النور المبين في شرح زيارة الأربعين

مهدي تاج الدين

النور المبين في شرح زيارة الأربعين

المؤلف:

مهدي تاج الدين


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار الأنصار
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-8956-16-2
الصفحات: ٢٤٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

.......................................................................................

________________________________________________

ولكن الأمر ليس كذلك فإن الله تعالى خالق من حيث هو مقدر وبارئ من حيث هو مخترع وموجد ومصور من حيث إنه رتب صور المخترعات على أحسن ترتيب .

وبعبارة اُخرى ، فإن كل ما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقدير اوّلاً وإيجاده على وفق التقدير ثانياً وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثاً .

وقد يقال : ان الخالق هو الموجد للكون والبارء هو الموجد للعين والمصور هو الموجد للتقدير .

وعلى أي حال فإن الله تعالى جعل الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل البيت عليهم‌السلام حججاً على خلقه والسر في ذلك لأنه تعالى خلقهم كاملين في العلم والمعارف ، وحمّلهم علمه وأعطاهم حكمته وأتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وقد دلت على ذلك جملة من الروايات منها :

عن بصائر الدرجات عن الإمام الحسن بن علي المجتبى عليه‌السلام قال : « إن لله مدينتين أحداهما بالمشرق والاُخرى بالمغرب عليهما سوران من حديد ، وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب ، وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه وأنا أعرف جميع اللغات ، وما فيها وما بينهما حجة غيري والحسين أخي » ، وعن ابن أبي يعفور قال ، قال لي الإمام الصادق عليه‌السلام : يابن يعفور ، إن الله تعالى واحد متوحد بالوحدانية متفرد بأمره فخلق خلقاً ففردهم لذلك الأمر فنحن هم ، يابن أبي يعفور فنحن حجج الله على عباده وشهداؤه على خلقه واُمناؤه وخزانه على علمه والداعون إلى سبيله والقائمون بذلك فمن اطاعنا فقد اطاع الله .

ففي الكافي عن الإمام الكاظم والرضا عليهما‌السلام قالا : « إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلّا بإمام حتى يعرف » .

١٢١

.......................................................................................

________________________________________________

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « ما زالت الأرض إلّا ولله فيها الحجّة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله » .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إن الله طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه ، وحجته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا » .

فظهر ممّا ذكر أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كما أشارت إلى ذلك الزّيارة وكذلك الأئمة عليهم‌السلام لأنّهم نور واحد ، وأنّهم حجج الله تعالى على جميع العوالم ، أي انّهم الحجج على جميع من في الوجود مما دون العرش إلى ما تحت الثرى ثم إنهم حجج الله تعالى على الكل بجميع أقسام الحجية من القول المتضمّن للبرهان العقلي ، والعمل الدال على صدق المدعى ، فهم عليهم‌السلام حجج الله تعالى قولاً وفعلاً وصفة ، وأثبتوا كونهم حجة الله تعالى بالأُمور القطعية الدالة عليها وأهمها كون قولهم مطابقاً للعقل والبرهان والمعجزات الصادرة عنهم دالة على صدق دعواهم ، والكتب مشحونة بمعجزاتهم بنحو تبهر منه العقول كما لا يخفى على المتتبع للآثار ، والله الموفق إلى طاعته والعمل له .

١٢٢

مِنَ الْأَوْصِيآءِ

________________________________________________

الوصي : ففي المجمع : الوصية من وصي يصي إذا وصل الشيء بغيره ، لأن الموصي يوصي تصرفه بعد الموت بما قبله وعن القاموس : اوصاه ووصّاه توصية عهد إليه .

أقول : ان الله عزّ وجل أعطى الإمام للحسين عليه‌السلام منزلة ومقام بحيث جعله حجّة على جميع الخلق من الأوصياء وأوصله الله إلى نفسه تعالى وعهد إليه في ماله من التصرف الثابت لله تعالى من الولاية التشريعية والتكوينية وعهد إلى الإمام الحسين عليه‌السلام بذلك الاتصال والاستنابة .

ثم ان ثبوت الوصاية للإمام الحسين عليه‌السلام بل لجميع الأئمة عليهم‌السلام أمر ثابت بالتواتر من طرق العامة والخاصّة بل هو ثابت بالآيات القرآنية الدالة على ثبوت الوصاية والولاية لأمير المؤمنين وللأئمة عليهم‌السلام كآية التبليغ وآية إنما وليكم الله واطيعوا الله واطيعو الرسول واُول الأمر منكم وغيرها فإنها تعطي مقام الخلافة والوصاية لهم كما لا يخفى .

ثم ان الوصية تطلق على معنيين :

أحدهما : على الوصي الذي ينوب عن المنوب عنه فيما هو شأنه وعمله ومنصبه .

وثانيهما : على الوصية بالنسبة إلى مواريث لأنبياء من الكتب وساير ما به ثبوت نبوتهم بنقل هذه إلى من بعدهم وإن كان الموصي إليه نبياً أو وصياً .

وعن الصادق عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا سيّد النبيين ووصي سيد الوصيين وأوصيائي سادة الأوصياء ، إن آدم سأل الله عزّ وجل أن يجعل له وصيّاً صالحاً ، فأوحى الله عزّ وجل إليه : « إني اكرمت الأنبياء بالنبوة ثم اخترت خلقي وجعلت خيارهم الأوصياء ... » (١) الخ .

__________________

(١) اكمال الدين ١ : ٢١١ / ١ .

١٢٣

.......................................................................................

________________________________________________

وفي صحيح البخاري بطريقين أولهما إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله يقول يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ثم قال كلمة لم أسمعها قال أبي قال : كلهم من قريش (١) . ورووا عن ابن عباس قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين حضرته الوفاة وقلت إذا كان ما نعوذ بالله فإلى مَن ؟ فأشار بيده إلى علي وقال هذا مع الحق والحق معه ثم يكون من بعده إحدى عشر إماماً (٢) . ورووا عن عائشة أنها سُألت كم خليفة لرسول الله فقالت : أخبرني انه يكون من بعده إثن عشر خليفة (٣) ومن المعلوم أنه لا يمكن حمل هذه الأخبار على خلفاء الجور لزيادة عددهم من قريش على ذلك أضعافاً مضاعفة مع أن جملة منها صريحة في اتصال الاثنى عشر بآخر الزمان وفي بعضها آخرهم المهدي . ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أوصيائي من بعدي عدد أوصياء موسى أو حواري عيسى وكانوا إثنى عشر (٤) . وعن ابن مسعود عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : ان أوصيائي من بعدي عدد نقباء بني إسرائيل وكانوا إثنا عشر . وروى (٥) علامة زمخشرهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : فاطمة ثمرة فؤادي وبعلها نور بصري والأئمة من ولدها أُمناء وحي وحبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم بهم نجى ومن تخلف عنهم هوى (٦) ومن مستطرفات الآثار

__________________

(١) البخاري : ٧٢٩ ، الباب ١١٤٨ ، الحديث ٢٠٣٤ ، ط . بيروت .

(٢) راجع إحقاق الحق : ج ١٣ .

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٩٨ .

(٤) الحاكم ٤ : ٥٠١ .

(٥) سنن أبي داود ٤ : ١٠٦ وقريب منه في كنز العمال ١٢ : ٣٣ ، الحديث ٣٣٨٥٩ .

(٦) ويدل عليه ما في المناقب للزمخشري منقولاً عن احقاق الحق : ج ١٣ في نبذة مما ورد في فضائل أئمة أهل البيت .

١٢٤

.......................................................................................

________________________________________________

ما يحكى عن بعض الاُمراء انه لما عثر على هذه الأخبار من طرقهم سئل علمائهم عنها مورداً عليهم انه ان عنى مطلق قريش فعدد سلاطينهم فوق ذلك أضعافاً مضاعفة وان أراد غير ذلك فبينوه فاستمهلوه عشرة أيام فامهلهم فلما حل الوعد تقاضاهم الجواب فحاروا وافتقد منهم رجلاً مبرزاً فطلب الأمان فاعطاه الأمان فقال هذه الأخبار لا تنطبق إلّا على مذهب الشيعة الاثنى عشرية ولكنها أخبار آحاد لا توجب العمل فرضى بقوله وأنعم عليه فانطقه الله بالحق ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (١) ولعمري أنها أخبار متواترة قد إتفق عليها الفريقان وحفظها في كتبهم وصحاحهم مع إقتضاء الحال إخفائها وإعدامها أدل دليل وأصدق شاهد على صدقها وصحتها وليتهم أتوا بخبر واحد يدل على حقيقة خلافة أئمتهم وأن شهد الوجدان وقام البرهان على خلافه مع انهم رووا بأسانيد عديدة عنه أنه قال : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » وفيه أبين دلالة على بقاء الأئمة إلى انقضاء التكليف وأن الإمامة من أُصول الدين وهو لا ينطبق إلّا على مذهبنا ، وروي أن هذا الحديث صار سبباً لتشيع بعض المخالفين .

__________________

(١) سورة الملك : ١١ .

١٢٥

فَاَعْذَرَ في الدُّعآءِ

________________________________________________

أعذر في الأمر : أي بالغ وأعذر فلان أي أبلى عذراً فلا يُلام ، وفي المثل أعذر من أنذر يقال ذلك لمن يُحذّر أمراً يُخاف وقد ورد في الدعاء عند دخول شهر رمضان : « يا من أعذر وأنذر ثم عدت بعد الاعذار والانذار في معصيته ... » .

وقوله تعالى : « عذراً أو نذراً » أي حجة وتخويفاً .

وفي حديث علي عليه‌السلام وهو ينظر إلى ابن ملجم : عذيرك من خليلك من مرادي ، أي هات من يعذرك فيه (١) .

وعليه فالإمام الحسين عليه‌السلام بالغ في هداية الخلق ودعاهم إلى الله تعالى بحيث أعذر في الدعاء وأتم الحجة عليهم ، ثم أن قول الإمام الصادق عليه‌السلام في الزيارة : « فاعذر في الدعاء » ، لما كان الأئمة عليهم‌السلام خزّان علمه وحملة كتابه وعلمه ومستودع سرّه واُمناء أمره ونهيه فبلَّغوا عن أمر الله تعالى ما أمرهم بتبليغه حتى اعلنوا دعوته ، واوضحوه بتمام الوضوح بحيث لا يبقى لاحد جهل أو شك في الحقائق الإلهية التي منها كونهم عليهم‌السلام حجج الله على الخلق بأمر الله تعالى فيجب على الخلق متابعتهم والتسليم لهم عليهم‌السلام وحاصل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « فاعذر في الدعاء » ان الحسين عليه‌السلام بين وأوضح إنه حجة الله على خلقه ، وأتم الحجة عليهم وبين أن أعداءه هم أعداء الله تعالى وأعداء رسوله وهدفهم ابادة الدين والاسلام كما أشار إلى ذلك في كثير من خطبه وعلى أي حال فالإمام الحسين عليه‌السلام بيّن عذره عليه‌السلام بخطبة في يوم عاشوراء وكذلك في قيامه بالحرب مع أعدائه التابعين ليزيد لعنهم الله وأوضح إنه حجة الله تعالى . فله عليه‌السلام العذر والحجة في قيامه عليه‌السلام

__________________

(١) مجمع البحرين .

١٢٦

.......................................................................................

________________________________________________

الحرب معهم ولا عذر ولا حجة لهم بما قاموا على قتله ، فلذا قال الإمام الحسين عليه‌السلام بعد اتمام الحجة عليهم ـ فبم تستحلون دمي ـ فقالوا لعنهم الله نقتلك بغضاً منّا لأبيك . ويدل على أنهم عليهم‌السلام حجج الله على خلقه وانهم المعلنون والمبيّنون للدعوات الإلهية بحيث لا يبقى لأحد من مخالفيهم العذر والحجّة لما اعتقدوا وعملوا من ظلم أهل البيت عليهم‌السلام .

عن الكافي في صحيح محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حق إلّا ما خرج منّا أهل البيت وإذا تشعبت بهم الأُمور كان الخطاء منهم والصواب من علي عليه‌السلام .

١٢٧

وَمَنَحَ النُّصْحَ

________________________________________________

المنح : العطاء يقال منحته منحاً : أي أعطيته .

النّصح : الخلوص ، وفي الحديث : إن الدين النّصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين عامتهم ، قال ابن الأثير : النّصيحة كله يعبّر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له .

والنّصيحة لكتاب الله : هو التصديق به والعمل بما فيه .

ونصيحة الرّسول : التّصديق بنبوّته ورسالته والإنقياد لما أمر به ونهى عنه (١) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الدين النّصيحة ، قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما أخلص المودّة من لم ينصح ، وعنه عليه‌السلام : المؤمن غريزته النّصح .

وعنه عليه‌السلام : لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبّون النّاصحين (٢) .

فإنّ الإمام الحسين عليه‌السلام منح النصح للناس وللمؤمنين سواء في السّر أو العلانية كما ورد في زيارة الجامعة « ونصحتم له في السرّ والعلانية » .

والمراد بالسرّ يعني فيما بين الله وبين نفسه عليه‌السلام في معاملته مع الله تعالى ، وفي العلانية : يعني معاملته مع الناس باعترافهم بالعبوديّة له تعالى ، وتعليمهم سبيل عبوديّته .

__________________

(١) لسان العرب ، مادة ( نصح ) .

(٢) ميزان الحكمة ، حرف النون .

١٢٨

.......................................................................................

________________________________________________

وقال عليه‌السلام في يوم الطف مخاطباً جيش عمر بن سعد : ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون .

فالإمام الحسين عليه‌السلام أرشدهم ونصحهم إلى عبوديّة الله تعالى وشرائع دينه والحث على نفي الأنداد والشرك في مواقف وخطب كثيرة ، راجياً هدايتهم وتحريضهم على طاعة الله عزّ وجل وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اللّحظات الأخيرة من حياته عليه‌السلام كان ناصحاً للأُمة بخطبه المباركة ، ففي الخبر لمّا نظم الحسين عليه‌السلام جيشه الباسل ركب راحلته وعليه آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سيفه ونعله وعمامته وجواده وتقدّم ازاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّها السّيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً بإزاء القوم ومعه صناديد العرب ، وصاح بأعلى صوته :

يا أيها الناس ، إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ، وحتّى أعذر إليكم فإن أعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم إقضوا إليّ ولا تنظرون ، إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين .

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وذكر بما هو أهله وصلّى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يسمع متكلّم قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ثمّ قال :

أمّا بعد ، فانسبوني وانظروا من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ، ألست أنا إبن بنت نبيكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق برسول الله وبما جاء به من عنده ، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الطيّار عمّي ، أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنة ، فإن صدقتموني بما أقول وهو الحقّ

١٢٩

.......................................................................................

________________________________________________

والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله . وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي ، أما من هذا حاجز لكم عن سفك دمي .

ثم قال عليه‌السلام : أين عمر بن سعد ، فجاء إليه ، فقال يا عمر : أنت تقتلني وتزعم انّه يوليك الدّعي بن الدّعي بلاد الري وجرجان ؟ والله لا تتهنّأ بذلك أبداً عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فأنت لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم ، فغضب اللعين وقال : ما تنتظرون إحملوا عليه ، إنما هي أكلة واحدة ، ثم أخذ سهماً ورمى مخيّم الحسين عليه‌السلام وقال : إشهدوا عند الأمير فإني أوّل من رمى الحسين (١) .

قال الراوي : فما بقى من أصحاب الحسين عليه‌السلام أحد إلّا أصابه سهم أو سهمين من تلك السّهام فقال الحسين لإصحابه : قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابدّ منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم (٢) .

__________________

(١) ثمرات الأعواد : ٢٦٦ .

(٢) نفس المهموم : ٢٥٠ .

١٣٠

وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ

________________________________________________

البذل : ضد المنع وبذل بذلاً : سمح وأعطاه وجاد به ، وفي الحديث : شيعتنا المتباذلون في ولايتنا ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام عليكم بالتّواصل والتباذل . وبذل : اباحة عن طيب نفس .

المهجة : دم القلب ولا بقاء للنّفس بعد ما تراق مهجتها .

وفي المجمع : دم القلب والروح ، ومنه يقال : خرجت مهجته ، أي : روحه .

وفي الحديث : لو يعلم النّاس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج ، وخوض اللّجج (١) ، إنّ أرقى درجة يصل الإنسان بها إلى الله تعالى ويكون فانياً في الله تعالى هو أن يقدم ويبذل جميع ما عنده من وجوده وحياته ومهجته في سبيل الله تعالى عن شوق وطيب نفس .

كما حصل ذلك لأبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

أعطى الّذي ملكت يداه إلهه

حتّى الجنين فداه كلّ جنين

حيث مع كثرة المصائب التي مرّت عليه من قتل أولاده واخوته وأهل بيته وأعز أصحابه ولكن كان رابط الجأش مسلّم أمره لله تعالى ، كما قال بعض الروات : ما رأيت مكثوراً قط ، قد قتل منه ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً من الحسين عليه‌السلام ، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله .

قال الشاعر (٢) :

فتلقّى الجمع فرداً ولكن

كلّ عضو في الروع منه جموع

زوج السيف بالنفوس ولكن

مهرها الموت والخضاب النجيع

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ( مهج ) .

(٢) السيد حيدر الحلّي .

١٣١

.......................................................................................

________________________________________________

بل أكثر من هذا أنّ النّصر رفرف على رأسه مع بقاء منزلته من الشهادة ، ولكن رجح لقاء ربّه ، كما ورد في أسرار الشهادة (١) : لمّا رأى الحسين عليه‌السلام وحدته وقتل أنصاره ، ودّع عياله وأطفاله ، وخرج إلى الميدان ، وبقي واقفاً متحيراً ، ينظر مرّة إلى إخوته وأولاده وبني أخيه وبني عمّه ، صرعى مقتولين مجدّلين ومرّة ينظر إلى غربته ووحدته وإنفراده ، ومرّة ينظر إلى النّساء وغربتهنّ ووحدتهنّ وعطشهنّ ، وما يرجعن إليه من الأسر والذّل ، ومرّة ينظر إلى شماتة الأعداء وتصميمهم لقتله ، فنادى بصوت عال حزين :

أما من ناصر ينصرنا ، أما من مغيث يغيثنا ، هل من موحّد يخاف الله فينا ، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا نادى هذا النّدا تزلزلت أركان العرش وقوائمه ، وبكت السماوات وضجّت الملائكة ، واضطربت الأرض فقالوا بأجمعهم : يا ربّنا هذا حبيبك وقرّة عين حبيبك ، فأذن لنا بالنّصرة ، وهو في هذه الحالة إذا وقعت صحيفة قد نزلت من السّماء في يده الشريفة ، فلمّا فتحها ونظر فيها إذا هي العهد المأخوذ عليه بالشهادة قبل خلق الخلق في هذه الدنيا ، فلمّا نظر عليه‌السلام إلى ظهر تلك الصّحيفة ، فإذا هو مكتوب فيه بخطّ واضح جلي ، « يا حسين نحن ما حتمنا عليك الموت ، وما الزمنا عليك الشهادة ، فلك الخيار ولا ينقص حظك عندنا ، فإن شئت أن نصرف عنك هذه البلية ، فاعلم إنا قد جعلنا السماوات والأرضيين والملائكة والجن كلهم في حكمك فأمر فيهم بما تريد من إهلاك هؤلاء الكفرة الفجرة لعنهم الله » ، فإذا بالملائكة قد ملؤوا ما بين السّماوات والأرض بأيديهم حراب من النّار ، ينتظرون لحكم الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) أسرار الشهادة للدربندي ٣ : ١١ .

١٣٢

.......................................................................................

________________________________________________

وأمره فيما يأمرهم به من إعدام هؤلاء الفسقة ، فلمّا عرف عليه‌السلام مضمون الكتاب ، وما في تلك الصّحيفة رفعها إلى السّماء ورمى بها إليها وقال : إلهي وسيّدي وددت أن أُقتل وأحيى سبعين ألف مرّة في طاعتك ومحبتك سيما إذا كان في قتلي نصرة دينك وإحياء أمرك وحفظ ناموس شرعك ، ثمّ إنّي قد سئمت الحياة بعد قتل الأحبّة ، وقتل هؤلاء الفتية من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يأذن للملائكة بشيء وباشر الحرب بنفسه الشريفة ، وزلف نحو القوم وكما قال في اللحظات الأخيرة من حياته :

تركت الخلق طرّاً في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

ولو قطّعتني في الحبّ إرباً

لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

فالإمام الحسين عليه‌السلام فدا نفسه وتحمّل المشاق والأذى في سبيل مرضاة الله تعالى .

بذلاً : أي بدون بدل وعوض وبدون طلب جزاء منه تعالى ، وكما ورد في زيارة الجامعة : « وبذلتم أنفسكم في مرضاته ، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه » .

فإنهم لم يبذلوا أنفسهم في سبيل الله من جهة الشهادة فقط ، بل بذلوا أنفسهم حتى في الاجتهاد في العبادة والمداومة عليها وبإظهار الطاعات وإعلاء كلمة الله وتشيد الدّين مع تحمّل المشاق والأذى لله تعالى لكونه أهلاً لذلك ، كما في الحديث : « وأمّا نحن فنعبده حبّاً له » ، وكما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك » .

١٣٣

.......................................................................................

________________________________________________

وكيف كان فقد بذلوا أنفسهم في مرضاة الله تعالى حتّى أضرّوا بأنفسهم في المأكل والمشرب والمطعم والملبس ، كما ورد في أحوال ولده علي بن الحسين عليه‌السلام وسائر الأئمة من مجاهداتهم مع أنفسهم ومن عباداتهم وبكائهم وخشوعهم وزهدهم وورعهم والقيام بالجهاد في سبيل الله والجهاد مع النفس وضدّ الكفّار حيث ما اقتضى التكليف الإلهي .

فإنّهم بلغوا في هذه المجاهدات بحيث ضربت بهم وبعبادتهم ومجاهدتهم عليهم‌السلام الأمثال ، بين المؤالف والمخالف بحيث يعجز العقل من دركها ، ومن الجوع من الصّيام ، حتى ربّما بقوا ثلاثة أيام صائمين لم يفطروا إلّا بالماء ، وربما كانوا يربطون حجر المجاعة على بطونهم ، وتحمّلوا من مخالفيهم في هذا المقام من معاداة الباغين الكافرين والمنافقين حتّى جرى عليهم القتل والشهادة والسجن وسائر أنواع الظّلم .

١٣٤

لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ

________________________________________________

ان الإمام الحسين عليه‌السلام ثار من أجل الحق ومن أجل انقاذ البشرية من الجهل والعبودية للطغاة والظلمة ، وترك خطاً ساخناً للاُمة أن تعيش حرّة ، فقد ثار تلك الثورة الجبارة ضد الجبابرة والطغاة ولم تكن له أي حاجة في السلطنة أو الرئاسة وإنما الدنيا وما فيها من السلطنة عنده كعفطة عنز إلّا لاحقاق حق كما قالها أبوه أمير المؤمنين عليه‌السلام وإنما أراد بنهضته انقاذ البشرية واحياء الشرع الإسلامي المقدس من مخالب بني اُمية ، لأن يزيد قد ارتكب جميع المحرمات ولم يكن أحد من المسلمين ان ينكر عليه أفعاله .

فيا ذلة الاسلام من بعد عزّه

إذا كان والي المسلمين يزيد

قال المسعودي في مروج الذهب المجلد الثاني : كان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود ومداومة على الشرب فقد مارس الرذيلة بكل أشكالها حتى بنو اُمية فقد كانوا معلنين الفسق والفجور في جميع البلاد الإسلامية ولذا ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٠٨ : لا يزال أمر اُمتي قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني اُمية يقال له يزيد .

ولذلك قام الإمام الحسين عليه‌السلام لانقاذ العباد من يزيد وأمثاله ، وخطب تلك الخطبة البليغة حيث قال عليه‌السلام : « ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً فإني لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الضالين إلّا برماً ، أيها الناس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رأى سلطان جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله ان يدخله مدخله إلّا وإن هؤلاء لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله . هذا هو صوت الحسين عليه‌السلام هذا هو صوت الحق من سمع واعيتنا أهل البيت ولم يعنّا أكبّه الله على منخريه في النار » .

١٣٥

وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ

________________________________________________

الحير : من حار يحار حيرة أي تحيّر في أمره ولم يكن له مخرج فمضى وعاد إلى حاله والحَيَر : الكثير من كل الشيء (١) .

الضلالة : ضد الهدى والرشاد ، والضلال : الضياع ، منه قوله تعالى : ( ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ادنى ما يكون به العبد ضالاً أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى ، وشاهده على عباده الذي امر الله عزّ وجل بطاعته وفرض ولايته .

فالإمام الحسين عليه‌السلام بشهادته أراد أن يبين للأُمة والأجيال القادمة أن الطاعة لولي الأمر التي فرض الله تعالى ولايته على الأُمة لابد أن يكون منصوصاً من قبل الله تعالى ، وأن يكون هو الحجة على العباد لا كل من أخذ دسه الحكم ولو بالقمع والحديد أمثال يزيد وأشباهه والذي عبّر عنه الإمام الحسين عليه‌السلام : ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة ، فإن طاعته طاعة ضلال كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ادنى ما يكون به العبد ضالاً ان لا يعرف حجة الله تعالى .

فالإمام الحسين عليه‌السلام بيّن للأُمة من هم أئمة الجور والضلالة ومن أئمة الحق والهداية الذي فرض الله تعالى متابعتهم ، ورفض بل محاربة أئمة الجور والضلال الذين كفروا بالله وبرسوله وضلوا ضلاً بعيداً ، قال تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (٢) .

__________________

(١) مجمع البحرين ولسان العرب ، مادة ( حير ) .

(٢) سورة الأنعام : ١١٦ .

١٣٦

.......................................................................................

________________________________________________

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان : رجل وكّله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كاقبله مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته بعد وفاته ، حمّال خطايا غيره رهين بخطيئته (١) .

__________________

(١) ميزان الحكمة ، ج ٥ ، حرف الضاد .

١٣٧

وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا

________________________________________________

توازر : الوزر : الحمل الثقيل من الإثم ، واتّزر الرّجل : ركب الوزر وحمل الإثم الثّقيل ، وقوله تعالى : ( حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) أي حتّى يضع أهل الحرب السّلاح ، وسمّي السلاح وزراً لأنه يحمل .

والموازرة على العمل : المعاونة عليه ، يقال : وازرته ، أي أعنته وقويته ، ومنه سمي الوزير .

غرّته : غرّته الدّنيا : خدعته بزينتها .

والغرور : ما إغترّ به من متاع الدنيا ، والغرور بالضمّ : الأباطيل ، وبالفتح الشيطان والدّنيا ، ومنه قوله تعالى : ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) أي : أي شيء غرّك بخالقك وخدعك وسوّل لك الباطل حتّى عصيته وخالفته ، قال ابن السّكيت : والغرور ما رأيت له ظاهراً تحبّه وفيه باطن مكروه ومجهول (١) .

الدُّنيا : نقيض الآخرة ، وهي إسم لهذه الحياة لبعد الآخرة عنها ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّما سميت الدُّنيا دنيا لأنها أدنى من كلّ شيء ، وسميت الآخرة آخرة لأنّ فيها الجزاء والثّواب (٢) .

سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمَ سمّيت الدنيا دنيا ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأنّ الدُنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة ، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة ، قال السّائل : فاخبرني لم سمّيت الآخرة آخرة ؟ قال (٣) : لأنها متأخّرة جيء بعد الدنيا ، لا توصف سنينها ولا تحصى أيّامها ، ولا يموت سكّانها (٢) .

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ( غرر ) .

(٢) و (٣) ميزان الحكمة ، حرف النون .

١٣٨

.......................................................................................

________________________________________________

إنّ من أهمّ الأسباب في إنزلاق الإنسان وانحرافه في هذا الدنيا هو ضعف النفس في قبال شهوات الدنيا ، وكما قال تعالى : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) (١) ، وقال تعالى : ( فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ ) (٢) .

ولذلك وردت جمهرة من الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تحذّر الإنسان من أن يغتر بالدّنيا .

ورد في حديث المعراج : أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه ، قليل الرّضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ، ولا يقبل معذرة من إعتذر إليه ، كسلان عند الطّاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد ، وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه ، قليل المنفعة ، كثير الكلام ، قليل الخوف ، كثير الفرح عند الطّعام ، وإن أهل الدنيا لا يشكرون عند الرّخاء ، ولا يصبرون عند البلاء ، كثير النّاس عندهم قليل ، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون ، ويدّعون بما ليس لهم ويتكلّمون بما يتمنّون ، ويذكرون مساوي الناس ويخفون حسناتهم ، قال : يا رب ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا ؟ قال : يا أحمد إن عيب أهل الدنيا كثير ، فيهم الجهل والحمق ، لا يتواضعون لمن يتعلّمون منه وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء (٣) .

وقال عليه‌السلام : أحذّركم هذه الدنيا الخدّاعة الغدّارة التي قد تزيّنت بحليّها وفتنت بغرورها ، فأصبحت كالعروس المجلوّة والعيون إليها ناظرة .

وقال عليه‌السلام : إحذروا الدنيا فإنّها عدوّة أولياء الله ، وعدوّة أعدائه ، أمّا أولياؤه فغمتهم ، وأمّا أعداؤه فغرّتهم .

__________________

(١) سورة الأعلى : ١٦ .

(٢) سورة لقمان : ٣٣ .

(٣) ميزان الحكمة ، حرف الدال .

١٣٩

.......................................................................................

________________________________________________

وعنه عليه‌السلام في صفة الدنيا : تغرّ وتضرّ وتمرّ ... إن أقبلت غرّت وان أدبرت فرّت .

قال تعالى : ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) (١) فإنّ الآية تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدع أُولئك الذين يستهينون بأمر دينهم ويتّخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهباً لهم ويغترّون بالدنيا وبمتاعها المادّي ، فإنّ الله تعالى يأمره أن يذرهم ويبتعد عنهم لأنّهم عبيد الدنيا والمادة واغترّوا بها ، وكما قال الإمام الحسين عليه‌السلام : « إنّ الناس عبيد الدنيا والدّين لعقاً على أسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم ، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الدّيانون » (٢) .

وقال عليه‌السلام : وجد لوح تحت حائط مدينة من المدائن فيه مكتوب : أَنا الله لا إله إلّا أنا ومحمّد نبيّ ... عجبت لمن اختبر الدنيا كيف يطمئن (٣) .

وعن كنز العمال عن إبن عباس : في حديث قال عمر : فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على اُمتك ، فقد وسّع على فارس والرّوم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً ، ثمّ قال : أفي شكّ أنت يابن الخطاب ؟ أُولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا .

__________________

(١) سورة الأنعام : ٧٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٤٥ .

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٤٤ / ١٥٨ .

١٤٠