منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري

منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

المؤلف:

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري


المحقق: الدكتورة ملك محمد خياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: جامعة أم القرى
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9960-03-366-X

الصفحات: ٥٨١

المدينة المنورة السيد محمد أسعد (١) ، ونائب الحرم السيد أحمد أفندي ، وابن صاحب القفطان ، وألبس صاحبنا الشيخ عباس المنوفي قفطانا غاليا ، وكذلك أغوات البلكات ، وأصحاب الأدراك ، وكل من له عادة في اللبس.

ثم قريء المرسوم السلطاني ، وكان القاريء له صاحبنا الشيخ عباس المنوفي ، ومضمونه :

«بعد المدح والثناء ، والاعتناء على الحجاج ، والزوار ، والتجار ، والمجاورين (٢) كما هو معتاد المراسيم.

يكون في معلومكم أن مفاخر الأماجد والأعيان ، مصطفى أمين الصرة ، ومصطفى قايقجي باش ، والشيخ مصطفى كاتب ديوانكم ، دام مجدهم ، وصلوا إلينا بما أرسلتم صحبتهم من المكاتيب ، وصاروا في منظورنا (٣) ، وفهمنا خلاصتهم ، فاستدلينا بهم على حسن سيرتكم وخلوص طويتكم وسريرتكم ، وعلى وفور صداقتكم إلى آخر ما ذكرتم.

ثم بعد كلام كثير : واستوجبت أن تواضاء من مشارف مطالع مواهبنا الشاهانية ، وأنوار مسامع عوارفنا السلطانية ، وخاص خلعتنا الملوكانية الفاخرة ، وكسوتنا الخسروانية الباهرة ، سمور فائض النور ، محيط على ثوب خلعة سلطانية ، مورث البهجة والسرور من إحسان

__________________

(١) في (أ) «مفتي المدينة المنورة والسيد محمد أسعد». والاثبات من (ج). والسيد محمد أسعد ، ولد بالمدينة سنة ١٠٨٨ ه‍ وكان عالما فاضلا ، تولى افتاء المدينة المنورة مدة. توفي بالمدينة سنة ١١٤٣ ه‍. مؤلف مجهول ـ تراجم أعيان المدينة المنورة ص ٤١.

(٢) في (ج) «المجاورون».

(٣) في (أ) «ممنقولنا». والاثبات من (ج).

٤٦١

عنايتنا ، بخدمة الدستور الأكرم ، المشير الأفخم ، نظام العالم ناظم مناظم الأمم ، الوزير الأعظم علي باشا ـ أدام الله تعالى إجلاله وصحبته ـ مبلغ خدمتنا ، قدوة الأماجد والأعيان ، تلخيصبي (١) زادة يعقوب ، زيد مجده ، مأمورنا الهمايوني (٢) الذي هو بأعلا (٣) صفة مقرون ، إلخ».

ومما ذكر في المرسوم أيضا :

«وقبل هذا صدر أمرنا (٤) في خصوص الشريف سعيد ، وابعاده عن سائر أطراف الحجاز والحرمين ، فتعهدت لنا بذلك ، فما علمنا هل فعلت بما تعهدت به أم لا؟ مع اعتقادنا تنفيذ ما أمرناك به ، ولتكن كراكب الكميت ، المتمكن من سرجه (٥) ، يديره حيث شاء. وتستجلبوا لنا خير الدعاء ، لا سيما أعقاب الصلوات الخمس ، ومظان إجابة قضاء الحاجات في الأوقات الفائضة البركات». إلى آخر ما ذكر.

هذا مضمون المرسوم السلطاني الوارد صحبة (٦) الآغا المذكور مع الحذف والاختصار ، وكمال الإعتناء من قوله بخدمة الدستور الأكرم والمشير الأفخم.

__________________

(١) في (ج) «تلخصبي».

(٢) أي السلطاني لأن الهمايوني تؤخذ من كلمة همايون وهي تعني ملكي أو سلطاني وهي فارسية الأصل. أنظر عنه : حسين نجيب المصري ـ معجم الدولة العثمانية ص ٢٢٩

(٣) في (ج) «بالملاطفة مقرن».

(٤) في (أ) «الأمرنا». والاثبات من (ج).

(٥) المقصود هنا تكون كراكب الخيل «الكميت» المتمكن من سرعته يديرها حيث أراد. وهذا حث له.

(٦) في (ج) «صحبته».

٤٦٢

فإنه جعل الوزير في هذا الخطاب مقام قابي كيخية حضرة مولانا الشريف ، وإلا فالقواعد والمراسيم والقوانين السابقة في المراسيم لم يذكروا فيها مثل هذا ، ولكن الخصوصية الزائدة اقتضت ذلك (١).

ثم بعد تمام القراءة توجه الشريف إلى داره السعيدة ، وجلس للتهنئة ، فطلع إليه الناس وهنوه ، وباركوا له.

وفي يوم الخميس سابع شوال : أرسل الشريف عبد الكريم إلى الشريف سعيد :

«بأنك ترحل من العابدية ومن هذه الجهات ، وأطراف الحجاز ، فإن حضرة السلطان لزم علينا في نفس الأمر الوارد صحبة الأغا بذلك ، ونحن وأنت من تحت أمر السلطان».

فرحل الشريف هو وأتباعه ، وتوجه إلى جهة اليمن.

وفي يوم الاثنين ثاني (٢) شهر ذي القعدة : ورد نجاب مصر المحروسة ، وصحبته أحد أتباع شيخ الحرم المكي الأمير إيواز بيك ، والمرسل له إسماعيل أغلى ، وإن / المتولي وصل مصر ، وهذا العزل كان بطلب الصنجق ، فإنه اشتاق إلى والده وبلاده ، وطلب من حضرة الشريف يعرض إلى الدولة العلية بعزله ، فوافقه بعد التأبي الشديد ، فجاءه جواب العرض بالعزل ، لأن في السابق طلب الصنجق (٣) ذلك من السلطنة ، فما وافقوه ، وجعلوا الأمر منوط بالشريف. فلما علم ذلك ،

__________________

(١) هذا القول يدل على مكانة الشريف الكبيرة لدى السلطان العثماني.

(٢) في (ج) «ثامن».

(٣) في (أ) تكرر «طلب الصنجق ذلك».

٤٦٣

التمس من الشريف ، يعرض له بهذا (١).

وفي يوم الثلاثاء ثالث الشهر المذكور : وصل بعض عربان من أهل اليمن إلى مكة ، وأخبروا : أن الشريف سعيد تعرض لقافلتهم وأخذها ، وأنها زهاء ثمانين جملا من القوت ، والمحل الذي نهبت فيه القافلة قريب من الليث.

وفي يوم الاثنين تاسع الشهر : وصل أربعة من بني صخر ، من جهة الشام إلى الشريف ، وإلى إيواز بيك يخبرون بأن نصوح باشا ، وعثمان باشا ، تولى باشة الشام ، وأمير الحاج الشامي.

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور : ورد خبر مركب (٢) عثمان دورلي ، أنه وصل مرسى السيد عامر ، وأن خلفه مراكب أخرى.

وفي عشرين منه : توجه الأمير إيواز بيك إلى جدة لعشور المراكب الواردة.

وفي أواخر هذا الشهر : وصلت جميع المراكب ، وهي خمسة : الدورلي ، وعبد الغفور ، وخوجا حميد ، ومركبان آخران.

وفي يوم سابع عشرين الشهر المذكور (٣) : وصل نجاب من غيطاس بيك أمير الحج المصري ، أرسله من المويلح ـ البندر المعروف ـ من طريق مصر ـ لحضرة الشريف وللأمير إيواز بيك يخبرهما :

__________________

(١) في طلب شيخ الحرم إيواز بيك الشريف عبد الكريم التوسط في عزله ، وعودته إلى أهله في تركيا ، دليل على مدى ما وصلت إليها مكانة الشريف عبد الكريم لدى الدولة العثمانية.

(٢) في (أ) «ركب». والاثبات من (ج).

(٣) ذي القعدة.

٤٦٤

«أن محمد باشا صاحب جدة ، أدركنا في الطريق وترك الحاج ، وتقدم إليكم صحبة النجاب ، تحيطون علما بذلك».

فعين له حضرة الشريف بيت مولانا الشيخ عبد الله سالم البصري ، ومولانا السيد محمد شيخان (١) أعدهما لنزوله.

وثامن عشرين الشهر : وصل محمد باشا إلى جدة ، وقابله الأمير إيواز بيك المقابلة اللائقة [به](٢) ، وجعل له ضيافة ، وعزمه.

وتاسع عشرين (٣) : وصل مكة أحد الأتباع (٤) للباشا بالأمر حقة ، وسجله عند القاضي بالمحكمة.

ودخل موسم هذه السنة المباركة ، وكان غرة ذي الحجة ، بالثلاثاء.

فلما كان يوم الخميس [الخامس](٥) منه : دخل الحاج المصري مكة.

وسادسه : ركب إليه مولانا الشريف بآلاي والموكب العظيم ، وعرض بالسادة الأشراف والعساكر والعربان إلى المحل المعتاد ، ولبس القفطان الوارد صحبة أمير الحاج المصري غيطاس بيك ، وألبس كل من له عادة.

وأصبح يوم السابع : وعرض بآلاي والموكب العظيم بجميع من

__________________

(١) محمد بن شيخان (١٠٥١ ـ ١١٢٢ ه‍) شافعي مكي ولد بمكة المكرمة ، وصحب الشيوخ ، وأخذ منهم إلى أن صار يشار إليه بالبنان في العلوم. أبو الخير مرداد ـ نشر النور والزهر ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في النسختين «تاسع عشريه».

(٤) في (أ) «أتباع». والاثبات من (ج).

(٥) ما بين حاصرتين من (ج).

٤٦٥

تقدم ، وركب إلى المحل المعتاد ، ولبس القفطان الوارد صحبة نصوح باشا أمير الحج الشامي. وهذه أول سنة وصل فيها أميرا (١) على المحمل الشامي.

ثم رجع الشريف بالآلاي إلى بيته ، وحج بالناس على جري عادته ، مع غاية الأمن والأمان ، وكمال الرفاهية والاطمئنان.

وكانت الوقفة بالأربعاء ، ولم يحصل في هذا الموسم شيء من المخالفات ـ لله الحمد جملة كافية ـ.

ولما كان يوم السبت تاسع عشرين الشهر المذكور (٢) : رحل نصوح باشا أمير الحاج الشامي من مكة ، وتوجه قبل معتاده خوفا من اجتماع العربان أمامه.

وفي يوم الجمعة خامس عشرين الشهر : رحل أمير المصري بعد الصلاة ، وتوجه مع سلامة الله تعالى.

وفي هذا الموسم : توجه بهدية مولانا الشريف إلى الدولة العلية مصطفى أفندي ديوان كاتب ، وهذه سفرة ثانية (٣) ـ وصحبته الهدية.

وتأخر الحاج المصري عن عادته ثلاثة أيام لأجل الأمير إيواز / ٣٨٥ بيك (٤) ، لأنه كان عليه بعض مصالح ، ومحاسبة بينه وبين / حضرة الشريف والتجار وغيرهم.

وتوجه صحبة الحاج من مكة ، ولم يبق لأحد من الناس في ذمته

__________________

(١) في (ج) «أمير».

(٢) ذي الحجة.

(٣) السفرة الأولى كانت سنة ١١١٩ ه‍.

(٤) هو شيخ الحرم الذي عزل عن منصبه بطلب منه ، بعد توسط الشريف عبد الكريم له.

٤٦٦

درهم ولا دينار ، وجميع أهالي الحرمين أوفاهم حقوقهم من علوفة وغيرها ، ونشروا له الراية البيضاء ، وتشكروا له من فضله ، وحسن سلوكه ، وإنصافه معهم ، وحصل لهم غاية الكرب الشديد في (١) عزله.

ولم يتفق أن باشا ولا غيره من الصناجق ممن (٢) تقدمه أو تأخر عنه ، أنه سلك في الحرمين وأهاليهما مسلكه وحذوا حذوه ، فجزاه الله عن نفسه وعن المسلمين خيرا.

ومن حسن سلوكه ووفائه لأهل الحرمين ضرب به المثل فقيل :

«ما بعد إيواز بيك أمير ، ولا بعد سليمان باشا وزير».

لكن فرق بين الرجلين : هذا في الإحكام والتدبير والسياسة لا الوفاء بالحقوق. وإيواز حوى جميع المحاسن.

__________________

(١) في (أ) «من». والاثبات من (ج).

(٢) في (أ) «من». والاثبات من (ج).

٤٦٧
٤٦٨

ودخلت سنة ١١٢١ إحدى وعشرين ومائة وألف :

وكان غرة محرم الحرام بالأربعاء ، وفيه نزل محمد جاووش باشا محسن أوغلي (١) إلى جدة هو والسيد يحيى بن بركات.

وفي ثامن عشر الشهر المذكور : رحل الحج العجمي ، وتحير عن معتاده في هذه السنة ، والسبب في ذلك ما لحقه من المشقة والتعب من بعض السادة الأشراف ، فإنهم أخذوا منهم فوق المعتاد ، وتصرفوا فيهم تصرف الملاك.

وفي أواسط شهر صفر : ورد خبر نصوح باشا ، أنه حين وصل العلا جاءه شيخ العرب ملحم ، يطلب منه فكاك ولده ، لأن في طلعة الحاج إلى مكة مسكه الباشا ، وربطه ، وأخذه معه ، فعند رجوعه إلى العلا طلب والده فكاكه ، فأجابه :

«بأني إذا وصلت الشام أطلقته ، وأنعمت عليه ، وأرسلته إليك».

فأرسل ملحم [لشيخ العرب](٢) كليب يتشفع به في إطلاق ولده.

فأرسل كليب ولده إلى نصوح باشا يتشفع عنده في فكاك ولد ملحم (٣).

فقابل الباشا ابن كليب بالمقابلة الحسنة (٤) ، وألبسه فرو سمور ،

__________________

(١) في (ج) «أغلي».

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في (أ) وردت «فأرسل ملحم لكليب يتشفع به في إطلاق والده إلى نصوح باشا يتشفع عنده في إطلاق والده ، فأرسل لكليب والده إلى نصوح باشا يتشفع عنده في فكاك ولد ملحم» ، والاثبات من (ج).

(٤) في (ج) «بالمقابل الحسن».

٤٦٩

وقدم له فرسا ، وأنعم عليه بشيء من الدراهم وقال :

«سلم على والدك الشيخ (١) وقل له شفاعتك مقبولة ، غايته أن القصد وصولك إلينا ، نتفاوض نحن وأنت فيما يعود نفعه علينا وعليك وعلى المسلمين».

وأظهر له الملاطفة ولين المخاطبة ، وبسط له بساط الأمان ، بحيث لم يدخله شك في ذلك ، ودس ما أراد له من الغدر (٢).

ثم توجه ابن كليب إلى والده وهو متشكر من انعام الباشا ، وأخبر والده بحقيقة الواقع ، وأن الباشا في غاية الصداقة والمحبة لك ، وأنه وافق على إطلاق ولد ملحم ، وقبل شفاعتك ، ولكن قصده وصولك إليه لأمور مهمة ، يحتاجك إليها.

فحصل عن كليب غاية التوفيق ، وخاف الغدر منه ، فألزمه ولده بالتوجه إليه ، وقال : «قد كشفت حقيقة الباشا وأمنت غائلته من طرفك ، ولا هناك ما تخشى».

فركب كليب لأمر أراده الله ، وتوجه إلى الباشا ، وقد نصب له شارقة (٣) بعيدة عن الحاج ، وأعدها للاجتماع به ، ولما أراد من الخديعة.

فلما [رأى](٤) كليب البعد عن الحي ازداد أمنا.

فعند وصوله إليه تلقاه الباشا بالرحب والسعة ، وأعد له طبنجة (٥)

__________________

(١) في (ج) «شيخ».

(٢) في (أ) «ودس له ما أراد له من الغدر». والاثبات من (ج).

(٣) قد تكون خيمة وضعها في الموضع الذي تشرق عليه الشمس.

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) الطبنجة : البندقية. محمود شوكت ـ التشكيلات والأزياء العسكرية العثمانية ٧٧.

٤٧٠

محشوة رصاص.

وقال لولد كليب : «إقف (١) أنت وجماعتك بعيدا عن المساررة (٢) بيني وبين أبيك».

وأدخل كليب الشارقة المنصوبة واختلى به ، / ، وشرع يتكلم معه ، ثم غدره وضربه بالطبنجة.

وقد رتب جماعة من الخيالة عن سماع رمي البندق «تحضرون على خيلكم». فحضروا.

فلما علم ابن كليب بقتل أبيه ، كر عليهم بجماعته (٣) فتكاثروا عليه ، فهرب ، وقطعوا رأس كليب ، وبعض جماعته الذين أدركوهم ، ودخل برأس كليب الشام (٤) ، ثم أرسله إلى الدولة العلية.

فكان غدر كليب سببا لعلو نامته عند حضرة السلطان حتى صار منه ما صار (٥).

وفي هذا الشهر (٦) : وصل مركب سعيد حامد بندر جدة ، وأخبر :

«أن خمسة لكوك (٧) ربية ، وصلت معه ، أرسلها سلطان شاه عالم (٨) صدقة لأهل الحرمين. وعند وصولها إلى سورت (٩) إنتقل إلى رحمة

__________________

(١) هكذا وردت في النسختين. أقف من قف باللهجة العامية.

(٢) من مساره وسرارا. أعلمه بسره. ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ١٣٢.

(٣) في (أ) «بجماعة». والاثبات من (ج).

(٤) هو مثل من أمثال بلاد الشام ، جاء برأس كليب.

(٥) قد يكون مقتل كليب بسبب قطعه طريق الحاج.

(٦) شهر صفر.

(٧) سبق تعريف ذلك.

(٨) في (أ) «عالم شاه عالم». والاثبات من (ج).

(٩) وهي سورات إمارة كبيرة في الهند. ظهرت أهميتها كميناء هام منذ سنة

٤٧١

الله تعالى الرجل الأمين عليها. فأرسل صاحب سورت إلى السلطان يعرفه بذلك ، ليرسل من طرفه ناظرا عليها. فهذا سبب تحيرها.

وفي سابع عشرين الشهر المذكور : برز الشريف في بستان عثمان حميدان ، واستمر أتباعه بالبستان كامل الشهر (١) ـ ربيع الأول ـ وهو تخلف بمكة لبعض أمور.

وفي غرة ربيع الثاني : برز العسكر والخزنة والدبش ، وعزم معهم السيد سرور بن يعلى أحد أعمام حضرة الشريف.

فلما كان ليلة رابع الشهر المذكور : نزل الشريف المسجد ، وطاف ، وودع ، وركب من باب السلام وتوجه إلى البستان ، وأقام مقامه في الديرة وكيلا عنه مولانا السيد زين العابدين بن إبراهيم ، ثم لحقه (٢) هناك السادة الأشراف ، كما هو عادتهم.

وأصبح شد إلى حواس (٣) ، وأقام فيه إلى يوم الأحد سابع الشهر المذكور. ثم شد ، وتوجه إلى المبعوث ، وأقام فيه إلى أن دخل [شهر](٤) جمادى الآخر ، وجميع القبائل تأتي إليه من سائر النواحي بالهدايا من

__________________

١٤١٥ م ، عرفت بأنها باب مكة والثغر المبارك. لأنها كانت الثغر الذي يرحل منه الحجاج. محمد ثابت الفندي ـ دائرة المعارف الإسلامية ١٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(١) في (ج) «شهر».

(٢) في (ج) «لحفته».

(٣) في (أ) «مواس». والاثبات من (ج).

وحواس : بفتح الحاء وآخر سين واد صغير يصب في عرنة ، وهو ليس بعيدا عن علمي نجد على ١٦ كيلا تقريبا من مكة في طريق نخلة ـ الطائف. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٣ / ٧٤ ، ٤ / ١٥٦.

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

٤٧٢

الخيل والإبل والغنم ، وجميع ما أهدي ، [إليه](١) فرقه على السادة الأشراف. وكان له صورة.

وقابل العربان على حسب هداياهم أحسن المقابل ، وألبسهم الجوخ ، وأنعم عليهم بالإحسان الجميل الجزيل. ورجعوا من عنده شاكرين ناشرين.

وفي هذا الشهر : وصل نجاب المولد من مصر المحروسة ، وأخبر أنها في غاية الأمن والأمان وسخاء ورخاء ، وأن غيطاس بيك عزل عن امارة الحج ، وتولى إبراهيم بيك أبو شنب أمير الحج المصري.

وفي يوم الجمعة خامس جمادى الآخر : وصل الشريف [إلى](٢) الطائف ، هو وغالب العسكر ، بقصد زيارة الحبر سيدنا عبد الله بن عباس (٣) ، ودخل بعد العصر بالنوبة وآلاي بالموكب العظيم وسائر السادة والأشراف معه ، إلى أن وصل الضريح الشريف ، وزار واستمد (٤) ، ثم

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) وهو عبد الله بن العباس رضي‌الله‌عنهما ، شخصية إسلامية بارزة وصحابي جليل ولد قبل الهجرة بسنتين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبه ويدعو الله أن يعلمه التأويل ، فكان أعلم الناس بآيات القرآن وتفسيره ، وأكثر المسلمين تفقها في الدين ، وكان موضع احترام الخلفاء الراشدين وإجلالهم ، اعتزل الحياة السياسية بعد قتل علي بن أبي طالب. وأقام في الطائف إلى أن توفي سنة ٦٨ ه‍. عنه انظر : عز الدين بن الأثير ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة ٣ / ١٨٦ ـ ١٩٠ ، ابن حجر العسقلاني ـ الإصابة في تمييز الصحابة ٤ / ١٤١ ـ ١٥٢ ، عبد العزيز سالم ـ العصر العباسي الأول ص ٩.

(٤) طلب المعونة والمساعدة مما يتنافى وتعاليم الإسلام لأنه ينافي توحيد الألوهية الذي هو توحيد الله بأفعال العباد ، ومنها الدعاء حيث لا يجوز طلب المساعدة من أحد إلا من الله سبحانه وتعالى. وهذا من تأثير الصوفية وأهل البدع.

٤٧٣

توجه إلى بيت السيد حسين بن زين العابدين وكيل الديرة عنه في الطائف ، وبات عنده تلك الليلة.

وأصبح يوم السبت قيّل عنده ، وأعطى للشريفة عمرة بنت السيد أحمد بن حسين بن عبد الله زوجة السيد حسين المذكور جميع ما تحصل له من الضيفة المعتادة ، وهي عشرة آلاف أشرفي ، وجعل هذا في مقابلة نزوله [هذا اليوم](١) عند زوجها السيد حسين بن زين العابدين.

وفي هذا اليوم : عزم عليه جميع من كان بالطائف من أهل مكة والمدينة وغيرهم ، بقصد السلام [عليه](٢) ولم يتخلف أحد ، ومن جملة من عزم عليه (٣) صاحبنا القاضي خير الدين بن القاضي تاج الدين إلياس المدني (٤) ، ومدحه بقصيدة وألبسه صوفا نفيسا.

وأصبح يوم الأحد : ركب مولانا الشريف وتوجه إلى المبعوث هو والسادة الأشراف الذين معه ، واستمروا فيه إلى عشرين من شعبان ، ثم رحل (٥) منه إلى محل يسمى صلبه (٦) ، وأرسل إلى بعض شيوخ مطير (٧)

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في (ج) «اليه».

(٤) ولد في جمادي الثاني سنة ١٠٨٦ ه‍. كان فاضلا عالما أديبا ، له مجموعات كبيرة من المؤلفات ، أهمها : الفتاوي اللالياسية ، وله كثير من الشعر والنثر ، توفي في رمضان سنة سنة ١١٢٧ ه‍. مجهول ـ تراجم أعيان المدينة المنورة ٣٠ ـ ٣١.

(٥) في (أ) «وصل منه». والاثبات من (ج).

(٦) صلبه : مزرعة في وادي عدوان كان ملكها يتقلب بين عدوان والأشراف حتى تزوج أحد الأشراف عدوانية ، فوهبها لها ، فثبت في يد عدوان. وواد عدوان هو وادي ليه في أسفله قبل أن يفيض في سهول ركيه. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٥ / ١٦٠.

(٧) مطير : من كبريات قبائل الجزيرة العربية ، سبق تعريفها. انظر : فؤاد حمزة

٤٧٤

يأتون إليه ، فتوقفوا. ثم أرسل إليهم ثانيا / وقال لهم :

«إن جئتم فعليكم الأمان ، وإلا (١) فتؤخذوا».

فوصل إليه البعض ، والبعض لم يصل ، فحصل منهم مخالفة للأمر ، وأيضا تعرضوا لبعض خطار الشريف ، فلما بلغه ذلك ، ركب إليهم بالسادة الأشراف والعسكر ، وأخذهم أخذة عظيمة ، وانتصر عليهم وغنم إبلهم وغنمهم ، فأدالهم (٢) قهرا ، وطلبوا الأمان وصالحوا على أنفسهم.

فوصل المبشر إلى قائم مقامه غرة شهر رمضان المعظم بالكتب ، فدق الزير ، وألبس المبشر ، وركزت علامة النصر في بيت الشريف على جاري عادتهم ، ونودي بالزينة ثلاثة أيام فحصل بذلك السرور التام للخاص والعام.

وفي يوم الاثنين خامس رمضان المعظم : وصل أغاة القفطان عبد الرحمن أغا ، رئيس الساعقبية ، ودخل مكة بآلاي والموكب العظيم وسائر (٣) العساكر قدامه ، إلى أن وصلوا باب السلام ، ودخل المسجد الحرام ، وفتحوا مقام سيدنا إبراهيم الخليل ، ووضعوا القفطان والأمر السلطاني فيه على جري العادة لكون الشريف غائبا.

وفي ليلة الجمعة تاسع عشر الشهر المذكور : وصل مولانا الشريف ،

__________________

قلب جزيرة العرب ٢٠٠ ، البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٣ / ٤٦٧ ـ ٤٦٨.

(١) في (ج) «وأن لا».

(٢) من الدله : وهو ذهاب الفؤاد ، من هم وحزن ونحوه. حيره وأذهب عقله. وهنا بمعنى أزال قوتهم وقهرهم. ابن منظور ـ لسان العرب ١ / ١٠٠٨.

(٣) في (أ) «صائر». والاثبات من (ج).

٤٧٥

وطاف وسعى ، وبات ليلة (١) في بيته ، وأصبح نزل المسجد ، وحضرت السادة الأشراف ، وقاضي الشرع ، والمفتيون والعلماء ، ونائب الحرم ، والخطباء ، والأئمة ، وسائر من له الحضور من أرباب الخدم ، والوظائف ، وحضر أغاة القفطان ، والشيخ محمد الشيي [وفتح المقام ، وأخرج القفطان والمرسوم السلطاني منه على جري عادته](٢) ، ثم فتح الكعبة الشريفة ، وألبس مولانا الشريف الفرو السمور بالقفطان السلطاني ، وألبس هو أربعة من الأفرية السمور ، السيد يحيى بن بركات ، وقاضي الشرع ، والشيخ محمد الشيي ، وأغاة (٣) القفطان ، وأربعة من أفرية القاقم ، المفتي تاج الدين القلعي ، ونائب الحرم أحمد أفندي ، والشيخ عبد اللطيف الريس ، ويوسف أفندي شيخ القراء لكونه قرأ الأمر السلطاني بطريقة النيابة عن مصطفى أفندي ديوان كاتب (٤) ـ فإنه توجه في خدمة سيد الجميع إلى الدولة العلية / ، وألبس صاحبنا الشيخ عباس المنوفي قفطانا نفيسا ، وكذلك سائر الأغوات وأصحاب الأدراك ، وكل من له عادة في اللبس.

ثم قريء المرسوم السلطاني ومضمونه بعد المدح والثناء :

الوصاية على الحجاج والمجاورين والتجار وغيرهم ، على ما جرت به العادة في المراسيم.

فبعد تمام الفراءة بالعربي والتركي (٥) ، توجه حضرة الشريف إلى

__________________

(١) في (ج) «في ليلته».

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في (ج) «لغاه».

(٤) المسؤول عن الديوان.

(٥) كانت الأوامر السلطانية تقرأ بالعربية والتركية في ذلك الحين.

٤٧٦

داره السعيدة ، وجلس للتهنئة ، فطلع إليه جميع الناس ، وهنوه ، واستمر في بيته إلى نصف الليل ، وعزم إلى مخيمه ، وكان قريبا من مزدلفة (١).

وفي يوم ثالث وعشرين الشهر : انتقل إلى رحمة الله تعالى محمد باشا أغلي صاحب جدة ، وثاني يوم وصل خبره لحضرة الشريف في المحل الذي فيه.

فوصل الشريف مكة ليلة الخميس خامس عشرين رمضان ، ليقيم (٢) قائم مقام عن الباشا المتوفي في حفظ البندر ، وما يتعلق به من مصوع (٣) وسواكن ، لأنه العين الناظرة من طرف السلطان ، نصره الرحمن ، فاستحسن ذلك إسماعيل أغا ، لكونه خزندار الباشا المتوفي وصهره.

فأرسل إليه في جدة وأحضره وأحضر القاضي والمفتي وبعض أعيان البلد ، وشرط عليه قدام (٤) هذا الجمع بأن تكون قائم مقام أستاذك في حفظ البندر (٥) وطرف علوفة المستحقين وأنفائهم وجميع ما يتعلق بصاحب جدة.

فرضي بذلك. وقيل كتب عليه حجة بهذا. وألبسه الشريف فرو سمور ، وخصه في هذه الخدمة ، إلى أن يعرض إلى السلطنة العلية ويعرفهم بذلك ، لأن الأمر إليهم.

فخرج / من بيت الشريف لابسا الفرو السمور إلى بيته ، فأتت / ٣٨٩

__________________

(١) في (أ) «حلته». والاثبات من (ج).

(٢) في (أ) «ليقم». والاثبات من (ج).

(٣) كان باشا جدة مسؤولا عن مصوع وسواكن ، وهو ما يعرف بولاية الحبشة. كما سبق في هذا الكتاب.

(٤) في (ج) «بحضرة».

(٥) أي جدة.

٤٧٧

النوبة وسائر أهل المواجب ، وباركوا له في المنصب ، وطلع إليه الناس ، وسلموا عليه ، وهنوه بالمنصب ، وعزوه في أستاذه ، ثم استمر إلى أن عيّد عيد رمضان (١) بمكة.

وفي رابع شوال نزل جدة ، وأرسل حضرة الشريف صحبته قاضي مكة المشرفة حامد زاده أفندي ، لضبط مخلفات الباشا من نقد وأمتعة ، لأن له ولدا قاصرا بجدة.

فتوجهوا جميعا ، وضبطوا مخلفات المرحوم محمد باشا من نقد وغيره. فبلغ جميع ذلك بعد إعطاء جميع الدّيانة وإيفاء المستحقين نحوا من سبعين كيسا. فما كان في بيعه مصلحة للقاصر تصرفوا ، وما كان في إبقائه مصلحة أبقوه ، وأقام حضرة الشريف وكيلا والقاضي علي ابن الباشا ، وعلى حفظ المخلفات ، علي جخدار كتخدا الوزير ، لأن كتخدا الوزير أخو الباشا المتوفي ، وسلموا جميع ما تحصل من المخلفات للوكيل ، وكتبوا عليه حجة بذلك. وتم أمرهم على هذا.

وما كان من مولانا الشريف ، فإنه عيّد في مكة ، وتم له عيد في غاية النظام على جاري عادته.

وليلة رابع العيد : ركب وتوجه إلى مخيمه ، واستمر هناك إلى يوم الأحد ثالث عشر الشهر المذكور ، ونزل إلى بيته.

وصبح يوم الاثنين رابع عشر الشهر : وصل مصطفى أفندي ديوان كاتب (٢) من جدة ، لأنه كان في خدمة الشريف ، فوصل بحرا (٣) ، وتحيّر

__________________

(١) المقصود عيد الفطر.

(٢) أي كاتب الديوان.

(٣) في (أ) «محيرا». والاثبات من (ج).

٤٧٨

لبعض أمور ، ثم طلع إلى حضرة الشريف ، وسلم عليه ، وقدّم [له](١) أجوبة الكتب التي أرسلها صحبته إلى الدولة العلية.

ومضمونها : تمام المطلوب من كل ما طلب (٢) ، وألبسه فروا (٣) قاقم في غاية النفاسة.

وفي غرة [ذي](٤) القعدة : وصل (٥) من جدة إسماعيل خزندار الباشا المتوفي بطلب من حضرة الشريف ، فوصل وقال له :

«قصدنا نرسل قاصدا إلى الدولة العلية بتعريف الواقع ، وجميع ما شاء الباشا ، ونوليك (٦) مقامه ، وضبط مخلفاته ، والتوكيل على ولده».

فاجتمعوا ، وكتبوا بموجب ذلك كتابا إلى الروم (٧) ، وإلى مصر ، وأرسلوها صحبة جخدار الباشا المتوفي.

وفي يوم الاثنين تاسع الشهر المذكور : عزم مولانا السيد زين العابدين إلى ينبع مرسولا من طرف الشريف ، لملاقاة أمير الحج المصري إبراهيم بيك (٨) ، مقصده (٩) من ذلك الوقوف والإخبار عن بلاد الروم ومصر والشام ، فإن الشريف وصله مكتوب من الصدر الأعظم ، الوزير

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) سقط من (أ). والاثبات من (ج).

(٣) في (ج) «فرزوا».

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) وردت في (ج) «وفي غرة ذي القعدة وصل من القعدة».

(٦) في (ج) «وتوليتك».

(٧) يقصد بها بلاد آسيا الصغرى ، مقر الدولة العثمانية.

(٨) إبراهيم بيك إبو شنب السابق ذكره.

(٩) في (ج) «قصده».

٤٧٩

علي باشا ، صحبة مصطفى أفندي ديوان كاتب ، مضمونه :

«أن نصوح باشا الشام ، أرسل إلينا كتابا ، يشكو فيه من طرفكم نوع برودة وعدم ملاطفة ، فاستغربنا من ذلك لعلمنا بحسن سريرتكم (١) ، وصفاء طويتكم وسيرتكم. فلم التفتنا (٢) إلى كلامه ، غايته أن القصد من جنابكم ـ كما هو المأمول من شرف شجرتكم وطينتكم المباركة ، أن تزيلوا ما هناك من البرودة ـ على فرض الوقوع ـ وتبدلونه بحسن الملاطفة والمؤانسة ، كما هو العشم في صدق محبتكم ، وخلوص مودتكم». إلى آخر ما ذكر.

ثم إن السيد زين العابدين اجتمع بإبراهيم بيك أمير الحاج ، وفاوضه في جميع أموره. فوجده من طرف الشريف بالمال والرجال ، وأخبره الأمير :

«أن في رمضان المعظم ، شاع عندنا بمصر أن نصوح باشا عرض في الشريف عبد الكريم يشكو منه ، وبرز إليه أمر بالتفويض ، فاجتهدنا وعرضنا (٣) نحن وصاحب مصر حسن باشا إلى الدولة العلية بطلب الاستمرار لحضرة الشريف ، وأن ما سمعناه من تفويض الحرمين لنصوح باشا أو غيره يحصل في ذلك غاية التعب على الحجاج والمسلمين ، وطلبنا المبادرة بالجواب. فوصل إلينا أنه (٤) لم يقع شيء من ذلك ، وأن جميع ما سمعتموه كذب».

__________________

(١) في (أ) «سيرتكم». والاثبات من (ج).

(٢) هكذا في النسختين. أي لم نلتفت.

(٣) في (ج) «أي غرضنا».

(٤) في (ج) «بانه».

٤٨٠