منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري

منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

المؤلف:

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري


المحقق: الدكتورة ملك محمد خياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: جامعة أم القرى
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9960-03-366-X

الصفحات: ٥٨١

المسجد من جماعة عساكر مصر ومن عسكره أيضا اليمنة (١).

ثم أحضر عسكر مصر ، من متفرقة وأصباهية وعرب وإنقشارية ، فركب ، وركب معه خاصته من الغلمان والوصفان وصارجية (٢) وسقمان (٣) ، وأرادوا الخروج فلم يتمكن من ذلك ، ووقف بسوق الصغير.

ووصل الرمي من جبل عمر إلى محلّ وقوفه ، بل أصاب [بعض](٤) الخيل بعض ذلك الرمي. واستمر إلى ضحوة عالية. فكان من التقدير نزول الشيخ (٥) سعيد المنوفي ، والسيد علي ميرماه إلى حضرة القاضي ، وجمعوا بعض الفقهاء والمفتي ، وأخذوا من القاضي حكما حكم به : «أنه لا يجوز عزل من ولاه السلطان ، ويجب على العامة أن يقاتلوا معه هؤلاء الجماعة». وأمروا مناديا ينادي في شوارع مكة.

__________________

موائد الفضل ورقة ١٤٥ ، مرداد ـ نشر النور والزهر ٢٩٠ ـ ٢٩٣.

(١) أي من اليمن.

(٢) أوصاريجه : اسم طائفة من الجند. حسين نجيب ـ معجم الدولة العثمانية ١١٧.

(٣) سقمان أو سكبان أو سيمان ، كلمة من أصل فارسي مكونة من مقطعين (سك) وتعني كلب و (بان) وتعني حامي. ولقد أطلقت هذه التسمية في الأصل على فرقة المشاة العثمانية قبل إنشاء الإنكشارية ، وبقيت إلى جانب الإنكشارية كفرقة مستقلة بعد انشائها ، ولم توضع تحت سلطة قائد الإنكشارية إلا بعد سنة ١٤٥١ م. عن هذه الفرقة انظر : محمود شوكت ـ التشكيلات والأزياء العسكرية العثمانية ٥٠ ـ ٥١ حاشية رقم (٣) ، حسين نجيب ـ معجم الدولة العثمانية ١٠٧ ، فردينان توتل ـ النجد (ملحق الأدب والعلوم ص ٢٥٦).

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) في (ج) «نزل».

٣٠١

فاضطربت الناس وهو ينادي بالنفير العام حسبما رسم شيخ الإسلام (١).

فلما بلغ ذلك سليمان باشا وجاءه الحكم وتأمله ، امتثل الأمر وأطاع ، وخادع خداعا. وأمر نحو مائة من عسكر (٢) الدبابة أن يسيروا مع الشريف ، فحاصروا من كان في جبل عمر. وبعث نحو ثلاثين مدرعا (٣) من الترك مع كيخيته علي آغا ، فلحقوا بالشريف سعيد.

وأخذ محمد بن جمهور العدواني من جماعة الشريف ، الحكم المكتوب (٤) ، وطلع به إلى أمير العراق (٥) ، فأعانه بنحو مائتين عسكري ، فخرج بهم المذكور من ريع أذاخر (٦) ، وعطف على الأشراف بالزاهر.

__________________

(١) لقب شيخ الإسلام عادة كان يطلق على المفتي الذي كان في القسطنطينية نظرا للمهام الجسيمة التي كانت على عاتقه ، وقد اختلف المؤرخون حول تحديد الوقت الذي أطلق فيه هذا اللقب على مفتي العاصمة. فالبعض يرى أنه ظهر في عهد السلطان مراد الثاني ، والبعض الآخر يقول في عهد السلطان سليمان القانوني أو محمد الثاني. عن هذا انظر : الشناوي ـ الدولة العثمانية دولة مفترى عليها ١ / ٣٩٩ ـ ٤٠٢ ، حسين نجيب ـ معجم الدولة العثمانية ١١٢ ـ ١١٣. وهنا ربما أطلق اللقب مجازا على قاضي مكة أو ربما ليعطي الأمر أهمية كبرى. أو أن القاضي أمر هذا الأمر بناء على فتاوي سابقة من شيخ الاسلام في مثل هذا الموضوع.

(٢) في (ج) «عسكره».

(٣) أي من لابسي الدروع.

(٤) الحكم المكتوي هو الذي ذكر سابقا والذي ينص : على أنه لا يجوز عزل من ولاه السلطان ، ويجب على العامة أن يقاتلوا معه هؤلاء الجماعة.

(٥) أمير الحج العراقي.

(٦) أذاخر هو في الأصل الجبل المتصل بالحجون من الشمال الشرقي ، والذي يشرف على وادي فخ من الجنوب. وقد اقتصر الاسم اليوم على تلك الثنية التي تصل بين رأس وادي فخ ، والأبطح بمكة ، وتسمى ريع أذاخر. وهي الثنية التي دخل منها الرسول

٣٠٢

وفرغ بارود الأشراف لطول رميهم ، فهمدت الفتنة ساعة ، فانتهزها الشريف سعيد من السوق الصغير ، وسار بمن معه من عساكر الباشا إلى أن وصل إلى الزاهر ، ففرّت العبيد.

فلما وصل الشريف إلى البيوت المسامتة لبيت عبد الباقي الشامي ، صدّه من كان فيه من العبيد السابق ذكرهم (١) الكاينين في البييت المذكور. فتوقف ، وقتل هناك بيرق دار الإنقشارية وعبد من عبيد الشريف ، وجرح آخرون / من جماعته. وطال وقوفه ثمة ، ثم عطف على سويقة ، على بيت الباشا ، وأمر بجر مدفع من المدافع ، وانتهى به إلى قريب بيت عبد الباقي ، ورمى به على البيت ، ففرّ من كان فيه من الأسطحة ، وهربوا ، فكرّ عند ذلك ، وحصل من خيالته اختلاط بمن كان هناك من الأشراف حول بيوت الشبيكة ، وقتل عبد لعبد المحسن ابن (٢) أحمد وأخته ، وصوب فرس السيد مبارك بن زامل فحوّل عنها وتركها. فأصيب السيد حسن بن حسين بن عبد الله برصاصة في رجله ، فتمنّعوا بعد ذلك الاختلاط ، وافترقوا عن البلد.

هذا كله ، والشريف سعد واقف تحت دار السعادة ، يرتجز (٣)

__________________

صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ١ / ٧٨ ، معالم مكة ٢٢ ـ ٢٣. وعرفه السباعي بقوله : «شعب يتصل بأعلى المعابدة إلى الزاهر ، ويسمى اليوم (خريق العشر).

السباعي ـ تاريخ مكة ١ / ٢٨٨ حاشية (٢). ويذكر الأزرقي أن ثنية أذاخر هي الثنية التي تشرف على حائط خرمان. انظر : الأزرقي ـ تاريخ مكة ٢ / ٢٨٩.

(١) العبيد السبعة الذين دخلوا بيت عتاقي أفندي الذي أخذه من عبد الباقي الشامي.

(٢) هو عبد المحسن بن أحمد بن زيد الذي سيصبح فيما بعد شريفا لمكة.

(٣) الرجز : داء يصيب الابل ترتعش منه أفخاذها عند قيامها. إبراهيم أنيس

٣٠٣

كاغلام الشير إليه بالطعام (١) ، ومعه نحو ثلاثة أو أربعة من الأشراف ، ثم لحق بولده ، وساروا حتى وصلوا جبال أبي لهب (٢) ، فكانوا من الأشراف بعيان وهم وقوف حول مضاربهم ، فامتنع الفتيان من القدوم.

فأقاموا الأشراف ثمة ثلاثة أيام. ثم انتقلوا إلى الحميمة ، فلحق بهم الشريف سعد ، ونزل عليهم ، وطرق منازل المشايخ منهم ، فاستعطى منهم ذلك القدر الذي يطلبوه ، فجازه بعد التنزل لهم. فسمحوا له به كرامة لمجيئه إليهم ، والتزم لهم العوض ، وأصلح الأمر على : أن يأخذوا الآن من الشريف سعيد مشاهرة بشهر واحد.

وطلب منهم الدخول معه إلى مكة وملاقاة الشريف ، فدخل معه كبارهم ضحوة النهار في مدة المهلة المأخوذة لهم ، فأضافهم الشريف سعد ذلك اليوم ، وجعل لهم أنواع الأطعمة ، وأقاموا بمكة أياما ، فما وقعوا على طائل ، ولا أفادهم قول هذا القائل. فعند ذلك رجعوا إلى الحميمة.

إلا أن السيد أحمد بن زين العابدين ومن في عملته ، والسيد أحمد ابن حازم ومن في عملته ، ومحمد بن أحمد بن حسين ومن في عملته ، نقضوا ما أبرموه مع القوم ، وبين السيد عبد المحسن ، والسيد عبد الكريم ،

__________________

المعجم الوسيط ١ / ٣٣٠. والمقصود أن الشريف سعد أصبح يرتعش من شدة الموقف.

(١) العبارة غير واضحة ، وأورد أحمد دحلان ١٣١ هذه العبارة بقوله : «والشريف سعد واقف تحت دار السعادة يرتجز كالغلام ، ثم أحضر له طعام ومعه ثلاثة أو أربعة من الأشراف.

(٢) أبي لهب : هو الجبل الواقع بين ريع أبي لهب وريع الكحل ، يشرف على الزاهر غربا وذي طوى شرقا ، وهو جبل وليس كما ذكر هنا جبال. ويقال أن قبر أبي لهب قريب من هذا الجبل. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٧ / ٢٦٨.

٣٠٤

لما طمعوا فيه من تسديد (١) رأيهم وتوهموا النتاج به في أمرهم.

وأما ما كان من أمر السيد عبد المحسن ، والسيد عبد الكريم ، ومن معهم ، بعد أن أودعوا طوارفهم على عادتهم ، أقام السيد عبد المحسن بمكة باشارة من الشريف ، رجاء أن يكون واسطة للصلح ومعينا له عليهم.

فبينما هم في المشورة ، إذ جاء الخبر أن الأشراف أخذت قافلة عظيمة ، خرجت من جدة ، وقتلوا الرجال ، ونهبوا الأموال. فاشتد غضب الشريف سعيد ووالده الشريف سعد ، وقال لمن كفلهم من بني عمهم :

«أعطوا الحق من أنفسكم ، فإنكم كفلتم هؤلاء الجماعة أياما معدودة ، واستردّوا منهم ما كانوا أعطوهم مما هو لهم».

فعسر استيفاؤه.

ثم إن مولانا السيد عبد المحسن ، خرج إليهم ، حيث لم يتم له ما أراده عمه من الصلح ، وحدوث أخذهم لهذه القافلة ، مع أن معها السيد مبارك بن حمود ، وخرج معها من جدة ، وأودعه إياها الشريف سعيد في كتاب كتبه إليه وجعلها في وجهه. ومعه من السارجية والسقمان (٢) نحو أربعين فارسا.

__________________

(١) في (ج) «تفسيد». أورد أحمد زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ص ١٣٢ هذه العبارة بقوله : «إلا أن السيد أحمد بن زين العابدين ومن في عملته ، والسيد محمد بن أحمد بن حسين ومن في عملته نقضوا ما أبرموه مع القوم».

(٢) في (أ) «السقران». والاثبات من (ج).

٣٠٥

فخرج إليهم الأشراف هؤلاء ، عصر يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من محرم ، عند بئر شميس (١) ، فاحتالوا على السيد مبارك بن حمود ونحّوه عنها / ، وقبضوا عليه ، واستاقوا القافلة بأجمعها.

فلما رأى السيد مبارك منهم ما رآه. وكان مبارك ـ كاسمه ـ نزل عن فرسه ودخل مكة راجلا ، فنزل على السيد مساعد بن سعد بالطندباوي.

وكانت قافلة عظيمة موفورة ، وفيها من كل الأنواع.

وقتل من الصارجية خمس عشرة ، وأخذت خيولهم ، وبلغت القتلى من أصحاب القافلة وغيرهم نيفا وثلاثين ، ولم يسلم إلا من هرب ، واستجار بعضهم بالأشراف ، فسلم من كتبت له السلامة بروحه دون ماله ، ورجعوا بالقافلة يسحبون الرماح ، وينادون بحيّ على الفلاح. وكانوا نحو العشرين أغلبهم شبانا.

فلما أن وصل إليهم السيد عبد المحسن (٢) ، جعلوا كلمتهم الكلّ إليه ، واعتمدوا في تطريق هذا الوفق عليه ، وبايعوه على شرافة مكة ، وعزل ابن عمه سعيد ، فرضي بعد تأبّ شديد ، ثم ارتحلوا من الحميمة ، ونزلوا ماء قريبا من جدة يقال له غليل (٣) ـ مصغرا ـ وبعثوا إلى الوزير

__________________

(١) ربما تكون الشميس ، وهي غرب مكة ، وتعتبر قرية من قرى منطقة الجموم التابعة لإمارة مكة المكرمة. ويقال أن الشميس هي الحديبية. عن هذا الموضوع. انظر : البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧. حمد الجاسر ـ المعجم الجغرافي ٢ / ٨١٠.

(٢) عبد المحسن بن أحمد بن زيد.

(٣) وادي غليل : واد يسيل من الحرازية ، يباري أم السلم من الجنوب ، ويجتمع

٣٠٦

سليمان [باشا](١) يعرفون (٢) بما اتفقوا عليه ، [فأمرهم بالدخول إلى جدة فدخلوا](٣) جدة ، ومعه مولانا السيد عبد المحسن بن أحمد بن زيد ، والسيد عبد الكريم بن محمد بن يعلى ، والسيد أحمد بن هزاع ، وعبد الله ابن سعيد بن شنبر ، وآخرون من الأشراف ، وأقام (٤) الباقون بغليل.

فبعث الوزير سليمان باشا كتابا إلى الشريف سعيد ، وإلى والده الشريف سعد ، ملخصه :

«أن السادة الأشراف ، نزلوا على غليل ، وقصدهم محاصرة جدة ، ومنعهم أهلها من الماء ، وربما يحصل منهم خلاف على البندر ، وليس لنا قدرة على دفعهم. فالمقصود أن تخرجوا لهم (٥) ، ونحن من جهتنا معكم ، أو تدفعوا لهم ما هو لهم ليرجعوا عما (٦) هم فيه من الضرر علينا وعليكم ، ويدخلون تحت الطاعة. وإن كنتم تعجزون عن ذلك ، فاخرجوا من البلاد ، فقد تعيّن لها من يقوم بحفظها». فردّوا له الجواب :

«ليس لهم عندنا إلا السيف ، أو يرضون بالحيف».

__________________

معها في الرغامة بطرف جدة من الشرق ، وحيث يدفع غليل في خبت جدة قام حي سمي غليلا ، فهو من أحياء جدة الجنوبية الشرقية. انظر : البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٦ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) في (ج) «يعرفونه».

(٣) ما بين حاصرتين سقط من النسختين ، فاستدركه الناسخ في الحاشية اليمنى من (ج).

(٤) في (ج) «واقاموا الباقون».

(٥) في (ج) «إليهم».

(٦) في (ج) «مما هم فيه».

٣٠٧

فلما جاءه (١) هذا الجواب ، استدعى الباشا مولانا الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد هو وجماعة (٢) من الأشراف. وحضر قاضي جدة ، وجماعة من بياض (٣) الناس ، فألبسه الوزير قفطانا فروا سمورا [عظيما](٤) ، وولاه شرافة مكة. ودعت له الأشراف بالعز على قواعدهم السالفة.

فخرج من عنده في آلاي أعظم والخلق بين يديه من عساكر وغيرها ، ومعه الأشراف ، إلى أن وصل سبيل محمد جاووش خارج جدة. [ثم](٥) نادى مناديه في الشوارع له بالبلد ، والأمان والاطمئنان ، ووضع يده على البندر ، ورفع يد وزير الشريف سعيد وهو حسن بن علي الفيومي ، ورفع جميع المباشرين الذين من جهة الشريف سعيد ، وأجلس آخرين غيرهم (٦).

ثم ان الوزير سليمان باشا ، هيأ لمولانا الشريف عبد المحسن كلّ ما يحتاج إليه الملك من نوبة ، وصنجق ، وسعاة ، وعساكر دبابة ، وخيالة (٧) ،

__________________

(١) في (أ) «جاء». والاثبات من (ج).

(٢) هم السادة الأشراف الذين دخلوا جدة معه ، وهم : السيد عبد الكريم بن يعلى ، والسيد أحمد بن هزاع ، والسيد عبد الله بن سعيد بن شنبر ، والذي مر ذكرهم آنفا. وعن هذه الأحداث ، انظر : أحمد زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٣) فضلاء الناس وخيرهم ، لأن بياض الناس تعني نقاء العرض من العيوب والكرم. ابن منظور ـ لسان العرب ١ / ٢٩٦ ، إبراهيم أنيس ـ المعجم الوسيط ١ / ٧٨ ـ ٧٩

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) ما بين حاصرتين من (ج).

(٦) المقصود هنا أن الشريف عزل الموظفين الذين كانوا في عهد الشريف سعيد ، وعين موظفين من قبله.

(٧) في هذه الفقرة يوضح لنا السنجاري المكونات التي كانت في الموكب الشريفي.

٣٠٨

وقام بما يكفيهم من الملبس والمطعم وغيره. وأخرج له الذخيرة الوافرة من كل شيء ، وبعث كيخه محمد آغا حفيظا للعساكر.

فأصرف (١) مولانا الشريف على الأشراف معلوم / شهر.

وبعث إلى المدينة لينادي باسمه له فيها. فنودي له بها ، وخطب له باسمه على المنبر النبوي ، وكتب إلى الشام (٢) ، وإلى جميع الجهات ، فأجابوا بالطاعة ، وأطاعته حرب ، والقواد ، وجميع تلك الجهات الشامية ، وبعث إلى الحجاز (٣) ، فأجابه قاصيه ودانيه ، وبعث إلى جهة اليمن (٤) وسائر نواحيها (٥).

ثم انه بعث أخاه عبد المطلب إلى الطائف ، ومعه السيد عبد الله بن حسن بن جود الله ، وعبد الله بن أحمد بن أبي القاسم مع آخرين ، فنادوا

__________________

(١) في النسختين هكذا. والمعنى أنه أعطى ، أو صرف لهم.

(٢) المقصود بالشام هنا المناطق الشمالية من الحجاز.

(٣) الحجاز بالكسر وآخره زاي. أحد أقسام شبه الجزيرة الخمسة ، وهي : تهامة ، والحجاز ، ونجد ، والعروض ، واليمن. عن الحجاز انظر : ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ١ / ٢١٨ ـ ٢٢٠. والمقصود هنا المناطق والمدن التي يضمه هذا الإقليم مثل المدينة المنورة ، الطائف ، رابغ ، ينبع ، الليث ، تربة ، القنفذة ، ....

وفي البادية يطلقون الحجاز على المنطقة الجنوبية للطائف فإذا قالوا : ان هذا البدوي حجازي ، يعنون أنه من جنوبي الطائف. وهذه التسمية لها وجه ، فإن جبال السراة الممتدة من اليمن إلى الشمال هي حجاز ، بمعنى أنها فاصلة بين الغور ، وهو تهامة ونجد. حافظ وهبه ـ جزيرة العرب ط ٥ ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ١٣٨٧ ه‍ / ١٩٦٧ م ص ١٤.

(٤) أي المناطق الجنوبية من الحجاز.

(٥) من الملاحظ أن كل هذه الأوامر صدرت والشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد في جدة كما سنرى فيما بعد.

٣٠٩

له بالطائف.

وأقام عبد المطلب بن أحمد ثلاثة أيام ، فوصل إليه عبد الله بن سعيد ابن سعد ومعه من الجبالية (١) ويافع (٢) نحو الخمسين ، ومن الأشراف محمد بن جازان ، وحروفا (٣) من ثقيف (٤) ، فتهيأ عبد المطلب بن أحمد لقتاله. وجمع الجموع ، فأتاه أحمد بن زين العابدين فثبطه لكتب جاءت من الشريف سعد ، وحسن له الخروج فتأبى. ثم خرج ليلا منها ، فدخلها عبد الله بن سعيد بن سعد ، ونادى فيها لأبيه.

وما كان من عبد المطلب : فإنه نزل الأخيضر (٥) ، فجمع بعض البادية ، وكرّ بهم على الطائف. فتأهب عبد الله بن سعيد لملاقاته.

[فلما](٦) بلغ أحمد بن زين العابدين ذلك الأمر ، اجتمع بعبد الله ابن سعيد ، وعرّفه أن الشريف عبد المحسن ولي مكة ـ وعزل أباك ـ وأخوه عبد المطلب يريد حفظ الديرة لأخيه.

__________________

(١) أي سكان الجبال.

(٢) بلاد يافع في الجهة الشرقية من اليمن. عبد الله الجرافي اليمني ـ المقتطف من أخبار اليمن ص ٧. ويذكر ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ٥ / ٤٣٩ : «أن اليفاع من قرى ذمار باليمن».

(٣) وحروفا : تعني من يمتهن صناعة القتال لأن حروفا من حرفة ، وهي الصناعة. ابن منظور ـ لسان العرب ١ / ٦١١.

(٤) القبيلة العربية المعروفة ، والتي لا زالت في مساكنها القديمة حول الطائف. انظر : القلقشندي ـ نهاية الأرب ١٩٨ ، البلادي ـ معجم قبائل الحجاز ٦٢ ـ ٦٤.

(٥) الأخيضر : بضم الهمزة ، والعامة تفتحها. تصغير أخضر من قرى وادي مدركة ، في منطقة امارة مكة المكرمة. حمد الجاسر ـ المعجم الجغرافي ١ / ١٨١.

(٦) ما بين حاصرتين من (ج).

٣١٠

فأبى ، وقال : «هذا كلام لا أسمعه».

فاتفق رأيهم على :

ـ دخول عبد المطلب ، مع بقاء عبد الله بن سعيد من غير قتال.

ـ وأنهم يكتشفون الخبر ، ويرسلون إلى مكة. فإن كان الأمر غير صحيح فلك (١) منا أن (٢) نخرج عبد المطلب ، ونحن الكفلاء بهذا.

فوافقهم على ذلك.

ثم انه عمل بالرأي السعيد ، وخرج ليلا بمن معه من العسكر والعبيد ، ووصل إلى أبيه. وتخلّف عنه محمد بن جازان بالطائف. فدخل عبد المطلب الطائف ، ونادى لأخيه ثانيا (٣) ، واستمر هناك إلى أن دخل أخوه مكة.

ـ هذا كلّه والشريف عبد المحسن بجدة ـ.

فجمع الشريف سعد والشريف سعيد جماعة من الفقهاء ، فيهم القاضي والمفتي وقوم آخرون. وتفرق المجلس على أنهم يكتبون كتابا (٤) إلى الوزير سليمان باشا صاحب جدة ، أغلظوا فيه ، إلى أن قالوا :

«ان بيدنا فتوى من المفتي ، وحكم بموجبها قاضي الشرع ، بكفر من تجرأ على عزل من ولاه السلطان على بلد إذا كان بيده أوامر سلطانية ، وأنه لا يعزل إلا بنقض الملك أو أمره. إلى غير ذلك. وأنه قد

__________________

(١) في (أ) «ولك». والاثبات من (ج).

(٢) تكررت «ان» مرتين في (أ).

(٣) أي للمرة الثانية لأنه كان قد نودي له بها فيما سبق.

(٤) وردت في النسختين «كتاب».

٣١١

جاءنا الخبر بعزلك (١) ومحاسبتك ، فكيف لك بالعزل والتولية مع أنك معزول من منصبك»؟!.

ثم أرسلوا هذا الكتاب مع السيد دخيل الله بن حمود ، ومعه جوخدار (٢) القاضي. فلما أن وقف الباشا المذكور (٣) على ذلك قال :

«أنا بيدي من السلطان مصطفى ، والسلطان أحمد بن أخيه المتولي بعده أوامر سلطانية ، أن أعزل وأولّي من أرى فيه المصلحة والصلاح لمكة المشرفة».

فلما علم السيد دخيل الله حقيقة ذلك ، لم يطلع من جدة ، وعامل الشريف عبد المحسن من جملة من عامله.

وجاء الجواب من جوخدار القاضي بما قاله الوزير المذكور (٤).

فاغتاظ الشريف سعد وابنه الشريف سعيد ، وبعثا يطلبان منه الإشراف على ما بيده من الأوامر (٥).

فبعث إليهم :

__________________

(١) مطموسة في (أ). والاثبات من (ج).

(٢) الجوخدار : من الحرس الذين كانوا في فرقة الإنكشارية ، حرس يدعون صالمه ، ورئيسهم يدعى صالمه جوقداري للبسه قبعة من الجوخ الأخضر. وكانت مهمتهم المحافظة على النظام والأمن في الأماكن المختلفة في البلاد مثل الأسواق ، والحوانيت ، والمقاهي. اضافة إلى مراقبة أزياء الجند وانضباطهم في أعمالهم. انظر : محمود شوكت ـ التشكيلات والأزياء العسكرية العثمانية ٩٧.

(٣) سليمان باشا.

(٤) سليمان باشا.

(٥) أي الاطلاع عليها.

٣١٢

ـ «إن كنتما تريدان / ذلك ، فابعثوا رجلا من جهة القاضي ، ومن كلّ بلك من العسكر (١) رجلا يشرفون على ما بيدي من الأوامر».

ثم انقطعت بينهما الوسائط ، إلى أن وصل مولانا الشريف عبد المحسن من جهة جدة متوجها إلى مكة ، وذلك يوم السبت ثاني عشر ربيع الأول ، ومعه الجموع والأشراف ، إلى أن وصل وادي الجموم (٢).

فخرج إليهم الشريف سعيد بمن معه من العساكر المكية والمصرية ، ونزل بطوى ، وأخذ الشريف سعيد ما يلي الحجون الصغير (٣) ومعه عبيده ، وجماعة من اليكون (٤) ، ومعهم محمد بن جمهور العدواني شيخا عليهم ، وفرقت على الجبال المطلة على أبي لهب بعض العبيد ، وجماعة من يافع والجبالية.

ولما كان يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول : سار الشريف

__________________

(١) في (ج) «العساكر».

(٢) الجموم : جزء من وادي مر (وادي فاطمة) على طريق مكة إلى المدينة على ٢٢ كلم ، وهي قاعدة وادي مر. ومعظم سكانها من الأشراف ذوو حسين من ذوي بركات. السباعي ـ تاريخ مكة ٢ / ٣٦٩ حاشية (٢) ، حمد الجاسر ـ المعجم الجغرافي ١ / ٣٨٣ ، البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٢ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٣) الجون الصغير ، المعروف بريع الكحيل ، وكان يسمى بالثنية الخضراء ، ثم سمي الحجيل تصغير الحجول. كما هو في لغة أهل الحجاز للحجون. الأزرقي ـ تاريخ مكة ٢ / ٢٩٧ حاشية (٤) ، البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٢ / ٢٣٨.

(٤) ربما تكون «النفعة» ففي (أ) «اليكون». ومطموسة في (ج) ، وفي زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ص ١٣٤ وردت نفس الجملة هكذا : «وأخذ الشريف ما يلي الحجون ومعه عبيده وجماعة من النفعة». النفعة : أحد فرعي البطنين من بني سعد من برقا في عتيبة. فؤاد حمزة ـ قلب جزيرة العرب ١٨٧ ـ ١٨٩ ، البلادي ـ معجم قبائل العرب ٣ / ٤٩٦ ، شرف البركاتي ـ الرحلة اليمانية ١٣٠ ـ ١٣١.

٣١٣

عبد المحسن من الجموم ، ونزل صبيحة يوم الخميس بالزاهر ، وأمر بحفر آباره ، وكان قد طمّها الشريف سعيد.

فلما تلاقى (١) الجمعان ، حمل بعض جماعة الشريف عبد المحسن على جبل كان به بعض جماعة من عسكر الشريف سعيد ، فأنزلوهم عنه وملكوه ، وقتل فيه بيرق دار العسكر ، وعسكري آخر ، أراد أن يأخذ البيرق عند (٢) قتل (٣) الأول [فقتلوه](٤) ، وحصل صواب (٥).

وأما اليفعة (٦) مما يلي جانب الشريف سعيد ، فجاءتهم جماعة من بادية الشريف عبد المحسن ، فأثخنوهم قتلا وجرحا وضربا وصرحا (٧).

ولم يزالوا على ذلك إلى الليل ، وربما رمت بعض عسكر الشريف عبد المحسن بمدافع معهم على جماعة الشريف سعيد.

فبعث مولانا الشريف إلى مشايخ الحارات (٨) ، وأخذ منهم الزرابطين (٩) ، الذي يطلقونها ليلة العيد وفي رمضان ، فرمى بها على

__________________

(١) في (أ) «تلاقا». والتصحيح من (ج).

(٢) سقطت من (أ). والاثبات من (ج).

(٣) في (أ) «فقتل». والتصحيح من (ج) لأن المعنى يستقيم بذلك.

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) أي اصابات في الطرفين.

(٦) المقصود بهم الجماعات التي من يافع.

(٧) في (أ) «صرحا». وفي (ج) «مرحا». واعتقد أنه «طرحا» لأن المعنى يستقيم هكذا : فأثخنوهم قتلا وجرحا وطرحا. وطرحا من طرح بالشيء يطرحه طرحا ، وأطرحه وطرحه : رمى به وألقاه. ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ٥٧٨.

(٨) أي شيخ الحارة. وهو ما يعرف بالعمدة الآن.

(٩) نوع من المفرقعات.

٣١٤

الجبال ، فأصاب مضربا فيه عسكر من بعض عسكر سليمان باشا.

ثم أمر باستخراج مدفع كبير كان مدفونا في دار السعادة. فأخرجوه وصلحوه (١) ، وساروا به إلى طوى ، فطلعوا به إلى قلعة ، وحشوه وأطلقوه على الأشراف ، فما أفاد إلا الصوت (٢).

وغارت بعض شبان من جهة الشريف (٣) عبد المحسن إلى بطن الوادي تطلب البراز من الشريف سعيد. فصوب منهم السيد عبد المعين ابن حمود برصاصة في كفه ، ولم يقدم عليهم أحد.

ولم يكن مع الشريف سعيد إلّا السيد عبد الله بن حسين بن عبد الله ، ومبارك بن حمود ، وعلي بن أحمد بن باز ، وبشير بن مبارك بن فضل ، وقد حضروا معه بالحجون.

ولما كان ليلة الأحد : وهو اليوم الرابع ظهرت الغلبة ، وضاق الأمر ، فنزل ضحوة يوم الأحد المذكور الشيخ سعيد المنوفي ، والسيد علي ميرماه ، وأنهوا إلى القاضي ما لحق الشريف سعيد ، وأمروه بكتابة حجة بالنفير العام ، فكتب لهم حجة بذلك ، وأمر مناديا ينادي في الشوارع :

«كلّ من لم يأت إلى المحكمة الآن فهو منهوب الدار مطلوب بلا اعتبار».

فاجتمع العالم (٤) تحت المدرسة السليمانية بالحرم الشريف ، فقرأ

__________________

(١) في (ج) «عجلوه». أي جعل له عجلا.

(٢) أي كان قصير المدى فلم يفعل شيئا.

(٣) في (ج) «أشراف السيد عبد المحسن».

(٤) أي الناس.

٣١٥

عليهم المنوفي صورة الحجة ، وهو مطلّ من طاقة المحكمة ، ومضمونها :

«أن هذا الشريف سعيدا قد ولاه السلطان مصطفى شرافة مكة ، / ٣٣٩ وأيده السلطان أحمد ، وقد رأيتم ما صار عليه / من هذا الباشا ، فيجب عليكم بذل الطاعة والخروج معه للقتال. ودفع هؤلاء البغاة قطاع الطريق ، سيما وقد مات الجور في دولته ، وعاش العدل بصولته».

فبينما هو ذلك إذ صاح بعض الناس الحاضرين :

«هذا باطل! [باطل](١) «!.

وانطقت (٢) العالم بلسان واحد ، وكاد أن يرجم المنوفي والقاضي ومن معه. وفرّت العالم من المسجد.

فلما رأى القاضي ومن معه قيام العامة ، وتفاقم الطاعة ، أمر بالخروج إلى الشريف سعيد إلى الزاهر وإخباره (٣) بما وقع.

فخرج ومعه المنوفي ، والسيد علي ميرماه وجماعة من الفقهاء والمفتي وسواد الناس.

ولما اجتمعوا إليه وأخبروه ، أنكر الأمر بذلك ، وسبّ (٤) من سعى في هذا الفعل ، وقال :

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) أي صاحت ببطلان ذلك.

(٣) في (ج) «اختباره». وعن هذه الأحداث انظر : أحمد زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ١٣٥.

(٤) في (ج) «زجر».

٣١٦

«من أمركم أن تنادوا في العامة؟!».

واتفق الرأي هنالك ، أن يكتبوا كتابا إلى كيخية الوزير سليمان باشا ، خطابا من الشريف سعيد وأبيه بأن :

«له عليهم دعوى إلى القاضي ، فإن لم تجب وتمتثل كفرت» (١).

وبعثوه مع درويش (٢) كان حاضر المجلس قال لهم : «أنا أوصل هذا الكتاب إليه» بعد أن لم يوافق أحد على إيصاله. فأوصله ذلك الدرويش (٣) إلى الكيخية المشار إليه.

فلما قرأه ، أشرفه على مولانا الشريف عبد المحسن ، فكتب الجواب إليه (٤) مولانا الشريف عبد المحسن (٥) إلى الشريف سعيد :

«نحن إن شاء (٦) الله غدا لا بدّ لنا من دخول مكة والكيخية معنا ، وتكون الدعوى (٧) عليه بحضورنا ، والنصيحة لله ولرسوله ، ولك أن

__________________

(١) خرجت من طاعة الشريف سعيد لأن طاعة أولي الأمر واجبة.

(٢) في (ج) «دويش». ودرويش بفتح الدال وكسرها : يقال في تفسير هذا اللفظ عادة أنه مشتق من الفارسية بمعنى الذي يطلب الأبواب ، أي الشحاد ، لأن معنى در (باب) ، وويش مصدر يعني (التسول).

وفي معنى آخر تعني الفقير والمعدم ، الناسك. وهذه الكلمة ارتبطت ارتباطا وثيقا بالصوفية وطرقها المختلفة. انظر عنها : محمد ثابت الفندي ـ دائرة المعارف الإسلامية ٩ / ٢١٩ ـ ٢٢٣ ، حسين نجيب المصري ـ معجم الدولة العثمانية ٨٦ ـ ٨٩.

(٣) استدرك الناسخ في (ج) تصحيح كلمة" الدرويش».

(٤) سقطت من (ج).

(٥) في (ج) «محسن».

(٦) في (أ) «انشاء الله». والاثبات من (ج).

(٧) سقطت من (أ). والاثبات من (ج).

٣١٧

تأخذ لنفسك وتخرج من البلاد ، وتترك ما لا طائل تحته ، فإن أصبح عليك الصباح وأنت بها ، فقد برئت منك الذمة. وهذا غاية ما لكم علينا والسلام».

فلما جاءهم الكتاب ، رجعوا إلى الصواب ، فأودعوا طوارفهم للسيد عبد الكريم بن محمد ، وخرج معه السيد عبد الله بن حسين ، ومبارك بن حمود ، وشنبر بن مبارك بن فضل. وأما أبوه فدخل مكة وبات في دار السعادة.

أخبرني أبو السعود ابن العم محمد السنجاري ، قال : «وبعث (١) إليّ مولانا الشريف عبد المحسن يأمرني بفرش دار السعادة ، فطلعت للشريف سعد وأخبرته بذلك ، فقال : «لا بأس». قال : «وجعل واقفا معنا إلى أن فرشناه ، وهو يأمرنا بمحاسن المجانسة في الفرش».

ولما أن فرش المحلّ خرج في الساعة الثانية من يوم الاثنين حادي عشرين ربيع الأول ، وطلع إلى بستان الوزير عثمان حميدان بالمعابدة ، بعد أن أودع طارفه (٢) للسيد عبد الكريم بن محمد بن يعلى.

ثم لما كان في الساعة الرابعة (٣) من ذلك اليوم : دخل مكة مولانا الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد من أعلى مكة ، ومعه بنو عمه وهم في الدروع الضافية واللامات (٤) اللامعة الصافية على لباس العافية في آلاي

__________________

(١) في (ج) «بعث».

(٢) في (ج) «طارفته».

(٣) أي الساعة الرابعة عصرا.

(٤) اسم للدرع وقيل عدة السلاح من رمح وبيضة ومخفر وسيف ونبال. الزبيدي ـ محمد مرتضى ـ تاج العروس من جواهر القاموس ، منشورات دار الحياة ، بيروت

٣١٨

عظيم (١) من سائر العساكر المصرية ، وجميع العساكر الذين كانوا مع الشريف سعيد ، وما انضم إليهم من عسكر الباشا وأنواع من العرب الذين أجابوا داعيه.

ولم يزل سائرا إلى أن دخل المسجد الحرام ، وقد بسط له بساط في الحطيم ، وفتح باب البيت الشريف العظيم ، وحضر القاضي ، والمفتي ، وجميع الفقهاء والعلماء ، والخلق كافة ، ومن دخل معه من الأشراف في ملابس الحديد (٢) ، وقريء (٣) عليهم من الأوامر السلطانية أمران :

أحدهما : من / السلطان مصطفى. والآخر من ابن أخيه السلطان أحمد. مضمونهما (٤) :

«أن سليمان باشا مفوض من قبلنا على الحرمين الشريفين ، قائم مقامنا قد نصبناه ، بصدد من رأى فيه صلاح العباد والبلاد ، فمن رأى فيه غير ذلك عزله ونفاه ، وأقام من يرى فيه الصلاح. وهذا خطاب شامل لمن كان تحت طاعتنا ، محتميا بحمايتنا».

ثم بعد تمام قراءة (٥) الأمرين ، دعى للسلطان على باب الكعبة محمد ابن الشيخ عبد المعطي الشيي ، وهو قائم على الباب الشريف ، والريس

__________________

لبنان ٩ / ٥٣.

(١) في (ج) «أعظم».

(٢) أي ملابس الحرب.

(٣) في النسختين «قرأ». والتصحيح من المحققة.

(٤) في (أ) «مضمونها». والاثبات من (ج).

(٥) في (ج) «قراه».

٣١٩

يدعو له من أعلى زمزم على العادة المعروفة.

ثم دخل مولانا الشريف الكعبة ، وخرج منها إلى دار السعادة ، وقد هيئت له ، وجلس للتهنئة ، وقابل الناس ببشر وطلاقة ، ومدحه الشعراء بالقصائد الفائقة ، فمن ذلك قولي على جري العادة مني في الإبلاغ عني ، ولم أقرأها عليه :

سفرت (١) ولكن (٢) عند عف صين

وفرت ولكن كل حلف مفتن

وبدت لما راقتك أبهى روضة

ضحك الأقاح بها وزهر الوسن

عربية الألفاظ (٣) آخر عصرها

فأتت كألف الهند بعد الأدون

أنا ذا الخطيب بها ولست بشاعر

إذ ليس فيها غير حق بين

إن الإله بنا اعتنى لما لنا

أجرى القضاء بملك عبد المحسن

السيد الندب الكريم ومن ثنا

عطفا ، فجاءته المعالي تنثني

ما فاه قط بذكرها حتى له

نادت فجاوبها إجابة معتني

فجلا (٤) لنا أفق العلا عن طالع

عاد الزمان به إلى العيش الهني

من بعد ما حشد الزمان صروفه

وأهان كل بز بأرذل هين (٥)

وجرى القضاء بالقحط في أوقاتنا

والغيث كف (٦) وجف ضرع الملبن

__________________

(١) سفرت : طلعت ، واضح ، وانكشف. ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ١٥٦. وهنا تعني كشف حجابها.

(٢) في (أ) «وذلك». والاثبات من (ج).

(٣) يمتدح السنجاري قصيدته هنا.

(٤) في (ج) «تجلى لنا».

(٥) أي أهين الشريف وعز الوضيع.

(٦) كفّ : أي امتنع.

٣٢٠