السيّد فاروق الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات دار العلم آية الله بهبهاني
المطبعة: البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8300-11-6
الصفحات: ٢٧٢
ندبة فاطمة عليهاالسلام أباها وفاته صلىاللهعليهوآله
وقد روى كثير من المؤرّخين وأصحاب السِيَر ندبة فاطمة عليهاالسلام أباها يوم وفاته وبعد ذلك ، وهي ألفاظ مشهورة ، منها : « يا أبتاه ، جنّة الخلد مثواه ، يا أبتاه ، عند ذي العرش مأواه ! يا أبتاه ، كان جبريل يغشاه ! يا أبتاه ، لست بعد اليوم أراه ! » (١).
وقد ورد عن أنس بن مالك في حديثٍ قال : فلمّا مات رسول الله صلىاللهعليهوآله قالت فاطمة عليهاالسلام :
« يا أبتاه ، مَن أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه ، مَن جَنّة الفردوس مأواه ، يا أبتاه ، إلىٰ جبريل ننعاه » (٢).
أحمد الدمشقي قال : لمّا فرغوا من دفن رسول الله صلىاللهعليهوآله خرجت فاطمة وقعدت تندب علىٰ قبر أبيها و تقول :
« وا أبتاه وا رسول الله ، وا نبي الرحمة ، الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقطع عنّا جبرئيل ، اللّهمّ ألحق روحي بروحه ، وأسعفني بالنظر إلىٰ وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة » ، وأخذت تربة من تراب رسول الله صلىاللهعليهوآله فشمّته ثمّ أنشأت تقول :
___________________________________
١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٤٣.
٢ ـ أخرجه البخاري في صحيحه : ٣ / ٩٥ ، باب مرض النبيّ صلىاللهعليهوآله.
« ماذا علىٰ من شَمَّ تربةَ أحمدٍ... » البيت (١).
وعن أنس بن مالك قال : لمّا فرغنا من دفن رسول الله صلىاللهعليهوآله أقبلت عَلَيَّ فاطمة فقالت : يا أنس ، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا علىٰ وجه الرسول صلىاللهعليهوآله التراب ؟ ثمّ بكت ونادت :
« يا أبتاه ، من أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه ، من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه ، مَن ربّه ناداه ، يا أبتاه ، إلىٰ جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه... » (٢).
وامتداداً لرثائها عليهاالسلام لأبيها فقد روي أنّها رثته بعده بمقطوعات شعرية ، منها ما أكّده أبن عبد ربّه قال :
وقفت فاطمة عليهاالسلام علىٰ قبر أبيها صلىاللهعليهوآله فقالت :
قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةُ |
|
|
|
لو كنت شاهدها لم تكثرِ الخُطُبُ |
|
إنّا فقدناك فقدَ الأرض وابلَها |
|
|
|
واختلَّ قومُك فَاشهَدهم وقد نكبوا |
|
وكلّ أهلٌ له قربىٰ ومنزلةٌ |
|
|
|
عند الإله علىٰ الأدنين مقترب |
|
أبدت رجالٌ لنا نجوىٰ صدورهُمُ |
|
|
|
لمّا مضيتَ وحالت دونَكَ التُرُب |
|
___________________________________
١ ـ أخبار الدول : ١ / ١٩٢.
٢ ـ اخرجه ابن عبد ربّه في العقد الفريد : ٣ / ١٩١.
تجهّمتنا رجالٌ واستُخِفَّ بنا |
|
|
|
لمّا فُقِدتَ وكل الإرثِ مغتَصَب |
|
وكنتَ بدراً ونوراً يُستضاءُ به |
|
|
|
عليكَ تنزل من ذي العزّة الكُتُب |
|
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا |
|
|
|
فقد فُقِدت فكلّ الخير محتَجَب |
|
فليت قبلك كان الموتُ صادفنا |
|
|
|
لمّا مضيت وحالت دونك الكُتُبُ |
|
إنّا رُزينا بما لم يُرزَ ذوشجَنٍ |
|
|
|
من البريّة لا عَجَم ولا عرب (١) |
|
وإلىٰ جانب رثائها للرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله بقيت منشدّة إليه صلىاللهعليهوآله ، حتّىٰ أنّها كان يُغشىٰ عليها حيناً.
وقد جاء عن علي عليهالسلام قال :
« غسّلت النبيّ صلىاللهعليهوآله في قميصه ، فكانت فاطمة عليهاالسلام تقول : أرني القميص ، فإذا شمّته غشي عليها ، فلمّا رأيت ذلك غيّبته » (٢).
___________________________________
١ ـ العقد الفريد : ٣ / ١٩١.
٢ ـ مقتل الحسين : ١ / ١٢١ / ٥٨ ، الايقاد : ٢١.
إحدى خطب الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام في النصح والإرشاد
« اُوصيكم أيها الناس بتقوى الله وكثرة حمده على آلائه إليكم ، ونعمائه عليكم ، وبلائه لديكم ، فكم خصّكم بنعمة ، وتدارككم برحمة ، أعورتم له فستركم ، وتعرّضتم لأخذه فأمهلكم !
واُوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه ، وكيف غَفْلَتكم عمّا ليس يغفلكم ، وطمعكم في من ليس يمهلكم ؟ فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم ، حُمِلوا إلى قبورهم غير راكدين ، واُنزلوا فيها غير نازلين ، فكأنهم لم يكونوا للدنيا عُمّاراً ، وكأنّ الآخرة لم تزل لهم داراً.
أوحشوا ما كانوا يَطِنُون ، وأوطنوا ما كانوا يوحشون ، واشتغلوا بما فارقوا ، وأضاعوا ما إليه انتقلوا ، لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً ، ولا في حسنٍ يستطيعون ازدياداً ، وأنِسُوا بالدنيا فغرّتهم ، ووثِقُوا بها فصرعتهم.
فسابقوا ـ رحمكم الله ـ إلى منازلكم التي اُمرتم أن تعمروها ، والتي رغبتم فيها ودُعيتم إليها ، واستتمّوا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته ، والمجانبة لمعصيته ، فإنّ غداً من اليوم قريب.
ما أسرع الساعات في اليوم ، وأسرع الأيّام في الشهر ، وأسرع الشهور في السنة ، وأسرع السنين في العمر ! » (١).
___________________________________
١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٩٩ ، نهج البلاغة : ٣٧٢ خطبة ( ١٨٨ ).
أوردت هذه الخطبة لا لشيء ، وإنّما للموعظة والاعتبار وكفّ الأذى عن المؤمنين ، ومن لا يتّعظ بالموت والقبر وما بعده ، فهو في نوم عميق ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
فماذا أعددتم إن كنتم بالقبر تعترفون من عمل صالح ؟
ماذا أعددتم لـ « هول المطّلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الأضلاع ، واستكاك الأسماع ، وظلمة اللحد ، وخيفة الوعد ، وغمّ الضريح ، وردم الصفيح ؟ ».
ما أعددتم لهذه غير طعنٍ واتّهامٍ وتكفير بكلمات : « زوّار القبور ، عبّاد القبور الكفرة ؟ ».
نحن لا نعبد إلّا اللهَ الواحدَ القهّار ، الذي لا إله إلّا هو رب العرش العظيم ، ذو الجلال والإكرام ، ملك الملوك ، مالك الملك ، الباقي الذي يفني كلّ شيءٍ ولا يفنى ، الذي ليس له شريك في الملك ولا عديل ، ولا خُلف لقوله ولا تبديل ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، الذي يحيي ويميت ، الحيّ القيوم الذي لا يموت ، باعث الخلائق أجمعين ، ليومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار ، هو العدل الذي لا يظلم أحداً مثقال ذرة ، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ونشهد ونقرّ أنّ الأنبياء والمرسلين حق ، وأنّ خاتِمهم وآخرهم نبينا وخيرة الخلق محمد المصطفى صلىاللهعليهوآله ، جاء بالحق وصدّق المرسلين ، ونشهد ونقرّ أنّ علياً وأولاده المعصومين الأئمة الهداة المهديين أولياؤه وأوصياؤه كما أرادهم الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله ، وأنّ ما جاء به الوحي الأمين جبرائيل عليهالسلام حقّ وصدق وعدل ، وأنّ الله يبعث مَن في القبور...
ما بالكم يا إخوة الإسلام ؟ كيف تحكمون على اُمةٍ آمنت بربّها ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر ، وأدّت الفرائض والواجبات ، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر ، وأقامت الصلاة ، وآتت الزكاة ، وأطاعت في كلّ أمر ونهي...
فوقعتم فيهم قتلاً وجرحاً ، وسبياً ، وهتكاً للأعراض ، بحجة أن زيارة القبور كفر ، وأنّ ما أنتم عليه لا يتّفق وما نحن عليه ، ألا ساء ما تعملون ، وبئسما تفكّرون !
ومن المعلوم وكما هو صريح في الأحاديث الشريفة : أنّ من شهد أنْ لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله صلىاللهعليهوآله حقن دمه وماله وعرضه (١).
دمه حرام ، وماله حرام ، وعرضه حرام ، له ماللمسلمين ، وعليه ما على المسلمين ، فما بالكم كيف تحكمون ؟
نحن نزور القبور لا حُبّاً في القبور كحجارة وما عليها من بناء ، ولكن نزورها امتثالاً لأمره صلىاللهعليهوآله ، للتذكّر والموعظة وتجديد العهد ، واستذكار الماضي والعبرة للمستقبل ، وتعظيم مَن عظّمهُ وشرَّفَهُ الله تعالىٰ علىٰ سائر مَن خَلَق ، فإنّنا لا نزور إلّا مَن هو أهل للزيارة.
ولا نزور جبابرة العصور ، ولا فراعنة الدهور ، ولكن نزور قبور الأنبياء والصلحاء ، من الآباء والاُمهات والأولياء والأوصياء الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل نصرة وبقاء الحق والعدل !
___________________________________
١ ـ المحاسن : ١ / ٤٤٣ ح ١٠٢٥ ، عنه البحار : ٦٥ / ٢٨٢ ح ٣٥ ، ص : ٢٤٢ ، عن مشكات المصابيح : ص ١٢ ـ ١٤ ، ( نحوه ).
أجساد الشهداء طريّة
لا يخفى ما للأرض من تأثير على أجساد الموتى.
والحال : ثقل التراب ، وانعدام الهواء ، ولا دواء ، ووجود الدود ، وغيره ، كلّ اُولئك مبعث تفسّخ الأجساد والموادّ الحيّة ، ولكنّ الله تعالى حَبا الشهداء في الدنيا ما يُغبَطُون عليه ، وكأنّهم في الأجداث نيام تفوح منهم رائحة المسك والعنبر ، طرية أجسادهم ، لم تصغر أكفانهم ، ولم تفسد دماؤهم ، عبرة وموعظة...
فالذي أماته الله مائة عام ثمّ بعثه لم يتسنّه طعامه ، ولم يتغيّر شرابه وملابسه... (١)
وأصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ، فبعثهم ليكونوا آيةً للناس ، لا يعلمهم إلّا الله والراسخون في العلم... (٢)
قال الواقدي : وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم اُحد :
« ادفنوا عبدالله بن عمرو ابن حزام وعمرو بن الجموح في قبر واحد » (٣).
ويقال : إنّهما وُجِدا وقد مُثِّل بهما كلّ مثلة ، قُطعت آرابهما عضواً عضواً ، فلا تُعرف أبدانهما.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
« إدفنوهما في قبر واحد ».
___________________________________
١ ـ تفسير القرآن ، عبدالرزاق الضعاني : ١ / ٩٩.
٢ ـ مجمع البيان : ٦ / ٧١٥.
٣ ـ المغازي : ١ / ٣١٠ ، وذكر فيه ( بن حرام ) بدل ( بن حزام ).
ويقال : إنّما أمر بدفنهما في قبر واحد لِمَا كان بينهما من الصفاء ، فقال : « ادفنوا هذين المتحابَّين في الدنيا في قبر واحد ».
وكان عبدالله بن عمرو بن حزام رجلاً أحمر أصلع ، ليس بالطويل ، وكان عمرو بن الجموح طويلاً ، فعُرفا ، ودخل السيل بعد عليهما ، وكان قبرهما ممّا يلي السيل ، فحُفِر عنهما ، وعليهما نمرتان ، وعبدالله قد أصابه جرح في وجهه ، فيده على وجهه ، فاُميطت يده عن جرحه ، فثغب الدم ، فردّت إلى مكانها فسكن الدم.
قال الواقدي : وكان جابر بن عبدالله يقول : رأيت أبي في حفرته وكأنّه نائم ، وما تغيّر من حاله قليل ولا كثير ، فقيل له : أفرأيت أكفانه ؟ قال : إنّما كُفّن في نمرة خمّر بها وجهه ، وعلى رجليه الحرمل ، فوجدنا النمرة كما هي ، والحرمل على رجليه كهيئته ، وبين ذلك وبين وقت دفنه ستّ وأربعون سنة ، فشاورهم جابر في أن يطيّبه بمسك ، فأبى ذلك أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله وقالوا : لا تُحدِثوا فيهم شيئاً.
قال : ويقال : إنّ معاوية لمّا أراد أن يُجري العين التي أحدثها بالمدينة ـ وهي كظامة ـ نادى مناديه بالمدينة : من كان له قتيل باُحدٍ فليشهد.
فخرج الناس إلى قتلاهم ، فوجدوهم رِطاباً يتثنّون ، فأصابت المسحاة رِجل رجلٍ منهم فثقبت دماً !
فقال أبو سعيد الخدري : لا ينكر بعد هذا منكر أبداً (١).
واليوم تُرينا الأحداث مثل هذه الآية ، لقد وجِدَت في جبهة القتال جبهة الحق والباطل ، رجال ممن قاتلوا الكفر العالمي وحزب صدام
___________________________________
١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، عن المغازي : ١ / ٢٦٧.
المجرم وأزلامه ونظامه الفاسد ، وبعد عشرين عاماً تحت التراب أجساداً طريةً من الشهداء الذين استشهدوا في ساحة الجهاد ، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّ هؤلاء كانوا حقاً من الشهداء ، وأنّ أعداءهم كانوا على باطل وضلال ، وأنّ الله تعالى يُرينا آياته ، فهل يتّعظ من يحرّم زيارة القبور ؟
والتاريخ يذكر لنا في طيّاته مثل هذه الآيات ، نكتفي بما ذكرناه لحداثته ، وعدم الإمكان في الطعن بمجرياته.
والشهيد كما قيل : من يشهد مقعده في الجنّة ، وقيل : إنّ الملائكة تشهد له بذلك عند سقوط أول قطرة من دمه على الأرض في سبيل الله ، وللشهداء منزلة يغبطون عليها ، كما قال تعالىٰ : (١)
( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٢).
والذي يراجع التاريخ يرى أنّ سيّد الشهداء سيّد شباب أهل الجنّة ، الحسين بن عليّ عليهالسلام ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله قد تعرّض قبره الشريف وزوار قبره إلى ما يندىٰ له الجبين ، من قِبَل حكّام الجور والظلمة وأعداء الدين من ملوك بني العباس والوهابيّين ومن عملاء الاستعمار في عهود مختلفة كهدم القبر الشريف ، أو فتح الماء عليه ، أو الإغار علىٰ الحرم الطاهر ونهب ما فيه ، وقتل مَن فيه والتعرض لزوّاره في كلّ مكان وزمان ، حتّىٰ استفزّوهم بدفع الضريبة المالية والضريبة الجسدية بقطع أيديهم وسَملِ
___________________________________
١ ـ مجمع البيان : ٢ / ٨٨٤ ، تفسير الميزان : ٤ / ٦٠.
٢ ـ آل عمران : ١٦٩.
أعينهم... !!
وإليك بعض أخبار ما ذكرنا :
أمالي الطوسي : عن جرير بن عبد الحميد في حديث : تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين عليهالسلام وقطع السدرة ، قال جرير : اللهُ اكبر حديث عن الرسول صلىاللهعليهوآله أنّه قال : لعن الله قاطع السدرة ، ثلاثاً (١).
وعنه أيضاً : في حديث موسى بن عيسى الهاشمي والي الكوفة : وقد وجة جماعة لكرب قبر الحسين عليهالسلام وكرب جميع أرض الحائر ( الحسيني ) وحرثها وزرع الزرع فيها (٢).
وفي أماليه أيضاً : أنّ المتوكّل بعث جماعة ، منهم إبراهيم الديزج إلىٰ كربلاء وأمره بطرح التراب علىٰ القبر وإطلاق الماء عليه واُمرت البقر لتمخره وتحرثه ، إلّا أن الماء والبقر لم يصلوا إلىٰ الجسد الشريف (٣).
وأيضاً : أنّ المتوكّل العباسي منع أهل السواد لزيارة الحسين عليهالسلام وذلك سنة سبع وثلاثين ومائتين للهجرة ، حتىٰ ظهرت الدلائل والعجائب حتىٰ كف عن أهل السواد (٤).
ولكن يأب الله تعالى إلّا أن يبقى هذا القبر الشريف ، كرامةً لصاحبه الحسين عليهالسلام شهيد كربلاء ، خالداً ما بقيت الأرض والسماوات...
___________________________________
١ ـ أمالي الطوسي : ص ٣٢٥ ح ٦٥١ ، عنه البحار : ٤٥ / ٣٩٨ ح ٧.
٢ ـ أمالي الطوسي : ص ٣٢١ ح ٦٥٠ ، عنه البحار : ٤٥ / ٣٩٠ ح ١.
٣ ـ أمالي الطوسي : ص ٣٢٦ ح ٦٥٣ ، عنه البحار : ٤٥ / ٣٩٥ ح ٣.
٤ ـ أمالي الطوسي : ص ٣٢٨ ح ٦٥٦ ، عنه البحار : ٤٥ / ٣٩٧ ح ٥.
ثلاث شجرات
ثلاث شجرات قُطعت وهي تَلفت النظر :
الشجرة الاُولى : عند بيعة الرضوان ، بايع سبعون نفراً عندها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وكان البعض يستظلّون بها من شدة حرارة الشمس ، ويتبرّكون بها ، فأمر الخليفة الثاني بقطعها فقُطعت !
كفى فخراً أن يكون ذكرها في القرآن في قوله تعالى :
( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (١).
وكفى فخراً أن يكون الله تعالى أنزل السكينة على رسوله ومن معه تحتها ، وقطعها لا يعني زوال ذكرها ، ولكن يعني بقاء الإثم والخزي بقطعها.
والشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، أمّا الشجرة الخبيثة ، فتُجتثُّ من فوق الأرض وما لها من قرار ، وقد أوصى النبيّ صلىاللهعليهوآله بالشجر عامة ، وبالسّدر خاصة أن لا تقطع ، أوصى بها خيراً ، فكيف إذا كانت شجرة الرضوان ؟!
والشجرة الثانية : حيث كانت الزهراء عليهاالسلام تستظلّ بها وتبكي أباها
___________________________________
١ ـ الفتح : ١٨.
عندها صلىاللهعليهوآله بعد أن خرجت من بيتها نزولاً عند رغبة القوم حيث استاؤوا من بكائها علىٰ أبيها ، فقُطعت هي الاُخرى ، وبنىٰ لها أميرالمؤمنين عليّ عليهالسلام بيت الأحزان !! (١)
والشجرة الثالثة : كانت عند قبر الحسين عليهالسلام يستدلّ بها الزوار على المرقد الشريف ، فقطعت هي الاُخرى من قبل خلفاء الجور الذين تقمّصوا الخلافة باسم الدين في خلافة بني العباس.
وقطعها شيء مؤسف جدّاً ، يأباه كلّ عاقل ؛ لأنّ لها معالم تاريخية.
الحقّ عزّ وجلّ يزور أحمد بن حنبل في قبره
تأمّل أخي القارئ الكريم في شرّ البليّة... من هذه القصّة :
روى ابن الجوزي في مناقب أحمد (٤٥٤) ، قال : حدثني أبوبكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي ـ وكان شيخاً صالحاً ـ قال :
كان قد جاء في بعض السنين مطر كثير جداً قبل دخول رمضان بأيام ، فنمت ليلة في رمضان فاُريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره فرأيت قبره قد إلتصق بالأرض حتى بقي بينه وبين الأرض مقدار سافٍ أو سافين ، فقلت :
___________________________________
١ ـ موسوعة العتبات المقدسة عن أخبار مكة والمدينة ، قسم المدينة : ٣ / ١٠٣.
إنّما تمّ هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث ، فسمعته من القبر وهو يقول : لا بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ ، قد زارني فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام ؟
فقال عزّ وجلّ : يا أحمد ، لأنّك نصرت كلامي ، فهو ينشر ويتلى في المحاريب !!
فأقبلت على لحده اُقبِّله ، ثم قلت : يا سيّدي ، ما السرّ في أنّه لا يُقبَّل القبر إلّا قبرك ؟
فقال لي : يا بُنيَّ ، ليس هذا كرامة لي ، ولكنّ هذا كرامة لرسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ لأنّ معي شعرات من شعره صلىاللهعليهوآله.
ألا من يحبّني يزورني في شهر رمضان ، قال ذلك مرتين (١).
١ ـ ابن الجوزي ، حدّثه أبوبكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي ، وكان شيخاً صالحاً.
٢ ـ قبر الإمام أحمد بن حنبل يزوره أبوبكر بن مكارم.
٣ ـ أحمد بن حنبل وهو في قبره يقول : لا بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ.
٤ ـ الحقّ عزّ وجلّ يزور الإمام أحمد بن حنبل ، لأنّه ينشر كلام الله تعالى.
٥ ـ أبوبكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي ـ وهو الشيخ الصالح ـ
___________________________________
١ ـ مناقب أحمد : ٦٠٧ ، باب ٩٢.
يقبِّل القبر.
٦ ـ كرامة لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، يقولها الإمام أحمد ، لأنّ معه شعرات من شعره صلىاللهعليهوآله.
٧ ـ الإمام أحمد بن حنبل يقرن محبّته بزيارة قبره ، وخصوصاً في شهر رمضان ، يقول ذلك مرتين.
إنّي لا اُعلّق على هذه الفقرات ، وإنّما أتركها لك أيها القارئ العزيز ، وإليك أيّها المحرِّم لزيارة القبور أتوجه بالسؤال :
ماذا تقول في الفقرة الرابعة ؟ وبما تجيب ؟ هل يشمل الحق تعالى ما يشملنا ؟ وهل أن الحق تعالى يزور أحمد بن حنبل حسب لأنّه ينشر كلام الله ؟
وهل يقتصر نشر كلام الله تعالى على أحمد بن حنبل فقط ؟ ولِمَ لا يزور الحقّ تعالى نبيَّه على هذا التقدير ؟!
ولِمَ يجوز لأبي بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي أن يقبِّل القبر ، ويتّهم غيره بالكفر ، ويُحلّ قتله وهتك عرضه ونهب أمواله ؟
ألإنّ معه شعرات من شعره ؟
ولا يجوز تقبيل قبور أبناء النبيّ صلىاللهعليهوآله وهم من دمه ولحمه وعظمه وجلده وشعره !!
لِمَ لا يجوز زيارة وتقبيل قبر عمّه حمزة ، وابن عمّه وزوج ابنته ، وأبي ولده عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام !
ويضرب ضريحه ومراقد أبنائه الطاهرين بالمدافع والصواريخ ، ويُكفَّر زائروه ، وتهجم عليه الرعاة الجفاة الهمج الرُعاع بحجة أنّ زيارة القبور حرام !!
فما حدا ممّا بدا ؟
مسألة واحدة والحكم فيها مختلف ومتضارب ، حلال وحرام !
إن ابن الجوزي أجاز لنفسه التجسيد لله سبحانه !
وإنّ مَن في القبور يتكلّمون ، والناس تسمع كلامهم !
وأجاز تقبيل القبور بعد زيارتها !
فما الفرق بين الشعرات وبين سائر الجسد حتى تكون الكرامة للشعرات دون غيرها من الأعضاء ككل ؟!
قول محمد بن عبد الوهاب : « أما آن لهذه الجيفة أن ترفع ؟ ».
فالإمام أحمد بن حنبل يقرن محبته بزيارة قبر !
وحرام وكفر على من يزور نبيّه وإمامه ووليّه ، واُمَّه وأباه محبّةً !
ما هذا الكيل بمكيالين ليس إلّا ضرباً من التلاعب بالألفاظ !
إنّ زيارة القبور لا يختص بها الشيعة فحسب ، بل يزور القبور كلّ أصحاب المذاهب.
باستثناء ابن تيمية ومن لفَّ لفَّه ، وهذا
لا يعني أنّ الكلّ على خطأ ؛ وكفره وملاحده إلّا ابن تيمية المعصوم الخالص ، مع ما هنالك من أحاديث صحيحة لا إشكال فيها وردت في الصحاح وكتب السير والتاريخ ، تفيد
كما أسلفنا :
إنّ الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمّة الهداة الميامين عليهمالسلام من أهل بيته هم أيضاً زاروا القبور ، ووقفوا عليها ، واستغفروا الله تعالى عندها.
وهكذا زوجات الرسول صلىاللهعليهوآله ، والخلفاء ، والتابعون وتابعوا التابعين وإلى يومنا هذا زاروا ويزورون القبور.
فما حدا ممّا بدا ؟!
ولماذ توصمون الشيعة بالكفر والإلحاد والخروج من ربقة الإسلام ولا يوسم غيرهم إلّا بالثناء والإكبار ؟!
مع أصحاب الصحاح
ما جاء في صحيح البخاري :
ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، ولمّا مات الحسن بن الحسن ابن علي رضياللهعنه ضربت امرأته القبّة على قبره سنةً ، ثم رُفِعت ، فسمعوا صائحاً يقول : الأهل وجدوا وما فقدوا ، فأجابه الآخر : بل يأسوا فانقلبوا (١).
تقول : ما قال تعالى : ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) (٢).
وفي صحيح مسلم :
إنّ من السنّة أنّ القبر لا يرفع على الأرض رفعاً كثيراً ولا يسنَّم ، بل يرفع نحو شبرٍ ويُسطَّح (٣).
لمّا كان الحجر قبر هاجر وإسماعيل عليهماالسلام وبناتهما وسبعين نبيّاً ، والسنّة تقضي بأن لا يرفع ، بل يرفع نحو شبر ، فلماذا الحجر اليوم يعلو ( ١٦٠ سنتمتراً ) وبعرض ( ٥٠ سنتمتراً ) ، مع كون التسطيح سنّة ؟!
ولماذا قال شيخ الإسلام الغزالي : كان التسطيح في القبور على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولمّا اتخذتها الشيعة مِلنا إلى التسنيم !! (٤)
___________________________________
١ ـ صحيح البخاري : ٢ / ١٨٨ ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور.
٢ ـ الكهف : ٢١.
٣ ـ صحيح مسلم : ٧ / ٣١ ، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.
٤ ـ إحقاق الحق ( الأصل ) : ٣٩١.
والحجر بناء محكم مسطَّح !
فإن كان التسطيح حقّاً فالتسنيم باطل. لأنّه خلاف السنّة.
وإن كان التسنيم هو الحقّ فقد خالفتم السنّة.
وقد سلف منّا القول في زيارة رسول الله صلىاللهعليهوآله لقبر اُمّه ، والاستئذان أن يستغفر لها ، ولكنّ الذي يؤسف له أن نرىٰ مثل هذه الأحاديث التي تسيء إلى مقام رسول الله صلىاللهعليهوآله في اُمّه وأبيه ، وهو الذي تحدّر من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهّرة.
ولكن لمّا كان المقام مقام القول في زيارة القبور ، ترجئ التعليق ثانيةً على مسألة الاستغفار ، التي ذكرها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ) (١).
وقوله صلىاللهعليهوآله : « واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنّها تُذكِّركم الموت (٢).
هذا صحيح مسلم ، وهو من الصحاح المعتبرة عندكم ، والحديث لا غبار عليه ، والأمر في زيارة القبور واضح.
وفي تحريمكم الزيارة خروج عن سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وتحريم ما أحلّ ، وقد قال الله تعالىٰ : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (٣)
وجاءت الأحاديث بهذا اللفظ :
___________________________________
١ ـ إبراهيم : ٤١.
٢ ـ صحيح مسلم : ٧ / ٣٩ ، ( باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه ).
٣ ـ الحشر : ٧.
« فزوروا القبور ، فإنّها تذكّر بالموت ».
« نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ».
فماذا نقول فيمن خالف النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وخالف العلماء الأعلام في صحاحهم ومؤلفاتهم ؟!
ما جاء في سنن أبي دواد :
تأمّل يا أخي في الإسلام ما جاء في سنن أبي داود ما نصّه :
حدّثنا محمد بن سليمان الأنباري ، ثنا محمد بن عبيد ، عن يزيد بن كيان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله قبر اُمّه ، فبكى وأبكى مَن حوله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله :
« استأذنت ربي تعالى على أن أستغفر لها فلم يؤذن لي (١) ، فاستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنّها تذكّر بالموت » (٢).
وجاء فيه أيضاً : حدّثنا أحمد بن يونس ، ثنا معرف بن واصل ، عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرةً » (٣).
نستعرض ما جاء في الحديث الأول :
___________________________________
١ ـ لقد تقدّم أنّ جميع الأنبياء والمرسلين والأوصياء معصومون وآباؤهم واُمّهاتهم مسلمون ، وأئمة أهل البيت عليهمالسلام خرجوا من أصلابٍ طاهرة وأرحامٍ مطهّرة.
٢ ـ سنن أبي داود : ٣ / ٢١٨ / ٣٢٣٤.
٣ ـ المصدر السابق ، الحديث ٣٢٣٥.
« إستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي ».
الاستئذان من الله تعالى ، والإذن منه لا منّا ولا منكم.
فجاء الإذن بالقبول ، وجاء الأمر من الرسول صلىاللهعليهوآله : « فزوروا القبور ».
نعم ، لماذا تحرّمون زيارة القبور وهي بإذن الله ، وبأمر الرسول صلىاللهعليهوآله اُذِن لنا جميعاً بزيارتها ؟!
وفي الحديث الثاني :
كان النهي من رسول الله صلىاللهعليهوآله عن زيارة القبور ثم الأمر ، في قوله :
« فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرة ».
وجاء في سننه في باب كراهية القعود على القبور : حدّثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، أخبرنا عيسى ، ثنا عبد الرحمن ـ يعني ابن يزيد بن جابر ـ عن بسر بن عبيد الله ، قال : سمعت واثلة بن الأسقع يقول : سمعت أبامرثد الغنوي يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها » (١).
نعم : ولا تصلّوا إليها...
فأين أنتم من الحجر « حجر إسماعيل عليهالسلام » ؟
أليس الحجر قبراً لإسماعيل واُمّه هاجر عليهماالسلام ؟!
أليس الحجر مقبرةً لسبعين نبياً من الأنبياء عليهمالسلام ! فلماذا تصلّون إليه من جهات ثلاث ؟ هل سمعتم أو قرأتم : أنّ أحداً منّا رَدَّ عليكم ذلك ، أو أنّ واحداً منّا مَن كفّر أحداً في ذلك بالصلاة إلى الحجر ، وهو مقبرة ؟!
___________________________________
١ ـ سنن أبي داود : ٣ / ٢١٧ ، الحديث ٣٢٢٩.