحابة خلاف ، قال عبد القادر القرشي المتوفى سنة ٧٧٥ في الجواهر المضية (ص ٢٨ طبع حيدرآباد) ان أبا حنيفة سمع عن عبد الله بن أنيس وعبد الله بن جزء الزبيدي وانس بن مالك وجابر بن عبد الله ومعقل بن يسار ووائلة بن الأسقع وعائشة بنت عجرد «انتهى».

ولكن صديق حسن خان في ابجد العلوم (ص ٨٠٧) أنكره أشد النكير وقال : ما لفظه انه لم ير أحدا من الصحابة باتفاق أهل الحديث وان كان عاصر بعضهم على رأى الحنفية. إلخ أقول : وكذا أنكر كونه تابعيا جمع من اجلاء المؤرخين والمحدثين فليراجع الى المظان قال القرشي : الصحيح انه ولد سنة ٨٠ وقيل : سنة ٦١ وقيل : ٦٣.

وقال ، وقد اتفقوا انه توفى سنة ١٥٠ أقول : وقبره ببغداد معروف ونسبوا اليه عدة تصانيف منها الفقه الأكبر في العقائد ، والمسند والمقصود في علم الصرف ، وذكر الخطيب : عند ترجمته له في تاريخ بغداد غرائب وعجائب في شين المترجم والتشنيع عليه وأجاب عنها الملك عيسى الايوبى المتوفى سنة ٦٢٤ بكتاب سماه السهم المصيب في كبد الخطيب ، ولم يتمكن من دفع كلمات الخطيب كلها ويروى عن المترجم جماعة كحماد ، وزفر بن الهذيل التميمي ، وأبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني وغيره.

وهو يروى عن عدة : منهم مولانا أبو عبد الله الامام الصادق سلام الله عليه وعطاء ونافع والأعرج وغيرهم.

ومن المأسوف عليه أن أكثر المترجمين له لم يذكروا تدرس المترجم وتعلمه عن مولانا الصادق عليه‌السلام مع انه من المسلمات لدى أهل السير والتراجم.

ونقل زميلنا العلامة الفقيد في الريحانة : نوادر وطرائف من فتاويه الفقهية ولم يذكر المستند ولعلنا ان شاء الله تعالى نتعرض لها مع ذكر المدارك والكتب التي نقلوها عنه والله الموفق.

١٥٤

إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الايمان لا اختلاف إلّا في المتعلّق وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة إلخ ، وهذا موافقة من أبي حنيفة مع المعتزلة في موضعين ، أحدهما المسألة التي نحن فيها وهو ظاهر ، والثاني مسألة بقاء الأعراض فانّ في قوله هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الايمان تسليم لاستقامة بقاء الأعراض كما ذهبت إليه المعتزلة وهو معتزلي عند التّحقيق (١) ، ولهذا قلّده المتأخّرون من

__________________

(١) بل المعروف لدى عدة من أرباب التراجم انه كان يرى رأى الزيدية في الخروج. قال : أبو الفرج في المقاتل (ص ١٤٥ طبع مصر) ما لفظه حدثنا على بن الحسين قال : حدثني على بن العباس قال : حدثنا أحمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الله بن مروان بن معاوية ، قال : سمعت محمد بن جعفر بن محمد في دار الامارة يقول : رحم الله أبا حنيفة لقد تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن على ، وفعل بابن المبارك في كتمانه فضائلنا ودعى عليه.

وقال الخطيب في تاريخ بغداد : (ج ١٣ ص ٣٨٤) أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثني صفوان بن صالح ، حدثنا عمر بن عبد الواحد قال ، سمعت عن الأوزاعي يقول أتاني شعيب بن اسحق وابن أبى مالك ، وابن علاق وابن ناصح ، فقالوا : قد أخذنا عن أبى حنيفة شيئا فانظر فيه فلم يبرج بى وبهم حتى أريتهم فما جاءوني به عنه انه أحل الخروج على الأئمة.

وأورد عدة نقول : في رأى المترجم وفتواه بالخروج.

ولكن حكى الجرحانى في شرح المواقف (ج ٢ ص ٤٩١ طبع مصر ؛ عن الآمدي الأصولي المشهور ان اصحاب المقالات قد عدوا أبا حنيفة وأصحابه من مرجئة أهل السنة. إلخ.

وحكى الشهرستاني في الملل (ج ١ ص ٢٦٤ طبع مصر باهتمام محمد بدران) عن غسان قدوة الطائفة الغسانية من المرجئة ، انه كان يعد أبا حنيفة من المرجئة الى ان قال وعده كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة إلخ.

وقال الخطيب في تاريخ بغداد (ج ١٣ ص ٣٩٦) ما لفظه أخبرنا ابن رزق أخبرنا ابن

١٥٥

المعتزلة في الفروع الفقهيّة ومنهم الزّمخشري (١) الحنفي المعتزلي وبعد الاطلاع على

__________________

سلم حدثنا الأبار حدثنا ابو الأزهري النيسابوري حدثنا حبيب كاتب مالك بن أنس عن مالك بن انس قال : كانت فتنة أبى حنيفة أضر على هذه الامة من فتنة إبليس في الوجهين جميعا في الارجاء وما وضع من نقض السنن «انتهى».

الى غير ذلك من الكلمات في كتب السير والتواريخ والتراجم والرجال والفقه.

ومما يؤيد كونه باطنا زيديا كثرة عناية علماء الزيدية وفقهائهم بكلماته وذكر اسمه في إجازاتهم فراجع البحر الزخار ، والفلك السيار ، وشرح المجموع لزيد الشهيد والأمالي للديلمي ، وشرح مسند أبى حنيفة ، وشرح البحر الرائق ، وشرح امالى المرتضى من أئمتهم ، والدر الفريد في الأسانيد ، وغيرها من كتبهم.

ومما يؤيد ذلك كون فقههم مؤتلفا من فقهي الال وأبى حنيفة كما هو واضح لمن سبر أسفارهم الفقهية ، مضافا الى ما سمعته مشافهة عن العلامة المؤرخ نسابة اليمن السيد محمد بن محمد بن زبارة الحسنى اليمنى صاحب كتاب نيل الوطر ، وعن العلامة السيد محمد بن محمد بن زبارة الحسنى اليمنى صاحب كتاب نيل الوطر ، وعن العلامة السيد جمال الدين أحمد الكوكبانى اليماني الأصل الهندي المنشأ والولادة وغيرهما من اعلامهم.

وكذا أجاب لي العلامة الشيخ عبد الواسع الواسعى اليماني صاحب كتاب مزيل الحزن في تاريخ اليمن بعد ما سألت عنه كتبا عن فقه مذهبهم ومداركه.

وغير خفى على أرباب التتبع ان أكثر الزيدية معتزلة اصولا ، ومنهم من يذهب مذهب الامامية في تلك المسائل ، وعليه فما ذكره القاضي الشهيد من ان ابا حنيفة معتزلي عند التحقيق كلام حقيق بالقبول ، مؤيد بما يذكره قدس‌سره في الكتاب ، هذا ما رمت ذكره في المقام مع رعاية الاختصار ، وتركنا أمورا مناسبة لترجمة أبى حنيفة خوفا من الاطالة وايراث السأمة ولعل الله يوفقنا لإيرادها في محل آخر ان شاء سبحانه وتعالى.

(١) هو العلامة جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشرىّ المتكلم المفسر الأديب النحوي اللغوي ولد في قرية زمخشر من قرى بلدة خوارزم ٤٦٧

١٥٦

__________________

وتوفي ببلدة جرجانية عاصمة خوارزم سنة ٥٣٨ وقيل ٥٤٨ وله تصانيف وتآليف رائقة في فنون العلم منها الفائق في غريب الحديث ، وأساس البلاغة في اللغة ، والكشاف في التفسير ، وكتاب اسماء الجبال والامكنة ، واطواق الذهب في المواعظ والخطب ، والأنموذج في النحو ، واعجب العجب في شرح لامية العرب والأمالي ، وديوان التمثيل وديوان الرسائل ، والمفصل في النحو ، والقسطاس في العروض ، والمنهاج في الأصول ، والمستصفى في الأمثال ، والكلم النوابغ ، وسوائر الأمثال ، وضالة الناشد ، وشرح أبيات الكتاب لسيبويه ، ورؤس المسائل في الفقه الى غير ذلك من الآثار النفيسة التي هي موارد للاستفادة والافادة ، وكان شاعرا بارعا مفلقا فمن شعره ما نسب اليه في الريحانة (ج ٢ ص ١٢٧) نقلا عن ترجمته المذكورة في آخر الجزء الثاني من الكشاف المطبوع بمصر (قوله) :

إذا سئلوا عن مذهبي لم أبح به

وأكتمه كتمانه لي اسلم

فان حنفيا قلت قالوا بأنني

أبيح الطلا وهو الشراب المحرم

وان مالكيا قلت قالوا بأنني

أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم

وان شافعيا قلت قالوا بأنني

أبيح نكاح البنت والبنت محرم

وان حنبليا قلت قالوا بأنني

ثقيل حلولي بغيض مجسم

وان قلت من اهل الحديث وحزبه

يقولون تيس ليس يدرى ويفهم

تعجبت من هذا الزمان واهله

فما احد من السن الناس يسلم

وأخرني دهري وقدم معشرا

على انهم لا يعلمون واعلم

ومذ أفلح الجهال أيقنت اننى

انا الميم والأيام أفلح اعلم

ومن شعره قوله

كثر الشك والخلاف فكل

يدعى الفوز بالصراط السوى

فاعتصامى بلا اله سواه

ثم حبى لأحمد وعلى

فاز كلب بحب اصحاب كهف

كيف أشقى بحب آل نبى

١٥٧

هذه الخيانة التي ارتكبها النّاصب أوّلا في مقام الإجماع يظهر للنّاظر فساد ما فرّعها عليه في مقام التّفصيل ، ولعلّه أخذ ذلك من كلام نقله شارح العقائد بعد الكلام الذي نقلناه عنه قبيل ذلك ، ثمّ ردّ عليه ، والنّاصب غير ذلك الكلام نحو تغيير على وفق هواه ، وترك ردّه لمخالفته لما أهواه ، قال الشارح : فان أجيب بأنّ المراد أنّ القدرة وإن صلحت الضّدّين لكنّها من حيث التّعلّق بأحدهما لا تكون إلا معه حتّى أنّ ما يلزم مقارنتها للفعل هي القدرة المتعلقة بالفعل وما يلزم مقارنتها للتّرك هي القدرة المتعلّقة بالتّرك ، وأما نفس القدرة فقد تكون متقدّمة متعلّقة بالضّد ، قلنا : هذا لا يتصوّر فيه نزاع ، بل هو لغو من (١) الكلام انتهى ، وأما ما ذكره من الجواب عن إلزام المصنّف فمردود من وجهين ، أحدهما أنّ المصنّف قد استدلّ على ما ذكره بمنافاته لمفهوم القدرة والنّاصب لم يتعرّض له وحرّر كلام المصنّف على وجه آخر واعترض عليه بالتّرديد الذي ذكره ، وحيث كان الاعتراض على كلام نفسه فحصر الاعتراض فيما ذكره ممنوع بل يتوجّه عليه من الفساد والخلل ما لا يحصى ، وثانيهما أنّ ما ذكره من التنوير مظلم ، وذلك لأنّ من أحاط به البناء من جميع جوانبه إن كانت تلك الإحاطة المستلزمة لعدم الانفكاك بفعل نفسه فيصدق عليه أنّه كان قادرا قبل ذلك على الانفكاك من ذلك المضيق ، فتكون قدرته صالحة للضدّين وإن كان بإجبار غيره وإدخاله إياه في ذلك المضيق ، فحيث كان مسلوب القدرة عند الإيقاع في ذلك المضيق لا يصدق

__________________

والمترجم معروف بالاعتزال عند القوم متهم بالتشيع عند بعض المترجمين له فراجع الريحانة ذلك الجزء.

(١) والشاهد على اللغوية صريح الوجدان من دون افتقار الى الدليل إذ البرهان لمن فقد الذوق والوجدان قال : القاضي الشهيد في بيان اللغوية في الهامش ما لفظه : لأنه لا نزاع لاحد في ان القدرة المتعلقة بالايمان مع الايمان والقدرة المتعلقة بالكفر مع الكفر فهو كلام بلا فائدة.

١٥٨

عليه أنّه كان قادرا على شيء فلا يصدق عليه أنّه قادر على الكون في ذلك المضيق لأنّ العرف إنّما يحكم على قدرته إذا كان قبل ذلك قادرا على الكون وعدمه والمفروض خلافه ، فقوله إنّه قادر على الكون في مكانه كذب كما لا يخفى ، على أنّ دعوى الإجماع في ذلك مردود بما ذكره الرّازي في بعض كتبه حيث قال : عند عدّ الاختلافات الواقعة بين المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة ، الاختلاف الثّاني أنّ الممنوع من جميع أضداد الشّيء هل يكون ممنوعا من ذلك الشيء وذلك كمن أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه مانع له من الحركة إلى جميع الجهات هل يكون ممنوعا من السكون في ذلك المكان؟ فالذي ذهب إليه الجبائي (١) المنع واستدلّ على ذلك بثلاثة مسالك ، الأوّل أنّه لو لم يكن المحاط به ممنوعا من السّكون لكان مع قدرته عليه متمكّنا منه ، واللازم ممتنع ، وبيان الملازمة أنّه إذا كان قادرا على السّكون وقد عدم كلّ مانع فالتمكّن لازم بالضّرورة ، أمّا بيان انتفاء اللازم فهو أنّ المتمكّن من فعل الشيء يستدعي عندنا أن يكون متمكنا من فعله وتركه ، والسكون غير متمكن من تركه بل هو مضطر إليه على ما لا يخفى «انتهى»

__________________

(١) هو الشيخ ابو على محمد بن ابى هاشم عبد السّلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان الجبائي ، كان من أكابر المتكلمين وقدوة للمعتزلة ، آرائه ومقالاته مشهورة في الكتب الكلامية ، أخذ العلم عن جماعة ، منهم والده أبو هاشم المذكور ، توفى سنة ٣٠٣ في البصرة وقيل في غيرها.

والجبائيان هما صاحب الترجمة ووالده المذكور ثم لا يخفى أن كثيرا ما يشتبه الأمر وتسند مقالات أبى هاشم هذا الى أبى هاشم العلوي من ذرية محمد بن الحنفية فلا تغفل.

وأبان جد أبى هاشم من موالي عثمان بن عفان على ما في الريحانة (ج ١ ص ٢٥٣)

١٥٩

قال المصنف رفع الله درجته

المطلب الخامس عشر في الإرادة ذهبت الاماميّة وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله ، بل كلّ قادر فانّه مريد لأنّ الإرادة صفة تقتضي التّخصيص وأنّها نفس الدّاعي ، وخالفت الأشاعرة في ذلك فأثبتوا صفة زائدة عليه وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها ، لأنّ الفعل إذا كان صادرا عن الله ومستندا إليه وأنّه لا مؤثّر إلّا الله فأىّ دليل يدلّ حينئذ على ثبوت الإرادة وكيف يمكنهم ثبوتها لنا؟ لأنّ طريق الإثبات هو أنّ القادر كما يقدر على الفعل كذلك يقدر على التّرك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والتّرك ، وإنّما يتخصّص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التّابع ، فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة فلينظر العاقل المنصف من نفسه هل يجوز له اتباع من ينكر الضّروريات ويجحد الوجدانيات وهل يشكّ عاقل في أنه قادر مريد؟ وأنه فرق بين حركاته الاختيارية (الارادية خ ل) وحركته الجمادية؟ وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربه وهل تتمّ له المحاجة عند الله تعالى بأني اتبعت هؤلاء ولا يسئل يومئذ كيف قلّدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله؟ وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز (١) مطلقا فكيف لأمثال هؤلاء؟ فما يكون جوابه غدا لربّه؟ (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ) (٢) ، وقد طوّلنا في هذا الكتاب ليرجع الضّال عن زلله ، ويستمر المستقيم على معتقده.

__________________

(١) والآيات الدالة على ذم التقليد في الاعتقاديات كثيرة ، منها قوله تعالى في سورة الزخرف. الآية ٢٣ : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

(٢) اقتباس من قوله تعالى في سورة يس. الآية ١٧.

١٦٠