نافذة على زيارة القبور

السيّد فاروق الموسوي

نافذة على زيارة القبور

المؤلف:

السيّد فاروق الموسوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات دار العلم آية الله بهبهاني
المطبعة: البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8300-11-6
الصفحات: ٢٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فبن لها الإمام عليه‌السلام بيتاً سمّي « بيت الأحزان » (١).

وقد تشرفت بزيارته والصلاة عنده قربة إلى الله تعالى ، وإستذكرت مصاب سيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ولم يطل المقام بها في هذه الدار الدنيا ، حتى آذنت بالرحيل واللحاق بأبيها وهي ساخطة غاضبة ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

يا إخوة الإسلام :

يوم ينقضي سواء كان بالشدة أم بالرخاء ، فكيف بيوم لا ينقضي والحاكم هو الله تعالى ، والخصيم هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخلود : إمّا في الجنّة أو النار ؟!

___________________________________

١ ـ موسوعة العتبات المقدسة ، قسم المدينة المنورة : ٣ / ١٠٣.

١٤١

ذكر الموت

جاء في ذكر الموت مجموعة من الأحاديث الشريفة منها :

« وأكثروا ذكر الموت وما بعد الموت ».

وجاء في الخبر المرفوع :

« أكثروا ذكر هادم اللذات ».

وما بعد الموت :

العقاب والثواب في القبر وفي الآخرة (١).

أما إنّكم تُكثرون ومن الاعتداء ، والتُهَم ، والبهتان !

أما تحسبون للموت حساباً ، ولما بعد الموت ؟

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (٢).

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٤٤.

٢ ـ المؤمنون : ١١٥.

١٤٢

في عالم الرياضة

كم تشدّون الرحال إلى مونتريال ؟

إلى سدني ، إلى دول العالم القاصية ، لتشتركوا في الألعاب الاُولمبية ؟ هذا حلال.

كم تشدّون الرحال إلى البيت الأبيض ولندن وباريس ، وإلى مجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم المتحدة ؟ وهذا هو الآخر ، حلال ثم حلال.

لأنّ الحديث الشريف يقول : « اطلب العلم ولو في الصين » ، ولكن حين تُشدّ الرحال إلى الديار المقدسة ، ومشاهد الأئمة الهداة الميامين عليهم‌السلام حرام ثم حرام ؟

وإذا قلنا : لماذا ؟

قيل : « لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد... » ، وعلى ضوء ما أسلفنا فالحديث موضوع ومفترىٰ.

ودليلنا :

كم تُشدّ الرحال إلى بلاد اُوروبّا وبقاع الأرض ، لتحصيل العلم والمعرفة ؟

وكم تُشدّ الرحال للتدريب في الدورات التعليمية والجامعية والمعاهد العسكرية ؟

وكم تُتابعون وتُصفّقون لمجريات مختلف الألعاب ؟

١٤٣

وكم مرّة يُقبَّل اللاعب الفائز بالكأس والمدالية الذهبية ، ويفرح بها ويفتخر ، وتخرج الصحف والإعلانات في الإذاعة والتلفزيون بالإعلان عن ذلك ؟ كلّ هذا حلال !

ولكن زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصلحاء حرام ثم حرام ؟!

فلو أنّ ما تنفقونه وتُتلفونه على هذا المجال لكي يصرف في مجال الصحة والتعليم وإعانة الفقراء والأرامل لكان خيراً لكم ممّا أنتم فيه ، وإنّ قليلاً ممّا تصرفونه على الطعن والتهم يكفي لهداية الشباب إلى الحق والحقيقة ، ويكفي لمعونة المسلمين في أنحاء العالم ممّا هم فيه من الفقر والحاجة والجهل والمرض والعبودية للأجنبي ، والذي أضحى يبيع ويشتري المسلمين بأموالهم ؛ ليهوّدهم أو ينصّرهم ، أو يتّخذ منهم عبيداً وجواسيسَ ، على بني جلدتهم...

كفاكم ظلماً لنا ! عودوا إلى رشدكم...

تقرؤون كلّما استجدّ في هوليود ، وفي عالم الكرة والرياضة والسياسة ، ولا تقرؤون كتبنا !

وهذه مكتباتنا تعجّ وتضجّ بكتبكم وكتب غيركم من الناس.

وإذا اتفق أنّ كتاباً لنا راج في أوساطكم فإمّا تحرّمون اقتناءه ، أو تحرقوه بعد أن تجمعوه من الأسواق !!

وهذا ما حدث في العراق ، والكتب الإسلامية الشيعيّة ممنوعة وتسحب من الأسواق والمكتبات ، وحتى المكتبات الشخصية هي

١٤٤

الاُخرى لم تسلم بشكل وآخر.

ومن أجل خدمة أنفسكم تعالوا واقرؤوا تراثنا ، حيث انّها محاولة صادقة لمعرفة الحقيقة عن كثب ، ولا تتوارثوا العداء البغيض مشافهةً عن الآباء والأجداد ، واكتبوا الحقائق كما هي من غير تحريف.

لماذا تحرّفون الحقائق والوثائق التاريخية ؟

إنّ في كثيرٍ من الكتب نرىٰ الاختلاف في الطبعات الاُولى منها ، والحجرية ، وبغض المخطوطات ممّا هي عليه في الطبعات الجديدة ، حيث حذفتم وأضفتم كيف ما اتفق من غير أمانة تاريخية !!

وها هو

في باب زيارة القبور يقول ما نصّه : « كان التسطيح في القبور على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمّا اتخذتها الشيعة مِلنا إلى التسنيم » (١).

وهذا لم أجده في طبعة دار الكتاب العربي والطبعة الاُولى لكتاب « عيون الأخبار » لابن قُتيبة ففي الفصل الأول منه يتحدّث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأمّا في الطبعة الثانية لدار الفكر ـ بيروت ، ترى الفصل بأكمله محذوفاً ، هذان مثالان من أمثلة كثيرة في هذا الباب.

يا إخوة الإسلام ، وحّدوا الصفوف والكلمة ، فالكلّ هدف العدوّ ، وهو لا يفرِّق بين أن يكون المسلم شيعياً أو سنياً ، وقد وهبنا الله تعالى القدرة على

___________________________________

١ ـ شيخ الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين : ٤ / ٤٨٤ ـ ٤٨٩.

١٤٥

التمييز.

فلنميّز بين العدوّ والأخ ، قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ).

« فمثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم ، كمثل الجسد إذا إشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (١) فتأمل.

« والقبر أول منزلٍ من منازل الآخرة ، فمن نجا منه فما بعده أيسر ، ومن لم يَنجُ منه فما بعده شرّ منه ».

أعاذنا الله وإياكم من وحشة القبر وضغطته ، وسؤال منكرٍ ونكير ، والعاقبة للمتّقين.

___________________________________

١ ـ دعوات الراوندي : ٢٥٩ ، الفتوحات المكيّة : ١ / ٥٣٦ ، شرح النهج : ١٨ / ٣٨٦.

١٤٦

في شرح نهج البلاغة

قال عليّ عليه‌السلام وقد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة :

« يا أهل الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، والقبور المظلمة ، ياأهل التربة ، يا أهل الغربة ، يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة ، أنتم لنا فَرَط سابق ، ونحن لكم تَبَع لاحِق ، أمّا الدور فقد سُكنت ، وأمّا الأزواج فقد نُكحت ، وأمّا الأموال فقد قُسِّمت ، هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم ؟ ».

ثم إلتفت إلى أصحابه فقال : « أما والله لو اُذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى » (١).

يظهر أنّ خير الزاد عندكم العمل بالظنّ والتهمة ، فنحن لا نزور القبور كحجارة وتراب وعظام بالية ، ولكن نزورها لأنّها ضمّت واحتضنت رفاة عظماء قد شرّفهم الله وعظّمهم علىٰ غيرهم من سائر البشر ، ولأنّها تذكّرنا بالآخرة ، ونتعظ بسيرة أصحابها.

ونزورها تاريخاً لا يقبل الخطأ ، وإلّا فمدينة جدّه الحجازية ما عرفت إلّا بقبر أُمُنا حواء عليها‌السلام ، وهكذا مدينة الخليل في فلسطين الجريحة ما عرفت إلّا بقبر خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام وهكذا...

ولمّا ظعنَ في القبور وعاد إلى أصحابه مُحمّر الوجه ، ظاهر العروق ،

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٣٢٢ ، الخطبة ( ١٢٦ ).

١٤٧

قال : « قد وقفت على قبور الأحبة فناديتها ».

فقيل له : فهل أجابتك ؟ قال « نعم ، قالت : إنّ خير الزاد التقوى ».

وفي وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذرٍّ رضي‌الله‌عنه :

« زُرِ القبور تَذكُرْ بها الآخرة ، ولا تَزُرْها ليلاً ، وغَسِّل الموتىٰ يتحرك قلبك ، فإنّ الجسد الخاوي عِظة بليغة ، وصلِّ على الموتى فإنّ ذلك يُحزِنُكَ ، فإنّ الحزينَ في ظلّ الله » (١).

ووجد على قبرٍ مكتوباً :

مُقيمٌ إلى أنْ يبعَث اللهُ خَلقَهُ

لِقاؤكَ لا يُرجى وأنتَ رقيبُ

تَزيدُ بِلً في كلِّ يومٍ وليلةٍ

وتُنسى كما تَبلى وأنتَ حبيبُ

وجاء في الحديث المرفوع : « ما رأيت منظراً إلّا والقبر أفضع منه ».

وتأمّلوا في الأحاديث الشريفة :

ففي الصحاح المجمع عليها : أنّ عليّاً عليه‌السلام مرّ بقبرين جديدين فقال :

« إنّهما ليُعذَّبان ، وما يُعذَّبان بكبير ، أمّا أحدهما فكان يغتاب الناس ، وأمّا الآخر فكان لا يتنزّه من البول » ودعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين ـ أو قال : دعا بجريدتين ـ ثم غرسهما في القبرين ـ وقال :

« أمّا إنّه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين ».

وعن مجاهد : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ). الهُمَزَة : الطعّان في الناس ،

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٣٨٥ ، طبعة المؤسسة.

١٤٨

واللُمَزَة : النمّام (١).

كفى طعناً في مذهبنا ، فإنّ لنا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اُسوة حسنة.

« وكان بعضهم يلازم الدفاتر والمقابر ، فقيل له في ذلك ، قال : لم أرَ أسلم من الوحدة ، ولا أوعظ من قبر ، ولا أمتع من دفتر (٢).

ومنه قول مكاتب لبني منقر التميميّين ، كان قد ظلع بمكاتبته ، فأتى قبر غالب بن صعصعة فاستجار به ، وأخذ منه حصيّات فشدّهنّ في عمامته ، ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره ، وقال : إنّي قد قلت شعراً ، قال : هاتِه ، فأنشده :

بقبرِ ابن ليلى غالبٍ عُذتُ بعدما

خَشيتُ الرَدى أو أنْ أردَّ على قسرِ

بِقبرِ إمرئٍ يقري المئينَ عظامُهُ

ولَمْ يَكُ إلّا غالباً ميتٌ يَقري

فقالَ ليَ : استقدِم أمامَكَ إنّما

فكاكُكَ أنْ تلقى الفَرَزدَقَ بالمِصْرِ

فقال : ما اسمك ؟ فقال : لهذَم ، قال : يا لهذَم ، حكمك مسمّطاً ، قال : ناقة كَوماء (٣) سوداء الحَدَقة ، قال :

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ٩ / ٦١ ، الخلاف : ١ / ٧٠٥ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باختلاف يسير.

٢ ـ نهج السعادة ، محمد باقر المحمودي : ٨ / ٥٣.

٣ ـ الكوماء : الضخمة.

١٤٩

يا جارية ، اطرحي لنا حبلاً ، ثم قال : يا لهذم ، اخرُج بنا إلى المِربَد فألقهِ في عنق ما شئت من إبل الناس ، فتخيّر لهذم على عينه ناقة ، ورمى بالحبل في عنقها ، وجاء صاحبها ، فقال له الفرزدق :

اغذُ عليَّ اُوفِّكَ ثمنها ، فجعل لهذم يقودها والفرزدق يسوقها ، حتى أخرجها من البيوت إلى الصحراء ، فصاح به الفرزدق : يا لهذم ، قبّح الله أخسرنا !

فخبَّر الشاعر عن القبر بقوله : « فقال ليَ : استقدم أمامك » ، والقبر والميّت الذي فيه لا يُخبران ، ولكنّ العرب وأهل الحكمة من العجم يجعلون كل دليل قولاً وجواباً ، ألا ترى قول زهير :

أمِنْ اُمّ أوفى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ

بِحومانةِ الدّراجِ فالمُتَثَلِّمِ

وإنّما كلامها عنده أن تبيّن ما يُرى من الآثار فيها عن قدم العهد بأهلها.

ومن كلام بعض الحكماء : هلّا وقفت على تلك الجنان والحيطان فقلتَ : أيّتها الجنان ، أين من شقّ أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ؟ فإن لم تجبك حِواراً أجابتك اعتباراً (١).

الناس في الجاهلية كانت تستجير بالقبور بمكان أهلها ومقامهم عند الناس ، وجاء الإسلام فنهى عن زيارتها ، ثم أمر بها.

فإمّا عن جهل تقولون ، وإمّا عن عمد ، فإن كان عن جهل فلا عتب !

___________________________________

١ ـ شرح النهج : ١٠ / ٢٧٤ ، ط ١.

١٥٠

وإن كان عن عمد بعد هذه الشواهد من علمائكم ومؤلّفاتكم فأمرنا وأمركم إلى الله ليومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار...

إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « ليس شيء في الجسد إلّا يشكو إلى الله تعالى ، اللسان على حدّته... » (١).

منكم تخرج الحدّة بما يضرّ وينفع ، إنّكم لا تريدون النصحَ ، ولكنّكم تريدون النَيلَ منّا وممّن نتولاهم ، وهذا الثابت لدينا منذ عرفناكم.

اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ، يغفر لكم ذنوبكم ويكفِّر عنكم خطاياكم ، ويُدخلكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أكثر خطايا ابن آدم من لسانه » (٢).

وقال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « رحم الله عبداً تكلّم فغَنِم ، أو سكت فسَلِم » (٣).

يا إخوة الإسلام ، كفى اختلافاً في الفروع ، فنحن وإيّاكم نعبد إلهاً واحداً أحداً لا شريك له ، ونشهد أن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله ، وقبلتنا واحدة ، وكتابنا وكتابكم القرآن ، نحجّ لبيته ، ونطوف كما تطوفون ، نؤدي الزكاة ، ونأكل ونشرب ما أحلّ الله تعالى ، فما بالكم تُكفِّروننا وتُحلّون دماءنا ؟!

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٨٣ ـ ٨٤.

٢ ـ كتاب الصمت واللسان ، ابن أبي الدنيا : ٤٧.

٣ ـ المصدر السابق : ٤٧.

١٥١

أَلِأَنّا اقتدينا برسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله في زيارة القبور ؟!

لقد ذُكر في خبر وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه عرضت له الشكاة التي عرضت في أواخر صفر من سنة إحدى عشرة للهجرة ، فجهز جيش اُسامة بن زيد فأمرهم بالمسير إلى البلقاء حيث اُصيب زيد وجعفر عليهم‌السلام من الروم ، وخرج في تلك الليلة إلى البقيع ، وقال : إنّي اُمرت بالاستغفار لهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع أولها آخرها ». ثم إستغفر لأهل البقيع طويلاً (١).

والعجيب في الأمر أنّ القوم يكفِّرون من يزور القبور ومن يستغفر لأهل القبور ، ويأخذ العبرة والموعظة ، ويذكر الآخرة والقبر ، وما بعد القبر ، والجنّة والنار !

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١ / ٨٤ ، وما بعدها.

١٥٢

موضع دفن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

« ثم اختلفوا في موضع دفنه ، فرأى قوم أن يدفنوه بمكّة ؛ لأنّها مسقط رأسه ، وقال من قال : بل بالمدينة ، ندفنه بالبقيع عند شهداء اُحد.

ثم اتفقوا على دفنه في البيت الذي قبض فيه ، وصلّوا عليه إرسالاً لا يؤمُّهم أحد.

وقيل : إنّ عليّاً عليه‌السلام أشار بذلك فقبلوه.

وأنا أعجب من ذلك ؛ لأنّ الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر ، فما الذي منع من أن يتقدم أبوبكر فيصلّي عليه إماماً ؟!

وتنازعوا في تلحيده وتضريحه ، فأرسل العباس عمّه إلى أبي عبيدة ابن الجرّاح ـ وكان يحفر لأهل مكة ويضرّح على عادتهم ـ فقال : اللهمّ اختَر لنبيك ، فجاء أبو طلحة فلحد له واُدخل في اللحد.

وتنازعوا فيمن ينزل معه القبر ، فمنع عليّ عليه‌السلام الناس أن ينزلوا معه ، وقال : « لا ينزل قبره غيري وغير العباس » ، ثم أذن في نزول الفضل واُسامة بن زيد مولاهم ، ثم ضجّت الأنصار ، وسألت أن ينزل منها رجل منهم في قبره ، فأنزلوا أوس بن خولي ، وكان بدرياً.

فأمّا الغسل فإنّ علياً عليه‌السلام تولّاه بيده ، وكان الفضل بن العباس يصبّ عليه الماء.

وروى المحدثون عن علي عليه‌السلام ؛ أنه قال :

ما قلّبتُ منه عضواً إلّا وانقلب ! لا أجد له ثقلاً ، كأنّ معي من

١٥٣

يساعدني ، وما ذلك إلّا الملائكة.

وأمّا حديث الهينمة (١) وسماع الصوت ، فقد رواه كثير من المحدثين عن علي عليه‌السلام ، وتروي الشيعة : أنّ علياً عليه‌السلام عصّب عينَي الفضل بن العباس حين صبّ عليه الماء ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصاه بذلك ، وقال :

« إنّه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلّا عُمِيَ » (٢).

والعجب من شارح النهج كيف يعجب من أنّ الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر ، فما الذي منع من أن يتقدم أبوبكر فيصلّي عليه إماماً ؟!

أقول : إنّ النبيّ والوليّ الوصي لا يصلّي عليه إلّا النبيّ أو الوصي ، ولمّا لم يكن أبوبكر نبيّاً ولا وصيّاً ، وإنّما خليفة فقد كان تأخّره في الصلاة عليه جماعة في محله ؛ لأنّه منشغلاً بالتآمر علىٰ غصب الخلافة في سقيفة بني ساعدة لأجل تثبيت اُمور زعامته ، بحجة عدم وقوع الفتنة !!

وأيّ فتنة أعظم من هذه الفتنة !!

وربّ قائلٍ يقول : ما الذي منع عليّ عليه‌السلام من الصلاة عليه جماعة ؟

قلنا : وما المانع من ذلك ؟ إلّا أنّ الرواة والمحدّثين آثروا أن يكتموا ذلك.

على الرغم من وجهات النظر المختلفة في البناء على القبور !

أو اتخاذ المراقد مصلّىً أو مساجد ، نجد أنّ الإرادة الإلهية شاءت أن تكون هناك قبّة شامخة ، وروضة من رياض الجنة إلى جوار القبر

___________________________________

١ ـ الهينمة : الكلام الخَفيّ لا يُفهَم ، وهو الصوت وشِبهُ قراءةٍ غير بيِّنة. لسان العرب : ١٥ / ١٤٨. ( مادة هَنَم ).

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، لإبن أبي الحديد : ١٠ / ٨٥ ـ ٨٦.

١٥٤

الشريف ، والحفاظ على الآثار من منبر ومحراب وأساطين تركّزت في أماكنها ، والناس يسلّمون ويصلّون ويستغفرون عند القبر الشريف وفي الروضة الشريفة ، ولكنّ الذي في قلبه مرض يأبى إلّا أن يدسَّ السُمَّ بالعسل ، وأن يتحمل الآثام ، إرضاءً لأسياده ممّن يُملون عليه التعرّض للشيعة في قولهم : عبّاد القبور ، الكفرة... !!

وهم يعلمون أنّ الملايين في مصر والعراق ، وغيرهما من أهل المذاهب الأربعة يزورون ويطوفون ، ويقبّلون ، ويُسرجون ، ويُقيمون البناء على قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم.

وإليك أيها القارئ العزيز زفرة من زفرات الفراق وأنّةً من أنين الشجو المتلضّي في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها‌السلام ، كالمناجي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قبره :

« السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن إبنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك ! قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، ورقَّ عنها تجلّدي ، إلّا أنّ في التأسي لي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ! فلقد استُرجِعَت الوديعة ، واُخذت الرهينة ، أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم. وستُنبِئك ابنتك بتظافر اُمّتك على هضمها.

فأحفها السؤال ، وإستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلوا منك الذكر.

والسلام عليكما سلام مودع ، لا قالٍ ولا سئم ، أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الصابرين » (١).

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٠ / ١٩٥ و ٢٦٥ ، الكافي ١ / ٤٥٩ الحديث ٣ ، باختلاف يسير.

١٥٥

هؤلاء الذين زاروا القبور

قال الواقدي :

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يزور قتلى اُحدٍ في كلّ حول ، وإذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول :

« السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ».

وكان أبوبكر يفعل مثل ذلك ، وكذلك عمر بن الخطاب ؛ ثم عثمان ، ثم معاوية ؛ حين يمر حاجاً ومعتمراً.

قال :

وكانت فاطمة عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تأتيهم بين اليومين والثلاثة فتبكي عندهم وتدعو.

وكان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ماله بالغابة ، فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول : السلام عليكم ثلاثاً ، ويقول : لا يُسلِّم عليهم أحد إلّا ردّوا عليه السلام إلى يوم القيامة.

قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قبر مصعب بن عمير ، فوقف عليه ، ودعا وقرأ : ( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) ، ثم قال :

« إنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فائتوهم فزوروهم وسلّموا عليهم ، والذي نفسي بيده لا يُسلِّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه ».

وكان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة فيدعو ويقرأ ويقول مثل

١٥٦

ذلك.

وكانت اُمّ سلمة ـ رحمها الله ـ ، تذهب فتُسلِّم عليهم في كل شهر ، فتظلّ يومها ، فجاءت يوماً ومعها غلامها نبهان فلم يُسلِّم ، فقالت : أي لُكع ! ألا تُسلّم عليهم ؟! والله لا يسلم عليهم أحد إلّا ردّوا عليه إلى يوم القيامة.

قال : وكان أبو هريرة وعبدالله بن عمر يذهبان فيُسلِّمان عليهم.

قالت فاطمة الخزاعية : سلّمت على قبر حمزة يوماً ومعي اُخت لي ، فسمعنا من القبر قائلاً يقول : وعليكما السلام ورحمة الله ! قالت : ولم يكن قربنا أحد من الناس (١).

الحمد لله الذي أعثَرَنا على هذا النصّ الجليل ، ومن كتب إخواننا أبناء السنّة ، وهو نصّ في غاية الأهمّية والوضوح ، نصّ يحمل أسماء وشخصيات مرموقة لديكم تزور القبور ، كما نقله الواقدي ، والشخصيات هي :

١ ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يزور القبور.

٢ ـ فاطمة الزهراء البتول عليها‌السلام كانت تزور القبور.

٣ ـ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يزور القبور.

٤ ـ أبوبكر ( عبدالله بن أبي قحافة ) كان يزور القبور.

٥ ـ عمر بن الخطاب كان يزور القبور.

٦ ـ عثمان بن عفّان كان يزور القبور.

٧ ـ معاوية بن أبي سفيان كان يزور القبور.

٨ ـ سعد بن أبي وقّاص كان يزور القبور.

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٤٠ ـ ٤١.

١٥٧

٩ ـ أبو سعيد الخدري كان يزور القبور.

١٠ ـ اُمّ سلمة ( اُمّ المومنين ) كانت تزور القبور.

١١ ـ وكما أسلفنا فإنّ عائشة كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن وتردّ على من يستنكر ، بقولها : « ثم أمر ».

١٢ ـ أبو هريرة كان يزور القبور.

١٣ ـ عبدالله بن عمر كان يزور القبور.

١٤ ـ فاطمة الخزاعية واُختها كانتا تزوران القبور.

أمّا :

ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ، فيظهر لهما أنّهما أكثر ورعاً ممّن ذكرنا ، ولكن ختمت النبوة بمحمد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكأنّهما كانا أكثر تقوً وخشيةً لله تعالى ؛ لأنّهما لا يريان حِلِّية زيارة القبور.

مع ما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بزيارتها : « فائتوهم فزوروهم وسلِّموا عليهم » ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نافذ ومطاع ؛ لأنّه لا ينطق عن هوىٰ ، كما قال تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١)

قال تعالى : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (٢).

وهذا شأن من آمن بهم من الوهابية ، فحاربوا زيارة القبور ، وكفّروا أهل لا إله إلّا الله على زيارتهم للقبور ، وما زالوا ، ..

ولو أحصينا ما جاؤوا به من البدع ، وما أحدثوه في الدين ، وما حذفوه ، لجمعنا منه كتاباً قيماً ، ولكنْ نَذَرُهم في طغيانهم يعمهون ، ليروا ما

___________________________________

١ ـ النجم : ٣ و ٤.

٢ ـ الحشر : ٧.

١٥٨

قدمت أيديهم يوم لا ينفع ولا بنون...

ونقول لابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ومن تابعهما : لماذا تعصون الله تعالى والرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله جهراً علناً والله تعالى يقول : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١). أليس هذا قول الله تعالى ؟!

ويقول جلَّ وعلا : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا ) (٢). أليس هذا قول الله تعالى ؟!

أفي هذا مجال للاجتهاد والنظر ؟ وهل بلغ بكم العلم حتى تفرضوا غير ما فرض الله ؟

ومما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه قوله :

روى أبو مويهبة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : أرسل إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جوف الليل ، فقال :

« يا أبا مويهبة ، إنّي قد اُمرت أن أستغفر لأهل البقيع ، فأنطلق معي » ، فإنطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم ، قال :

« السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه !

أقبلتِ الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شر من الأولى ».

ثم أقبل عليَّ ، فقال :

« يا أبا مويهبة إنّي قد اُوهبت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنّة ، فخيّرتُ بينها وبين الجنّة ، فاخترت الجنة » ، فقلت : بأبي أنت وأُمّي ! فخذ مفاتيح خزائن

___________________________________

١ ـ الحشر : ٧.

٢ ـ الأحزاب : ٢١.

١٥٩

الدنيا والخلْد فيها والجنّة جميعاً ، فقال :

« لا يا أبا مويهبة ، إخترت لقاء ربّي » ، ثم إستغفر لأهل البقيع وإنصرف ، فبدأ بوجعه الذي قبضه الله فيه (١).

تأمل أخي القارئ العزيز :

الناقل والمنقول عنه ؛ من إخواننا أهل السنة ، الناقل شارح نهج البلاغة ، والمنقول عنه الطبري ، والنص واضح لا يقبل الخطأ ، والعقل والنقل بذلك ناهض إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

« إنّي قد أمرت لأستغفر لأهل البقيع ، فإنطلق معي ».

فلماذا ينتقص من يزور القبور ، ويستغفر لأهلها من الآباء والأمهات ، والأنبياء والأوصياء والصلحاء ، ليأخذ العبر ، ويذكر الموت والآخرة ؟!

يا إخوة الإسلام :

إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ، إستغفروا ربكم إنه كان غفاراً ، وأطلبوا العذر والعفو ممن ظلمتم ، قبل أن تفضحوا في الآخرة على رؤوس الأشهاد !

لا تعلوا على الله في عباده وبلاده ، قال تعالى :

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٢).

___________________________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، لإبن أبي الحديد : ١٣ / ٢٧ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٦٦٠.

٢ ـ القصص / ٨٣.

١٦٠