نافذة على زيارة القبور

السيّد فاروق الموسوي

نافذة على زيارة القبور

المؤلف:

السيّد فاروق الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات دار العلم آية الله بهبهاني
المطبعة: البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8300-11-6
الصفحات: ٢٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أقوال أعلام المذاهب الأربعة في زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

١ ـ قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفّىٰ (٤٥٠) في « الأحكام السلطانية » (١) :

فإذا عاد ـ وليّ الحاجّ ـ سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ ليجمع لهم بين حجّ بيت الله وزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، رعايةً لحرمته وقياماً لحقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ فهو من مندوبات الشرع المستحبّة ، وعبادات الحجيج المستحسنة.

وقال في الحاوي : أمّا زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فمأمور بها ومندوب إليها.

عزيزي القارئ تأمّل العبارة المذكورة جيداً :

رعايةً لحرمته ، وقياماً بحقوق طاعته ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة ، وعبادات الحجيج المستحسنة.

٢ ـ حكى عبد الحقّ بن محمد الصقلي المتوفّىٰ (٤٦٦) في كتابه « تهذيب الطالب » ، عن الشيخ أبي عمران المالكي أنّه قال : إنّما كره مالك أن يقال :

زُرنا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ لأنّ الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها ، وزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبة.

قال عبد الحقّ :

___________________________________

١ ـ الأحكام السلطانية : ٢ / ١٠٩.

٢٠١

يعني من السنن الواجبة ( في المدخل : ١ / ٢٥٦ ) ، يريد وجوب السنن المؤكّدة.

٣ ـ قال ابن هبيرة المتوفّىٰ (٥٦٠) ، في كتاب « اتفاق الأئمّة » : اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل ـ رحمهم الله تعالى ـ على أنّ زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مستحبة ، « المدخل لابن الحاجّ » : ١ / ٢٥٦.

٤ ـ قال أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله المالكي ، المتوفّىٰ (٦١٢) في مناسكه :

فصل : إذا كمل لك حجّك وعمرتك على الوجه المشروع لم يبقَ بعد ذلك إلّا إتيان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدعاء عنده ، والسلام على صاحبَيه ، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين ، والصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه.

هذا قليل من كثيرٍ ممّا يمكن أن ينهله الطالب من الغدير ؛ فيفيد به ويستفيد ، تركنا الأمر المزيد للقارئ العزيز.

فلماذا يا أخي المسلم تكفّروننا ؟ وأئمّتكم يدعون إلى الزيارة ويزورون ويتشرّفون ، ويدعون ويطلبون عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يطلبون من كريمٍ بما له عند الله من الجاه الوجيه.

ألّف الشيخ تقيّ الدين السبكي الشافعي المتوفّىٰ (٧٥٦) كتاباً حافلاً في زيارة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في (١٨٧) صحيفة وأسماه « شِفاء السقام في زيارة خير الأنام » ، ردّاً على ابن تيمية ، وذكر كثيراً من أحاديث الباب ، ثم

٢٠٢

جعل باباً في نصوص العلماء من المذاهب الأربعة على استحبابها ، وأنّ ذلك مجمع عليه بين المسلمين.

وقال في شفاء السقام :

لا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم باجتماعهم وإجماع سائر العلماء عليه.

والحنفية قالوا : إنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل المندوبات والمستحبات ، بل تقرب من درجة الواجبات ، وممّن صرّح بذلك : أبو منصور محمد بن مكرم الكرماني في مناسكه ، وعبدالله بن محمود بن بلدحي في « شرح المختار » ، وفي فتاوى أبي الليث السمرقندي في باب أداء الحج (١).

وقال ايضاً :

كيف يتخيل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى (٢) ؟!

وحكىٰ عن القاضي عياض وأبي زكريا النووي اجماع العلماء والمسلمين على إستحباب الزيارة (٣).

أخي القارئ العزيز :

ماذا تقول في الملايين التي تتوجّه إلى الحجّ والعمرة كلّ عام ، حيث

___________________________________

١ ـ شِفاء السقام : ٤٨.

٢ ـ المصدر السابق : ٥٩.

٣ ـ المصدر السابق : ٦١.

٢٠٣

القليل القليل الذين لا يوفَّقون لزيارة قبر النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

هل أنّ هذه الملايين التي تحجّ كلّ عامٍ جميعاً على خطأ ؟!

أو هل أنّ هذه الحشود العظيمة مشركة وكافرة ؛ لأنّها تزور القبور ؛ قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبور الشهداء في البقيع واُحدٍ وغيرهما من الأماكن ؟!

وبين هذه الحشود المليونية قضاة وحكّام واُمراء ووزراء وملوك ، وعلماء ! أكُلّ اُولئك كفرة يجب قتلهم ومحاربتهم ، والنيل منهم كما نالوا منّا ؟! أم ماذا ؟

تأمّل أخي العزيز هذه الآية الكريمة :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (١).

لأنّ تعظيمه لا ينقطع بموته ، ولا يقال : إنّ استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم إنّما هو في حياته وليست الزيارة كذلك ، لِما أجاب به بعض الأئمة المحقّقون من أنّ الآية دلّت على تعليق وجدان الله تعالى تَوّاباً رحيماً بثلاثة اُمور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم.

وقد حصل استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لجميع المؤمنين ؛ لأنّه قد استغفر للجميع ، قال الله تعالى : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (٢).

فإذا حصل مجيئهم واستغفارهم كملت الاُمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته (٣).

___________________________________

١ ـ النساء : ٦٤.

٢ ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ١٩.

٣ ـ المواهب اللدنّية للقسطلاني : ٤ / ٥٧٢.

٢٠٤

وأمّا الإجماع فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال ، كما حكاه النووي ، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها... (١).

هذا غيض من فيض ممّا قاله العلماء في استحباب زيارة القبور ، فما ظنّك بمن يجاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يزوره حيّاً فترةً من الزمان ؟ أليس هذا هو الجفاء بعينه ؟!

فما الفرق في زيارته في حياته وبعد مماته ؟

وهو القائل : « مَن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي ».

أزوره لاُجدّد العهد.

أزوره لأتذكّر معاناته.

أزوره لأنّه أخرجنا بالإسلام من الظلمات إلى النور.

أزوره لأنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحبيب الله ، وخاتِم الأنبياء والمرسلين ، جاء من عند الله وصدّق المرسلين.

أزوره امتثالاً لأمر الله ، وتعظيماً لتلك الروح المقدّسة التي عانت ما عانت في سبيل إظهار الحق ، وإزهاق الباطل.

أزوره لأتأسّىٰ به ؛ لأنّه خير من يُتأسّٰ كما قال تعالى :

( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢).

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أجاز بأمرٍ من الله تعالى زيارة القبور ، وأمرنا أن نزورها بعد أن زارها بنفسه ، والصحابة والتابعون ، وأمرنا تعالى بطاعته

___________________________________

١ ـ وفاء الوفا : ٤ / ١٣٦٢.

٢ ـ الأحزاب : ٢١.

٢٠٥

بقوله :

( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١).

أزوره عارفاً بفضله ، ناهجاً منهجه ، مُقِرّاً معترفاً أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، داعياً إلى الله تعالى لنيل شفاعته ، والعيش على ضوء شريعته وبركات سنّته ، حتّىٰ ألقىٰ الله تعالى وأنا مسلم محمدي.

أزوره لأنّه رسول الله وهو حجّة الله ، وهو برهان الله ، يستوجب التعظيم والتقدير حيّاً وميّتاً ، إنّ ما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قدسية وتعظيم ومقام وهو حي له وهو ميت.

وليس كما قال محمد بن عبد الوهاب : إنّ عصايَ هذه خير من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وكما قال أيضاً :

أما آن لهذه الجيفة أن تُرفَع.

وقد أسلفنا كيف أنّ الله تعالى أمر كليمه موسى بن عمران عليه‌السلام ، أن يُخرج رفاةَ يوسف الصدّيق عليه‌السلام من البحر ويدفنه في بلاد الشام إكراماً وتعظيماً ، وقد جعل لمن يُدلّه عليه بما هو من الإعجاز عجوز ردّ عليها بصرها ، وأصلح رجليها ، وأعاد شبابها ، وضمن لها الجنّة مع موسى عليه‌السلام.

ولم يكن يوسف عليه‌السلام عند الله أعظم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شأناً ، وقد اتخذه حبيباً وخاتِماً للأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله.

___________________________________

١ ـ الحشر : ٧.

٢ ـ الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية لابن تيمية : ٤٢.

٢٠٦

عجباً ! الله تعالى يكرم الإنسان ويفضّله على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً ، وبعض من يقيسون في حكمهم يخالفون الله تعالى وهو أحكم الحاكمين ، قال تعالى :

( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) (١).

واستمع إلى ما روته عائشة في حديث لها : أنّ جبريل عليه‌السلام قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

كيف أقول لهم ؟ فقال : قل قولي :

السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدِمِين منّا والمستأخِرِين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون » (٢).

هذا نصّ صريح ، وهو ما عليه جمع من العلماء ، والاجتهاد في مقابل النص لاتُقرّه شريعة الإسلام.

أمّا تحريم زيارة القبور والحكم بتكفير من يزورها فهو الآخر باطل لا يقرّه أحد من العلماء.

ماذا يقول ابن تيميّة المنكر للزيارة وأصحابه ومَن هم علىٰ مذهبه في حكم شيخ الإسلام الغزالي ، إذ يقول : إذا وقع بصره على حيطان المدينة دعا بهذا الدعاء : « اللهمّ هذا حرم رسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجعله لي وقايةً من النار ،

___________________________________

١ ـ الإسراء : ٧٠.

٢ ـ صحيح مسلم : ٧ / ٤٤.

٢٠٧

وأمناً من العذاب وسوء الحساب » ؟! (١)

وتأمّل ما يقوله الزرقاني في « شرح المواهب » :

وليتوسّل به ـ أي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسّل به ، إذ هو محطّ جبال الأوزار وأثقال الذنوب ؛ لأنّ بركة شفاعته وعظمتها عند ربّه لا يتعظّمها ذنب ، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته ، وأضلّ سريرته ، ألم يسمع قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (٢).

وكان أحمد بن حنبل يتوسّل بالضريح النبوي المبارك ، ويدعو الله تعالى عنده (٣).

قال الحافظ أبو العباس القسطلاني : اعلم أنّ زيارة قبره الشريف من أعظم القربات ، وأرج الطاعات ، والسبيل إلى أعلى الدرجات ، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام ، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام (٤).

هذا قليل من كثيرٍ ممّا جاء في زيارة القبور.

ومن فوائدها :

١ ـ تُقرِّب الزائرين إلى الله تعالى زُلفىٰ ، وتذكّرهم بالموت والآخرة ، وتذكّرهم بالحقّ والباطل.

___________________________________

١ ـ إحياء علوم الدين : ١ / ٣٤٦.

٢ ـ النساء : ٦٤.

٣ ـ الردّ المحكم المتين على كتاب القول المبين : ٢٥٢.

٤ ـ المواهب اللدنّية : الفصل الثاني ، في زيارة قبره الشريف.

٢٠٨

٢ ـ وتذكّرهم بالتاريخ الصحيح ، بأحقّية الأنبياء والمرسلين ، والأئمة الهداة الميامين عليهم‌السلام ، والشهداء والعلماء والصالحين.

٣ ـ إنّ زيارة القبور صفحة من صفحات التاريخ ، يقرأ فيها الزائر سيرة الشهداء والثائرين على طواغيت زمانهم ، ويميّز بين الحقّ والباطل.

هذه قبور الفراعنة والجبابرة ، ..

وتلك قبور الأنبياء والأوصياء والصالحين ، ..

ولعلّ سرّ تحريم الوهّابية لزيارة القبور لا يتجاوز هذه الاُمور.

والله تعالى نسأل أن يجعل من قبورنا روضةً من رياض الجنّة ، بقبول العمل وحسن العاقبة ، ويحشرنا محشر محمدٍ وآل محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

التغليظ في اتخاذ السرج على القبور

تأمّل عزيزي القارئ ما ورد في باقي الصحاح :

أخبرنا قتيبة قال : حدّثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن محمد بن حُجادة ، عن أبي صالح على أنّ إبن عباس قال :

« لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زائرات القبور ، والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج » (١).

لو كانت هناك عقول تدرك الحقيقة بثاقب النظر لَما رأيت مثل هذا

___________________________________

١ ـ سنن النسائي : ٤ / ٩٤ ـ ٩٥.

٢٠٩

الحديث ، ومن الصعب أن تجد من يستوعب الحقيقة.

قل لي بربّك أيّها المسلم الكريم : ألم تقرأ وتسمع أنّ الحِجر قبر لهاجر وإسماعيل ولسبعين نبياً عليهم‌السلام ، وأنّ فوق الحِجر مصابيح غايةً في الكبر والدقة والقوة الضوئية ؟! فهذه حلال لا يستوجب اللعن عليها والإسراج على سائر القبور حرام يستوجب اللعن !!

والغرض واضح جداً كما أسلفنا ، وكما يقال :

لقد أسمعتَ لو ناديت حيّاً

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولكن من تنادي ؟

عزيزي القارئ الكريم : مراجعة بسيطة لكتب التفسير تجد جواز اتخاذ المساجد على مقربةٍ من القبور ، كما ورد في القرآن الكريم في أهل الكهف :

( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) (١) ، فمنهم من قال : لنتخذن على باب الكهف مسجداً ، وآخر قال : نبني على الكهف مسجداً ، وغير ذلك ، للدلالة عليهم والحفاظ من طوارق الليل والنهار.

___________________________________

١ ـ الكهف : ٢١.

٢١٠

فيلٌ وناقَةٌ وبَقَرَ إحساس واحترام للمقدّسات

جاء في كتاب الكامل في التاريخ (١) ، لعزّ الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني المعروف بابن الأثير ، ذكر أمر الفيل :

لمّا دام ملك أبرهة باليمن وتمكّن به بنىٰ القُلَّيْسَ بصنعاء ، وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، ثم كتب إلى النجاشي : إنِّي قد بنيتُ لك كنيسةً لم يُرَ مثلها ، ولستُ بِمُنتَهٍ حتى أصرفَ إليها حاجِّ العرب.

فلمّا تحدّثت العرب بذلك غضب رجل من النَسَأة (٢) من بني فُقيم ، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوّط ، ثم لحق بأهله ، فأخبر بذلك أبرهة ، وقيل له : إنَّه فِعل رجلٍ من أهل البيت الذي تحجّه العرب بمكة ، غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجّاج عنه ففعل هذا.

فغضب أبرهة وحلف ليسيرنَّ إلى البيت فيهدمه ، وأمر الحبشة فتجهّزت ، وخرج معه بالفيل واسمه محمود ، وقيل : كان معه ثلاثة عشر فيلاً وهي تتبع محموداً ، وإنَّما وحّد الله سبحانه الفيل لأنَّه عنى كبيرها محموداً ، وقيل في عددهم غير ذلك.

فلمّا سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقّاً عليهم ، فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له : ذونفر ، وقاتله ، فهُزم ذونفر واُخذ

___________________________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ١ / ٤٤٢.

٢ ـ النَسَأَة : هم الذين كانوا يؤخّرون شهر المحرَّم إلىٰ صَفَر لحاجتهم إلىٰ شَنّ الغارات وطلب الثارات.

٢١١

أسيراً فأراد قتله ، ثم تركه محبوساً عنده ، ثم مضى على وجهه ، فخرج عليه نُفيل بن حبيب الخثعميّ فقاتله ، فانهزم نُفيل واُخذ أسيراً ، فضمن لأبرهة أن يُدلّه على الطريق ، فتركه وسار ، حتى إذا مرَّ على الطائف بعث معه ثقيف أبا رغالٍ يُدلّه على الطريق ، حتى أنزله بالمغمس ، فلمّا نزله مات أبو رغالٍ ، فرجمت العرب قبره ، فهو القبر الذي يُرجَم.

وبعث أبرهةُ الأسودَ بن مقصود إلى مكة ، فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبدالمطّلب بن هاشم ، ثم أرسل أبرهة حُناطة الحميري إلى مكة ، فقال : سل عن سيّد قريشٍ وقل له : إنِّي لم أئتِ لحربكم ، إنَّما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم.

فلمّا بلغ عبدالمطّلب ما أمره قال له : والله ما نريد حربه ، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه ، وإن يخلِّ بينه وبينه فوالله ما عندنا من دفع ، فقال له : انطلق معي إلى الملك.

فانطلق معه عبدالمطّلب حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفرٍ ـ وكان له صديقاً ـ فدلَّ عليه وهو في محبسه ، فقال له : هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : وما غناء رجل أسير بيد ملك ينتظر أن يقتله ؟ ولكن اُنَيس سائس الفيل صديق لي فاُوصيه لك واُعظم حقّك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلّمه بما تريد ، ويشفع لك عنده إن قدر.

قال : حسبي. فبعث ذونفرٍ إلى اُنَيس ، فحضره وأوصاه بعبد المطّلب ، وأعلمه أنَّه سيد قريش ، فكلّم اُنيس أبرهة وقال : هذا سيّد قريشٍ يستأذن ، فأذن له.

وكان عبدالمطّلب رجلاً عظيماً جليلاً وسيماً ، فلمّا رآه أبرهة أجَلّه وأكرمه ، ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساطٍ وأجلسه إلى جنبه ،

٢١٢

وقال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال له الترجمان ذلك ، فقال عبدالمطلب : حاجتي أن يردَّ عليَّ مائتي بعير أصابها لي ، ( فلما قال له ذلك ) فقال أبرهة لترجمانه :

قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم زهدت فيك حين كلّمتني ، أتكلّمني إبلك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ؟!

قال عبدالمطلّب : أنا ربُّ الإبل ، وللبيت ربٌّ يمنعه.

قال : ما كان ليمنع منّي. وأمر بردِّ إبله.

فلمّا أخذها قلّده وجعلها هدياً وبثّها في الحرم ؛ لكي يصاب منها شيء فيغضب الله.

وانصرف عبدالمطّلب إلى قريش وأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرّز في رؤوس الجبال خوفاً من معرّة الجيش ، ثم قام عبدالمطّلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة ، فقال عبدالمطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

يا ربِّ لا أرجو لهم سِواكا

يا ربِّ فامنع منهُمُ حِماكا

إنّ عدوَّ البيتِ مَن عاداكا

امنعهُمُ أن يُخرِبوا فِناكا

وقال أيضاً :

لا هُمَّ (١) إنَّ العَبدَ يَمْـ

ـنَعُ رَحلَهُ فامنَعْ حِلالَكَ

لا يَغلِبنَّ صَليبُهُم

ومِحالُهُم غَدراً مِحالَك (٢)

إلى آخر الأبيات.

___________________________________

١ ـ مختصر كلمة ( اللّهمّ ) للدعاء.

٢ ـ المَحْلُ : الشدّة ، وقوله تعالىٰ : ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) قيل : معناه شديد القدرة والعذاب ، وقيل : شديد القوة والعذاب. لسان العرب : ١٣ / ٤١ ( مادة مَحَل ).

٢١٣

ثم أرسل عبدالمطّلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال ، فتحرّزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.

فلمّا أصبح أبرهة تهيّأ لدخول مكة وهيّأ فيله ، وكان اسمه محموداً ، وأبرهة مجمع لهدم البيت والعود إلى اليمن ، فلمّا وجّهوا الفيل أقبل نُفيل ابن حبيب الخثعميّ فمسك باُذُنه وقال : ارجع محمود ، ارجع راشداً من حيث جئت ، فإنَّك في بلد الله الحرام ! ثم أرسل اُذنه ، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتدَّ نُفيل فصعد الجبل ، فضربوا الفيل ، فأبىٰ ، فوجّهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجّهوه إلى الشام ففعل كذلك ، ووجّهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجّهوه إلى الشام ففعل كذلك ، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض.

وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كلِّ طير منها ثلاثة أحجار تحملها ، حجر في منقاره وحجران في رجليه ، فقذفتهم بها ، وهي مثل الحمّص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلّا هلك ، وليس كلّهم أصابت ، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر ، وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه ، ويسألون عن نُفيل بن حبيب ليُدلَّهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نُفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمة :

أينَ المفرُّ والإلٰهُ الطالبُ

والأشرمُ المغلوبُ غيرُ الغالب ؟

وقال أيضاً :

حَمدتُ اللهَ إذ عاينتُ طَيراً

وخِفتُ حِجارةً تُلقىٰ عَلَيْنا

٢١٤

وكُلُّ القومِ يَسألُ عن نُفَيلٍ

كأنّ عَلَيَّ للحُبشانِ دَينا

واُصيب أبرهة في جسده ، فسقطت أعضاؤه عُضواً عضواً ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه !

فلمّا هلكَ مَلَكَ ابنُه يكسوم بن أبرهة ، وبه كان يُكنّىٰ ، وذلّت حِميَر واليمن له ، ونَكحت الحبشة نساءهم ، وقتلوا رجالهم ، واتّخذوا أبناءهم تراجمةً بينهم وبين العرب.

ولمّا أهلك الله الحبشة وعاد ملكهم ، ومعه من سلم منهم ، ونزل عبدالمطّلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون ، ومعه أبو مسعود الثّقفي لم يسمعا حسّاً ، فدخلا معسكرهم فرأيا القوم هلكىٰ ، فاحتفر عبدالمطّلب حفرتَين ملأهما ذهباً وجوهراً له ولأبي مسعود ، ونادىٰ في الناس ، فتراجعوا ، فأصابوا من فضلهما شيئاً كثيراً ، فبقي عبدالمطّلب في غنىً من ذلك المال حتى مات (١).

وبعث الله السيل ، فألقى الحبشة في البحر. ولمّا ردَّ الله الحبشة عن الكعبة وأصابهم ما أصابهم عظّمت العرب قريشاً وقالوا : أهل الله قاتل عنهم. ثم مات يكسوم وملك بعده أخوه مسروق (٢).

تأمّل أخي القارئ ما ورد في المصدر نفسه :

« ... ثم أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرَّم وصفر كلّه ، حتى إذا مضت ثلاثة أيّامٍ من شهر ربيع الأوّل سنة أربعٍ وستّين رموا البيت بالمجانيق

___________________________________

١ ـ وقال كثير من أهل السِيَر : إنّ الحصبة والجدري أول ما رُئيَ في العرب بعد الفيل ، وكذلك قالوا : إنّ العشر والحرمل والشجر لم تعرف بأرض العرب إلّا بعد الفيل. وهذا ممّا لا ينبغي أن يعرض عليه ، فإنَّ هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مُذ خلق الله العالَم.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ١ / ٤٤٢ ـ ٤٤٧.

٢١٥

وحرقوه بالنار ، وأخذوا يرتجزون ويقولون :

خطّارةٌ مثل الفنيقِ المُزبدِ

نَرمي بها أعوادَ هذا المسجدِ !!

وقيل : إنَّ الكعبة احترقت من نارٍ كان يوقدها أصحاب عبدالله حول الكعبة ، وأقبلت شرارة هبّت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت ، والأوّل أصحّ ؛ لأنَّ البخاري قد ذكر في صحيحه : أنَّ ابن الزبير ترك الكعبة ليراها الناس محترقةً يحرّضهم على أهل الشام (١).

نقول : ومن حقِّنا القول : إنَّ أبرهة نصرانيّ ، قد جاء بالفيل والجيش لهدم الكعبة ، فما بالكم وأنتم مسلمون قد رميتم الكعبة بآلاف الأحجار المزيّته فأحرقتم الكعبة الشريفة ؟ وأخذتم فرحين ترتجزون ؟!

الكعبة قبلتنا وبيت الله الحرام الذي جعله اللهُ مثابةً للناسِ وأمناً (٢) ، لكنّه لم يأمن منكم ومن شرِّكم ، فبأيِ دين تدينون ؟ وبأيِّ شرعة تعترفون ؟

لقد سمعتم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتلتم ابنته ، وضربتم ابن عمّه ووصيّه على قرنه ، ففجعتم الاُمّة والإنسانية بشهادته ، وسمعتم الحسن وهو أحد سيدي شباب أهل الجنة ، ومِلتُم على الحسين سيد شباب أهل الجنة وحبيب رسول الله فحززتم رأسه لِيُدارَ على القنا في الأمصار ، وسبيتم حُرَم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وما اكتفيتم حتى تذرّعتم بذرائع واهية وتنصّلتم من كلِّ ذلك ، وأخذتم تترحمون عل الفَجَرة أصحاب الجرائم الشفيعة ، وتكفّرون من يقول بظلمهم ، لله درُّكم ما بالكم كيف تحكمون ؟ وبأيِّ دين تدينون ؟

___________________________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ٤ / ١٢٤.

٢ ـ اقتباس من الآية : ١٢٠ من سورة البقرة.

٢١٦

أما تتّعظون ، فيل لا يتجرّأ ، وأنتم بكلِّ جرأةٍ وجسارةٍ لبيت الله هدمتم وحرقتم ، وهتكم حرمة الله ، وتجاسرتم علىٰ أعراض أبناء ملّتكم ، وقتلتم مَن قَتَلتم من الأبرياء رجالاً ونساءً أطفالاً !!

ناقة طاعنة بالسن تتمرّغ بتراب قبر علي بن الحسين عليه‌السلام وفاءً ، وأنتم تهدمون القبور ، وأنتم تأمرون بحرثها ، والماء الجاري عليها تفتحون !!

فماذا رأيتم ؟ وماذا سمعتم ؟ حتى الماء بقي حائراً حول مرقد الإمام الحسين عليه‌السلام الطاهر لا يتقدّم إلى جهة القبر !!

أخي القارئ العزيز ، تأمّل كيف يحاول الكاتب أن يحرّف الحقيقة ؟! ولكن دون جدوى.

فنحن بصدد القول :

إنَّ المتوكِّل وهو يومئذٍ خليفة يأمر اليهود أن يحرثوا قبر الحسين عليه‌السلام ويمنع الناس من زيارته ، ولكن ترد عليه البقر دون البشر ، وهي تمتنع من الوصول إلى القبر ليُحرَث.

ما هذا العداء ؟ وما هذا الحسد لأهل بيتٍ أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ألا دليل على أحقّيتهم وبطلان ما هو عليه أعدائهم من الأوّلين والآخرين ؟

وإلّا ماذا تعني هذه المخازي ، وهذه الخروقات ؟ يتناقلها الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل ، عودوا لأنفسكم واسألوها :

أيجوز أن تقابلوا أباسفيان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أيصحّ أن تقابلوا معاوية بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ؟ أيجوز أن تقابلوا يزيد الفاجر الخليع بالحسن والحسين عليهم‌السلام سيدي شباب أهل الجنة ؟

وهكذا أيجوز أن تقابلوا عثمان بن عنبسة ، بالمهدي المنتظر من آل

٢١٧

محمدٍ عليهم‌السلام ؟

ما بالكم كيف تحكمون ؟!

فأمّا قبر الحسين عليه‌السلام فإنَّه لم يزل مشهوراً مُعلَماً يقصده الخلائق من الآفاق ، وكبار الصحابة قصدوا زيارته والاستشفاء بتربته لمّا سمعوا في فضله من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام وآلهما ، كجابر بن عبدالله ، وغيره ، ولقد جهدت بنو اُميّة في إخفائه وصدّ الناس عنه ، وأقاموا مسالح على الطرقات يقتلون كلَّ من ظفروا به من زوّاره عليه‌السلام ، كما رواه الشيخ جعفر بن قولويه ، والشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه ، وسأذكر فيما بعد منه نبذة ، وظهر من الكرامات له ما لا مزيد عليه من شفاء المرضى ، والاستشفاء بتربته ، وإجابة الدعاء لديه صلوات الله عليه (١).

نعم يا سيدي ، إنّ قبر الحسين عليه‌السلام سيبقى كما بقي عبر هذه القرون ، بقي عبر (١٣٦٤) سنة خلت ، وسيبقى ما بقيت أرض وسماء ، مشهوراً معلَماً يقصده الخلائق من الآفاق ، ونحن اليوم والعالَم قد شهد الملايين التي جاءت لزيارته مشياً على الأقدام ، باذلةً النفس والنفيس ، في مواكب ، وقصائد ، وردّات ، القبر يعني الحسين عليه‌السلام ، والحسين باقٍ ما بقي الإسلام والمسلمون ، وخصوصاً الشيعة.

أمّا أن يمنعوا زيارته أو يحرثوا قبره ، فهو باقٍ ، وبقاؤه أكبر دليل على أحقّيّته وبطلان أعدائه الذين هم أعداء الدين.

وأينَ هم أعداؤه ؟ وبأيِّ ذكر يذكرهم التاريخ ؟

___________________________________

١ ـ تسلية المجالس وزينة المجالس : ٢ / ٤٧٣ ، للسيد محمد بن أبي طالب الحسيني الموسوي الحائري الكركي ، وكامل الزيارات : ٢٢١ ح ٢ ، عنه البحار : ٤٥ / ٤٠٨ ح ١٤ ، وص : ٣٩١ ضمن ح ١ ، عن أمالي الطوسي : ٣٢٢ ضمن ح ٦٥٠.

٢١٨

كفاه فخراً أنَّه أعطى بيده إعطاء الذليل ، وأنَّه ما اغترَّ بدنياً فانية ، ولا ارتضى غير الآخرة والاُولى ، فأين هم اُولئك الذين سقطت براقعهم ، ودُحضت حُججهم ؟ تلاحقهم لعنة التاريخ ، ولهم في الآخرة عذاب أليم.

والعجيب في الأمر أنَّ هناك وعلى مرَّ القرون مَن يُسفر عن وجهه ، وحقيقته ، ويُفصح في عدائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، ويخالف الدين الحنيف علناً وجهراً ، ويدّعي الإسلام ويتمشدق بحبّهم !! وقد قيل : ما اختلف اثنان إلّا وكان أحدهما على حقّ ، وإلّا لا داعي للخلاف.

يقول الله تعالى في محكم قرآنه المجيد : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) وقربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هم أهل بيته ، فأين هؤلاء من هذا ؟ يحرثون القبر ، ويقتلون الزوّار ، ومِن قَبلُ قتلوا أهل بيته إمّا بالسيف أو السُّمّ ! وهناك من يبرّر أسباباً من أنزل الله بها من سلطان ، متناسياً أنَّ الحق بيّن ، وأنَّ المسألة مسألة صراع بين الحق والباطل ليس إلّا ، فإن كان الحق في غير أهل بيتٍ أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، فمن المَحال أن يكون في الطُلقاء وأبناء الطُلقاء ومن تبعهم وحذا حذوهم ، ونهج منهجهم !

فالحرب سِجال من يوم البعثة الشريفة ، وستبقى إلى الوقت المعلوم ،

وكلّ ما قيل ويقال من أعذارٍ وحجج واهيةٍ وتبريرات مُموِّهة فهي مرفوضة ومحاسب عليها : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٢).

لقد ضُربت القباب والمآذن بالصواريخ والمدافع ، ودفن الزوار أحياءً ، وبالتالي انهار عرش الطاغوت ، وجاءت الملايين مشياً على الأقدام ،

___________________________________

١ ـ الشورىٰ : ٢٣.

٢ ـ ق : ١٨.

٢١٩

وبقيت القباب والمآذن تناطح السحاب !

فهول هناك من شاهد أعظم من هذه الشواهد لنقول : إنَّ الحسين عليه‌السلام على حق ، وإنَّ أعداءه على باطل ؟ فهل من سبيل إلى الاتّعاظ ؟

ولم يتيسّر لبني اُميّة ما أرادوا ، وكان قد بُني عليه مسجد ، ولم يزل كذلك بعد بني اُميّة ، وفي زمن بني العباس ، إلّا على زمن الرشيد ـ لعنه الله ـ فإنَّه خرّبه وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده ، وكرب موضع القبر ، ثم اُعيد على زمن المأمون وغيره ، إلى أن حكم اللعين المتوكّل من بني العباس ، وكان سيئَ الاعتقاد في آل أبي طالب ، شديد الوطأة عليهم ، قبيح المعاملة معهم ، ووافقه على ذلك وزيره عبدالله بن يحيى لعنه الله ، فبلغ من سوء معاملتهم ما لم يبلغه أحد ممّن تقدّم من بني اُميّة وبني العباس ، فأمر بتخريب قبر الحسين عليه‌السلام وقبور أصحابه ، وكرب مواضعها ، وأجرى الماء عليها ، ومنع الزوّار عن زيارتها ، وأقام الرصد ، وشدّد في ذلك ، حتى كان يقتل من يوجد زائراً ، وولّىٰ رجلاً كان أصله يهوديّاً ، ثم أسلم يقال له : الديزج.

وسلّط اللعين قوماً من اليهود على ذلك حتى تولّوه ، وسأذكر نبذةً من فعله ـ عليه اللعنة ـ إلى أن قتل المتوكِّل (١).

الذي يراجع التاريخ جيّداً يجد أنَّ بني اُميّة عملوا على طمس معالم الدين في كلِّ صغيرة وكبيرة جاء بها ، وهكذا كان شأن أعداء الدين ، وإن كانوا يدّعون الإسلام ، والحال من خلال هذه الفكرة يمكن أن يخرج الباحث بكتاب له شأن ، يثبت فيه ما جاء في القرآن والحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمة الهداة الميامين ، وما جاء به المخالفون ، كما هو واضح

___________________________________

١ ـ تسلية المجالس : ٢ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

٢٢٠