نافذة على زيارة القبور

السيّد فاروق الموسوي

نافذة على زيارة القبور

المؤلف:

السيّد فاروق الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات دار العلم آية الله بهبهاني
المطبعة: البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8300-11-6
الصفحات: ٢٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

في الصحاح والمسانيد والكتب والأسفار ، وإلى يومنا هذا.

لقد ظنّ بنو اُميّة أنّهم سيُميتوا الوحي بقتلهم الحسين ، وسيُخمدوا جذوة الدين ، وسيُعيدوا المسلمين إلىٰ الوراء ، ولكن خابت ظنونهم ، وهكذا ظنّ من جاء بعدهم.

فالدين باقٍ ما بقي الليل والنهار ، حيث لجؤوا إلى قبر الحسين عليه‌السلام ، حين رأوا أنَّ هناك من يزوره ، ويجدد العهد معه ، فعملوا على طمس معالمه ورفع آثاره ، وامتدّت الأيادي الأثيمة إلى قتل الأئمة الهداة الميامين سُمّاً ، ومع هذا خابت الظنون ، وباءت المحاولات بالفشل ، وبقي الدين حيّاً يقارع الباطل.

وأمّا بنو العباس : فما فعلوه فهو يضاهي أضعاف أضعاف ما عمله بنو اُميّة ومن غير اتّعاظ ، فهم كسابقيهم باؤوا بالفشل الذريع أيضاً ، وهكذا من جاء بعدهم ومن يجيء ليبوء بالفشل.

فالرشيد ـ عليه لعائن الله تعالى ـ خرّب القبر الشريف ، وقطع السدرة التي كانت نابتة عند مرقده الطاهر للاستدلال على القبر الشريف ، وكرب موضع القبر ، فهل اندرس القبر وضاعت معالمه ؟ وهل انتقص شيء ممّا عليه الحسين من الجاه الوجيه والمقام الجليل ؟

قطعاً لا ، وألف لا ، فقد زاد رسوخاً في القلوب والأذهان ، وباتت حقيقة الأعداء الحاقدين على الإسلام والحاسدين لسيد شباب أهل الجنّة أكثر فأكثر ، حيث جعل الإسلام كرامةً له ميتاً ككرامته حيّاً ، وإعرض عن الذين في قلوبهم مرض ، إلى يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار.

وإنَّ ما حصل في زمن المأمون وغيره ليس إلّا تغظيةً لِما حدَث ، لا من قبيل الاعتراف بالحقِّ والحقيقة ، وإلّا لِمَ سُمَّ الرضا والجواد ومن جاء

٢٢١

بعدهم صلوات الله عليهم ؟ ولِمَ اُدِعَ السجنَ الإمام الكاظمُ والعسكري صلوات الله عليهما ثمَّ دُسَّ إليهما السُمَّ ؟

وأمّا المتوكِّل المتجاهر بقبيح المعاملة ووزيره ـ عليهما لعائن الله ـ هو الآخر دليلٌ لا ينكر وحجة عليهم في الدنيا والآخرة ، وهو الآخر كما كان سبباً في بيان فضل الحسين وأهل البيت عليهم‌السلام ، « فأمر بتخريب قبر الحسين عليه‌السلام وقبور أصحابه ، وكرب مواضعها ، وأجرى الماء عليها ، ومنع الزوار عن زيارتها ، وأقام الرصد ، وشدَّد في ذلك ، حتى كان يقتل من يوجد زائراً ، وولّىٰ ذلك رجلاً كان أصله يهوديّاً » ، كما أسلفنا ذكره آنفاً.

فالرشيد كرب القبر الشريف وهدم ما عليه من بناء ، ولم يحصل إلّا على الخيبة والخسران ، ولم يتّعظ مَن جاء بعده... .

والمتوكِّل كرب القبر الشريف ، وفعل ما فعل ، ولم يحصل إلّا على الخيبة والخسران ، ولم يتّعظ مَن جاء بعده... .

وسيأتيك الدليل.

« قام بأمره بعده ابنه المنتصر ، فعطف على آل أبي طالب ، وأحسن إليهم ، وفرّق فيهم الأموال ، وأعاد القبور في أيّامه ، إلى أن خرج الداعيان : الحسن ومحمد ابنا زيد بن الحسن ، فأمر محمد بعمارة المشهدين : مشهد أمير المؤمنين ، ومشهد أبي عبدالله عليهم‌السلام ، وأمر بالبناء عليهما ، وبعد ذلك زِيدَ فيهما ، وبلغ عضد الدولة بن بويه رحمه‌الله الغاية في تعظيمهما ، والأوقاف عليهما ، وكان رضي‌الله‌عنه يزورهما كلّ سنة » (١).

الصراع قائم ـ كما أسلفنا ـ بين الحقّ والباطل ، وسيبقى حتى ظهور صاحب العصر والزمان عليه‌السلام ، والحقّ متمثّل بمحمدٍ وآل محمدٍ صلوات الله

___________________________________

١ ـ تسلية المجالس : ٢ / ٤٧٤.

٢٢٢

عليهم جميعاً ، والباطل فيمن خالفهم.

محمد وآل محمدٍ ـ صلوات الله عليهم جميعاً ـ أحياء وأموات ، ومن خافهم من الأحياء والأموات لذا نرى التغيير والتزوير والحذف والإضافة ، والتأويل والتعليل ، وأمّا ما يخصّ الأموات ، فهذا يهدم وذا يبني ، وهذا يأمر وذا ينه ، فكم مرّة قام البناء على المشاهد ، وكم اُخرى هُدِم ؟

« وروى شيخنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رضي‌الله‌عنه في أماليه قال : أخبرنا ابن خشيش ، قال : حدّثنا محمد بن عبدالله ، قال : حدّثني محمد بن جعفر بن محمد بن الفرج الرخجي ، قال : حدّثني أبي ، عن عمّه ( عمر بن فرج ) ، قال : أنفذني المتوكِّل في تخريب قبر الحسين عليه‌السلام ، فصرت إلى الناحية ، فأمرنا بالبقر يُمَرُّ بها على القبور فمرّت عليها كلّها ، فلمّا بلغت قبر الحسين عليه‌السلام لم تمرّ عليه.

قال عمّي عمر بن فرج : فأخذت العصا بيدي ، فما زلت أضربها حتى انكسرت العصا بيدي ، والله ما جازت على قبره ، وكان هذا الرجل شديد الانحراف عن آل محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

تأمّل أخي القارئ العزيز : البقر حيوان طالما يستعمل للحراثة في ما مضى وحاضراً ، ولا يميّز في عمله ، فما الذي منعه من عدم الجواز على قبر الحسين عليه‌السلام ، ولم يمنعه من الجواز على بقية القبور ، غير الحكمة ، وبيان ما للحسين عليه‌السلام من المقام ؟!

لماذا يتحمّل الضرب بالعصا ، وحتى تنكسر العِصِيّ ؟! فلو أنَّ إنساناً وقع تحت التعذيب ما كان ليصبر ، فما السِّر ؟ وما الحكمة من ذلك غير أنَّه ليُري الطغاة أنَّهم على خطأ ، وأنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع ؟!

___________________________________

١ ـ تسلية المجالس : ٢ / ٤٧٥ ، وأمالي الطوسي : ٣٢٥ ح ٦٥٢ ، عنه البحار : ٤٥ / ٣٩٨ ح ٨.

٢٢٣

فيلٌ وناقةٌ وبَقَر مواقفٌ يعجز عنها البشر !!

وإذا كان هناك من يحتمل ، فهل في الماء ما يحتمل ؟ فُتح على القبر فتأخّر ودار حائراً ولم يتقدَّم !

فهل من متّعظٍ ومعتبر ؟

هذا الحسين ابن بنت النَّبي ، وابن خير البشر ، سيبقى مشعلاً رغم العِدى ورغم من بحقّه كفر.

ناقة الإمام الرابع علي بن الحسين عليه‌السلام

روي أنَّه لمّا مات عليّ بن الحسين عليه‌السلام كانت له ناقة ، وقد حجَّ عليها اثنتين وعشرين حجّةً ما قرعها بمِقرعةٍ قطّ ، فجاءت إلىٰ قبر علي بن الحسين عليه‌السلام وضربت بجرانها على القبر وتمرّغت عليه ورقّت وهملت عيناها ، فأتىٰ محمد بن علي عليه‌السلام ، فقيل له : إنَّ الناقة قد خرجت إلى القبر فضربت بجرانها ورقّت وهملت.

فأتاها عليه‌السلام فقال : مَه ، الآن قومي بارك اللهُ فيكِ ، فثارت ودخلت موضعها ، فلم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر فضربت بجرانها ورقّت وهملت عيناها ، فأتى محمد بن علي عليه‌السلام ، فقيل له : إنَّ الناقة قد خرجت.

فأتاها عليه‌السلام ثانيةً فقال : مَه ، الآن قومي ، فلم تفعل ! قال : دعوها فإنَّها مُودَعَة ، فلم تلبث إلّا ثلاثة حتى نفقت ، أي ماتت (١).

وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي في الدرَّ النظيم :

___________________________________

١ ـ بصائر الدرجات : ٥٠٣ ح ١١ ، عنه البحار : ٤٦ / ١٤٧ ح ٢.

٢٢٤

كان سبب وفاة عليّ بن الحسين عليه‌السلام : أنَّ الوليد بن عبد الملك سَمَّه ، ولمّا دُفن ضربت امرأته على قبره فسطاطاً (١).

عجباً ! ناقة لا عقل لها وإدراك ، كما هو في البشر السَويّ ، تأتي القبر وتتمرّغ عليه ، وتهمل الدموع وفاءً واعترافاً.

وهناك من البشر من لا يقرّ ولا يعترف ، وهو يحمل عقلاً وحسّاً مرهفاً !

ناقة لا عقل لها ولا إحساس تمتثل الأمر وتعمل به.

وهناك من البشر من ليس بمستواها : ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) (٢).

ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يذبح كما يُذبح الكبش ، وتطأ الخيل جسده الشريف ، وتقطِّع أوصاله ، ويُدار رأسه الشريف على القناة من بلدٍ إلى آخر ، ثمَّ يمنع من دفنه ، ويحرث قبره ليندرس أثره ، ويدّعي البشر أنَّه من البشر !!

عجباً ! ناقة لا عقل لها ولا إحساس ، ولا تكليف ، تمرّغ نفسها بتراب القبر ، وتهمل الدموع تعبيراً عن ما فيها ! وفي عصر الذرّة ، وعصر الحضارة والتقدّم العلمي والتكنولوجي ، وفي عصر الحريّة لا زال هناك من يفكِّر بعقلية بني اُميّة وبني العباس !

هناك من يُصدِّر الأوامر بضرب الأضرحة والمراقد الشريفة بالصواريخ الثقيلة والمدافع ويدّعي أنَّه من صنف البشر !!

عجباً ! ما بالكم كيف تُفكِّرون ؟ وغداً بماذا تجيبون ؟ وبأيِّ عذر

___________________________________

١ ـ الدر النظيم ( مخطوط ) : الباب السادس ، فصل في ذكر وفاته عليه‌السلام.

٢ ـ الفرقان : ٤٤.

٢٢٥

تعتذرون ؟

وحقّاً أنتم كالأنعام ، بل أضلّ سبيلاً...

ومن عَلَّمَ الناقةَ أن تمرّغ نفسها على القبر ؟

من أجبرها على البكاء عند القبر ؟

من علّمها أن تزور القبر وتودّع ؟!

ما ارتكبه المتوكِّل بمرقد الإمام الحسين عليه‌السلام

في هذه السنة أمر المتوكِّل بهدم قبر الحسين بن علي عليه‌السلام ، وهدّم ما حوله من المنازل والدُور ، وأن يبذر ويُسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى عامل صاحب الشرطة بالناس في تلك الناحية : مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ حبسناه في المطبق !

فهرب الناس ، وتركوا زيارته ، وحُرِثَ وزُرع.

وكان المتوكِّل شديد البغض لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولأهل بيته عليهم‌السلام ! وكان يقصد من يبلغه عنه أنَّه يتولىٰ عليّاً وأهله بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المُخنَّث ، وكان يشدّ على بطنه ، تحت ثيابه ، مِخَدِّة ، ويكشف رأسه ، وهو أصلع ، ويرقص بين يدي المتوكِّل ، والمغنون يغنون :

قد أقبل الأصلع البطين ، خليفة المسلمين.

يقصد بذلك عليّاً عليه‌السلام ! والمتوكِّل يشرب ، ويضحك ، ففعل ذلك يوماً ، والمنتصر حاضر ، فأوما إلى عبادة بتهدّده ، فسكت خوفاً منه ، فقال المتوكِّل : ما حالك ؟ فقام وأخبره ، فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين ، إنَّ الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمّك ، وشيخ أهل بيتك ،

٢٢٦

وبه فخرك ، فكُلْ أنت لحمه إذا شئت ، ولا تُطعم هذا الكلب وأمثاله منه ! فقال المتوكِّل للمغنّين : غنّوا جميعاً :

غارَ الفتى لابن عمّهِ

رأسُ الفتى في حِرِّ اُمِّهِ

فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتل المتوكِّل.

وقيل : إنَّ المتوكِّل كان يبغض من تقدّمه من الخلفاء : المأمون ، والمعتصم. والواثق في محبّة عليٍّ وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة من اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجُهم ، الشاعر الشامي من بني شامة ابن لؤي ، وعمر بن فرج الرخجي ؛ وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة ، من موالي بني اُميّة ؛ وعبدالله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة.

وكانوا يخوّفونه من العلويين ، ويُشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم ، والإساءة إليهم ، ثمَّ حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين (١).

أليست المدينة المنورة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فلماذا أبحتموها ثلاثة في واقعة الحَرّة ؟ وقتلتم الصحابة الكرام ، وفسقتم ، وهتكتم الأعراض من النساء حتى ولد الاُلوف ممّن لا يُعرَف أبوه ، عشرة آلاف مسلمٍ قُتل من أهل المدينة وضواحيها ومن بقي ، حكمتم عليهم بالرقِّ والعبودية ليزيد الفاجر الكافر ، أبهذا تفخرون ؟

ألا تعساً لكم ولما جنته أيديكم وأيدي أسيادكم ، ومع كل هذه المآسي وهتك الحُرُمات ، يخرج علينا من يقول : إنَّ الحسين عليه‌السلام قُتل بسيف جدّه ، وإنَّ يزيد أمير المؤمنين مفترض الطاعة !

___________________________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ٧ / ٥٦.

٢٢٧

انتبهوا من غفلتكم قبل فوات الأوان ، وتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً ، فإنَّ غداً لناظره قريب !

أتدرون من تحاربون ، أم أنتم غافلون متغافلون ؟

أنتم تحاربون الله تعالى ، وقد حاربتم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتلتم أهل بيته بالسُّم والسيف ! فما بالكم ، أبهذا اُمرتم ، أم عن هذا نُهيتم ؟

ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

٢٢٨

مِن فَمِكَ اُدينُكَ

قال الخطيب البغدادي تحت عنوان : سلمان المحمّدي : وَلَم يَزل بالمدينةِ حَتىٰ غَزا المسلمونَ العراق ، فخرج معهُم وحضر فتح المدائِن ، ونزلها حتىٰ ماتَ بِها ، وقبرهُ الآن ظاهرٌ معروفٌ بقربِ إيوانِ كسرىٰ ، عليه بِناءٌ ، وهناكَ خادِمٌ مقيمٌ لحفظِ الموْضعِ وعمارتِهِ ، والنظرِ في أمرِ مصالحِهِ ، وقَد رأيتُ الموضعَ وزرتُهُ غَيرَ مَرةٍ (١).

نقول للخطيب البغدادي : هل زرت قالع باب خيبر وقاتِل مَرحبَ ؟

هَل زُرتَ قاتِلَ عمرو بن عبد وُدِّ العامِريّ ؟

هل زُرتَ صاحِبَ راية رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر غزاواته ؟

هَلْ زُرتَ ولو مرةً مرقد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؟

وَنَقُولُ : أَيّها الآمِر بحرثِ وَنَبْشِ قُبورِ آلِ محمّدٍ صَلواتُ الله عَلَيْهِم ،

وضربها بالصواريخ ، وتفخيخها وخرابها ، ماذا تقول في الخطيب البغدادي وهو يزور سلمان المحمّدي غير مرّةٍ ؟ أمِن عبّادِ القبُور هو ، أم ماذا ؟

قال الحاكم النيسابوري في المستدرك تحت عنوان : أبو أيوب الأنصاري :

وقبره بأصل حُصن القسطنطينية بأرض الروم فيما ذُكر ، يتعاهدون قبره ويزورونه ، ويستسقون به إذا قحطوا (٢).

نعم ، أبو أيّوب الأنصاري يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا ! ولكنّ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً تُضرب

___________________________________

١ ـ تاريخ بغداد : ١ / ١٦٣.

٢ ـ المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥١٨.

٢٢٩

قبورهم ، بعد أن ذُبحوا كالأضاحي ، وتُنبش قبورهم مرّاتٍ ومرّات ! عجباً لقومٍ ضلّوا وأضلّوا ، وارتدّوا حسداً وبغضاً وعناداً مابالهم لايفقهون ؟! أليسوا مسلمين أوائل ؟ أليسوا قادة الحُروب الإسلامية ؟! أليسوا هم من المبشَّرين بالجنة ؟ وهل على وجه الأرض غيرهم من هذه الدوحة المحمدية ؟ لابل من أولاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٍّ وفاطمة !

أيّها العاقل اللبيب ، لو وضعت أبو أيوب الأنصاري في الميزان ، أترجحُ كَفّته على عليٍّ وحمزة وجعفر ، وعلى سيّدي شباب أهل الجنة ؟

ما بال من يتسمّى بأسمائهم يُقتل وكأنّه العدوّ اللدود ؟ أمِنَ الإسلام هذا أم بماذا تتذرّعون ؟ لماذا لاتجتمع النبوة والخلافة والإمامة في بيتٍ واحد ، وتجتمعون أنتم على ضرب آل الرسول ؟! ألكم من القرآن آية ، أم من الحديث رواية ! كما قُلتم زوراً وبهتاناً وكذباً على الله وعلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نحن معاشر الأنبياء لانورّث » (١) ، والله تعالى يقول في محكم قرآنه المجيد : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (٢) ، ورث النبوة والملك.

وروى الحاكم في المستدرك قائلاً : حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا : العباس بن محمد بن حاتم الدوري ، ثنا : أبو عامر عبدالملك بن عمر العقدي ، ثنا : كثير بن زيد ، عن داود بن أبي صالح ، قال : أقبل مروان يوماً ، فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ماتصنع ؟ قال : نعم ، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رحمه‌الله ، فقال : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم آتِ الحجر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لاتبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكُوا عليه إذا وليه غير أهله » (٣).

ثمّ قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يُخرجاه.

___________________________________

١ ـ فتح الباري : ١٢ / ٦ ، عمدة القاري : ١٤ / ١٦٣.

٢ ـ النمل : ١٦.

٣ ـ المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٦٠.

٢٣٠

إذا كان هذا الحديث صحيح الإسناد ، فلمَ لَمْ يُخرجاه البخاري ومسلم إذا كانا يريدان وجه الله والتعريف بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! أليس هذا دليل على الانقلاب على الأعقاب ؟! وهذا الانقلاب لايضرّ الله شيئاً ، ولكنّ الحُجّة بالغة والدليل قاطعٌ.

نعم : وهل ترجو من مروان ، وأمثال مروان الحقيقة ؟ إنّه طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهل ترجو من الطليق وابن الطُلقاء غير تشويه الحقائق ؟

نحن لانزور الحديد ولا الذهب ولا الفضة ولا الحجارة أو المرمر ، ولكن نزور صاحب القبر تعظيماً له ، واعترافاً بفضله وجهاده.

أذرفوا الدموع على الدين ، فقد وليه ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب العاقّ ، الذي أوّل من تصدّ له أبوه وأخوه واُستاذُه !!

اعرفوا هؤلاء تعرفوا الحقيقة ، تعرفوا لماذا يُشتمُ ويُسبُّ ويُلعن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ؟!

قال الذهبي : صحيح.

الحديث صحيح ، وإلّا فالذهبي كذّاب ، والمستدرك على الصحيحين محشوٌّ بما لايليق ! ولكن لماذا لم يُخرجاه ؟ إنّها غاية دنيئة في نفس إسماعيل البخاري ومسلم النيسابوري يكشفها اُولو الألباب.

قال ابن الجوزي في المنتظم بشأن أبي حنيفة : وفي هذه الأيام من عام ( ٤٥٩ هـ ) بنىٰ أبو سعد المستوفي ـ الملقّب بشرف الملك ـ مشهد أبي حنيفة ، وعمل لقبره ملبّناً ، وعقد القبّة ، وعمل المدرسة بإزائه ، وأنزلها الفقهاء ، ورتّب لهم مدرّساً ، فدخل أبو جعفر ابن البيّاضي إلى الزيارة فقال ارتجالاً :

ألَمْ تَر أنّ العِلم كان مُضيَّعَاً

فجمَّعه هذا المغيَّب في اللَحد

٢٣١

كذلك كانت هذه الأرض مَيتةً

فأنشرها جودُ العميد أبي سعدِ

إلى أن قال : فلمّا جاء شرف الملك سنة ثلاثٍ وخمسين عزم على إحداث القبة وهي هذه ، فهدم جميع أبنية المسجد وما يحيط بالقبر وبنى هذا المشهد ، فجاء بالقطّاعين والمهندسين ، وقدّر لها ما بين اُلوف آجر ، وابتاع دوراً من جوار المشهد ، وحفر أساس القبّة (١).

عرضت هذه النصوص لتعرف ـ أخي القارئ ـ أنّ الناصب للإسلام ولأهل بيت الرحمة عليهم‌السلام العداء كم هو مشتبه ؟ وكم هو مغالط لنفسه وللآخرين في تعامله وكَيلِه بمكيالين ؟ وإنّي لا اُريد أن أعيب فلاناً من الناس أو علاناً ، ولكن كما قيل : الحرُّ تَكفِيهِ الإشارةُ !

البناء المشيَّد على قبر أبي حنيفة ، والمدرسة المحيطة بقبره ، والقبّة الشامخة والمِئذنة الشاخصة ، كلّ اُولئك لاتكفي أن نقول : ما الفرق بينها وبين ما نجدهُ في مشهد الإمامين العسكريّين الذي نُسفَ ، وبين ماهو في كربلاء والنجف الذي ضرب بالمدافع والدبابات ؟

أليس الشيخ عبدالقادر الگيلاني عليه ضريح وقبّة فضّية ومآذن ؟!

أليس له هناك مدرسة علمية ؟!

أليس القبر يزار ليل نهار ، وتأتيه الزوار من أنحاء العراق وخارجه ؟!

فلماذا تُنسَف وتُحرَث قبور أهل البيت عليهم‌السلام وتُعَزُّ قبور.... ؟

نترك لك الجواب أخي القارئ لتحكم : أيّ الفريقين على حق ؟ وكما قيل : ما اختلف اثنان إلّا وكان أحدهما على صواب. ولولا الإطالة لذكرت لك الكثير من هذا الباب ، وأتيتك بالصور التي تثبت ذلك.

ثم روى عن أبي الحسين ابن المهتدي أنّه يقول : لايصحّ أن يكون قبر أبي حنيفة في هذا الموضع الذي بنوا عليه القبّة ، وكان الحجيج قبل

___________________________________

١ ـ المنتظم : ٨ / ٢٤٥ ، عنه الغدير : ٥ / ٢٧٦.

٢٣٢

ذلك يردّون ويطوفون حول المقبرة ، فيزورون أبا حنيفة لايُعيِّنون موضعاً (١) ، وهذا يعني جواز الطواف بقبر أبي حنيفة وإن لم يكن ، ولا يخفى أنّ الكلّ يطوفون بحجر إسماعيل ، وهو قبر إسماعيل وهاجر وبنات إسماعيل وسبعين نبياً من الأنبياء عليهم‌السلام ، ولكنّ الذي يزور قبور الأنبياء والأئمة الهداة الميامين كافر يعبد الحجارة والحديد !!

الشافعي إمام مذهب الشافعية ـ وهو أحد المذاهب الأربعة ـ يقول : إنّي لأتبرّك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كلّ يومٍ ـ يعني زائراً ـ فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره ، وسألت الحاجة عنده ، فما تبعد عنّي حتى تُقضى (٢).

إنّ الذي يحدث عندنا لايزيد عمّا يأتيه الشافعي ، فما حدا ممّا بدا ؟

فتأمّل ما يقوله البغدادي بشأن موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام : روى البغدادي في تأريخه عن أبي علي الخلّال ( شيخ الحنابلة في عصره ) يقول : ماهمّني أمر فقصدت به قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهّل الله تعالى لي ما اُحبُّ (٣).

ونحن نُسمّيه ( بباب الحوائج ) ، وموسى الكاظم عليه‌السلام يراد به حفيده محمد الجواد عليهما‌السلام ، وهما باب الحوائج ولكن لمن عرف الله تعالى وعرف سبيل باب الحوائج ، لا لمن نصب العداء ، وبرأيي أنّ باب الحوائج عليه‌السلام هو باب حوائج البرِّ والفاسق ، ومَن شكّ في ذلك فليجرّب... ؟

أمّا الحاسد ، أمّا الحاقد ، أمّا الناصب ، أمّا الجاهل الذي يتّبع النفس الأمّارة بالسوء ، أمّا الذي باع ضميره ، ودينه ، فيسقي زوّار باب الحوائج اللبن السموم والماء المسموم ، ويرميهم بقذائف الهاون ، وقذائف البازوكا ،

___________________________________

١ ـ المنتظم لابن الجوزي : ٨ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، عنه الغدير : ٥ / ٢٧٧.

٢ ـ تاريخ الخطيب البغدادي : ١ / ١٢٣ ، عنه الغدير : ٥ / ٢٧٦.

٣ ـ المصدر السابق : ١٢٠ ، الغدير ٢٧٩.

٢٣٣

يقتلهم زرافاتٍ ووحداناً ، ليمنع وصولهم إلى باب الحوائج !

أمّا زوّار الگيلاني ، أمّا زوّار أبي حنيفة فهم في أمانٍ ؛ لأنّه ليس فينا مَن يجوّز لنفسه أن يتأذّى منهم أحد ! أمّا زوّار الإمام الحسين وأبيه أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، فحدِّث ولا حرج !

قال الخطيب البغدادي في تاريخه حول الشيخ معروف الكرخي : ( ودفن في مقبرة باب الدَير ، وقبره ظاهر معروف هناك يُغشى ويُزار ) (١).

وروي عن الزهري أنّه كان يقول : ( قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج ، ويقال : إنّه من قرأ عنده مائة مرّةٍ ( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) وسأل الله تعالى مايريد قضى الله له حاجته ) (٢).

كلّ هؤلاء قبورهم في بغداد ، ولا تتعرّض لانتهاك الحرمة ، ولكنّ الذي حدث عند مرقد باب الحوائج مايندى له الجبين ، أهكذا اُمِرنا ياسادة ياكرام أن نتعامل مع قبور أهل البيت عليهم‌السلام ، بعد قتلهم بالسيف والسُّمّ ، أم أنّها مصداق قوله تعالى : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ ) (٣) ؟!

وقال الخطيب في تاريخه : ( أبو الحسن بن بشّار الزاهد دفن بالعقبة قريباً من النخمي ، وقبره إلى الآن ظاهر ومعروف يتبرّك الناس بزيارته ) (٤).

قولٌ يؤرَّخ ؛ لأنّ الناس يتبرّكون بزيارته ، ولا غبار عليه وعلى زوّاره ، أمّا زوّار الأنبياء ، أمّا زوّار الأئمة الهداة الميامين عليهم السلام ، أمّا زوّار الآباء والاُمّهات ، فيُضربون بالطائرات والمدافع والدبّابات ، يُقتلون ويحرقون ، وتقطعَّع رؤوسهم ، ما هكذا الظنّ بكم ياسادة ياكرام ؟ ألهذا

___________________________________

١ ـ تاريخ بغداد : ١٣ / ٢٠٨.

٢ ـ المصدر السابق : ١ / ١٢٣.

٣ ـ آل عمران : ١٤٤.

٤ ـ المصدر السابق : ١٢ / ٦٦.

٢٣٤

ولدتم ؟ ألهذا تربّيتم حتى يتقلّد المناصب أولاد البغايا والزناة ؟ ما بالكم لاتفرّقون بين الغثّ والسَمين ؟ وهذه كتبكم ، وهذه مصادركم ، وهذه علماؤكم ، نقلوا لنا الحقائق كما هي ، وأنتم تمرّدتم على كلّ القيم والأعراف ؛ لأجل إرضاء العدوّ الكافر الغازي ، ولكنّ موعدهم الصبح ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (١) ، ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) (٢) ، وعندها تُسألون عن كلّ صغيرة وكبيرة فتحرّوا الجواب ، ومِن وراءكم عقبات كأداء ، ويومها تطالبكم الناس الأبرياء بأيّ ذنبٍ قتلوا ؟ وبأيّ ذنبٍ شُرِّدوا ؟ وبأيّ ذنبٍ هُجّروا ؟ وبأيّ ذنبٍ ظُلموا وقُهروا ؟!

( أبو عليّ بن بيان ، من أهل دَير العاقول ، كان عابداً زاهداً يتبرّك أهل بلده بزيارة قبره ) (٣).

كثيرٌ هُم الذين يُزارون ويُتبرَّك بزيارة قبوزهم في العراق وفي غيره من بلدان العالم الإسلامي والعربي ، ولكن مافي اليد حيلة ، رضوا بأن يكونوا من صغار الحطب ، ورضوا أن تقول جهنّم فيهم ( هَلْ مِن مَّزِيدٍ ) (٤) ، بعد أن تُسأل : ( هَلِ امْتَلَأْتِ ) (٥) ؟

وأتمنّى أن اُريكم واُري القارئ العزيز صور ومقابر الأولياء والأقطاب والصلحاء ، ولكن مافي اليد حيلة !

وقال الخطيب البغدادي أيضاً في رجلٍ من ولد عليٍّ عليه‌السلام :

( ومقبرة باب البردان فيها أيضاً جماعة من أهل الفضل ، وعند المصلّى المرسوم بصلاة العيد كان قبره يعرف بقبر النُذُور ، ويقال : إنّ المدفون فيه

___________________________________

١ ـ هود : ٨١.

٢ ـ النساء : ٧٨.

٣ ـ تاريخ بغداد : ١٤ / ٤٢٧.

٤ ـ ق : ٣٠.

٥ ـ ق : ٣٠.

٢٣٥

رجل من ولد عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، يتبرّك الناس بزيارته ، ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته ) (١).

عجباً لهذه المفارقة ! رجل من أولاد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يُزار ويتبرّك الناس بزيارته ، ويُقصد لقضاء الحاجة ، ومِن أولاد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، مَن حُرِثَ قبرهُ سابقاً ، وضُربَ بالصواريخ لاحقاً !!

سيّد شباب أهل الجنّة يحرثُ قبره المتوكّل العباسي مرّاتٍ ومرّات ، ويفتح الماء على قبره حتى يندثر أثرهُ ، وفي القرن العشرين يضرب صدام التكريتي وصهره وابن عمّه حسين كامل القبرَ بالصواريخ وقذائف الهاون ، ويدخل الجلاوزة الصحن والحرم الشريف فيمطرونه بوابلٍ من الرصاص ، ولازالت آثاره باقية ، وعلماء المذاهب الأربعة سكوتٌ وكأنّ على رؤوسهم الطير !! أمّا قبر أبي حنيفة والگيلاني وغيرهم في أمان واحترام ، ما هكذا الظنّ بكم ؟ أين حرمة الموتى ؟ أين حرمة النبي من أهل بيته ؟ وهناك من يتسابق لتناول العشاء أو الغداء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنّة !! يُفجِّر نفسه ليكون سبباً في قتل أكثر عددٍ من شيعة أولاد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام !!

والعدوّ ويسرح ويمرح ويبذل المال لأجل إيجاد الهُوّة بين أبناء المجتمع الإسلامي الواحد !

أين أنت أيّها المسلم الغيور على دينك ، على مرضاة نبيّك ، على اتّباع الحقيقة وكسب مرضاة ربّك ؟

قال ابن الجوزي في « المنتظم » في حال أحمد بن حنبل : وفي أوائل جمادىٰ الآخرة تقدّم أمير المؤمنين [ الخليفة العباسي ] بعمل لوحٍ ينصب على قبر الإمام أحمد بن حنبل ، فعُمِل ، ونقضت السترة جميعها وبنيت

___________________________________

١ ـ تاريخ بغداد : ١ / ١٢٣.

٢٣٦

بآجرٍّ مقطوع جديدة ، وبني لها جانبان ، ووقع اللوح الجديد وفي رأسه مكتوب : هذا ما أمر بعمله سيّدنا ومولانا المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين ، وفي وسطه : هذا قبر تاج السُنّة ، وحيد الاُمّة ، العالي الهمّة ، العالم العابد ، الفقيه الزاهد ، الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه‌الله وقد كتب تاريخ وفاته وآية الكرسي حول ذلك ، ووعدت بالجلوس في جامع المنصور ، فتكلّمت يوم الاثنين سادس عشر جمادى الاُولى ، فبات في الجامع خلق كثير ، وخُتمت ختمات ، واجتمع للمجلس بكرةً ماحُرِز بمائة ألف ، وتاب خلق كثير ، وقطعت شعورٌ ، ثمّ نزلتُ ، فمضيت إلى زيارة قبر أحمد ، فتبعني مَن حُرِز بخمسة آلاف ) (١).

لا اُريد أن اُعلِّق أكثر ممّا هو موجود في هذا النصّ ، ولكن أقول : إنّ ما على قبر أحمد بن حنبل نفس ما على غيره ، فما حدا ممّا بدا ؟

وقال ابن كثير في البداية والنهاية : ( وفي صفر رأى رجلٌ في المنام قائلاً يقول له : من زار أحمد بن حنبل غُفر له ، قال : فلم يبقَ خاصّ ولا عامّ إلّا زاره ) (٢).

نقول للوهّابيّة والسلفيّة ولمن لايؤمن بزيارة القبور : ماذا تقولون بهذه النصوص ، وهي من كتبكم وعلى لسان علمائكم ؟ إن كانت حقّاً فلماذا تحاربوننا أشدّ محاربةً ؟ وإن كانت باطلة حكمتم على أنفسكم وبرئت ساحتنا !

عمار بن رجاء أبو نصر الأسترابادي قال فيه ابن الجوزي في « المنتظم » : ( رحل إلى العراق وسمع من أبي داود الحفري ، ويزيد بن هارون وأبي نعيم وغيرهم ، وكان عابداً زاهداً ورعاً ، وتوفّي في هذه السنة

___________________________________

١ ـ المنتظم : ١٠ / ٢٨٤.

٢ ـ البداية والنهاية : ١٢ / ٢٢٣.

٢٣٧

وقبره يُزار ويُتبرَّك به ) (١).

يُزارُ قبره ، ويُتبرّك به ، ولكنّ قبرَ الحسين وأولاد الحسين عليهم‌السلام تُهان وتُمنع من زيارتها ، ويُقتل زوّارهم ، حتى يدخل قاتلهم الجنّة ، هذه هي المصيبة حيث أصبح الدين طيناً تتلاعب به الجُهّال !!

فتأمّل ما قاله ابن الجوزي في عليّ بن محمد بن بشّار : ( دفن ببغداد ، وقبره اليوم ظاهر يُتبرّك به ) (٢).

وفي أحمد القزويني قال ابن الجوزي : ( كان من الأولياء المحدّثين ، توفّي في رمضان هذه السنة ، فشهدته اُمم لاتُحصى ، وقبره ظاهر يُتبرّك به في الطريق إلى معروف الكرخي ) (٣).

كثيرٌ هم الذين يمكن أن يكونوا المَثَل والقدوة ، ولكن لمن تنادي ؟ لهم أعينٌ لايُبصرون بها ، ولهم آذان لايسمعون بها ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (٤) ، ( بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٥).

أبو جعفر بن موسى الهاشمي قال فيه ابن الجوزي في « المنتظم » : ودفن إلى جانب قبر أحمد بن حنبل ، وكان الناس يبيتون هناك كلّ ليلة أربعاء ، ويختمون الختمات ، ويخرج المتعيّشون فيبيعون المأكولات ، وصار ذلك فرجةً للناس ، ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء الشتاء فامتنعوا فخُتم على قبره في تلك المدّة أكثر من عشرة آلاف ختمة ) (٦).

وأمّا قبر علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي تخرّج إلى جواره علماء فطاحل نوّروا بعلومهم المشارق والمغارب ، ورفدوا مكاتب الدنيا بالموسوعات

___________________________________

١ ـ المنتظم : ٥ / ٦١.

٢ ـ المصدر السابق : ٦ / ١٩٩.

٣ ـ المصدر السابق : ٩ / ١٩٤.

٤ ـ البقرة : ١٧١.

٥ ـ المطففين : ١٤.

٦ ـ المنتظم : ٨ / ٣١٧.

٢٣٨

والمؤلفات بما لاحصر لها على مدى هذه القرون ، والمخطوطات النفيسة التي كتبت إلى جواره لامثيل لها تدين لها البشرية ، تضرب قبّته عليه‌السلام بالمدفعية الثقيلة ، وتُنهب نفائس الهدايا والآثار من مرقده الشريف ، أمّا حلقات الدرس التي كانت تعقد ، والصلوات التي كانت تؤدّىٰ بإمامة المراجع والعلماء والفضلاء فحدِّث ولا حَرَج ، ولكن لمن تنادي ؟ توارثوا نصب العداء كابراً عن كابر ، وباتوا على الحقد الدفين ، حتى نفثوه في آخر الزمان شتماً ولعناً ، وقتلاً وحرقاً لكلّ من كان اسمه عليّاً وحسناً وحسيناً !!

نور الدين محمد زنكي : أفرد له ابن كثير في البداية والنهاية فصلاً بعنوان : « في وفاة الملك نور الدين محمد زنكي ، وذِكُر شيء من سيرته العادلة » ، وقال فيه : ( وقبره بها يزار ويحلق بشبّاكه ويطيّب ، ويتبرّك به كلّ مارٍّ ، فيقول : قبر نور الدين الشهيد ) (١).

الحافظ أبو الحسن عليّ بن محمد بن خلف : قال فيه ابن كثير :

( ولمّا توفّي في ربيع الآخر من هذه السنة ، عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له ، وجاء الشعراء من كلّ أوبٍ يرْثون ويترحّمون ) (٢).

أين أنتم يامن تعدّون زيارة القبور حراماً ؟

أين أنتم يامن تعدّون زوّار القبور كفرةً ؟

هذه قبور علمائكم وفقهائكم وعبّادِكم وزُهّادكم ، تُزار وتؤرّخ لهم الأحداث ، وعلى لسان كُتّابكم !!

أبو سليمان الداراتي : قال عنه ابن كثير : ( وقد دُفِنَ في قرية داريا في قِبلتها ، وقبره بها مشهور وعليه بناء ، وقبلته مسجد بناه الأمير ناهض الدين عمر النهرواني ، ووقف على المقيمين عنده وقفاً يدخل عليهم منه غلّة ، وقد

___________________________________

١ ـ البداية والنهاية : ١٢ / ٢٨٤.

٢ ـ المصدر السابق : ١١ / ٣٥١.

٢٣٩

جُدِّدَ مزاره في زماننا هذا ) (١).

إلى الذين يحرِّمون البناء على القبور ، نقول : أين أنتم من هذه النصوص ؟ راجعوا أنفسكم واسألوها : هل يحلّ لكم الكذب والتحايل ، والتلاعب بالألفاظ ، كما هو شأن الأوائل من الحزب الاُموي ومَن والاهم ، من أجل دنياً زائلة ؟ لاتكونوا صغار الحطب !

عمر بن عبدالعزيز الخليفة الاُموي : قال الذهبي عنه في « تذكرة الحُفّاظ » : ( سيرته تحتمل مجلّداً ، ومات بدَير سمعات ، وقبره هناك يُزار ، مات في رجب سنة إحدى ومائة ، وله أربعون سنة سوى ستّة أشهر رحمه‌الله ) (٢).

أبو عوانه : قال عنه أيضاً الذهبي في التذكرة : ( الحافظ الثقة الكبير ، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الأسفراييني النيسابوري الأصل ، صاحب الصحيح المسند المخرَّج على صحيح مسلم... قال الحاكم : وأبو عوانه من علماء الحديث وأثباتهم ، سمعت ابنه محمداً يقول : إنّه توفّي سنة ستّة عشر وثلاثمائة ، وقال غيره : قبر أبي عوانة عليه مشهد مبنيّ بأسفرايين يُزار وهو بداخل المدينة ) (٣).

وإليك عزيزي القارئ ما جاء عن ابن حجر العسقلاني في كتابه « التهذيب » بشأن زيارة وتعظيم قبر الإمام الرضا عليه‌السلام : عن أبي بكر بن المؤمن بن الحسن بن عيسى أنّه قال :

خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي عليّ الثقفي مع جماعة من مشائخنا ، وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر عليّ بن موسى الرضا بطوس ، قال : فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ

___________________________________

١ ـ البداية والنهاية : ١٠ / ٢٥٩.

٢ ـ تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٢١.

٣ ـ مصدر السابق : ٣ / ٧٨٠.

٢٤٠