إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

حسب أنّ هذا الكلام حطب يسرق كيف أتى بالدّليل وجعله اعتراضا والحمد لله الذي فضحه في آخر الزّمان ، وأظهر جهله وتعصبّه على أهل الايمان «انتهى».

اقول(١)

نعم قد اتّفق العقلاء على ذلك لكن وجه كلام المصنّف (٢) من الأشاعرة المعزولين عن العقل ، وهم قد جوّزوا أن يرجّح القادر فعله لمجرّد الإرادة بلا داع يختصّ بها ، ومثلوا بما ذكره المصنّف من الأمثلة الوجدانيّة ، وممّن صرّح بنسبة ذلك إلى الشّيخ الأشعريّ أيضا سيف الدّين الأبهري (٣) الأشعري في مبحث الحسن والقبح

__________________

واسلافه من كرام الأسديين ولو لا مخافة الاطالة والسأم لعددنا عدة من أعيان هذا البيت الجليل.

والمظنون القوى المتاخم للعلم انه متى عجز عن الاعتراض السديد أخذته الحمية الجاهلة الباردة وجعل يتفوه بما هو فضل وفضول في الكلام والتمسك بالشتم والوقيعة طريق من حار في أمره وخلى عن لبه عصمنا الله تعالى من أمثال هذه الكلمات والترهات آمين آمين.

(١) وتحقيق الجواب أن من جوز الترجيح بلا مرجح للمختار يقول المرجح هو الإرادة التي هي عين ذاته تعالى أو صادر عنه بالإيجاب ومن لم يجوز يقول المرجح هو الوجود كما ذهب اليه الحكماء أو ملاحظة المصلحة المتدرجة بالفعل دون الترك وكون الفعل أصلح امر لازم له لا يتوقف اتصافه به على وجود الفعل بالفعل بل هو اتصاف تقديري كاتصاف المعدومات الممكنة بالإمكان والمقدورية من غير ان يقتضى وجود الموّصوف. منه «قده»

(٢) فيكون هذا البحث من المصنف «قده» إلزاما للاشاعرة. منه «قده».

(٣) هو المحقق الشيخ سيف الدين أحمد الأبهري الأصولي المتكلم النحوي قال الكاتب الجلبى في كشف الظنون (ج ٢ ص ١٨٥٣ طبع الآستانة) ان له حاشية على شرح المختصر لابن الحاجب أولها الحمد لله الذي شرع الاحكام إلخ.

١٠١

من حاشيته على شرح المختصر فليطالع أصحاب النّاصب ذلك فيها ، ومن العجب أنّ النّاصب شتم القائل بذلك ولم يعلم أنّ ذلك الشّتم يرجع إلى شيخه ، وإمامه ولم يميّز من غاية البهت خلفه من أمامه ، ويؤيد تلك النّسبة الحديث الذي وضعه المحدّثون من الأشاعرة في شأن أبي بكر ، وهو قولهم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (١) لو وضع أبي بكر في كفّة ميزان وجميع النّاس في كفّة أخرى لترجّحت الكفّة التي كان فيها أبو بكر ، ولا يلتفت إلى ما نقل عن البهلول (٢) في ردّ ذلك من أنّه لو صحّ

__________________

(١) روى في مجمع الزوائد (ج ٩ ص ٥٩ ط مصر) في حديث طويل عن أبى امامة : ثم اتى بابى بكر فوضع في كفة واتى بجميع أمتي فوضعوا فرجح. الحديث ، ثم ذكر في ضعف سنده بما هذا لفظه : رواه احمد والطبرانيّ بنحوه باختصار ، وفيهما مطرح بن زياد وعلى بن يزيد الالهانى وكلاهما مجمع على ضعفه ، ومما يدلك على ضعف هذا أن عبد الرحمن بن عوف (الذي وقع الطعن عليه في متن الحديث) احد أصحاب بدر والحديبية واحد العشرة وهم افضل الصحابة والحمد لله. انتهى كلامه.

(٢) هو وهب بن عمرو الكوفي المشتهر بالبهلول ، كان رجلا تقيا ورعا زاهدا عالما فقيها محدثا ، ذا أدب ومعرفة وتشيع ، استفاد من قدسي أنفاس الإمامين الهمامين الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وله حكايات ومناظرات لطيفة في الفقه والكلام مع أبى حنيفة وغيره من المشاهير ، ويعد في كتب التراجم من عقلاء المجانين ، لأنه كان يتستر بجنة التجنن تقية وحقنا لدمه ، وفي بعض كتب التواريخ والسير أنه من أبناء عم الرشيد العباسي ، والحق أنه ليس من بنى العباس كما هو واضح لمن سبر في أحواله.

وله شعر رائق ، ومنه قوله في العظة والاعتبار بأحوال الموتى وأهل القبور.

شعر

تناديك أجداث وهن صموت

وأربابها تحت التراب خفوت

فيا جامع الدنيا حريصا لغيره

لمن تجمع الدنيا وأنت تموت

ومن شعره أيضا قوله لما رماه الصبيان بالحصا فأدمته حصاة فقال :

١٠٢

__________________

حسبي الله توكلت عليه

من نواصي الخلق طرا بيديه

ليس للهارب في مهربه

أبدا من راحة الا اليه

رب رام لي بأحجار الردى

لم أجد بدا من العطف عليه

فقيل له : يا بهلول تعطف عليهم وهم يرمونك بالأحجار؟ فقال : اسكت ، لعل الله يطلع على غمي ووجعي وفرح هؤلاء الصبيان ، فيسره فيهب بعضنا من بعض انتهى.

ومن شعره قوله :

ان كنت تهواهم حقا بلا كذب

فالزم جنونك في جد وفي لعب

إياك من أن يقولوا عاقل فطن

فتبتلى بطوال الكد والنصب

مولاك يعلم ما تطويه من خلق

فما يضرك ان سبوك بالكذب

ومن شعره أيضا :

حقيق بالتواضع من يموت

وحسب المرء من دنياه قوت

فما للمرء يصبح ذا اهتمام

وشغل لا يقوم له النعوت

صنيع مليكنا حسن جميل

وما أرزاقنا مما تفوت

فيا هذا سترحل عن قريب

الى قوم كلامهم السكوت

ومن مكارم أخلاقه أنه اجتمع عليه الصبيان ذات يوم ونهبوا ما كان معه ، وجعلوا يرمونه بالأحجار ، فهرب منهم وتحصن في مسجد كان هناك وأغلق عليهم الباب وصعد على السطح حتى أشرف عليهم منه ، وجعل يقرأ قوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) ، فلما رأى محمد بن سليمان ذلك أمر بتفرقة الأطفال عنه وقال لا اله الا اله إلا الله لقد رزق الله على بن أبي طالب عليه‌السلام لب كل ذى لب.

ومن مكارم أخلاقه أيضا أنه اجتمع عليه ذات يوم عدة من الصبيان وجعلوا يرمونه ويضربونه فقال له رجل ألا تشكوهم الى آبائهم ، فقال اسكت فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون : رحم الله ذاك المجنون ، انتهى. فراجع في ترجمة حاله الى كتب التراجم ، منها الروضات ج ١ ص ٣٩.

١٠٣

هذا الحديث لكان في ذلك الميزان عيب البتّة ، لأنّه كان رافضيّا مجنونا لا يصير كلامه حجّة على الأشاعرة ، ثمّ من هذا القبيل أيضا قولهم بجواز تفضيل المفضول في باب الامامة وتصريحهم بتفضيل أبي بكر على علي عليه‌السلام مع روايتهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين ، اللهم إلا أن يقال : إنّ أبا بكر ليس من الثّقلين ، بل نقول : إنّ تجويزهم تعذيب الله تعالى للأنبياء والأولياء المطيعين وإكرامه للفسّاق والأشرار العاصين أيضا من باب ترجيح المرجوح كما لا يخفى ، فكيف يستبعد منهم تجويز التّرجيح بلا مرجّح؟ فافهم ، وبالجملة مخالفة صريح العقل شأن الأشعري وأصحابه المعزولين عن العقل (الحق خ ل) ، فلا وجه لاستدلال النّاصب على نفى قولهم بجواز الترجيح بلا مرجّح ، بكون ذلك مخالفا لاتفاق العقلاء ، وأما ما ذكره في جواب الوجه الرّابع فمدفوع بأنّ المصنّف قدس‌سره لم يمنع صحّة سوق المقدمات المذكورة في الدّليل ، وارتباط بعضها ببعض ، وتحقّق شرائط صورها واستلزامها لما قصدوه ، من نفي الاختيار ، بل أراد أن مادّة المقدمة المذكورة في الدّليل بقولهم : لو كان العبد فاعلا لشيء مّا بالقدرة والاختيار ، فاما أن يتمكّن من تركه أولا ، لا يصحّ بناء على ما أصّلوه من أنّ القدرة لا تصلح للضدّين لأنّ المتمكّن من الفعل على هذا الأصل لا يقدر على التّرك فيخرج عن أن يكون قادرا فلا يصحّ توصيفه بالقدرة وإجراء الترديد فيه بأنّه إما أن يتمكن من التّرك أولا ، وهذا نظير ما قيل : من أنّه على تقدير نظريّة كلّ من التّصورات والتّصديقات لا يمكن الاستدلال على بطلان نظريّتها ، لأنّ المستدلّ على الابطال إن سلّم نظرية مقدمات دليله لا يحصل مطلوبه ، وإن ادّعى بداهة بعضها فهو ينافي التّقدير ، والقول بأن ما ذكره الناصب من الفرض والترديد بجواز أن يكون على جهة إلزام أهل العدل مخالف لما اشتهر بينهم من كون ذلك الدّليل تحقيقيا لما ذكره النّاصب سابقا من أنّه دليل صحيح بجميع مقدّماته فتأمل ،

١٠٤

فعلم أنّ النّاصب لجهله بقواعد المنطق ، بل لخروجه عن ذوي النطق ومدركي المعقولات لم يفرّق بين فساد مادّة القياس وفساد صورته ، ولم يفهم أنّ لزوم النّتيجة المذكورة إنّما هو لتسليم النّاصب المقدّمة التي ذكرها في قياسه الفاسد وأنّ القياس وإن كان فاسد المقدّمات إذا سلّمت يلزم منها قول آخر ولم يعلم أنّ المصنّف لا يسلّم بعض المقدمات لا أنّه يسلّم المقدّمات ويمنع اللّزوم ، وأما ما ذكره من أنّ قول المصنّف : إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضّدين لزمهم إلخ شيء يخترعه من عند نفسه ، ثمّ يجعله محذورا ففيه أنّ كلام المصنّف هذا مع ما ذكره سابقا يرجع إلى إيراد ترديد على الدّليل المذكور ، ولا يلزم أن يكون كلا شقيّ التّرديد واقعيّا أو مطابقا لمذهب المستدلّ به ، بل يكفي فيه الغرض ، لأنّ الغرض من التّرديد حصر احتمالات الكلام والرّد على كلّ منها ، لئلا يرجع الخصم ، ويقول : إني أردت معنى لم تذكره أنت ولا يتوجّه عليه شيء ممّا ذكرت ، وكذا الكلام فيما ذكره من نفى الأشاعرة لذلك المذهب ، فانظروا معاشر العقلاء المؤمنين إلى هذا الفضول المهان الزّبّال (١) في أصبهان أنه لما اعتاد إصلاح فساد زرع شعيره بحمل الزّبل من المزابل واستعماله في اصول السّنابل حاول إصلاح ما زرعه شيخه في خبيث أرض تقريره بكلّ ما خرج من مزبلة فمه وبالوعة ضميره وقد قيل : شعر

وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر؟

فكيف بالزّبال الذي أنتن منه السرّ والجهر

وبالجملة أىّ ربط لسرقة الحطب بأهل الحلّة؟ وأىّ نسبة للحطب بالفرات الخالي عن الآجام المضلّة والمظلة وإنّما يناسب ذلك بحمّالة الحطب (٢) التي هي من

__________________

(١) ذكر بعض المؤلفين في التراجم ان الرجل كانت له زراعة بأصبهان زمن قضاوته.

(٢) هي ام جميل بنت حرب اخت أبى سفيان عمة معاوية ولا يخفى أن العمة تسمى اما. منه «قده».

١٠٥

امّهات بعض خلفاء النّاصب وبخليفة حمّال الحطب من سوق المدينة لاضرامه النّار في باب بيت صاحب السّكينة ، وقصد إحراق الذين هم لنجاتنا أكرم سفينة (١) والحمد لله الذي فضح النّاصب ورفع عنه الأمان ، وأوضح سوء عاقبته على أهل الايمان حيث طرده من إيران وأماته في النيران أعني مظهر القهر من بلاد ما وراء النّهر (٢) ووفّقنا لدفع شرّه الذي أورثه لأهل النّهر (٣) أعني نسخ كتابه الذي يشهد على أمه بالعهر (٤) بما لا يخفى (٥) وقعه على علماء الدّهر.

قال المصنّف رفع الله درجته

وفي الثاني من وجهين ، الاول العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا تؤثّر (٦) فيه ، فانّ التابع

__________________

(١) إشارة الى قوله (ص) : مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تركها غرق.

(٢) إشارة الى أن القاضي ابن روزبهان توفى في قاشان من بلاد ما وراء النهر فلا يصغى الى كلام من قال : انه توفى ببيت المقدس أو بمصر او الحرمين كما تقدم تفصيل ذلك في المقدمة.

(٣) إشارة الى ذم أهل ما وراء النهر حيث اقتنوا نسخ كتاب ابن روزبهان وجعلوه موردا للاستفادة.

(٤) إشارة الى ما نقله الثقات من الفريقين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يبغض عليا الا من لم تطب ولادته.

(٥) متعلق بقوله : وفقنا لدفع شره.

(٦) ألا ترى أن علمنا بطلوع الشمس غدا لا يؤثر في وجوب الطلوع وإمكانه قطعا كذلك علم الله تعالى بأفعالنا ، ولو صح الدليل المذكور يلزم أن لا يكون الله تعالى فاعلا لأفعاله ، لأنه عالم في الأزل بأفعاله وجودا وعدما ، فالأفعال اما واجبة أو ممتنعة ، فلو استلزم عدم المقدورية عدم الفعل لاستلزم ذلك عدم حدوث شيء من الموجودات.

١٠٦

إنّما يتبع متبوعه ، (١) ، ويتأخّر عنه بالذّات والمؤثّر متقدّم ، الوجه الثاني من وجهى النقض أنّ الوجوب اللاحق لا يؤثر في الإمكان الذّاتي ، (٢) ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن فانّ كلّ ممكن على الإطلاق ، إذا فرض موجودا فانّه حالة وجوده يمتنع عدمه لامتناع اجتماع النقيضين وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنه ممكن بالنظر إلى ذاته والعلم حكاية عن المعلوم ، ومطابق له إذ لا بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فانه لولاه لم يكن علما ، ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه بما هو حكاية عنه وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم ، وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به ، وكما أنّ ذلك الوجوب لا يؤثر في الإمكان الذاتي كذا هذا الوجوب (٣) ، ولا يلزم من تعلّق علم الله به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم «انتهى».

__________________

(١) والحاصل أننا نمنع استحالة الايمان من الكافر مثلا وأن حصوله يفضى الى انقلاب علم الله جهلا ، وذلك لان العلم تابع للمعلوم متعلق به على ما هو عليه ، فان كان الشيء واقعا تعلق العلم بوقوعه ، وان كان غير واقع تعلق العلم بعدمه ، فالإيمان ان وقع علمنا أنه تعالى كان عالما بوقوعه ، وان فرضناه غير واقع لزم القطع بأنه تعالى علم عدم وقوعه ففرض الايمان بدلا عن الكفر لا يقتضى تغير العلم بعدمه ، بل يقتضى أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بالايمان بدلا عن العلم بالكفر.

(٢) وهو شرط التكليف.

(٣) يعنى أن الوجوب اللاحق حصل بعد فرض العلم فلا يؤثر في الإمكان الذاتي ولا في القدرة عليه كما أن فرض المعلوم يوجبه وجوبا لاحقا وهو لا يؤثر في الإمكان الذاتي للطرف الآخر ، وبالجملة لا فرق بين فرض الشيء وفرض مطابقه ولا ينافي ذلك تأخير المعلوم عن العلم فان العلم حكاية والحكاية قد يتقدم زمانا وقد يتأخر ، وهي متأخرة على التقديرين بالذات عن المحكي وكذا العلم السابق لان شرطه المطابقة والامتناع لا حق وهو لا يؤثر في الإمكان الذاتي الذي هو شرط التكليف.

١٠٧

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد ذكرنا أنّ هذه الحجة أوردها الامام الرّازي على سبيل النّقض الاجمالي في مبحث التكليف والبعثة ، وهذا صورة تقريره : ما علم الله عدمه من أفعال العبد ، فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا ، وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته (١) لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال ، كما ذكرتم ، فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء قال الامام الرّازي ، ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا حرفا إلا بالتزام مذهب هشام (٢) وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، وقال شارح المواقف واعترض عليه ، بأنّ العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ألا ترى أن صورة الفرس مثلا على الجدار إنّما كانت على الهيئة المخصوصة ، لأنّ الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما ، فالعلم بانّ زيدا سيقوم غدا مثلا إنّما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار والا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا

__________________

(١) المراد بها الأمور التي تعتبر فيها القدرة والاختيار بحكم العقل السليم.

(٢) قال الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (ج ١ ص ٩٧ ـ الطبع الجديد بمصر) ما لفظه : الهشامية أصحاب هشام بن عمرو الفوطي ومبالغته في القدر أشد واكثر إلخ ، وحكى عنه مقالات في بابى صفات الباري وما يتعلق بالأخرة ، فظهر أنهم اسرة تبعوا هشاما في هذه المقالات وهو غير هشام بن الحكم وغير هشام البصري وغير هشام الكوفي ، وكثيرا ما يقع الاشتباه في استناد المقالات الى هؤلاء فلا تغفل.

١٠٨

مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما انتهى كلام شارح (١) المواقف ، فظهر أنّ الرّجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم ، وجواب الاول من الوجهين إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل كما ذكرنا ، حتى يلزم من تأخره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا ، والتابعية لا تدفع هذا المحذور لما ستعلم ، وجواب الثاني من الوجهين أنا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات واجب بالغير والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا وهو حاصل سواء كان الوجوب بالذّات أو بالغير ، وأما جواب شارح المواقف فنقول : إنا لا نسلم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم بل العلم الانفعالي الذي يتحقق بعد وقوع المعلوم وهو تابع للمعلوم ، وإن أراد بالتابعية التطابق فلا نسلم أنّ الأصل في المطابقة هو المعلوم في العلم الفعلي بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فانّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فان خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّره المهندس في علمه الفعلي لزم انقلاب العلم جهلا وأنت تعلم أنّ علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعلي كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ، ثمّ يطابقه البيت ، كذلك علم الله تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ويتبعه وجود الكائنات ، فان وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل لزم انقلاب العلم جهلا وهذا هو التحقيق «انتهى».

أقول

لا حجّة فيما ينقله النّاصب لظهور خيانته في مثل ذلك مرارا ولو صحّ فلا ينافي

__________________

(١) هو المحقق السيد شريف الدين على الجرجاني.

١٠٩

إيراد الامام الرّازي لذلك على سبيل النقض إيراد غيره من الأشاعرة إيّاها على طريق الاستدلال كيف؟ وقد صرّح الشارح الجديد للتجريد في بحث العلم من الاعراض بأنّ الأشاعرة استدلوا بذلك ، حيث قال إنّ الأشاعرة لما استدلوا على كون أفعال العباد اضطرارية بأنّ الله تعالى عالم في الأزل بصدورها عنهم ، فيستحيل انفكاكهم عنها لامتناع خلاف ما علمه تعالى فكانت لازمة لهم ، فلا تكون اختياريّة وأجاب (١) المعتزلة بأنّ العلم تابع للمعلوم فلا يكون علّة له ، قال الأشاعرة : كيف يجوز أن يكون علمه الأزلي تابعا لما هو متأخّر عنه فانّه يستلزم الدّور؟ فأجابوا : بأنّا لا نعني بالتابعيّة هاهنا التأخّر حتى يلزم الدّور ، بل أصالة موازنة في التّطابق إلخ

__________________

(١) وقد أجاب بعض المدققين من مشاهير أصحابنا بأن الحق أن فعل العبد بقدرته واختياره ، لكن قدرته واختياره ليسا باختياره ، والا لزم التسلسل ، وهما أمران حادثان ما لم يجبا لم يوجدا ، وانما يوجدان وجوبا بارادة الله تعالى وإذا أوجدهما الله في العبد وجب أن يصدر عنه الفعل بهما ، وإرادته تعالى عين علمه الأزلي المتعلق بجميع ما وجد ، فعلمه موافق للمصلحة وأنه ينبغي وجوده وبه وجد جميع الموجودات ، ففي الأزل علم الله تعالى العبد وأنه يوجد هذه الإرادة لداع كذا ، وبهما يصدر الفعل عنه ، فعلمه أوجب وجود العبد في حين وجوده فأوجب وجود الإرادة فيه في زمان وجدت ، وبالارادة الواجبة بعلمه تعالى وجب وجود الفعل ، فإذا نزل الى المبدأ القريب للفعل وهو الإرادة القائمة بالعبد الصادرة عن إرادته تعالى صح القول : بان الفعل باختيار العبد وإرادته ، وإذا نظر الى أن الفعل وجب بعلمه تعالى الذي هو عين إرادته على التحقيق يميل الذهن الى الجبر ، وهذا سر ما نقل عن سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو عن الوحى ناطق جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : انه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، واندفع الاشكال المذكور ، لا أن علم الله تعالى بفعل العبد في زمان معين وان لم يجب به الفعل بلا واسطة ، لكن يجب به بوسائط إذ يجب به وجود العبد وقدرته وإرادته ، وبها يجب الفعل. منه «قده».* وهو المولى المدقق العلامة أبو الحسن الكاشي «ره».

١١٠

وإنّما جعله النّاصب نقضا ليصير أقلّ قبولا لورود أقسام البحث عليه فافهم (١) ، وبما قررناه من كلام شارح التجريد ظهر بطلان ما ذكره النّاصب من أنّ المصنّف سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة إلخ ، وأما ما ذكره في جواب الأوّل من الوجهين فمردود ، بأنّه لمّا كان المفروض أنّه تعالى إنّما يعلم المعلوم كالفعل مثلا على الوجه الذي سيقع ، فمن أين يحصل في المعلوم اختلاف يوجب انقلاب علمه تعالى جهلا ، وأما ما ذكره في جواب الثّاني منهما فمزيّف : بأنّه لو كان الوجوب اللّاحق نافيا لاختيار الفاعل لكان الله تعالى أيضا غير مختار فيما وجد من أفعاله : لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وذلك وجوب لاحق ، فيكون الله تعالى مضطرّا غير مختار فيه ، وبطلانه ممّا لا يخفى ، وتحقيق الكلام في ذلك أنّ مدار (٢) معنى القدرة والاختيار على أنّ هذا الفعل بالنسبة إلى ذات هذا الفاعل بحيث إن شاء فعله وإن لم يشأ لم يفعله مع قطع النّظر عن الأمور العارضة الموجبة والمحيلة للطرف الآخر كما في الواجب ، والامتناع الحاصل من علمه تعالى بالفعل والتّرك خارج عن ذات الفاعل لاحق للفعل غير مؤثّر فيه ، فلا يوجب سلب اختياره بالنظر

__________________

(١) إشارة الى أنه حيث كان في مقام رد هذا الدليل ارتكب بما هو دابه من النقود الغير الدخيلة في تحقيق المطلب وجعله مناطا للفحش والسباب ، ونسبة السرقة ، وما أبعده من شأن أهل البحث والتحقيق ، والمشاحة في التعبير بالنقض أو الدليل لا يليق بهم فضلا عن جعله مناطا للوقيعة في حق المسلم وارتكاب ما هو فعل الأراجيف والأرذال السفلة.

(٢) لا يخفى على من سبر في كلمات المتكلمين أن لهم في تعيين مدار القدرة تعبيرين أحدهما أن المدار فيها صدق قضية ان شاء فعل وان شاء ترك بجعل كل واحد من الفعل والترك متعلقا للمشية والثاني ان المدار فيها صدق قضية ان شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل ، فما ذكره مولانا القاضي الشريف يوافق أحد القولين ، وهو التحقيق لدى أهله.

١١١

إلى أصل الفعل ولا عدم استحقاقه لشيء من الثّواب والعقاب ، ويوضح (١) ذلك أنّه إذا كان رجل حمّال مدار تعيّشه في كلّ يوم أن يأخذ أجرة معيّنة على حمل قدر معيّن من الخمر مثلا من مكان إلى مكان ، فأمره سلطان قاهر لا يعرفه هو بهذا الوصف ذات يوم بحمل شيء من ذلك بتلك الاجرة المقرّرة أو أزيد منها في تلك المسافة المعهودة بعينها فانّ قاهريّة السّلطان واقتداره في الواقع لا يوجب سلب اختيار المأمور المذكور في ذلك الفعل ، لأنّ الفرض أنّه كان يفعل ذلك بطيب قلبه دائما ولم يقع إجبار السلطان له فعلا (٢) في ذلك الفعل مع ظهور أنّه لم يمكنه التخلّف عن أمر ذلك السلطان ، فكما أنّ حصول القهر بالقوّة هاهنا لا يوجب سلب الاختيار ، لأنّه أمر لاحق ، كذلك الإيجاب الناشي من علمه تعالى بوقوع أحد طرفي الفعل من المكلّف لا يؤثر فيه ولا يوجب سلب اختياره ، وكونه معذورا في ذلك الفعل المحرّم (٣) فتدبر ، وأما ما أورده على الجواب المذكور في (شرح المواقف) أيضا فكلام منتحل مأخوذ عن بعض المتأخرين ، وقد أطال الناصب فيه بما لا طائل تحته لئلا يظهر انتحاله إيّاه لكلّ أحد ، بل أفسده حيث قرّره بطريق المنع ، وخرج به عن قانون المناظرة كما لا يخفى على من تأمل في المراتب التي نقلناها من كلام شارح التجريد ، ومع هذا يمكن أن يدفع بأنّ للامامية والمعتزلة أن يقولوا : سلّمنا أنّ علمه تعالى بما يصدر عنه فعليّ كعلم البنّاء بخصوصيات البناء قبل أن يصنعه لا انفعاليّ إلا أنّا لا نسلّم أنّ علمه بأفعال العباد كذلك ، وإنما يسلّم ذلك أن لو ثبت أنه فاعل لأفعالهم ولم يثبت عندنا ذلك بعد ، وإذا لم يكن علمه تعالى

__________________

(١) هذا التوضيح من خصائص هذا التعليق وهو أقوى وأوضح من جميع ما استوضحوا به المرام كما لا يخفى على المتتبع المصنف ، منه «قده».

(٢) اى بالفعل وفي الوقت الخاص.

(٣) وهو عمل الخمر بأمر السلطان من غير حصول الجبر.

١١٢

بأفعالهم فعليّا فلا مدخل له في وجوب هذه الأفعال أو امتناعها كما توهّمه صاحب الشّبهة ، وهاهنا دفع آخر تركناه على ذوي الأفهام لضيق المقام.

قال المصنف رفع الله درجته

فإنهما آيتان في حقّ واجب الوجود تعالى فانا نقول في الأوّل : لو كان الله تعالى قادرا مختارا فامّا أن يتمكّن من الترك أولا ، فان لم يتمكّن من التّرك كان موجبا مجبرا على الفعل لا قادرا مختارا ، وإن تمكن فامّا أن ترجّح أحد الطرفين على الآخر أولا ، فان لم يترجّح لزم وجود الممكن المتساوي من غير مرجّح ، فان كان محالا في حقّ العبد كان محالا في حقّ الله لعدم الفرق ، وإن ترجّح فان انتهى إلى الوجوب لزم الجبر وإلا تسلسل أو وقع التّساوي من غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه هاهنا نقوله نحن في حقّ العبد انتهى.

قال الناصب خفضه الله

أقول : ذكر صاحب المواقف هذا الدّليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا لإمكان إقامة الدّليل بعينه (الدلالة بعينها خ ل) ، فيقال : لو كان تعالى موجدا لفعله بالقدرة استقلالا فلا بدّ أن يتمكن من فعله وتركه ، وان يتوقّف فعله على مرجّح إلى آخر ما مرّ تقريره وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة أى الفعل يتوقف على مرجّح هو الإرادة الجازمة لكن إرادة العبد محدثة لكن ينتهي إلى إرادة يخلقها الله فيه بلا إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادات التي نفرض صدورها عنه ، وإرادة الله قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى ، فظهر الفرق واندفع النقض.

١١٣

أقول

هذا الجواب من جملة تشكيكات إمام النّاصب فخر الدّين الرّازي وقد ردّه سلطان (١) المحقّقين قدس‌سره في التّجريد بما قرّره الشّارح (٢) الجديد بأنّ هذا الفرق لا يدفع التّسلسل المذكور إذ يقال : إن لم يكن التّرك (٣) مع الإرادة القديمة كان موجبا لا قادرا مختارا ، وإن أمكن فان لم يتوقّف فعله على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح ، وإن توقف عليه كان الفعل معه واجبا فيكون اضطراريّا ، والفرق الذي ذكرتموه في المدلول مع الاشتراك في الدّليل دليل على بطلان الدّليل ، وإنّما يندفع النّقض إذا بيّن عدم جريان الدّليل في صورة التّخلّف ، وقد أشار صاحب المواقف أيضا إلى الجواب المذكور في شرحه لمختصر ابن الحاجب حيث قال في مبحث الحسن والقبح منه إنّ تعلّق إرادته تعالى قديم (٤) لا يحتاج إلى مرجّح متجدّد ،

__________________

(١) اى المحقق الطوسي الخواجة نصير الملة والدين «قدس‌سره».

(٢) هو المحقق المولى على القوشجي.

(٣) وبعبارة أخرى نقول : وان كانت إرادة الباري تعالى قديمة فاما أن يصح معها الفعل بدلا عن الترك والترك بدلا عن الفعل أولا ، فان كان الاول فلا بد لاحد الطرفين من مرجح ، والكلام في ذلك المرجح كالكلام في الاول ، وهو تسلسل ممتنع ، وان كان الثاني لزم الجبر ولا مخلص عنه كما لا يخفى.

(٤) وقد تقرر بان كون إرادة الباري تعالى قديمة لا يدفع لزوم التسلسل الذي ذكره في جانب إرادة العبد ، لأنا نقول : ان المرجح القديم ان كان كافيا في الفعل من غير احتياج الى أمر حادث لزم قدم الفعل ، لامتناع تخلف المعلول عن العلة التامة ، وان لم يكف بل كان محتاجا الى أمر حادث كتعلق الإرادة ، فوقوع هذا التعلق يحتاج الى حادث آخر ويتسلسل الى غير النهاية أو تنتهي سلسلة الأسباب الحادثة الى أمر قديم ، فيلزم قدم تلك التعلقات فتأمل حق التأمل في المقام.

١١٤

وردّ عليه سيّد المحقّقين (١) قدس‌سره في حاشيته بأنّه إن أراد بالتّعلق التعلّق الذي يترتّب عليه الوجود لم يكن قديما وإلا لزم قدم المراد ، وإن أراد التّعلق المعنوي فمعه يحتاج إلى مرجّح متجدّد وهو التّعلق الحادث الذي به الحدوث ، ولو قيل : بأنّ إرادته تعلّقت في الأزل بوجود زيد في زمان مخصوص فعنده يوجده ولا حاجة له إلى تعلّق آخر لم يتمّم أيضا لاحتياج وجوده في ذلك الزّمان إلى تعلّق حادث للقدرة يترتّب عليه حدوثه كما صرّح به فيما تقدّم «انتهى» ، وأيضا يتوجه عليه ما قيل : من أنّه لو اقتضى ذات الفاعل مع هذا التّعلق أن يحدث الحادث في زمان معين وذلك كان كافيا فيه يلزم وجود الحادث في هذا الزّمان في الأزل وأيضا على هذا التقدير كان محتاجا إلى حضور ذلك الزّمان ولم يكن كافيا في الاقتضاء فتأمل هذا ، وأما ما ذكره (٢) في حاشية هذا المقام من أنّ الكلام الذي ذكره المصنف نقض سمّاه معارضة لجهله بآداب البحث (٣) ، ففيه أنّ قضية الجهل منعكسة ، فإنّ التّعبير عن النّقض بالمعارضة اصطلاح آخر من أرباب المناظرة (٤)

__________________

(١) هو العلامة السيد صدر الدين الشيرازي وحاشيته هذه لم تتم ، فأتمها ابنه العلامة السيد غياث الدين منصور الحسيني الشيرازي المتوفى سنة ٩٤٩ صاحب المدرسة المنصورية بشيراز.

(٢) هذه الحاشية موجودة في بعض النسخ المخطوطة.

(٣) قد تقدم الفرق بين النقض والمعارضة بحسب اصطلاح علم آداب البحث والمناظرة في أوائل هذا الجزء.

(٤) علم المناظرة ويطلق عليه علم آداب البحث ايضا ، وعرف بتعاريف منها ما ذكره الجرجاني في كتاب الحدود (ص ٨ طبع مصر) حيث قال : آداب البحث صناعة نظرية يستفيد منها الإنسان كيفية المناظرة وشرائطها صيانة له عن الخبط في البحث وإلزاما الخصم وافحامه «انتهى». وعرفه صاحب أبجد العلوم (ص ٦٤٨ ط هند) بقوله : هو علم باحث عن أحوال المتخاصمين ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب حتى يظهر الحق بينهما ، الى غير ذلك.

١١٥

وقد استعمله (١) المحقّق الطوسي قدس‌سره أستاذ المصنّف رحمه‌الله في شرحه للاشارات ، فظهر أنّه جاهل بالاصطلاح غير مطالع لشرح الإشارات أو قاصر عن فهم ما فيه من الإشارات والبشارات.

قال المصنّف رفع الله درجته

ونقول في الثّاني : إنّ ما علمه الله تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب لزم في حق الله تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال ، فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدّليلين آتيان في حقّ الله تعالى ، وهما إن صحا لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادرا ويكون موجبا ، هذا هو الكفر الصّريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنّما هو هذه المسألة ، والحاصل أنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدّليلين لزمهم الكفر وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما «انتهى».

__________________

ورأيت للعلماء في هذا الفن عدة رسائل وكتب كمنظومة الشيخ زين الدين المرصفى ورسالة السيد فخر الدين السماكى ورسالة آداب البحث للشيخ أبى محمد الرازي ورسالة المناظرة للمولى طاش كبرى زاده من علماء الدولة العثمانية الى غير ذلك من الرسائل والكتب مضافا الى ما أورده العلامة الاملى في نفائس الفنون فيه وصاحب مطلع العلوم ومجمع الفنون فيه ومؤلف كتاب مفتاح السعادة ونحوها من الزبر المؤلفة في الفنون المتنوعة فلله در القدماء حيث أراحوا الخلف بتأليفهم في كل علم ، ومن الأسف نبذ المحصلين أكثر هذه الكتب والآثار وراء الأظهر فما أجدر أن يقال في حقهم :

گر گدا كاهل بود

تقصير صاحب خانه چيست

(١) قد ذكر هذا أيضا المولى الفاضل الميرزا جان الشيرازي في بحث الحسن والقبح من حاشيته على الشرح العضدي : ولعل الوجه فيه ما قدمناه من أن محصل المعارضة يرجع الى النقض فتذكر. منه «قده».

١١٦

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عرفت في كلام شارح المواقف أنّه ذكر هذا النّقض وليس هو من خواصه حتى يتبختر به ويأخذ بالارعاد والابراق والطامات (١) ، والجواب أما عن ما يرد على الدّليل الأوّل فهو أنّ فعل الباري محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل (الأوّل) بالفعل حادث في وقت معين ، وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح آخر فيكون تعالى مستقلا في الفعل ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجح القديم كان موجبا لا مختارا ، قلنا : إنّ الوجوب المترتب على الاختيار لا ينافيه بل يحققه ، فان قلت نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب لا ينافي كونه قادرا مختارا ، قلت : لا شكّ أنّ اختياره حادث وليس صادرا عنه باختياره ، وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار وتسلسل ، بل عن غيره فلا يكون مستقلا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري فإنها مستندة إلى ذاته فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه ، وأما عن ما يرد على الدّليل الثاني فهو أنّ علم الله تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه تعلق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات ، وكل واحدة من الصفات الثلاث يتعلق بمتعلقه من الأشياء وكلّ ما تقتضيه ، فمقتضى العلم التعلق من حيث الانكشاف ومقتضى الإرادة الترجيح ومقتضى القدرة صحة وقوع الفعل والترك ، فلا يلزم الوجوب لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة لأنهما قديمتان حاصلتان معا بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمها ومقتضى العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة ، بخلاف الصفات القديمة ، فليس ثمة إيجاب تأمل فانّ هذا الجواب دقيق وبالتأمّل فيه حقيق ، وأما ما ذكره من لزوم الكفر فمن باب طاماته وترهاته

__________________

(١) جمع الطامة الداهية تفوق ما سواها.

١١٧

وهذه مسائل علميّة يباحث النّاس فيها فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصبه ينزله على الكفر والتّفسيق نعوذ بالله من جهل ذلك الفسيق (١) «انتهى».

أقول

من البيّن أنّ المصنّف قدس‌سره مقدّم على صاحب المواقف ، فذكر صاحب المواقف لذلك الدّليل لا يدلّ على أن لا يكون ذلك النقض من خواصّ المصنّف قدس‌سره ، فانّ ما في المواقف وسائر تصانيف القاضي العضدي (٢) من التحقيقات والتّدقيقات ملتقط من كلام من تقدّمه ومنتخب عنه ، وليس له سوى الالتقاط والجمع ، فقد كان معزولا عن العقل والسّمع على أنّ المصنّف لم يشعر بأنّ ذلك من خواص إفاداته والتّبختر في ذلك غير مفهوم من كلام المصنّف ، والارعاد والابراق لا يتوقف على كون ذلك من خواصّه بل يكفي فيه أن يكون من إفادات أصحابه ، واما ما اتى به النّاصب من الجواب عمّا يرد على الدّليل الأوّل فقد مرّ ما يدفعه في الفصل السّابق على هذا ، ونزيد عليه هاهنا ونقول : إن ما ذكره في المرتبة الأخيرة المتعلّقة

__________________

(١) الفسيق كشرير مبالغة من الفسق كما في كتب اللغة ، قال الفيروزآبادي في القاموس : هو كسكيت دائم الفسق «انتهى».

أقول : لا اله الا الله انا لله من بذاءة الرجل فتراه كأنه لم يشم رائحة الأدب والتقوى يتفوه بدلا عن العلميات بكل ما يخرج من فيه ، فض الله فاه ما أقل حيائه؟! وما أجرأه على الله بهتكه علماء الإسلام سيما مثل مولانا العلامة «قدس‌سره» الذي ينتهى اليه تدرس الرجل بالوسائط.

بالله عليكم يا معاشر إخواننا المسلمين ، أهكذا يظلم في حق رجل لم يزل أرباب الفضل مستفيدون من كلماته الى الآن؟ أخذ الله بحقه عن هذا الظالم يوم لا حكم الا حكمه وقد روى الفريقان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : قوله : المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه عصمنا الله آمين آمين.

(٢) قد مرت ترجمته في (ج ١ ص ٤٧) فراجع.

١١٨

بهذا الجواب من قوله : قلت لا شكّ انّ اختياره حادث إلخ مردود بأنّ كون اختيار العبد حادثا مسلّم ، لكن عدم كونه صادرا عنه باختياره غير مسلّم ، وبأنّ الاختيار في الفعل عبارة عن تعلّق إرادة العبد مثلا بالفعل ، وهذا التّعلّق إراديّ مسبوق بتعلّق آخر متعلّق إلى هذا التعلّق وهكذا ، وهذه التّعلقات امور انتزاعيّة اعتباريّة لا استحالة للتّسلسل فيها كما مرّ ، وأما ما أتى به من الجواب عمّا يرد على الدّليل الثّاني فيتوجّه عليه وجوه من الخلل ، منها منع قوله مقتضى العلم القديم يسلب القدرة عن ذي القدرة الحادثة ، فان ذلك إنّما يسلم لو كان العلم القديم علّة للمعلوم المقدور ، وكان مخالفا لما علمه الله تعالى في الأزل ، وكلتا المقدّمتين ممنوعتان مقدوحتان كما مرّت الاشارة إليه ، فظهر أنّ ما زعمه النّاصب الغريق من باب التّدقيق حقيق باسم الزّريق (١) ودليل على كونه من الجهل في بحر عميق ، وأما ما ذكره من أنّ لزوم الكفر من باب طاماته إلخ فلعله أراد به أنّ اللزوم غير الالتزام فإذا لزم الكفر من الدّليل بحيث لا يشعر به المستدلّ لا يلزمه الكفر ولا يحكم به عليه ، وأنت خبير بأنّ مراد المصنّف أنّ هؤلاء من أصحاب النّاصب إن اعترفوا بصحة الدّليلين بعد ما أوضحنا لهم ما يلزم منها يلزمهم الكفر ، إذ اللزوم حينئذ يقترن بالالتزام ولم يرد أنّه يلزمهم ذلك مع عدم شعورهم به حتى تكون من باب الطامات كما زعمه ، فغاية الأمر أن يخلص من الكفر من لم يصل إليه كلام المصنّف قدّس سره وإيضاحه للزوم ذلك ، وأمّا النّاصب المتورّط في العناد والعصبية فيلزمه التزام كفر أهل الجاهلية بعد اطلاعه على تلك الملازمة الجليّة أعاذنا الله من تلك البليّة.

قال المصنّف رفع الله درجته

فلينظر العاقل من نفسه هل يجوز له أن يقلد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتج به

__________________

(١) وفي بعض النسخ مكان لفظة الزريق (الزنديق) فبناء على هذا يكون مراده (قده) : أن ما زعمه الناصب من باب التدقيق فضول من الكلام وحقيق باسمه وهو الفضل فتأمل.

١١٩

غدا يوم القيامة وهو يوجب الكفر والإلحاد ، وأىّ عذر لهم عن ذلك وعن الخروج عن الكفر والإلحاد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، (١) هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله تعالى إلى كلّ خسيسة ورذيلة تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فليحذر المقلد وينظر كيف هؤلاء القوم الذين يقلدونهم ، فان استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتباعهم كفاهم بذلك ضلالا ، وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفقهم الله تعالى لاصابة الصّواب «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة ، ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم (٢)

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى في سورة النساء. الآية ٧٨.

(٢) الله اكبر من صنيع هذا الشقي ليت امه ولدت حية تسعى بدل هذا المولود الذي اخجل أهل الفضل والتصنيف ، بل طأطأ هامات المسلمين فكأنه غير معتقد بالمعاد والقضاء العدل هناك ، وكأنه لم يقرأ قوله تعالى في الكتاب العزير : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، وقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وغيرهما من الآيات الشريفة.

وكأنه لم يسمع من محدثيهم ولم ير في كتبهم هذه الأحاديث.

روى الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن على بن حجر المكي الهيتمى في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر (ج ١ ص ١٠٩ طبع مصر) عن الترمذي وابن حبان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحياء من الايمان والايمام في الجنة ، والبذاء اى الفحش من الجفاء والجفاء في النار. وروى عن أحمد قوله صلعم : ان الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء إلخ وغيرهما من الآثار النبوية المودعة في زبرهم وصحفهم.

وانى مع كثرة اطلاعى على كتب المسلمين ووقوفي عليها لم أر الى الآن فيها مثل كتاب

١٢٠