إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٢

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

١

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المصنّف رفع الله درجته

، المطلب العاشر في أنّا فاعلون (١)، اتّفقت الإمامية والمعتزلة على أنّا فاعلون ، وادّعوا الضّرورة في ذلك ، فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطراريّة ، وأنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل قلوب

__________________

(١) اختلفت كلمة المتكلمين في خلق الاعمال وأن أفعالنا الارادية هل هي صادرة عنا باختيارنا وقدرتنا أو عن قدرته تعالى أو عن كلتيهما بالتشريك المتساوى أو المتفاوت أو الوجوه والمحتملات الأخر؟ وذهب الى كل منها قوم : فعزى الى جهم بن صفوان انه كان يقول : لا مؤثر في الوجود الا الله تعالى شأنه ، وأما العبد فليس له فعل أصلا احداثا ولا كسبا.

وذهبت النجارية والاشاعرة الى أن تلك الأفعال صادرة عنه تعالى وليس لاحداثها علة سواه ، نعم جعلوا للعبد الكسب ، وهذا هو الفارق بين مقالتهم ومقالة الجهم.

ثم الاشاعرة اختلفوا بحيث اضطربوا في معنى الكسب ، فذهب الشيخ أبو الحسن

٢

الأشعري قدوتهم الذي اشتهروا به : الى أن معناه أن الله تعالى قد أجرى العادة بأن العبد متى اختار الطاعة أو المعصية فعلها الله تعالى فيه ، وفعل فيه القدرة عليها ، والعبد له الاختيار ، وليس لتلك القدرة في ذلك أثر ، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التمهيد : ان معناه كون ذات الفعل من الله تعالى وكونه معنونا بعنوان الطاعة أو المعصية أو غيرهما من العناوين من العبد ، وذلك مناط التكليف وعليه يدور استحقاق الثواب والعقاب ، وذلك كلطمه اليتيم فإنها تقع تأديبا وتقع ظلما ، فذات اللطمة منه تعالى وكونه تأديبا أو ظلما من العبد.

وقال بعضهم : ان الاعتقاد بالكسب في أفعال العباد لازم ، ولكن حقيقته غير معلومة لنا الى غير ذلك من التفاسير التي ترى في كلمات الاشاعرة ، وهي في غاية الاضطراب والتشتت ، واكتفى بعضهم في تقريبه وتفسيره بإيراد الامثلة وزاد عيا على عي.

ثم ان من القائلين بالتشريك بين القدرتين في صدور الأفعال الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني ، فيحكى عنه أنه ذهب الى أن الفعل واقع بقدرته تعالى وقدرة العبد معا. والحق الحقيق بالقبول الذي تساعده الأدلة العقلية والحجج السمعية ما ذهب اليه أصحابنا من الأمر بين الأمرين كما سبق شرحه «ج ١ من ص ٤٠٦ الى ٤٢٢» وسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

قال الشريف الآية الباهرة السيد محمد الباقر الطباطبائى الحائرى في منظومته (مصباح الظلام ص ٢٠):

ومن يضم قدرة الله انى

قدرته أنقص ما قد كملا

والكفر والفجور في العبيد

وما استحقوه من الوعيد

من العذاب باقتحام النار

ونحوه آية الاختيار

وهل ترى يخلق فيمن قد اثم

ما حصل الإثم به وينتقم

وليس يجديك حديث الكسب

ان كان موجودا بخلق الرب

واى مانع من التعدي

عنه إذا نسبته للعبد

٣

الأطفال والمجانين ، فانّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة (١) تؤلمه ، فانه يذمّ الرّامي دون تلك الآجرة ، ولو لا علمه الضّروري بكون الرّامي فاعلّا دون الآجرّة لما استحسن ذمّ الرّامي دون الآجرّة ، بل هو حاصل في البهائم ، قال أبو الهذيل (٢) حمار بشر أعقل من بشر ، لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلي جدول كبير ، فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ، لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه وبين ما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه ، وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أن لا مؤثر إلا الله ، فلزمهم من ذلك محالات «انتهى».

__________________

وقال العلامة السيد باقر الجائسى الهندي في منظومته :

للعبد في أفعاله اختيار

وبالضرورة انتفى الإجبار

وانما الوجوب للدواعي

لا يوجب الجبر للامتناع

مع أنه لو تم في المقام

لا وجب الإيجاب في العلام

فما الجواب فهو الجواب

وقد عرفت ما هو الصواب

وسيأتي في كلمات مولانا العلامة وسيدنا القاضي الشهيد وما علقنا عليها ما يزيح العلل ان شاء الله تعالى.

(١) آجرة بتشديد الراء المهملة جمعها آجر.

(٢) هو أبو الهذيل محمد بن عبد الله بن مكحول البصري المشتهر بالعلاف من زعماء المعتزلة وممن شيد أركان الاعتزال ، له تصانيف منها كتاب الملاس وكتاب في مناظراته مع على الميثمي ، أضر واطرش في أخريات عمره ، توفى ببلدة سر من رأى سنة ٢٢٦ وقيل ٢٢٧ وقيل ٢٣٥ وهو غير أبى الهذيل زفر بن هذيل الحنفي العنبري المتوفى سنة ١٥٨ فراجع الريحانة ج ٥ ص ١٩٤.

٤

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب الأشاعرة أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرة الله وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرةّ واختيارا فإذا لم يكن هناك مانع ، أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (١) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد ، فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع ، هذا حقيقة مذهبهم ، ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد ، حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أولا ، كما صدّر الفصل بقوله : إنّا فاعلون ، واعترض الاعتراضات عليه ، فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به ، هل هو مخلوق لنا أو خلق الله فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا؟ وهذا شيء لا يستبعده العقل ، فانّ الأسود هو الموصوف بالسّواد ، والسّواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله؟! ودليل الأشاعرة أنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله ، لشمول قدرته كما ثبت في محلّه (٢) ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد لما هو ثابت في محلّه ، وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة ، والمعتزلة اضطرّتهم الشّبهة إلى اختيار مذهب رديّ ،

__________________

(١) قد سبقت ترجمته في تعاليق ص ١١٨ من الجزء الاول وفي غيرها أيضا.

(٢) قد سبق في مبحث القدرة (ج ١ ص ١٦٣).

٥

وهو إثبات تعدّد الخالقين غير الله في الوجود ، وهذا خطاء عظيم ، واستجراء كبير ، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع كما سنبيّن لك إن شاء الله في أثناء هذه المباحثات ، ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الاماميّة أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال ، بلا إيجاب بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق ، منها ما اختاره أبو الحسين (١) من مشايخهم وذكره هذا الرّجل وهو ادّعاء الضّرورة في إيجاد العبد لفعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروريّ لا حاجة به إلى الاستدلال وبيان ذلك أنّ كلّ عاقل يجد من نفسه التّفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وأنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره ، وأنّه لو لا تلك الدّواعي والاختيار ، لم يصدر عنه شيء منه بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه ، وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الاماميّة إنكار هذا سفسطة مصادمة للضّرورة كما اشتمل عليه أكثر دلائل هذا الرّجل في هذا المبحث ، والجواب : أنّ الفرق بين الأفعال الاختياريّة وغير الاختياريّة ضروريّ لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى ، وعدمها في الثانية لا إلى تأثيرها في الاختيارية ، وعدم تأثيرها في غيرها ، والحاصل أنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضّرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم (٢) تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النّزاع

__________________

(١) هو أبو الحسين بن محمد بن على البصري الولادة البغدادي المسكن والمدفن ، توفى سنة ٤٣٦ ببغداد وكان من زعماء الاعتزال ، له تآليف وتصانيف منها كتاب المعتمد في اصول الفقه وقد استفاد منه الرازي في كتابه المحصول ومنها كتاب غرر الأدلة وغيرهما من الآثار فراجع الريحانة (ج ٥ ص ٤١).

(٢) إذ لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياري مع غيره كالقدرة والاختيار وجودا وعدما كون المدار علة للدائر ، ولا من العلية ان يسلم ثبوتها الاستقلالى بها لجواز

٦

فتلك التّفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا. ثم إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطل صريح ، لأنّ علماء السّلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين مثبتين له بالدّليل ، فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضّرورة عن هذا المتنازع فيه ، لا التّفرقة بالحسّ بين الفعلين فانّه لا مدخل له في إثبات المدّعى ، لأنّه مسلّم بين الطرفين فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضّرورة فيه ، وأيضا أنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشّيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة (١) يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل (٢) ، ويلزم منها (٣) أنّه لا إرادة منه ، ولا حصول الفعل عقيبها منه ، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل فكيف يدّعى الضرورة في خلافه؟ فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرّجل من الضّرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه «انتهى».

أقول

إثبات القدرة بدون التأثير من سخيف القول كما مرّ ، وسيجيء عن قريب إن شاء الله تعالى ، والتّمسك بجريان العادة قد أسبقنا في بيان فساده ما لا يحتاج إلى الإعادة ، وأمّا الكسب (٤) فقد اكتسب من السّخف والفساد ما اكتسبا وزيادة ، وأمّا ما ذكره بقوله : فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون إلخ فهو كاذب فيه ، كيف؟ وهم صرّحوا

__________________

أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلة المستقلة.

(١) للشرائط وارتفاع الموانع.

(٢) بل يحصل له تلك الإرادة سواء أرادها او لم يردها.

(٣) اى من المقدمات التي علمتها بالوجدان.

(٤) فراجع ص ٣٩٩ من الجزء الاول حتى يتبين لك اضطراب القوم في معناه ان هذا المخترع لا يسمن ولا يغنى بل يلقى صاحبه في الحوالك.

٧

بأنّ الفعل من الله تعالى والكسب من العبد ولو سلّم إطلاقهم الفاعل على العباد ، فإنّما يتجوّزون به عن معنى الكسب والمحلّيّة ، ولا يريدون به معناه الحقيقيّ الذي قصده المصنّف هاهنا ، وهو الإيجاد والإصدار الذي يتعارفه أهل اللّسان ، وأمّا ما ذكره من أنّ الأفعال التي يظهر صدورها عن العباد لا يستبعد العقل أن تكون صادرة في الحقيقة عن الله تعالى مقارنة لقدرتنا ، فيتوجّه عليه ، أنّه يتضمّن إنكار البديهيّ الظاهر المشاهد لكل أحد صدورها عن العباد ، وارتكاب نسبتها إلى الله تعالى على طريقة الرّجم بالغيب ، والرّمى في الظلام ، فكيف لا يكون مستبعدا؟ وأىّ دليل قطعيّ او إقناعيّ ظنيّ قام على خلاف المشاهد الظاهر حتى يكون رافعا لاستبعاد العقل؟ وبهذا يظهر فساد تمثيله بالأسود فانّ السّواد قائم عليه بمعنى وقوعه عليه ، فلا وجه لقياسه إلى الأفعال القائمة بالعباد بمعنى صدورها عنهم كالأكل والشّرب كما مرّ بيانه ، ولهذا ترى أهل العدل يحكمون بأنّ السّواد والبياض ونحوهما من الأعراض فعل الله تعالى ، والأكل والشّرب والزّنا والسّرقة ونحوها من فعل العبد ، وأما ما ذكره من دليل الأشاعرة فهو مع كونه مشهورا معتمدا عليه عندهم ولهذا أيضا خصّه النّاصب بالذّكر هاهنا مردود من وجوه ، أما أولا ، فلأنّ شمول قدرته تعالى لجميع المقدورات ممّا لم يثبت عند المعتزلة ، فانّهم يخصصون خلق الأجسام بقدرة الله تعالى ، وأفعال العباد بقدرتهم ، وأما ثانيا فلأنّه منقوض (١) باتّخاذ الولد ونحوه ، فانّه ممكن في نفسه مع استحالته على الله تعالى اتفاقا ، وما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك. وأما ثالثا ، فلأنّه إن أريد بشمول قدرته لجميع الممكنات تعلّقها به بالذّات ، فهو ممنوع وغير لازم ممّا استدلوا به على ذلك المطلوب ، بل يجوز أن يكون تعلّقها إلى بعض بالذّات وإلى بعض آخر بالواسطة ،

__________________

(١) وهذا النقض من خواص هذا التعليق ، لم أجده في كتاب ولا سمعته عن أحد. منه «قده».

٨

وكلام الاصفهاني (١) في شرحه للطوالع يدلّ على ذلك حيث قال : والحقّ أن انتهاء كلّ الممكنات الموجودة إليه دليل على أنّه قادر على الكلّ ، وإن أريد تعلّقها به على وجه الأعمّ ، فهذا لا ينافي كون أفعال العباد مقدورة لهم بالذّات ، وأما رابعا فلأنّه إن أريد بشمولها للجميع (٢) تعلّقها به بالفعل فهذا غير لازم ممّا ذكروه في بيانه ، لجواز أن لا يكون الإمكان علّة لتعلّقها به بالفعل ، بل لإمكان التعلّق وفعليته يستند إلى ما ينضم إلى الإمكان ، وإن أريد به تعلّقها بالإمكان ، فذلك لا يستلزم الفعليّة في جميع الممكنات ، حتّى يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين بالفعل في مقدور واحد ، والحاصل أنّ الإمكان كما حققه المحقق الطوسي (٣) طيّب الله مشهده ، علّة

__________________

(١) الطوالع للقاضي البيضاوي وشرحه الشهير للشيخ شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الاصفهانى المتوفى سنة ٧٤٩.

(٢) لا يقال : ان نسبة الفعل الى الله تعالى مقدورا له اولى من نسبته الى العبد لكونه مقدورا له ، لأنا نقول : ان هذه الأولوية ليست الا بمعنى كونه أقدر وأكبر وأعظم مقدورا ، وليس في ذلك ما يوجب الاولوية والترجيح بالنظر الى مقدور واحد ، وبالجملة بالنظر الى ما انحصر من مقدورات العبد الضعيفة كما وكيفا.

(٣) هو فيلسوف الإسلام وعلامة الحكماء شيخنا أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الجهرودى الأصل المشتهر بالمحقق الطوسي ، نابغة الاعصار ، ويتيمة الدهر ، ومن يليق أن تفتخر به العلوم وأهلها ، ولد سنة ٥٩٥ ، وقيل ٥٩٧ ، أخذ العلوم عن جماعة ، منهم والده العلامة ، والشيخ سالم بن بدران ، والسيد فضل الله الراوندي ، وفريد الدين الداماد ، وقطب الدين المصري ، وغيرهم من فطاحل الفريقين ، وله كتب رائقة ورسائل فائقة تقرب من مائة وخمسين ، منها أساس الاقتباس في المنطق ، ومنها شرح الإشارات ، ومنها الفرائض النصيرية ، ومنها البارع في التقويم وأحكام النجوم ، ومنها جامع الحصى في التخت والتراب والكرة والأسطرلاب ، ومنها جام گيتى نما ، ومنها تحرير المجسطي ، ومنها تلخيص المحصل أو نقد المحصل ، ومنها تهافت الفلاسفة ، ومنها آغاز وانجام ، ومنها اوصاف الاشراف ، ومنها مساحة

٩

__________________

الاشكال ، ومنها المعطيات ومنها أخلاق ناصري ، ومنها تحرير اصول الهندسة لاقليدس ، ومنها تحرير الأكر لما لا ناووس ، ومنها التقويم العلائى ، ومنها كليات الطب ، ومنها اثبات الواجب ومنها اثبات ان الفرقة الناجية هم الامامية ، ومنها خلق الاعمال ، ومنها تجريد الكلام في المنطق والكلام ، ومنها الجبر والتفويض الى غير ذلك من الآثار الممتعة ، وكان شاعرا مفلقا أديبا أريبا ومن شعره في مدح مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قوله :

لو أن عبدا أتى بالصالحات غدا

يود كل نبى مرسل وولى

وصام ما صام صوام بلا ملل

وقام ما قام قوام بلا كسل

وعاش في الدهر آلافا مؤلفة

عار من الذنب معصوم بلا زلل

فليس في الحشر يوم البعث ينفعه

الا بحب أمير المؤمنين على

ومن شعره بالفارسية قوله :

نظام بى نظام ار كافرم خواند

چراغ كذب را نبود فروغى

مسلمان خوانمش زيرا كه نبود

مكافات دروغى جز دروغى

توفى سنة ٦٧٣ وقيل ٦٧٥ ، والأشهر ٦٧٢ ببغداد ، ونقل بوصية منه الى مشهد الامام ابى ابراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، ودفن في قبر قد كان الناصر العباسي ادخره لنفسه قبله بسنين ، ولم يوفق بالدفن فيه فهيأه الله لهذا المولى الجليل ، وما أجدر أن يقال ،

دهقان بباغ بهر كفن پنبه كاشته

مسكين پدر ز زادن فرزند شادمان

ورثاه الشعراء بقصائد عربية وفارسية ومما قيل في تاريخ وفاته.

نصير ملت ودين پادشاه كشور فضل

يگانه كه چو او مادر زمانه نزاد

بسال ششصد وهفتاد ودو به ذى حجه

بروز هيجدهم در گذشت در بغداد

أحذ عنه جماعة أشهرهم وأنبلهم مولانا آية الله العلامة الحلي ، والشيخ محمد البحراني ، والسيد أبو محمد الوراميني ، وغيرهم.

يروى المترجم عن جماعة منهم والده العلامة المولى محمد بن الحسن الطوسي ومنهم الشيخ سالم بن بدران المصري ، وغيرهما.

١٠

مصحّحة لتعلّق القدرة لا موجبة له ، ولا يلزم من تحقّق العلّة المصححة لشيء تحققه بالفعل ، لجواز أن يكون هناك ما يمنعه ، وبهذا يندفع دليل آخر للأشاعرة وهو أنّ العبد لو كان موجدا لفعل نفسه ، لجاز أن يوجد الجسم لأنّ المصحّح لتعلّق الإيجاد بفعل نفسه هو الإمكان ، وهو متحقق في الجسم والتّالي باطل «انتهى». وأما ما ذكره من أن أهل العدل اختاروا مذهبا رديّا هو إثبات تعدّد الخالقين فهو كلام مبهم إذا كشف غطاؤه ، وظهر جودة ما اختاروه ، وذلك لأنّ الرّدي إثبات تعدّد الخالق القديم الذي لا يكون مخلوقا لله ابتداء ، أو بواسطة كما يلزم الأشاعرة من القول بزيادة الصّفات القديمة ، وأما اثبات الخالق الحادث الذي يكون ذاته وحياته وقدرته وتمكينه وسائر صفاته وكمالاته مخلوقة لله تعالى كما هو شأن العبد على رأى أهل العدل ، فلا رداءة فيه ، بل فيه جودة تنزيه الله تعالى عن كونه فاعلا للقبائح والفواحش المنسوبة الى العبد كما مرّ مرارا ، وأما ما ذكره من الجواب فهو ممّا ذكره صاحب المواقف (١) وقد ظنّ الناصب المرتاب أنّه عين الصّواب ، بل كأنّه وجد تمرة الغراب (٢) ، وفيه نظر ، أما أولا فلأنّ محصّل كلام أبي الحسين والمصنف ومن وافقهم في هذا المقام دعوى البداهة في مقدّمات ثلاث ، إحداها علّية القدرة والاختيار وتأثيرهما ، والثانية أنّ العبد فاعل لنحو الصعود إلى المنارة بقدرته دون السقوط منها ودون حركته الارتعاشية ، والثالثة أنه لو لم تؤثر قدرته في هذا الصعود لم يصعد ، لا أنهم جعلوا الاولى منها نظرية ، والثانيتين دليلا عليها حتى

__________________

ويروى عنه مولانا العلامة وغيره ، فراجع الريحانة (ج ١ ص ٤١٦ الى ٤٢٥)

(١) قد مرت ترجمته «ج ١ ص ٤٧».

(٢) يطلق هذه الكلمة على ثمر شجرة يقال لها البلوط وعلى عود يجعل على رأس المثقبة التي تستعملها النجارون ، ويضرب المثل في حق من أتى بشيء خسيس ردى زعما انه أتى بشيء نفيس.

١١

يتوجه أنه دوران غير مفيد للعلية ، ثمّ لو جعل الدّوران تنبيها على المقدمة الأولي لكان له وجه ، ويضعف منع لزوم العلّية ، واما ما ذكره من أنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين مثبتين له بالدليل إلخ مدخول بأن ما ذكره السلف من أهل العدل بصورة الدليل إنما هو تنبيهات على المدعى الضروري ، قد حملها من خالفهم من الأشاعرة على الاستدلال ليمكنهم إيراد المنع والنقض والمعارضة (١) عليها ، فلا يلزم ما توهمه الناصب من نسبة كل العقلاء إلى إنكار الضرورة

__________________

(١) هذه مصطلحات في علم آداب البحث والمناظرة ، والفرق بينها يظهر مما أفاده الجرجاني في كتاب الحدود (ص ١٤٨ ط مصر) قال ما لفظه :

المعارضة لغة هي المقابلة على سبيل الممانعة ، واصطلاحا هي إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم.

ودليل المعارض ان كان عين دليل المعلل يسمى (قلبا) ،

والا فان كانت صورته كصورته يسمى (معارضة بالمثل) والا (فمعارضة بالغير) ، وتقديرها إذا استدل على المطلوب بدليل فالخصم ان منع مقدمة من مقدماته او كل واحدة منها على التعيين فذلك يسمى (منعا مجردا) (ومناقضة) (ونقضا تفصيليا) ، ولا يحتاج في ذلك الى شاهد ، فان ذكر شيئا يتقوى به يسمى (سندا للمنع) ، وان منع مقدمة غير معينة بأن يقول ليس دليلك بجميع مقدماته صحيحا ، ومعناه ان فيها خللا فذلك يسمى (نقضا اجماليا) ولا بد هاهنا من شاهد على الاختلال ، وان لم يمنع شيئا من المقدمات لا معينة ولا غير معينة بان أورد دليلا على نقض مدعاه فذلك يسمى (معارضة) «انتهى».

قال الشيخ زين الدين المرصفى في منظومته :

ان قلت قولا ذا تمام خبري

إذا نقلت فيه عن معتبر

فيطلب التصحيح للنقل إذا

لم تلتزم فيما نقلته لذا

او ادعيت يطلب الدليل

ان كان غير واضح ذا القيل

ثم ثلاث للدليل عارضة

(منع) ونقل مجمل معارضة

١٢

بل اللازم نسبة المعزولين عن العقل والشعور ، وهم الأشاعرة الذين هذا شأنهم في أكثر المسائل كما لا يخفى ، وأما ثانيا فلأن وجود القدرة من غير تأثيرها إنما يورث الفرق على تقدير تحققه في نفس الأمر ، لكنه غير متحقق بشهادة الوجدان (١) بتأثيرها ، ثم لو كان الفارق وجود قدرة غير مؤثرة ، لزم عدم الفرق فان الساقط من المنارة له قدرة إسقاط نفسه أيضا ولا شك أنه إذا سقط لم تؤثر قدرته في هذه الحركة نعم إنهم قالوا : بتعلّق تلك القدرة والإرادة بالصعود دون السقوط ، لكن إذا لم يكن

__________________

فأول جزء الدليل مورده

فان يكن مدللا لا يورده

والثاني إبطال الدليل كله

بشاهد ينبئ عن قبوله

وثالث إقامة الدليل

على خلاف قول ذى التعليل

الى آخر ما أفاد ، وأنت لو تأملت فيما نقلناه عن أرباب هذا العلم لظهر لك في غاية الظهور الفروق بين المنع والنقض والمعارضة المذكورة في الكتاب.

ومما يؤسف عليه ان هذا العلم وعدة فنون أخر قد تركت في زوايا الخمول ، مع أن السلف كانوا شديدي الاهتمام بها فكم لهم فيها كتب قيمة ورسائل نفيسة ، مطبوعة ومخطوطة ، كرسالة آداب البحث للفاضل السمرقندي وشروحها العديدة ، ومنظومة المرصفى وشروحها ، وكتاب آداب البحث للسيد حسين المعمائى ، وكتاب آداب المناظرة للقاضي عضد الإيجي ، وكتاب آداب البحث للسيد فخر الدين السماكى وغيرها من الزبر الممتعة ، وأرجو من فضله وكرمه العميم أن يوفقنا باقتناء الفضائل آمين آمين.

(١) قال بعض الأفاضل في تعاليقه على هوامش تفسير البيضاوي ما محصله : ان الفرق بين الوجدان بكسر الواو والوجدان بضمها : ان الاول يطلق على القوة المدركة والثاني على إدراكها هذا ، ونكن المتداول بين أهل الفضل اطلاق كل منهما على كل من المعنيين فلا تغفل.

١٣

لها نحو تأثير في الفعل ، غير أنها مقارنة لمحلّه ، فتعلّقها وعدم تعلّقها إنما يفيد في صحة إطلاق اللّفظ دون التّغاير في نفس الفعل ، وكونه أثرا للقدرة مع أنّ البديهيّ هو الثّاني ، وبالجملة من أنصف من نفسه علم الفرق بين الحركتين ، بأنّ القدرة مؤثرة في الأولى دون الأخرى ، وإثبات القدرة بدون التّأثير لا يكون له معنى محصّل ، بل غير معقول أصلا كإثبات الباصرة للأعمى بدون الأبصار ، وإثبات السّامعة للأصّم بدون الاستماع ، وكما أنّ إنكار قدرة العبد مكابرة كذلك إنكار تأثيرها في بعض أفعاله (١) مكابرة ، والاعتراف بأنّ الأوّل مكابرة (٢) دون الثّاني مكابرة

__________________

(١) قال بعض فضلاء السادة من الشافعية : البصير لا يصير بصيرا الى أن قال : لا أثر لقدرة العبد في فعله ، فان فيه قطع طلبات الشرائع ، فمن زعم أن لا اثر لقدرته الحادثة في المقدور كمالا أثر للعلم في المعلوم ، فوجه مطالبة الله تعالى العبد في أفعاله كوجه مطالبته أن يثبت في نفسه ألوانا او يجعل للمحالات اكوانا ، وهذا خروج عن حد الاعتدال الى التزام الباطل المحال ، وفيه إبطال للشرائع ورد ما جاء به النبيون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهذا الزاعم الذي يدعى أن لا اثر لقدرته أصلا إذا طولب بوجه طلب الله فعل العبد تحريما وفرضا أخذ بالجواب طولا وعرضا ، بان الله سبحانه (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) و (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) و (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) جدير بان يقال له هذه كلمة حق أريد بها الباطل ، نعم (يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) و (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) لكن يتقدس عن الخلف وتكليف المحال ، فانه الحكم العدل تعالى شأنه عن الظلم أوجب على نفسه الأقدس الرحمة على عباده عدلا لا لان إتيان الظلم منه كما قيل محال ، منه «قده».

(٢) الفرق بين المكابرة والتحكم بعد اشتراكهما في كون كليهما دعوى بلاد ليل : أن المكابرة هي الدعوى بلا بينة مقرونة باكبار النفس وتحقير الخصم بخلاف التحكم فانه أعم منها.

١٤

في مكابرة ، لأنّ بديهة العقول حاكمة بأنّ بعض الأفعال تصدر منّا بتأثير قدرتنا فيها ، فإنكار كون العبد موجدا لأفعاله الاختياريّة سفسطة مصادمة للضرورة ، ويوضحه أنّ تعلّق القدرة بالفعل لا على وجه التّأثير ، كما اخترعوه وسمّوه بالكسب أمر خفىّ لا يهتدي إليه العقل ، فانّه إذا لم يكن للقدرة تأثير ، لا يظهر وجه تعلّقها به ، فان قيل : تعلّقها به هو أن تكون موجودة عنده قلنا : من أين يعلم وجودها عنده؟ فان قيل : علم وجودها عنده من الفرق بين حركة المرتعش وحركة المختار بالبديهة ، قلنا : الفارق هو الإرادة لأنّ حركة المرتعش حصلت من غير إرادة وحركة المختار حصلت بها ، والإرادة غير القدرة لأنّها صفة مخصّصة لأحد المقدورين بالوقوع ، فان قيل : إذا كانت الإرادة مخصّصة لأحد المقدورين بالوقوع فلا بدّ لوجودها من وجود القدرة. قلنا : لم لا يجوز أن يكون مخصّصة لأحد مقدوري الله تعالى بالوقوع؟ فانّ عادة الله جرت بأنّها إذا تعلّقت بأحد طرفي الممكن ، حصل ذلك الطرف ، وبالجملة القدرة الحادثة أى قدرة العبد عند الأشاعرة صفة يوجد الفعل معها ، وبعبارة أخرى كيفيّة وجوديّة قائمة بالفاعل موجودة عند الفعل ، فإذا لم يكن لها تأثير يكون في معرض الخفاء ، حتّى يبرهن على ثبوته ، ولعمري أنّ القول : بكسب العبد وأنّ قدرته غير مؤثرة ، وإنّما المؤثر قدرة الله سبحانه ثمّ القول بثواب العبد ، أو عقابه من باب أن يقال : إنّ أحدا قادرا على الزّنا مثلا إذا كان معه قادر آخر ، تكون قدرته أشدّ من قدرته ، وليس له أن يمنعه من الزّنا إذا لم يرتكب الزّنا وارتكب مصاحبة الزّنا ، صار هذا الشخص الغير المرتكب له العاجز عن أن يمنع فاعله مستحقا للرجم ، دون المرتكب له وهو كما ترى ، والحاصل أنّ القول : بالقدرة غير المؤثرة ممّا لا طائل تحته ، لأنّ القدرة صفة مؤثرة على وفق الإرادة ، فلو لم تكن قدرة العبد مؤثرةّ تكون تسميتها قدرة مجرّد اصطلاح ، ويؤيده الفرق

١٥

بين القدرة والعلم بتأثير القدرة وعدم تأثير العلم. وأما ما ذكره العلامة الدواني (١) في شرحه للعقائد العضديّة ، من أنّ القدرة لا تستلزم التّأثير بل ما هو أعمّ منه ومن الكسب ، وأنّ الفرق بينهما وبين العلم بأنّ القدرة تستلزم هذا ، ولا يستلزمه العلم فمردود بأنّ هذا إنّما يتم لو كان لكسب العبد معنىّ محصل معقول ، وإنّما قالوا به عن فرط التعنّت والمحجوجيّة كما مرّ ، وسيجيء إن شاء الله تعالى ، نعم يتوجّه على العدليّة أنّ الضروريّ هو الفرق بتأثير القدرة في الاختياريّة دون غيرها ، وأمّا استقلال تأثير قدرة العبد فيها بالاختيار كما هو مطلوبهم ، فليس بضروريّ ، بل هو ممنوع لا بدّ له من دليل ، لجواز أن يكون المؤثّر مجموع القدرتين كما هو مذهب أبى إسحاق الأسفرايني (٢) ، أو يكون المؤّثر قدرة العبد فقط على سبيل الإيجاب كما هو مذهب الفلاسفة. ويندفع بأنّ المقصود هاهنا بيان مدخلية قدرة العبد في الجملة في بعض أفعاله ، ردّا لمذهب الأشاعرة ، لا بيان خصوص المذهب الحقّ كما لا يخفى على المتأمل ، على أنّ مذهب الفلاسفة قد ثبت بطلانه بالدّليل العقليّ ، وبإجماع المسلمين ، وما ذهب إليه الأسفرايني ، مع أنه قول بلا رفيق ، ولا دليل عليه ، مردود أيضا بأنه إن أراد جواز أن يكون متعلّق القدرتين شيئا واحدا هو نفس الفعل ، ويكون كلّ منهما مؤثّرا مستقلا فحينئذ يلزم اجتماع المؤّثرين على أثر واحد ، وإن أراد جواز أن يكون مجموعهما من حيث المجموع ، مؤثّرا واحدا مستقّلا في التأثير دون كلّ واحد منهما بانفراده فيلزم حينئذ عدم استقلال قدرته تعالى ، بل احتياجه إلى معاون ومشارك تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وأما ما ذكره بقوله : وأيضا أنّ كلّ سليم العقل إلخ فهو أيضا كلام صاحب المواقف ، وقد دلّ على عدم سلامة عقله ، لأنّا لو سلّمنا

__________________

(١) قد مرت ترجمته (ج ١ ص ٤٠).

(٢) قد مرت ترجمته (ج ١ ص ١٠١).

١٦

أنّ موجد إرادة العبد لو كان نفسه فتتوقّف تلك الإرادة منه على إرادته لها ، فلمّا لم تتوقّف هي عليها كما يعلم بالوجدان ، فلا تكون هي صادرة عنه بل تكون مخلوقة لله تعالى إلا أنّا لا نسلّم أنّ حصول الفعل عقيبها ليس منه ، وكون الفعل يحصل عقيب تلك الإرادة الجازمة الجامعة للشرائط ، وارتفاع الموانع لا يدلّ على ذلك ، إذ لا مانع من أن تكون الإرادة مخلوقة لله تعالى ، والفعل الذي لا ينفكّ عنها على الشّرط المذكور مخلوقا للعبد (١) ، ولو قيل : إنّ مع تلك الإرادة المخلوقة لله تعالى عند تحقّق الشّرط المذكور يتحقّق الفعل ، ولو لم يكن إيجاد من العبد فهو ممنوع (٢) لجواز أن يكون إيجاد العبد أيضا لازما لها غير منفكّ عنها أصلا لا بالفعل ، ولا بالإمكان ، فلو فرض هذا المحال وهو انفكاك إيجاد العبد عن تلك الإرادة ، لجاز وقوع محال آخر هو انفكاك الفعل أيضا عنها ، إذ المحال جاز أن يستلزم المحال ، وخصوصا إذا كان بينهما علاقة ظاهرة كما فيما نحن فيه ، وأما أنّ الفعل لا يحصل بدون تلك الإرادة فلا يدلّ على المطلوب أيضا إلّا إذا ثبت أنّ فعل العبد إذا توقف حصوله على إرادة مخلوقة لله تعالى لا يمكن أن يكون مخلوقا للعبد ، وهذا مع أنّه ممنوع ليس مذكورا

__________________

(١) وتوضيح هذا ما سيجيء من أنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل يتعلق به الإرادة بلا اختيارنا ، لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة ، بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير الإرادة جازمة موجبة للفعل ، وهذا الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه الى وجود الداعي اليه وهي الإرادة الجازمة الى آخر ما ذكرنا هناك وبالجملة ترك الكف الذي هو اختياري من جملة شرائط حصول الفعل. منه «قده».

(٢) والحاصل أن إرادة العبد بانجاد الله تعالى فيه او ناشئة عن ذات العبد لازمة له ، وهو لا ينافي كونه مختارا إذ المختار ما يكون فعله معللا بإرادته لا أن تكون إرادته أيضا باختياره. منه «قده».

١٧

في المقدّمات ، ولا لازما منها.

قال المصنّف رفع الله درجته

منها مكابرة الضّرورة فإنّ العاقل يفرّق بالضّرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا وبين الحركة الاضطراريّة كالوقوع من شاهق ، وحركة الحيوان ، وحركة المرتعش ، وحركة النبض ، ويفرق بين حركات الحيوان الاختياريّة وحركات الجماد ، ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي (١) ، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عرفت جواب هذا فيما مرّ ، وقد ذكر هذا الرّجل هذا الكلام. ثمّ كرّره كما هو عادته في التكرارات القبيحة الطويلة الخالية عن الجدوى ، والجواب ما سبق «انتهى».

أقول

لا تكرار فيما ذكره المصنّف ، فانّ ذكره لدعوى الضّرورة سابقا إنّما كان عند تقرير مذهب العدليّة ، وذكره لها هاهنا إنّما هو في بيان ما يلزم من مذهب الأشاعرة والفرق بين المقامين ظاهر ، وأما ما ذكره النّاصب هناك من كلام صاحب المواقف ممّا زعمه صالحا للجواب عن هذا فقد دمّرنا عليه ثمّة وأبطلناه.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها إنكار الحكم الضروريّ من حسن مدح المحسن ، وقبح ذمّه ، وحسن

__________________

(١) قد مر المراد بهم وبيان فرقهم (ج ١ ص ٧٨).

١٨

ذمّ المسيء ، وقبح مدحه ،فانّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما ، ولا يفعل شيئا من المعاصي ويبالغ في الإحسان إلى النّاس ، ويبذل الخير لكلّ أحد ، ويعين الملهوف ويساعد الضعيف ، وأنّه يقبح ذمّه ، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه العقلاء سفيها ، ولامه كل أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتّعدي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قلّ ، وأنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيها ولامه كلّ عاقل ويعلم ضرورة قبح المدح والذمّ على كونه طويلا أو قصيرا ، أو كون السّماء فوقه ، والأرض تحته ، وإنّما يحسن هذا المدح والذمّ أن لو كانا صادرين عن العبد فانّه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجّه المدح والذمّ إليه ، والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذم فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه ولا الشّكر له ، ولا بقبح ذمّ إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين في استحقاق المدح والذمّ ، فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ويتبع ما يقوده عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ، ويعتقد ضدّ الصّواب ، فانّه لا يقبل منه غدا يوم الحساب وليحذر من إدخال نفسه في زمر الذين قال الله تعالى عنهم : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) (١) «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : حاصل ما ذكره في هذا الفصل : أنّ المدح والذمّ يتوجهان إلى الأمور الاختياريّة ، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمّه ، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمه ولو لا أن تكون الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة

__________________

(١) مؤمن. الآية ٥٠.

١٩

والسيئة ولا يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذّم فعلم أنّ الأفعال اختياريّة وإلا يلزم التساوي المذكور وهو باطل ، والجواب أنّ ترتّب المدح والذمّ على الأفعال باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل ، وكسبه ومباشرته للفعل ، وأمّا أنه لتأثير قدرته في الفعل فذلك غير ثابت وهو المتنازع فيه ، ولا يتوقف ترتّب المدح والذمّ على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتّب المذكور ، ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار فباطل مخالف للعرف واللّغة ، فانّ المدح يعمّ الأفعال الاختياريّة وغيره بخلاف الحمد ، واختلف في الحمد أيضا ، وأما قوله : الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح ، إن أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن العقليّ للمدح والذمّ المذكورين فذلك كذلك ، لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقليّ أصلا (١) وإن أراد نفى الحكم بحسن مدح الله وثنائه مطلقا ، فهذا من مفترياته ، فإنهم يحكمون بحسن مدح الله تعالى لأنّ الشرع أمر به لا لأنّ العقل حكم به كما مرّ مرارا «انتهى».

أقول

الجواب الذي ذكره مردود ، بأنّ وجود القدرة والاختيار في الفاعل الذي هو العبد وكسبه ومباشرته للفعل ، إمّا أن يكون له مدخل في وجود الفعل أولا ، فعلى الثاني يلزم الجبر ، ضرورة أنّه إذا لم يكن لتعلّق قدرة العبد مدخل في الفعل أصلا لا يورث الفرق ، ولا تفاوت بين وجوده وعدمه وعلى الاول إن لم يكن هذا التعلّق مستلزما لوجود الفعل ، يتمّ الملازمات ، فانّ تعذيب العبد مثلا بفعل لا يكون منه قبيح بالضّرورة ، وهذا الفعل لم يجب من قدرة العبد على هذا الفرض

__________________

(١) قد أنطقه الله بالحق حيث قال : لأنهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي اصلا منه «قده».

٢٠