منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري

منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

المؤلف:

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري


المحقق: الدكتورة ملك محمد خياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: جامعة أم القرى
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9960-03-366-X

الصفحات: ٥٨١

قال : «فهؤلاء الأتراك يريدون تولية سعيد وعزلي».

فقالت العامة : «باطل ، [باطل]» (١) ، عن لسان واحد.

ثم إن الأشراف الحاضرين وقع منهم تهديد للقاضي ، ولمن حضر من العسكر المصرية. وقالوا :

«لا نسلم لما جاء به إيواز بيك ، ولو كان معه أمر سلطاني بولاية الشريف سعيد ، فنحن لا نعصي أمر السلطان ، غير أن السلطان لا يرضى علينا الخلاف ، ولا يولّي علينا إلا من نرضاه».

فسجل القاضي صورة ما وقع في هذا المجلس ، وكتب بموجبه حجة ، ودارت على السادة الأشراف. فوافقوا عليها ، وكذلك السرادير والعلماء والفقهاء ، وبعثوا إلى إيواز بيك ، فأجاب : «بأن صحبتنا آغاة من أغوات (٢) السلطان معه أمر سلطاني ناص :

بأن شريف مكة لا يكون إلا سعيد ، وليس لنا قصد إلا الإصلاح ، و ـ نؤمر إلا به ، فإذا وصلنا نحن والشريف سعيد إليكم ، أشرفناكم على ما أمرنا به ، ويحصل هناك الإتفاق إن شاء الله تعالى».

فأعاد إليه الشريف عبد الكريم ، والسادة الأشراف :

«أن دخول سعيد لا يمكن (٣) ، وإنما يجلس بموضعه (٤) ، إلى أن ينزل

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) في (أ) «أغواة». والاثبات من (ج).

(٣) سقطت من (ج).

(٤) في (ج) «موضعه».

٣٦١

الناس من الحج ، ثم ندعوه إلى مكة ، وننظر في الأمر».

فقال إيواز بيك : «لا بد من دخوله صحبتنا».

فأرسل إليه الشريف عبد الكريم والأشراف يقولون : «إذا دخلتم به فما عندنا إلا السيف ، فاجتهدوا ، ونجتهد (١)».

فعند ذلك تخلف إيواز بيك عن دخوله مكة بمن معه من العسكر التجريدة ، وجعلوا ينتظرون قدوم أمير الحاج المصري (٢) بالحاج الشريف ، وإدراك التجريدة وإيواز بيك (٣) بالجموم من وادي مرّ الظهران إلى (٤) رابع عشر ذي الحجة.

وكان / في ذي الحجة ، صمم الشريف على ملاقاتهم ، فخرج بعد صلاة العصر إلى طوى في عبيده ، وتلاحقته بنو عمه من الأشراف. فما غربت الشمس إلا وقد اجتمع عنده (٥) نحو ألف مقاتل ، من عرب عتيبة وحرب وغيرهم ، وأصبح ذلك الوادي ، وهو بحر غاصّ (٦) بالبوادي.

واستمر إلى سادس ذي الحجة وهو مصمم على المقاتلة هو وبنو عمه ، ولو أفضى الأمر إلى قتل الجميع.

__________________

(١) في (ج) «فاجهدوا ونجهد».

(٢) أيوب بيك.

(٣) ايوازك بيك قائد التجريدة.

(٤) سقطت من (ج).

(٥) في (ج) «عند».

(٦) في النسختين «غواص»

٣٦٢

ومن الغريب أنه ورد ثاني (١) شهر ذي الحجة على سليمان باشا وهو بجدة ، أمر سلطاني من البحر ، صحبة المراكب المصرية مضمونه :

ـ «ابقاؤه على جدة وزيادة سواكن (٢).

ـ وابقياه على ما في يدك من تفويض أمر الحرمين ، والأمر إليك في ولاية من ترى فيه إلا صلاح للبلاد والرعية ، ولمن يرضاه أهل الحلّ والعقد ، ويروا فيه صلاحه ، وعزل من ثبت فيه فساده».

فبعث سليمان باشا للشريف عبد الكريم يخبره بذلك ، فارتاضت نفسه عند ذلك ، وعلم أن الله ناظر إليه ، فألبس القاصد ، ودق الزير ، وأظهر السرور ، واستفاض الخبر عند (٣) القاصي والداني. ففرح الناس بهذا الأمر.

ثم إن سليمان باشا خرج من جدة ، ونزل طوى ، مع مولانا الشريف ثالث ذي الحجة.

ثم لما كان خامس الشهر : دعى سليمان باشا بالقاضي والمفتي

__________________

(١) في (ج) «ثامن».

(٢) ورثت الدولة العثمانية ممتلكات الدولة المملوكية في كل من مصر والحجاز واليمن ، ثم أخذت في التوسع في الساحل الغربي للبحر الأحمر حيث سيطرت على مصوع وسواكن ، وأطلقت على هذه المنطقة اسم ولاية الحبش رغم أن الحبشة ـ تدخل تحت سيطرة الدولة العثمانية. لكن أطلق هذا الإسم لأنه المخرج لبلاد الحبشة ووضعت هذه الولاية تحت إشراف والي جدة ، وكان يحكمها عن طريق أحد الأغوات حتى عام ١٨٦٥ م. نوال ششة ـ جدة في مطلع القرن العاشر الهجري ٩٠ ـ ٩١ ، محمد ثابت الفندي وآخرون ـ دائرة المعارف الإسلامية ١٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٣) في (أ) «عن». والاثبات من (ج).

٣٦٣

وبعض الفقهاء ، وأكابر العساكر المصرية الذين بمكة ما عدا الإنقشارية ، فلم يحضروا ، وأتوا الجماعة المذكورين إلى طوى ، واجتمعوا بالشريف عبد الكريم وبالوزير سليمان باشا ، وعذلوهم (١) عما في نفوسهم ، وحذروهم فتكة بني حسن من الأشراف ، وعرفوهم بما جمعوا من العرب (٢) ، وأن هذا أمر يترتب عليه إبطال الوقوف بعرفة وأداء المناسك ، والسلطان لا يرضى بذلك فإن كان معكم (٣) فابعثوا به إلينا ونحن مطيعون لأمر السلطان.

وبعث القاضي بالكتاب مع جوخداره وبعض البلكات ، فلما قرأوه هناك اضطربوا وشارفوا الإنقياد إليه ، إلا إنه كان من قضاء الله وقدره أن سليمان باشا نزل إلى القاضي بالمحكمة سادس ذي الحجة ، قبل ورود الجواب إليه ، وأراد أن يجمع بياض الناس عند القاضي ، يستفيض خبر أمره (٤) الذي بيده ، ويشهد الناس للشريف عبد الكريم بالاستحقاق وإن عزله للشريف سعيد وقع في محله.

فلما اجتمع الناس بالمحكمة ، ثارت الإنقشارية على القاضي وعلى الفقهاء ، وعلى الباشا ، وربما شهرت السيوف بالمسجد الحرام ، فهرب الناس ، و ـ يبق إلا الباشا وحده عند القاضي ، فأخرج القاضي صورة أمر ، قريء بحضرة الباشا والعسكر الانقشارية مضمونه :

__________________

(١) العذل : اللوم والتقريع. أنظر : ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ٧٢١.

(٢) القبائل السابق ذكرهم من عتيبة وحرب وغيرهم.

(٣) المقصود أمرا سلطانيا.

(٤) في النسختين «أمر». والزيادة من المحققة للسياق.

٣٦٤

«إنه قد ولينا الشريف سعيد مكة ، ورددناه إليها بعد عزلكم ، وأنتم أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم».

فبرد سليمان باشا عما أراد ، فقال له الأتراك :

«اذهب أنت والقاضي ، وجماعة من الفقهاء إلى الشريف عبد الكريم بذي طوى ، فاسألوا منه أن يحقن الدماء ، ويقيم شعائر الحج بخروجه من البلد ، ولرسوله (١)».

فجمع البوادي والأشراف ، وأخبرهم بما جاء فيه القاضي والوزير والعلماء ، فأطاعوه بعد تأبّ من الأشراف ، / فرحل بمن معه يوم / ٣٥٤ سادس (٢) ذي الحجة إلى الركاني ، وبعث إلى الشريف سعيد وإلى إيواز بيك وأيوب بيك أمير الحج المصري :

«أن ادخلوا ، فإني أخرت اللقاء إلى بعد الحج».

فنودي للشريف بالوادي (٣) ، وتعاطى وكالته على مكة السيد ناصر ابن أحمد الحارث.

وبمجرد خروج الشريف عبد الكريم تقطعت الطرق ، وحصل النهب في طريق جدة وذهب جملة أموال الناس ، وكذلك طريق اليمن ، وحصر عن الحج خلق كثير.

ثم ان الشريف عبد الكريم ، ركب من الركاني ، وواجه بيرم باشا

__________________

(١) عن هذه الأحداث انظر : أحمد زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ١٤٦ ـ ١٤٨.

(٢) في (ج) «السادس».

(٣) وادي طوى. وهو أحد أودية مكة المشهورة.

٣٦٥

أمير الحج الشامي ، ومعه جماعة من الأشراف. فاجتمع به في وادي الجموم ثامن (١) شهر ذي الحجة ، وصار بينهما من التدابير ما تولد منه النافع الكثير.

وأما الشريف سعيد : فإنه استمر بالوادي ، و ـ يدخل مكة إلا يوم التاسع من ذي الحجة ، ودخل مع أمير الحاج أيوب بيك ، [وأمير التجريدة إيواز بيك ، مع التجريدة وسائر عساكر الحج المصري](٢) ، ومعه نحو أربعين شريفا ـ يكونوا مع الشريف عبد الكريم في عملته.

وكان دخوله من الشبيكة ، إلى المسجد ، هو ومن معه ، وقد فرش له بساط (٣) في الحطيم ، وفتحت الكعبة الشريفة ، وقرئت له الأوامر على من حضر من الأعيان ، ثم خرج إلى منزله بسويقة.

وفي ليلة التاسع من ذي الحجة : دخل أمير الحاج الشامي ، بيرم باشا ، وأراد أن يؤخر القفطان إلى منى ، فامتنع الشريف عن تأخيره ، فبعث به إليه ، وألبسه في منزله ، ثم خرج إلى عرفات من أعمال نصف الليل بعد بيرم باشا ، ومرّ بمنى ، و ـ يبت بها ، ووقف بالناس يوم الجمعة ، وحصل به الأمان.

__________________

(١) في (أ) «ثاني». والتصحيح من (ج) للسياق.

(٢) وردت في النسختين هكذا" أيوب بيك ومعه التجريدة وصار عسكرها إيواز بيك في سائر عساكر مصر». والتصحيح من أحمد زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ص ١٤٨.

(٣) كل ما يبسط ، وهو ضرب من الفرش ينسج من الصوف ونحوه. ابراهيم أنيس وآخرون ـ المعجم الوسيط ١ / ٥٦.

٣٦٦

ولم يحجّ أحد من أهل مكة سوى قليل لا يعدّ ، ولم يرد في هذه السنة أحد من العراق إلا نحو خمسين أعجميا ، ولم يحجّ أحد من النواحي غير الأتراك ، ومن ورد مع الحج المصري والشامي فقط غير جماعة من أهل الحسا (١) مع العجم السابق ذكرهم.

وارتفعت الأسعار بعرفة ، حتى أخبرت أن بعضهم اشترى كبشا فدو بعشرة أحمر ، وارتفعت (٢) ، وشرع الارتفاع في الأسعار كل يوم إلى زيادة. فبعث الشريف سعيد إلى ناظر السوق ، الذي كان من قبل الشريف عبد الكريم ، وهو صاحبنا مصطفى بن إبراهيم القاشقجي ، وألبسه في زمن الحج قفطان النظر في السوق ، والعادة (٣) الجارية أن يبطل حكم الناظر في زمن الحج (٤).

وفي خامس عشر ذي الحجة أو سادس عشر : نزل الشريف عبد الكريم ومن معه من الأشراف بوادي التنعيم (٥) ، وبعثوا إلى الأمير بيرم

__________________

(١) المقصود بها الإحساء وهي المنطقة التي تسمى قديما بالبحرين وهجر وكانت تطلق على المنطقة الممتدة من البصرة إلى عمان. حافظ وهبة ـ جزيرة العرب في القرن العشرين ص ٦٢. والإحساء بالفتح والمد جمع حسي بكسر الحاء وسكون السين ، وهو الماء الذي تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر العرب عنه الرمل فتستخرجه. ومن هذه الإحساء إحساء بني سعد بحذاء هجر. ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ١ / ١١١ ـ ١١٢ ، ٢ / ٢٥٧.

(٢) أي زاد ارتفاع الأسعار عما سبق.

(٣) في (أ) «كالعادة». والاثبات من (ج).

(٤) من كلام السنجاري هنا يستنتج أنه في موسم الحج توقف المراقبة على الأسعار وتكون هناك حرية في المعاملات التجارية.

(٥) وادي التنعيم : واد ينحدر شمالا بين جبال بشم شرقا وجبل الشهيد جنوبا. ـ يصب في وادي ياج. وقد سبق تعريف التنعيم.

٣٦٧

باشا ، فبعث إليهم الخيام والصواوين (١) ، وجعلوا بينهم سفيرا ، السيد عبد الله بن عمر بن بركات.

فنقم عليه مولانا الشريف سعيد ، فبعث إليه ينهاه عن الدخول إلى مكة ، فسمع بذلك بيرم باشا ، فقال للسيد عبد الله :

«البلد للسلطان ، وأنا باشة السلطان ، فما عليك منهم».

واتبعه بيرق عسكري يمشون معه أينما أراد ، وكان يمشي بهم في شوارع مكة كرها.

واستمر الشريف عبد الكريم بالتنعيم [أياما](٢) ، حتى ركب إليه بيرم باشا في بعض ليالي (٣) الحج ، فاستمر عنده إلى نصف الليل ، واقترب الفجر (٤) ورجع عنه.

و ـ يحصل منهم أذى للناس ، يطرقهم الطارق آمنا ويسير إلى مكة ، و ـ تزل الرسل بينه وبين إيواز بيك وبيرم آغا باشا أمير الحج الشامي.

ثم ارتحلت الأشراف إلى اليفاع من أعلى الجموم /. وشاع في العامة أنهم يريدون أخذ الحج المصري ، وقتل أيوب بيك ، فدخله من (٥) الخوف ما أخره عن السفر في معتاده ، فقامت عليه الحجاج لشدة ما

__________________

(١) الخيام الكبيرة.

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في (أ) «لليالي». والاثبات من (ج).

(٤) في (ج) «أو قرب الفجر».

(٥) في (ج) «في».

٣٦٨

لحقهم من الغلاء ، وعدم الوجدان لما يريدونه. فخرج تاسع عشر ذي الحجة ، وهو باطل الحجة ضالّ المحجة.

وكان سبب إقدامه على السفر : أن السيد ناصر الحارث وجماعة من كبار الأشراف خرجوا إلى الشريف عبد الكريم ، ومن معه من الأشراف ، وساسوهم وضمنوا لهم الصلح ، وتواطؤا معهم على قالة ، وتكافلوا على ما يصلح الفريقين ، وأخذوا منهم عهدا على عدم تعرضهم للحج.

فخرج الأمير مسافرا ، وخرج مسالما إلا أنه وقع النهب في أطراف الحج المصري.

٣٦٩
٣٧٠

وهل محرم الحرام افتتاح سنة ١١١٧ سبعة عشر ، ومائة وألف :

وفي سادسه : دخل مولانا السيد عبد المحسن بن أحمد بن زيد ، ومعه جماعة من الأشراف ، طمعا فيما جرى بينهم وبين السيد ناصر الحارث من العهد المتقدم. فنزلوا على مولانا الشريف سعيد في داره بسوق الليل ، ولم يتخلف إلا ذوو بركات ، فإن الشريف عبد الكريم أفهمه أنه يريد التوجه إلى الشام بمن معه من ذوي بركات ، ثم عنّ له أن ينزل الحميمة ، ثم ارتحل عنها إلى محلّ يقال له رشيم ، ومعه من البدو ما لا يحصى. فلم يزل إلى أن نزلت عليه عرب حرب بجملتهم ، وقالوا : «لا نفارقك حتى تموت أو نموت».

فبلغ ذلك الشريف سعيد ، واشتد عليه الأمر ، فجمع كبار الأشراف ، وأطلعهم على ما بلغه من قوة عبد الكريم ، ووصول حرب إليهم ، وطلب منهم أن يسعفوه بالمسير معه عليهم. فما أجابه أحد إلى ذلك. ـ هذا فعل من معه في عملته ـ.

وأما بقية الأشراف الواردين مكة من جماعة عبد الكريم ، فطلبوا منه ما هو لهم ، فأخذ في جمع دراهم [لهم](١) ، فأعطاهم مما لهم شيئا يساوي الثلث.

ثم تجهز ، وخرج إلى طوى ، فأقام بها أياما ، إلى أن لحقته الأشراف الذين في عملته ، ثم ساروا ، وأودع البلد السيد أحمد بن حازم ، وبعث إلى هذيل ، فأقبلوا عليه. فلما وصلوا منى ، نهبوا ما أدركوه من أموال الناس ، ودخلوا مكة ، وعاثوا فيها بالسرقة والنهب.

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

٣٧١

فلما شارف الشريف جدة ، زحف إليه الشريف عبد الكريم بمن معه ، فركب إليه جماعة من كبار الأشراف يصدونهم عن الملاقاة (١) ، لأن الشريف سعيد لامهم ، وظن أن ذلك منهم عن تواطؤ (٢).

فلحقوا بالشريف عبد الكريم ، وطلبوا منه أجل (٣) ثلاثة أيام" ، حتى ننظر في أمرنا معه ومعك».

فأجابهم إلى ذلك ، فرجعوا إلى الشريف سعيد ، وأخبروه" بأن [الشريف](٤) عبد الكريم مقاتلك بعد أن خرجت إليه ، فإن لم تصلحه ، وإلا فلا (٥) بعد هذا إلا الملاقاة (٦) ، وقد أخذنا لك أجلة ثلاثة أيام».

فجلسوا معه مجلسا ، واشتوروا فيما بينهم ، فرأوا (٧) : «أن يجعلوا له الشام (٨). وأن يجعلوا له كل شهر ألف شريفي أحمر ذهب ، وأن يقيم حيث شاء غير مكة ، إلى أن تأتيه أجوبة كتبه من الأبواب».

فرضي الشريف سعيد بذلك ، فرجعوا إلى الشريف عبد الكريم ، [وأخبروه](٩) ، فقال : «إنه فينتقض (١٠) هذا القول ولا شك».

__________________

(١) في (أ) «الملاقات». والاثبات من (ج).

(٢) في النسختين «تواطىء».

(٣) في (ج) «أجلة».

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) في (ج) «وان لا».

(٦) في (أ) «الملاقات». والاثبات من (ج).

(٧) في (أ) «فروا». وفي (ج) «فراوا». حيث أهملت الهمزة.

(٨) الشام : المناطق الشمالية من الحجاز.

(٩) ما بين حاصرتين من (ج).

(١٠) في (ج) «ينقض».

٣٧٢

فأعطوه العهد أنه إن نقض هذا ، نقضوا عملته (١) ، وعاملوا عبد الكريم ، ويكونون وإياه يدا واحدة.

فأخذ عليهم العهود. /

ثم رجعوا إلى الشريف سعيد ، وأخبروه بذلك فقبل (٢) ذلك ثم قال (٣) :

«مروه فليرتحل عن محله ، لتعلم الناس من البادية والأتراك أننا اصطلحنا».

فضمنوا له ذلك. وكفل جماعة هذا وجماعة هذا. وبعثوا إلى الشريف عبد الكريم بذلك ، فارتحل من محله إلى محل يقال له شعثاء (٤) قريبا من جدة. فتارة تأمن الطرق ، وتارة تخاف.

واستمر الحال نحو أربعين يوما.

ثم إن الشريف سعيد ، حدثته نفسه بالنزول إلى جدة ، ومناصاة (٥) سليمان باشا ، لأنه منعه من دخولها ، ومنع جماعة من الأشراف. وكان بعثهم الشريف سعيد إلى جدة ، فدخل منهم محمد بن عبد الكريم بعد

__________________

(١) في (أ) «علمته».

(٢) سقطت من (ج).

(٣) في (ج) «فقال له ذلك».

(٤) في النسختين «شعثا». وكعادة الناسخ أهمل الهمزة. وفي خلاصة الكلام لأحمد زيني دحلان ص ١٥٠ «شعثاء». وكذا في البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٥ / ٦٨ ، وحمد الجاسر ـ المعجم الجغرافي ٢ / ٧٩٦. وهي عين للحمران من بني عمرو من حرب بقرب عسفان في إمارة مكة المكرمة.

(٥) المقصود مناقشة ومحاسبة سليمان باشا فيما فعل. من نصا الدابة إذا زجرها. ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ٦٤٢.

٣٧٣

جهد جهيد.

وحاول الباشا أن يأخذ له شيئا من التجار للشريف سعيد ، يستعين به ، فما وافقه لا قرضا ولا على الزالة. وأمرهم بالرجوع ، وأن لا يدخلوا جدة لخوف أن يؤذوا أهلها.

فتقرر عنده أن يده مع عبد الكريم وجماعته ، فأرسل إلى ابن عمه عبد المحسن بالحسينية ، وأخبره ، وطلب منه أن ينزل عليه بجدة.

فأتاه ، فتوسل به أن ينزل على الباشا ، ويأخذ له شيئا من المال يستعين به ، أو يحيله على الزالة ، فأبى. ثم التمس منه أن يركب معه لملاقاة سليمان باشا ، فقال له :

«وكيف نقاتل أحد وزراء السلطان»؟. ولم يوافقه.

ثم إنه بعث إلى إيواز بيك ، صاري العسكر (١) المصري ، وإلى الإنقشارية ، [وسائر البلكات ، يشكو من سليمان باشا ، ويستدعيهم إلى قتاله](٢) ، فلم يوافقوه. وبقي في حيرة عظيمة مقلا من المال والرجال ، ففارقه من معه من الأشراف لذلك ، ولما تقدم لهم مع عبد الكريم من العهود والوفاء والمفارقة له ، فذهبوا إلى عبد الكريم.

فلما تكاملت الأشراف عند الشريف عبد الكريم ، انتقل من شعثاء ، ناويا يصبّح سعيدا ، ويأخذه.

فلما استحسّ (٣) بذلك ، أشار إليه ابن عمه السيد عبد المحسن بالرجوع إلى مكة ، فأودعه عزبته ، وسرى من ليلته ، فأصبح ضحوة

__________________

(١) هو إيواز بيك صاحب التجريدة والذي مر ذكره.

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في (ج) «استحسر».

٣٧٤

النهار بمكة ، وذلك يوم الجمعة تاسع شهر ربيع ثاني (١).

ولما وصل مكة ، أطلق المنادي في شوارعها وطرقاتها ، على أرحام ذوي شنبر ، وذوي جازان ، وذوي بركات [وذوي ثقبة ، ورجاجيلهم :

«أن لا يبات أحد منهم بمكة هذه الليلة ، ومن بات بها](٢) فهو مصلوب ، وبيته منهوب».

فحصل عند طوارف السادة من الخوف ما أوجب أنهم يأوون (٣) بيوت سادتهم داخلين عليهم ، مما يخاف. فركب إليه السيد أحمد بن حازم والسيد حسن بن غالب ، ولاموه على هذا النداء ، وقالوا له :

«هذا لا يكون ، فإنه يتأتى منه سالفة بيننا ، أن كل من خرج من البلد تنهب طوارفه ويقتل ، وهذا أمر لا يمكن الوفاق عليه ، لكونه مضرا بالعالم».

فرجع المنادي عند العصر ينادي بخلاف النداء الأول ، وإن النداء الأول مرجوع عنه ، وعليهم الأمان.

ثم إنهم في يوم الأحد ثاني عشر الشهر (٤) : بعث مولانا الشريف سعيد (٥) ، المفتي ، وجماعة من السبع بلكات ، إلى الشريف عبد الكريم ومن معه ، يطالبهم إلى الشرع ، فركب الجماعة المذكورون (٦) إلى الشريف عبد الكريم ، والتمسوا منه ذلك ، فقال : «سمعا وطاعة».

__________________

(١) من سنة ١١١٧ ه‍.

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) في (ج) «يؤون».

(٤) ثاني عشر ربيع الثاني.

(٥) في (ج) «عبد الكريم». وهو خطأ ، والتصحيح يقتضيه السياق.

(٦) في النسختين «المذكورين».

٣٧٥

فبعثوا من كبارهم جماعة ، منهم السيد عبد المحسن بن أحمد بن زيد ، وسليمان بن أحمد بن سعيد ، وأحمد بن هزاع ، وزين العابدين بن إبراهيم ابن محمد بن بركات ، وعبد الله بن حسن ، وغيرهم.

فدخلوا مكة ، ونزلوا على إيواز بيك ، فأخذوا إيواز بيك معهم ، ونزلوا على القاضي ، واستدعوا الشريف للدعوى ، فنزل ومعه أحمد بن حازم / فصارت بينهم وبين الشريف للدعوى ، فنزل ومعه أحمد بن حازم ، فصارت بينهم وبين الشريف سعيد مقاولة ، أنتجت زيادة الشقاق وأبعدت الاتفاق. ثم انصرفوا والقلوب مشحونة ، والنفوس من زيادة البذاءة مغبونة غير مأمونة.

ثم إن السيد أحمد بن حازم ، وسليمان بن أحمد ، حضرا في اليوم الثاني مع جماعة (١) من الأشراف في بيت إيواز بيك لفصل الخصومة. فتزايد [في](٢) الكلام ، حتى قرب وقوع الكلام (٣) ، وحصل المباينة ، فانصرفوا من غير صفاء ، والأشراف لم يخرجوا عن طلب الوفاء.

ثم إن الشريف سعيدا ، اجتمع بالسيد عبد المحسن ، واتفق معه على : «أن يعطيهم ثلث المنكسر ، ويسمحوا له بالثلث ، ويصبروا عليه في الثلث الآخر».

فتوافقت الأشراف على ذلك ، ورأوا أن هذا عين الصلاح ، وغاية النجاح ، فعقدوا مجلسا لذلك الأمر في منزل السيد علي بن أحمد باز

__________________

(١) سقطت من (ج) واستدركه الناسخ في الحاشية اليسرى من (ج) ، وهي زيادة.

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) الكلام : الجراح ، ويقصد هنا أن الكلام تزايد بين الفريقين حتى كاد أن يحصل الاشتباك والقتال ، وهو معنى الكلام الثاني. ابن منظور ـ لسان العرب ٣ / ٢٩١.

٣٧٦

بأجياد (١) ، وذلك ليلة الجمعة السادس ، أو السابع عشر من ربيع الثاني.

فبينما هم كذلك عند السحر ، جاءهم الخبر أن الشريف عبد الكريم وصل طوى هو ومن معه من الأشراف.

فلما بلغ ذلك الشريف سعيد أرسل إليهم مرسولا لبيت السيد علي يقول لهم :

«ما هذا بيني وبينكم ، وهذا عين الغدر».

فاعتذروا إليه بعدم علمهم بذلك ، «ونحن نخرج إليه ونرده».

فانصرف الكلّ ، وخرجوا من طريق المسفلة ، وعرجوا على الطندباوي ، مما يلي الشبيكة ، إلى أن نفذوا على طوى.

وما كان من الشريف عبد الكريم : فإنه لما وصل طوى ، وجد على جبالها جماعة من عرب هذيل ، ووجد بعض مضارب ، وبها عسكر للشريف سعيد.

فلما أقبل عليهم هربوا ، وتركوا منازلهم ، فنهبها العبيد وما فيها ، فبينما هم (٢) بطوى ، إذ خرج عليهم الشريف سعيد من الشيخ محمود (٣) ،

__________________

(١) أجياد : كأنه جمع جواد ، والناس تقول جياد ، كان الاسم يطلق على شعبين كبيرين من شعاب مكة ، أحدهما يأتي من الجنوب والآخر يأتي من الشرق ، ويجتمعان أمام المسجد الحرام في الجنوب فيدفعان في وادي إبراهيم ، وقد أصبحا اليوم مأهولين بأحياء عديدة منها : حي جياد ، والمصافي ، وبئر بليلة. البلادي ـ معالم مكة ١٤.

وعن تسمية أجياد وأسبابها انظر : اليكري ـ معجم ما استعجم ١ / ١١٥ ، ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ١ / ١٩٤ ، الأزرقي ـ تاريخ مكة ١ / ٨٢ ، ١٠٣ ، البلادي ـ معجم معالم الحجاز ١ / ٥٣ ـ ٥٦.

(٢) في (ج) «هو».

(٣) قبة الشيخ محمود بجرول ، وقد سبق تعريفها.

٣٧٧

فتلاقيا ، فانكسر الشريف عبد الكريم ، وامتنع إلى جبال أبي لهب ، ثم كرّ بمن معه من الأشراف وجماعته على سعيد ، فانهزمت قومه ، ووقع فيهم القتل ، فقتل نحو الستين من جماعته.

ولما وصل الشريف عبد الكريم إلى الطندباوي ، وجد السيد عبد المحسن بن أحمد ومعه الأشراف السابق ذكرهم ، فلم يعرج عليهم ، وسار خلف سعيد بمن معه من الأشراف ، حتى أوصله إلى دار السعادة من السوق الصغير (١).

وكان معه نحوا من أربعين شريفا شاروا (٢) عليه بالخروج من المعلاة ، وترك البلد ، فإنها أخذت. فلم يلتفت إليهم ، وعطف على سويقة ، وجاء بيت سردار الإنقشارية ، فاستغاث بهم ، فأجابوه ، وخرجوا معه ، ودخلوا من المسجد على بيت إيواز بيك وعنده العرب وبقية البلكات ، فطلبوا منهم الخروج معهم ، فامتنعوا ، فصاحوا على إيواز بيك وقالوا له : «إنك موالس (٣)».

ثم خرجوا من باب إبراهيم على السوق (٤) الصغير ، فرموا الشريف عبد الكريم بالرصاص ، فظن أن جميع الأتراك خرجوا ، فترفّع عنهم ،

__________________

(١) السوق الصغير ، سوق للأطعمة مما يلي المسجد الحرام من الغرب بين المسفلة والشبيكة وأجياد كان به ملاحم ومبيع للخضار ، وجميع ما يحتاج الانسان. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٤ / ٢٥٣. وقد أزيل السوق الصغير الآن وأصبح مكانه مواقف للسيارات.

(٢) في (ج) «أشاروا عليه». وهما بنفس المعنى.

(٣) أي مخادع ومداهن لأن الموالسة من ولس وهو الخداع والخيانة. انظر : ابن منظور ـ لسان العرب ٣ / ٩٨١ ، إبراهيم أنيس ـ المعجم الوسيط ٢ / ١٠٥٦.

(٤) في (ج) «سوق الصغير».

٣٧٨

حتى خرج من الشبيكة ، وكان قد فرق قومه على الجبال. فأشار عليهم بالنزول ، فنزلوا هاربين من طريق الزاهر ، ولحق به الشريف سعيد إلى الزاهر ، فتناظروا هناك ، وأخذ كلّ من صاحبه مهلة على قواعدهم.

ثم رجع الشريف إلى داره ، وصوّب من معه من الأشراف جماعة ، منهم : السيد علي بن أحمد بن أبي القاسم برصاصة مات منها ، وأصيب السيد أحمد بن حازم برصاصة مات (١) منها بعد أيام ، وأصيب من الأشراف الذين مع عبد الكريم أخوه حامد بن محمد / بن يعلي ، وأخو بركات بن محمد بن يعلى ، وشنبر بن جازان ، وشريف آخر من ذوي حراز ، إلا أن صوابهم غير مضرّ بهم.

ورجع عبد الكريم إلى رخيم (٢) ، وأقام هناك إلى أن وردت إلى سليمان باشا الأخبار المسرة بجدة ، ضمن كتب من رامي باشا صاحب مصر ، ومن بعض الصناجق ، ومضمونها :

«أنه ورد مصر المحروسة سابع عشرين جمادي الأول ، محمد آغا باش شاووش ومعه أربعة أوامر سلطانية من طرف السلطنة العلية :

ـ أحدها بعزل أيوب بيك عن إمارة الحج ، لما تحققنا ما حصل منه من (٣) الفساد ، وتولية غيطاس بيك إمارة الحج.

__________________

(١) في (ج) «بها».

(٢) في (أ) «رغيم». والاثبات في (ج) لأنني لم أجد تعريفا لرغيم فيما لدي من مصادر ومراجع. وإنما وجدت «الرخيم». والرخيم : واد يمر في وادي جلال من الشمال ثم إلى رهاط وهو للروقة من عتيبة. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٤ / ٤٧. ويذكر حمد الجاسر أن الرخيم من قرى بني ذبيان في أضم بمنطقة الليث. المعجم الجغرافي ٢ / ٦٣٠.

(٣) سقطت من (ج).

٣٧٩

ـ والثاني بعزل الشريف سعيد ، وأنعمنا على الشريف عبد الكريم بشرافة مكة ، وأن أمره برز سنة ١١١٧ ه‍ ، سبعة عشر (١) ومائة وألف.

ـ الثالث : أننا ولينا إيواز باشا جدة ، ومرادنا وصول سليمان باشا إلى حضرتنا.

ـ والرابع : أننا أنعمنا على الشريف سعيد (٢) بسكنى مصر ، وأقطعناه بعض فدادين ، ورتبنا له كفايته من المصرف (٣) كل يوم».

ولم تزل الأخبار تقوى من الواردين في المراكب المصرية ، وتنشر (٤) في الناس ، وعند الأتراك ، والشريف سعيد غير معترف بذلك.

وكثر القيل والقال ، واستمر الشريف عبد الكريم ومن معه بالوادي ، إلى أن بلغهم أن الشريف سعيد أغرى أغوات الإنقشارية على إيواز بيك ، فصالوا عليه غيلة ، وحصروه في بيته ، وأفهموه أنه لما كان غرة جمادي الثاني وردت على إيواز بيك ركائب من بدو عترة ، بعثهم إليه بيرم باشا من طريق الشام ، يخبره بأن السلطنة العلية ، والأبواب المحمية (٥) ، وصلت إلينا منهم أخبار ، أنهم أنعموا بشرافة مكة على الشريف عبد الكريم.

فلما وردت هذه الأخبار على (٦) الشريف عبد الكريم ، حمى

__________________

(١) سقطت من (ج).

(٢) سقطت من (ج).

(٣) في (أ) «المصر». والاثبات من (ج).

(٤) في (ج) «فانتشر».

(٥) في (ج) «الممية».

(٦) في (ج) «وعلمها الشريف».

٣٨٠