منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري

منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم - ج ٥

المؤلف:

علي بن تاج الدين بن تقي الدين السنجاري


المحقق: الدكتورة ملك محمد خياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: جامعة أم القرى
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9960-03-366-X

الصفحات: ٥٨١

وبكت أعين الغمائم فافتر

ت من الروض باسمات الثغور

ولجين الأقاح قد

قلد الطل عقودا من لؤلؤ منثور) (١)

وكتبوا إلى الصنجق (٢) صاحب جدة بذلك ، فامتنع عن النداء له بجدة.

وفي يوم الخميس الثامن عشر من محرم : ألبس قفطان الوزير (٣) لصاحبنا الجلبي مصطفى بن عبد المطلب جلبي (٤) ، وخرج لابسا للتشريف من دار السعادة في آلاي (٥) عظيم إلى أن وصل منزله وجلس للتهنئة.

وفي الحادي والعشرين من محرم : أخذت قافلة من طريق جدة ، وكان فيها مال عظيم للتجار ، فلما بلغه ذلك أراد الركوب عليهم ، فثبطه بعض بني عمه ـ كما هو عادتهم ـ وأوعده باعادة الأموال من الآخذة.

وفرّ الآخذون عن الطريق ، فاقتضى الحال بعث بيرق عسكر إلى جدة ، فخرج معهم مولانا السيد دخيل الله بن سعد (٦) بن زيد وجماعة

__________________

(١) ما بين قوسين غير مقروء في حاشية (أ). والاثبات من (ج).

(٢) في (ج) «الباشا».

(٣) في النسختين «الوزر». والمقصود بها الوزارة.

(٤) جلبي أو شلبي : لقب شائع بين الأتراك العثمانيين يقصد به النبل والفضل. واشتهر به عدد من الأمراء والكتاب ، ويلقب به أيضا التاجر الكبير. ولا يزال هذا اللفظ يستخدم في العراق بمعنى التاجر الكبير. رينهارت دوزي ـ تكملة المعاجم العربية ٢ / ٢٤١.

(٥) لم ترد في (ج).

(٦) في (ج) «سعيد». والصحيح هو «سعد». لأن الصفحات السابقة في النسختين أشارت إلى «سعد».

١٤١

من الأشراف ، فنزلوا ليلة [الجمعة](١) السادس والعشرين من محرم (٢) ، ونزل معهم مفتي السلطان عبد الله أفندي بن عتاقي زادة لملاقاة الصنجق ، وعذله عما فعله من الإمتناع عن النداء لمولانا الشريف [سعيد](٣).

فجاء الخبر ليلة الاثنين : بأن الصنجق وافق (٤) ، وأنه نادى لمولانا الشريف بالبلد يوم الثلاثاء سلخ محرم [الحرام](٥).

وكان صمّم في ثلاثمائة وخمسين أردب من الجراية ، أخذها مولانا الشريف من الحب الوارد في ذي القعدة على جهة القرض ، وحبس على الوارد (٦) من الجلاب في هذه الأيام. وادّعى أن كاتب الجراية محمود جلبي بن مصطفى ، سلم للشريف محسن من غير علمه ، ثم اصطلح الأمر بينهم.

ثم ان بعض السادة الأشراف ، خرجوا إلى جهة اليمن مغاضبين لمولانا الشريف سعيد ، فأرسل الشريف سعيد وراءهم عسكر نحوا من ثلاثمائة ، فخرجوا يوم السبت ثالث ربيع الأول ، وأمر عليهم أخاه السيد دخيل الله بن سعد. هذا ما كان بمكة.

وما كان من مولانا الشريف محسن : فإنه توجه إلى المدينة ، وزعم

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) في (ج) «المحرم».

(٣) ما بين حاصرتين من (ج).

(٤) في (ج) وردت «واقف». وهي تصحيف.

(٥) ما بين حاصرتين من (ج).

(٦) في (ج) «الوادر». وهي تصحيف.

١٤٢

أنه خرج من مكة قهرا ، وأنه آثر عدم القتال بالحرم ، وأن الشريف تولاها من غير رضى الأشراف ، فتوقف شيخ الحرم عن النداء (١). وأنزل المذكور ، وأجرى عليه ما يقوم (٢) به ، إلى أن جاء كتاب مولانا الشريف بصورة الواقعة ، وعليه خط القاضي والمفتي وجماعة من الفقهاء. فنادى له بالبلد ، ودعا له على المنبر يوم الجمعة الرابع عشر من صفر من السنة المذكورة (٣).

وأمر قاضي المدينة مولانا الشريف محسن بالخروج (٤) خوف الفتنة ، فخرج عنها.

ولنرجع (٥) لخبر أهل القنفذة فإنه :

لما كان يوم السبت السابع من ربيع الثاني : وصل الخبر لمولانا الشريف أن السيد دخيل الله قد التقى بجماعة من الأشراف سلخ ربيع الأول ، وأنه انتصر عليهم ، وقتل من الأشراف نحو الخمسة والمصريين كثير. وأنه دخل القنفذة بعد هروب من بقي منهم. فضربت النوبة (٦) في دار مولانا

__________________

(١) في (ج) «الندا».

(٢) في (أ) «ما يقدم». والاثبات من (ج).

(٣) ١١٠٣ ه‍.

(٤) في (ج) وردت «بالخروج من المدينة».

(٥) مطموسة في (أ). والاثبات من (ج).

(٦) النوبة : لهذا اللفظ معان اصطلاحية كثيرة. أحدها فرق الجند التي تتناوب الوقوف لحراسة شخص السلطان ، والنوبة عند المغنين اسم لآلات الطرب إذا أخذت معا. ويقال ضربت النوبة بمعنى صدر الأمر للعسكر بالتقهقر. والنوبة بمعنى الوقعة الحربية. وهنا تعني فرقة الجند المناوبة في دار الشريف. محمد البقلي ـ التعريف بمصطلحات صبح الأعشى ٣٥٣. ويذكر الأنصاري في تاريخ جدة ص ٢٤٧ أن النوبة : «موسيقى ذات آلات

١٤٣

الشريف ، واختبطت الأشراف بمكة لذلك.

وفي هذا اليوم : خرج بيرق عسكر إلى / جهة عسفان لبعض الأشراف في ذلك الجانب ، فلما دنوا منهم أرسل إليهم الأشراف الذين مع العسكر أن توسعوا ، وارجعوا (١) إلى مكة ، وأخبروا مولانا الشريف بأن الأشراف توسعت عنا.

ثم إن تلك الأشراف الذين كانوا في هذه الجهة ردّوا إلى طريق جدة ، وأخذوا قفلا (٢) آخر ، فبعث إليهم الشريف عسكرا ، ولم يبعث معهم أحدا من الأشراف. وخرجوا في ربيع الثاني يسترصدونهم في الطرق

وفي ليلة الاثنين [الثاني](٣) من جمادى الأولى : ورد صاحب القفطان من مصر ، فأخرجوا له وطاقا بالزاهر.

ودخل يوم الاثنين في آلاى العسكر المصري ، على جري العادة (٤) ، إلى أن وصل باب السلام ودخل الحطيم (٥). وقد نزل مولانا الشريف سعيد بن سعد وبعض الأشراف ووجوه أهل مكة ، فقرأ مرسوم (٦) من

__________________

صغيرة من الصفافير ، وطبلات ، وهي خاصة بالأشراف ، وكانت تخرج في موكب الأشراف». وهو المقصود هنا.

(١) في (ج) وردت «ورجعوا».

(٢) أي قافلة. ابن منظور ـ لسان العرب ٣ / ١٣٩.

(٣) ما بين حاصرتين من (ج).

(٤) لم ترد في (ج).

(٥) في (ج) «إلى الحطيم».

(٦) بالأصل مرسومة والتصحيح لا تساق المعني.

١٤٤

صاحب مصر (١) مؤرخا بغرة ربيع الأول ومقتضاه :

أنه وصل النبأ ، واتصل بمسامعنا أن مولانا الشريف محسن بن الحسين بن زيد نزل عن الشرافة لمولانا الشريف سعيد ، وما أحسن هذا ، يد فرغت في أخرى. وأن الواصل إليكم قفطان من جانبنا.

وأمر آخر مخاطب به العسكر المحافظين (٢) مضمونه :

أن يكونوا تحت أمر مولانا الشريف ، والحذر من المخالفة. إلى أن يأتي الأمر السلطاني (٣) من الأبواب.

فلبس مولانا الشريف القفطان الوارد ، وأخلع على من يستوجب ذلك. فحصل هذا [اليوم](٤) وطلع داره وجلس للمباركة.

[ولاية الشريف سعد بن زيد]

ولما كان يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الثاني : ورد في ليلته سلحدار (٥) مولانا الشريف سعد بن زيد ، ومعه صورة (٦) أمر مولانا السلطان أحمد

__________________

(١) صاحب مصر هو علي باشا. أحمد زيني دحلان ـ تاريخ الدول الإسلامية ١٠٧.

(٢) في (أ) «المخاطرين». والاثبات من (ج).

(٣) في (ج) «السلطان».

(٤) في (ج) «اليو». والاثبات يقتضيه السياق.

(٥) سلحدار : هو المنوط بحمل سلاح السلطان. أو الأمير الذي هو في خدمته. وفي وظيفته أيضا الاشراف على دار السلاح (سلاح خاناه). ولفظ السلحدار مركب من كلمتين اولاهما عربية ومعناها آلة القتال ، والثانية فارسية ومعناها ممسك ، ويكون المعنى ممسك السلاح. القلقشندي ـ صبح الأعشى ١٨٢ ، أحمد عطية ـ القاموس الإسلامي ٣ / ٤٢٣.

(٦) في (أ) وردت «صورت». والاثبات من (ج).

١٤٥

خان بن إبراهيم خان ، بتفويض أمر الأقطار الحجازية إلى مولانا الشريف سعد بن زيد بن محسن ، وخلعة سلطانية لمولانا الشريف سعيد.

فاجتمع بمولانا الشريف وعرّفه ذلك. فنزل مولانا الشريف سعيد في جمع من الأشراف والفقهاء وقاضي الشرع والمفتي ، وحضر أكابر العسكر ، وأتى السلحدار المذكور بصورة الأمر ، فقرأه على رؤوس الأشهاد ، ومضمونه :

إنه لما بلغنا عجز الشريف محسن عن حفظ الديار المكية ، أنعمنا على الشريف سعد بإيالة (١) مكة والمدينة. ـ وضبط العربان والأشراف. ـ وحفظ الحجاج. ـ وقلدناه جميع أمور الأقطار الحجازية من غير مراجعة في ذلك.

[إلى غير ذلك](٢) من الوصاية / على الفقراء وأصحاب / ٣٠٩ الوظائف ، واشترط إنعاما لهم من الحبوب والمعاليم.

وتحرير هذا الأمر الخامس عشر من ربيع الأول سنة ١١٠٣ ه‍ ، ألف ومائة وثلاثة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية (٣).

وأمر آخر من صاحب مصر مخاطبا به مولانا الشريف سعيد وقاضي الشرع وبلكات العسكر ، ومضمونه :

__________________

(١) إيالة : أكبر وحدة إدارية في العهد العثماني. وأصل الكلمة عربي. النهروالي ـ البرق اليماني ٧٥.

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) سقطت من (ج).

١٤٦

حكاية الواقع ، وأن مولانا السلطان أنعم بشرافة مكة لمولانا الشريف سعد ، قبل وصول عرضنا إليه.

وأنه أقام نائبا عنه بمكة ابنه مولانا الشريف سعيد إلى وقت وصوله ، فالله الله في الطاعة وعدم مخالفة (١) أوامر مولانا السلطان (٢).

وكتاب [آخر](٣) ثالث ، من حضرة مولانا الشريف إلى نجله (٤) ذي الشرف المتين مضمونه :

التعريف بالواقع ، وأنه قائم مقامه ، والوصاية ، إلى غير ذلك.

وفي أوائل جمادى الثاني : دخل مكة الشريف دخيل الله بن سعد من القنفذة لتوعك حصل له هناك ، وأقام مقامه أحد بني عمه من الأشراف وقائدا من أتباعهم.

ثم إن الشريف المقام هناك تنافر مع القائد ، فرجع إلى مكة ، ثم جاء الخبر (٥) بعد أيام ، أن الأشراف الذين باليمن تغلبوا على القنفذة.

ولما كان أواخر شعبان : ورد مع المراكب الهندية الشيخ سعيد بن محمد المنوفي المرسل سابقا من جهة (٦) الشريف محسن ، وطلع مكة الثامن

__________________

(١) في (ج) «عدم المخالفة».

(٢) لم ترد هذه العبارة في (ج).

(٣) ما بين حاصرتين من (ج).

(٤) المقصود به الشريف سعيد.

(٥) في (ج) «أخبر».

(٦) في (ج) «تابعة الشريف محسن».

١٤٧

عشر من شعبان ، فصام بمكة ، وأعطى مولانا الشريف [سعيدا](١) ما جاء به من الهدية ، إلا أنه ادعى أن من بعث إليه السقطي هديته معه ، لم يقابله بأريحية ولا سعة ، وأنه أخذ منه الهدية والأوراق.

فاشتط السقطي لذلك ، وأقام البراهين على ما هنالك ، والمذكور لا يقر بشيء ولا يمكنه من فيء (٢).

فاتفق نزول مولانا السيد (٣) مساعد بن سعد إلى جدة ، فنزل المنوفي مختفيا [في](٤) صحبته ، وجعله جنّته (٥) ، فراجع السقطي مولانا الشريف ، وطلب منه مطالبة أصحاب المراكب بالتعريف (٦). فبعث مولانا الشريف بتخير (٧) أموره ، واختبار طاموره (٨).

وثوّر السقطي سردار (٩) العسكر الإنقشارية ، فثار له ، وبعث جاووشا من جهته وخوخ (١٠) دار الشريف ، وآخر من جهة

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) في (ج) «فيء». من فيء : الغنيمة. ابن منظور ـ لسان العرب ٣ / ١٥١٦. وتعني الفائدة هنا.

(٣) في (ج) «الشريف».

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) الجنّة : السترة. يقال استجن بجنة ، أي : استتر بسترة. ابن منظور ـ لسان العرب ١ / ١٥٦ ، إبراهيم أنيس ـ المعجم الوسيط ١ / ١٤٠.

(٦) التعرفة : تعني الضرائب. والمعروفة في الوقت الحاضر بالتعرفة الجمركية.

(٧) في (أ) «بتحير». والاثبات من (ج).

(٨) الطامور : الصحيفة. ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ٦١٤. والجملة تعني : كشف ما خفي من أموره.

(٩) في (أ) «سردال». والاثبات من (ج).

(١٠) خوخ : الخوخة كوة في البيت تؤدي إليه الضوء. والخوخة : مخترق ما بين

١٤٨

قاضي (١) الشرع (٢) إلى جدة لإحضاره. ثم إنهم أحضروه إلى مكة.

ـ وقضيته من غرائب المحسوس ، فإنه لم يزل في هوان ، وهو لا يزداد إلا شدة ـ. ثم إنه أمر بألف وثمانين أحمر ، فكتبت (٣) عليه حجة سدت عليه المحجة ، إلى أن أدخل جميع الحبوس بمكة وجدة. وانتهى (٤) أمره إلى أن حبس بعد الإهانة (٥) في السوق ، في حبس الحاكم الثامن عشر من شوال ١١٠٣ ه‍. وهو في هذا التاريخ (٦) محبوس ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ.

ولنرجع إلى ما نحن بصدده :

ففي السادس من شوال : ورد مكة نائب متولي جدة ، وعزل محمد باشا (٧) ، فسجل أمره بالمحكمة الشريفة ، ونزل جدة (٨). وجاء صحبته التفويض / في مفتاح الكعبة للشيخ عبد المعطي [الشيي](٩) ابن الشيخ

__________________

كل دارين لم ينصب عليها باب بلغة أهل الحجاز. ابن منظور ـ لسان العرب ١ / ٩١٦ ـ ٩١٧. وهنا تعني مراقبة بيت الشريف.

(١) في (ج) «القاضي».

(٢) سقطت من (ج).

(٣) في (ج) «نكتب».

(٤) في (أ) «وانتها». والاثبات من (ج).

(٥) في (ج) «الا هانت».

(٦) أي تاريخ كتابة الكتاب سنة ١١٢٤ ه‍.

(٧) في (ج) لم ترد هذه الجملة.

(٨) سقطت من (ج).

(٩) ما بين حاصرتين من (ج).

١٤٩

عبد الواحد الشيي ، فسجل ذلك يوم الخميس الحادي (١) عشر من شوال ، ففتح الشيخ عبد المعطي الكعبة بعد صلاة الحنفي للدعاء لمولانا السلطان بحضرة مولانا الشريف. ولما انقضى المجلس طلع إلى دار مولانا الشريف فألبسه خلعة ، وأركبه فرسا ، ونزل معه شرذمة من العسكر إلى أن وصل منزله بسويقة ، وكان بها بعد خروجه من منزل السدنة بالصفا ، وجلس للمباركة.

فائدة :

اتفق في هذه الواقعة أن مولانا الشريف أخذ المفتاح من الشيخ عبد الله الشيي يوم الثلاثاء ، وبات عنده إلى أن أعطاه للشيخ عبد المعطي يوم الأربعاء ، ولم يعهد فيما وقفنا عليه أخذ المفتاح من السدنة إلا في هذه الواقعة.

وبالجملة فقد صارت السدانة وظيفة (٢) ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ.

وفي هذا الشهر (٣) : طلع صاحب جدة المعزول (٤) ، وحصل بينه وبين الشريف محبة واتحاد كلي. ولما اجتمع بمولانا الشريف ألبسه فروا ، وأركبه فرسا مكللة من طوالة.

__________________

(١) في (ج) «السادس عشر من شوال».

(٢) يرى السنجاري بأن السدانة ينبغي أن تكون العمل لخدمة البيت لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي.

(٣) أي شهر شوال.

(٤) صاحب جدة المعزول : محمد بيك.

١٥٠

ثم إن مولانا الشريف طلع إلى المعلاة لزيارته ، وكان نازلا بالسردارية هناك ، فقابله أيضا الباشا بما هو أهله من اللطافة ، وألبسه فروا وأركبه فرسا (١) من خلص خيله ، وأعطاه خمسة أعبد ، وغير ذلك.

فاستمر عنده إلى أن غربت الشمس فنزل إلى داره.

ولم نزل نسمع بورود خبر مولانا الشريف سعد بن زيد ، والوزير عثمان حميدان في الاحتفال للقائه ، إلى أن ورد شهر ذي الحجة ، فدخل مكة ليلة ست من ذي الحجة ، وطاف وسعى ورجع إلى الزاهر (٢) ، فخرج إليه بعض وجوه الناس للسلام عليه ، وخرج إليه ذووا المنوفي ، فكلموه في الشيخ سعيد المنوفي ، وقصوا عليه قصته مع السقطي ، وسألوا منه إطلاقه ليحج ، فأمر بإطلاقه. فطلب من قلعة جدة ، وأدرك الحج يوم التاسع بعرفة.

ثم إن مولانا الشريف دخل مكة (٣) في آلاي أعظم (٤) من الشبيكة ، ولم يزل إلى أن دخل مكة (٥) والمسجد. وقد نزل القاضي والمفتي والفقهاء والأشراف بالحطيم ، ودخل مكة قايقجي (٦) بالأمر السلطاني ، فقرأه بالحطيم. وقد سبق تعريفه (٧).

__________________

(١) في (ج) «حصانا».

(٢) في (أ) كررت «الزاهر» مرتين.

(٣) لم ترد في (ج).

(٤) في (ج) «عظيم».

(٥) في (ج) «ولم يزل إلى أن دخل المسجد».

(٦) في (أ) «قايقجي». والاثبات من (ج).

(٧) المقصود التعريف بالأمر السلطاني الذي جاء به سلحدار الشريف سعد إلى ابنه الشريف سعيد والذي سبق ذكره.

١٥١

ولبس الخلعة السلطانية ، وصعد إلى داره للتهنئة ، وجاء (١) في زي (٢) الأروام بعمامة على قاووق (٣) ، إلا أن لسانه بألفاظ أهل حماة الشام ، بحيث أنّ غالب ألفاظه شامية. واستمر بهذا الزي. ثم إنه لبس عمامة العرب ، فجعل بعد ذلك يلبس [هذه] تارة (٤) وهذه تارة. ولله الأمور.

وحج بالناس في هذه السنة مولانا الشريف. وما أحسن قول بعضهم وهو قديم :

يا سعد دارت رحى الأفلاك وانتصرت

لك الليالي أمدتها المقادير (٥)

وأنشدني بعض أصحابنا ممن كان بالمدينة ، حال دخول مولانا الشريف سعد إليها قول عبد الرحمن جلبي عابدي (٦) ، وهي هذه القصيدة :

افتخر يا زمان فالسعد وعد

وتطاول فما لمثلك ند

__________________

(١) في (ج) تكرر لفظ «جاء» مرتين.

(٢) في (أ) «زمن». والاثبات من (ج).

(٣) في (أ) «قاوق». والاثبات من (ج). والقاووق : قلنسوة طويلة لغطاء الرأس. عبد الرحمن الأنصاري ـ تحفة المحبين ٤٦١ حاشية (٤) ، إبراهيم أنيس ـ المعجم الوسيط ٢ / ٧٦٧.

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) أورد هذه الأحداث أيضا : أحمد زيني دحلان ـ خلاصة الكلام ١١٩.

(٦) أورد محمد علي الطبري في الاتحاف ٢ / ٨٤ الاسم «عبد الرحمن جلبي عابدي المدني».

١٥٢

فيك حاز الإمام خير بلاد ال

له ملكا ولم يكن منه بدّ

فهو القائم المؤيد بالنص

ر له الرعب والملائك جند

وارث الملك عن أب وأبوه

عن أبيه وثم كم ذا أعد

فبدا منه للخلافة تاج

وزها منه للشرافة عقد

ضحك العدل واستبان وقد كا

ن لدينا به جفاء وصد

فهنيئا به الأراكة تزهو

في رباها وطائر الأيك يشدو

قل لراجي الخطوب ويك أرحها

والهزل (١) في دولة الجدّ جدّ

هاك تاريخ ملك حميد

حكمه في الأنام جود وجدّ

افق الملك حله بل حماه

نجم سعد (٢) فطالع الملك سعد /

[وامتدحه في يوم النحر صاحبنا الشيخ عبد الملك بن الحسين العصامي بقصيدة وهي قوله :

تأن لا تربت يمناك من رجل

وارفق هديت بها يا سائق الإبل

عير لئن كن أشباه القسي لها

مر السهام فهل يعددن (٣) من عجل

من المحامل قد اعددن أجنحة

بها يطرن كخفق البارق الأكل

أصبحن في نظري من أجل ما صنعت

وإن كنّ من قباح الخلق والشكل

لو استحب المعنى عن تلمحها

عماه حاشاك لم يلحقه من عذل

__________________

(١) والتصحيح : «أن هزلا في دولة الجد جدّ».

(٢) نجم سعد هي عشرة أنجم كل واحد منها سعد وهي : سعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأحبية ، وسعد ناشره ، وسعد الملك ، وسعد البهام ، وسعد الهمام ، وسعد البارع ، وسعد مطر. وهذه كلها يقال لها بسعود النجوم. ابن منظور ـ لسان العرب ٢ / ١٤٦. والبيت هو التاريخ بحساب الجمل.

(٣) بالأصل يعدن والتصويب العبارة معني ووزنا.

١٥٣

لكن أمرنا به في قوله أفلا

ويوجر المرء قد ما قيل في المثل

كأنما انحل حاديهم جذبن له

مع الأزمة قلبا موثق الجدل

لي في قلوب العدا ظمياء مرهفة

سلت على قصي حالي فلا تسبل (١)

بانوا فأصبح نجم الدمع منفجرا

إذ قام فوقي موج الهم كالظلل

وقفت أبصر أعلا الورد أسفله

الفعل في هبل والعين في بهل

وظلت أنشق تربا فيه ما تربت

بته يد فشكت من عارض الشلل

لو تعلم العرب هذا كان لا تربت

نشر العدا عندهم لو لا عيا الجهل

تلك الأناكيد كبدي كان قسمها

شكل المثلث سيف البين والرجل

سطا وصال علينا صال محتدما

عليه سعد بن زيد أوحد الدول

أبو مساعد أسمى من عطفن له

أعنة الموجفات الخيل والإبل (٢)

خير الخلايق من خير الوظائف في

خير الطوارف أبناء الوصي علي (٣)

سلطان مكة راعيها مملكها

عطفا على البدو لا عطفا على العدل](٤)

مذ غبت عن بلد الله الأمين لقد

دحى ضحاياه لا تسل عن الأصل

احدى وعشرين عاما ثوب بهجتها

رث وحيد علاها واضح العطل

نعم بأربعة فها أعاد لها

أخوك وابنك بعض الحلى والحلل (٥)

__________________

(١) شبه الشاعر في هذا البيت عيونه وأجفانه برماح تسل على أعدائه من بعد ولا تغضي عنهم عزة ومهابة.

(٢) تضمين من الآية الكريمة : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ). الحشر الآية ٦.

(٣) في هذا البيت يظهر لنا تأثر الشاعر بفكرة الوصية السائدة بين الشيعة.

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

(٥) يقصد الشريف زيد.

١٥٤

فكم إلى الله من ورع تشتت بي

ن الركن والأبواب في الأسحار مبتهل (١)

أجاب دعوته المولى وحقق ما

قد كنا بشرنا من قبل كل ولي

وهي طويلة ، وهذا ما اخترته (٢) منها.

ولما أراد الشامي (٣) الرجوع ، بعث معه ولده الشريف سعيد ، وخرجت معه عدة من الأشراف.

__________________

(١) في النسختين ورد البيت :

فكم إلى الله من وراع شتت بين

الركن والأبواب في الأسحار يبتهل

والتصحيح لوزن الشعر.

(٢) في (ج) وردت «ما ختصرته».

(٣) المقصود الحج الشامي.

١٥٥
١٥٦

ودخلت سنة ألف ومائة وأربعة :

ولما كان يوم الأربعاء عند صلاة الظهر تاسع عشر محرم الحرام : حصل من مولانا [الشريف](١) ما حصل على الوزير محمد علي بن سليم ، فأمر بأخذه من داره هو وأولاده وحبسهم. فأخذ على أشنع حال ، وختم على داره ، [وأخرجت الحرم والأطفال ، وكان صنعا شنيعا ، فحبس هو وأولاده](٢).

ثم إن مولانا الشريف أحمد بن سعيد ، تشفع في ولده علي بن محمد علي ، فأطلق ، واستمر والده مدة طويلة إلى عشرين في صفر ، وأحضر لدى قاضي الشرع ، وادّعى عليه مصطفى بن عبد الرحيم جلبي (٣) ، بطريق الوكالة عن مولانا الشريف ، بأربعة وعشرين ألف قرش ، فأقرّ بها ، فطولب ، فادّعى الإعسار. فأورد عليه أن شرط في أوقافه التصرف مدة حياته ، فأثبت ذلك.

فأمر القاضي بوفاء ديونه من أوقافه ، فأخذت منه بعض بيوته الموقوفة بطريق البيع ، وسمح له مولانا الشريف بجملة من الدين ، ومنعه الخروج (٤) من داره إلا إلى الصلاة.

فاستمر على ذلك إلى أن رجع مولانا الشريف من الشام (٥) بعد

__________________

(١) ما بين حاصرتين من (ج).

(٢) ما بين حاصرتين من (ج).

(٣) تكرر لفظ «جلبي» في (أ) مرتين.

(٤) في (أ) «ومنعه من الخروج». والاثبات من (ج).

(٥) المقصود بها الجهة الشمالية.

١٥٧

وقعة حرب الآتي ذكرها. فلم يزل يستعطفه إلى أن عفا عنه ، وأعاد له حجج بيوته. فلزم بيته من نفسه ، وترك الخلطة مع أبناء جنسه ، واختلط (١) في آخر عمره ، حتى يقال أنه صار لا يعرف أولاده ، وربما خرج به بعض أولاده قاصدا زيارة بعض أصحابه ، فوقف به الولد مع الأولاد الصغار في الحارات لللعب معهم ، وهو معه إلى أن يسير به ، ولم يزل إلى أن توفاه الله تعالى.

وفي التاسع من صفر : جاء الخبر ، بأن الشريف سعيد عدّ الحج الشامي ، وأن جماعة من عنزة (٢) [قد](٣) اعترضوه على الماء ، فقتل منهم جماعة وأسر جماعة. وأوصل الحج إلى العلا (٤) ، فنصبت الرايات بدور السادة الأشراف ، على جري العادة ، لخبر (٥) النصرة ، وفرح بذلك الناس.

__________________

(١) اختلط : تغير عقله ، فهو مختلط. ابن منظور ـ لسان العرب ١ / ٨٨٠.

(٢) عنزة : تنسب قبيلة عنزة إلى عنزة بن أسد بن ربيعة. وتعد عنزة من أكبر القبائل العربية على الإطلاق ، وتمتد ديارها من نجد إلى الحجاز إلى وادي السرحان فالحمار ، والبادية السورية ، وحمص وحماة وحلب. انظر : القلقشندي ـ نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ٣٧٨. فؤاد حمزة ـ قلب جزيرة العرب ١٧٨ ـ ١٨٦ ، عمر كحالة ـ معجم قبائل العرب ٢ / ٨٤٦ ـ ٨٤٧ ، البلادي ـ معجم قبائل الحجاز ٣٣٧ ـ ٣٤٠.

(٣) ما بين حاصرتين من (ج).

(٤) العلا : جمع العليا ، اسم لموضع من ناحية وادي القرى بينها وبين الشام. نزله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريقه إلى تبوك. ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ٤ / ١٤٤. وتشتهر العلا بكثرة نخيلها ومياهها العذبة ، وبها كان يمر طريق سكة حديد الحجاز سابقا.

وتسكن بها بطون عديدة من حرب وعنزة وبلي وغيرهم ، حيث تلتقي بها ديار عنزة في الشرق وبلي من الغرب. وهي الآن محافظة من محافظات منطقة المدينة المنورة. البلادي ـ معجم معالم الحجاز ٦ / ١٥٤ ـ ١٥٥ ، حمد الجاسر ـ المعجم الجغرافي ٢ / ٩٩٥.

(٥) في (أ) ورد «خبر» ثم «الخبر». وأثبتنا «الخبر» لأنها في النسختين.

١٥٨

ثم ان مولانا الشريف صار يخرج ليلا يتفقد البلد. وأمر بالنداء على الخمر والفواسق (١).

وفي يوم الإثنين الثالث عشر من ربيع الثاني : كسر في قناة العين (٢) نحوا من ثلاثين ذراعا.

فجاء الخبر لمولانا الشريف ، فبعث من وقته بالمهندسين. فأشرفوا ، فاقتضى رأيهم أن يجعلوا دبلا من خشب ، يجروا فيه العين ، إلى أن يفرغوا من الشغل في المنهدم.

فبعث إلى نائب جدة أحمد آغا ناظر العين ، فحضر في ليلته ، وأوجد لهم (٣) الوزير عثمان حميدان جميع ما يحتاجون إليه من خشب (٤) وغيره ، فبذلوا الهمة إلى أن تم فصنعوه بمكة ، وطلعوا به رابع عشر الشهر ، وركبوه ، وأجروا فيه الماء يوم الجمعة سابع عشر الشهر. واستمر الشغل فيها بغاية الهمة ، إلى أن تم بناء المهدوم (٥) ، وأجروا فيه الماء ، في اليوم الثامن (٦) عشر من الشهر.

وفي يوم العشرين من هذا الشهر : ورد صاحب جدة أحمد بيك المتولي إلى مكة ، فاجتمع بمولانا الشريف فأكرمه مولانا الشريف ،

__________________

(١) في هذه الفترة ظهرت بعض المفاسد والسرقات فاضطر شريف مكة أن يعلن ذلك النداء. ثم لم يكتف بذلك وإنما أصبح يعس هو والأشراف في الناس.

(٢) المقصود عين زبيدة.

(٣) في (أ) «وأوجدهم». والاثبات من (ج).

(٤) في (ج) ورد «ما يحتاجوه من الخشب».

(٥) بالأصل البناء المهدوم والتصحيح من ج.

(٦) في (أ) «ثاني عشري». والاثبات من (ج) لسياق الأحداث.

١٥٩

وألبسه فروا ، وأركبه حصانا ، ونزل بدار الوزارة (١) ـ دار الوزير عثمان حميدان ـ.

وفي هذا الشهر : ورد خبر مولود زاد لمولانا السلطان أحمد خان ، / ٣١٢ فزينت البلد ثلاثة أيام بأمر مولانا / الشريف.

ولم يزل الصنجق المتولي بمكة إلى يوم السبت الثالث من جمادى الأولى ، وعزم إلى جدة.

وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين في ربيع الآخر : خرج وطاق مولانا الشريف إلى الزاهر قاصدا الشام (٢) ، وخرج به خازن داره (٣) ، جوهر آغا ، بعد صلاة العصر من بستان الوزير عثمان حميدان.

واستمر مولانا الشريف إلى ليلة الخميس غرة شهر جمادى الأولى ، فخرج إلى الزاهر ، واستمر إلى يوم الخميس الثامن من جمادى الأولى. فتوجه إلى الشام ، وأقام مقامه ابنه مولانا الشريف سعيد.

[موقعة حرب]

وكان الحامل له [على هذا](٤) الخروج ، مولانا السيد ناصر بن

__________________

(١) سقطت من (ج).

(٢) أي من جهة الشمال ومعنى وطافة وراءة.

(٣) خازن داره : هو الذي يتولى أعمال خزانة السلطان أو الأمير أو غيرها ، وفي عهدته ما بها من أموال وغلال ، ويعني أمين الخزانة أو وزير المالية. القلقشندي ـ صبح الأعشى ٤ / ٢١ ، محمد قنديل البقلي ـ التعريف بمصطلحات صبح الأعشى ١١٣ ، أحمد عطية الله ـ القاموس الإسلامي ٢ / ٢٣٨.

(٤) ما بين حاصرتين من (ج).

١٦٠