الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

ومن ذلك ايضا ـ ما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب التوحيد (١) بسنده عن عبد الأعلى بن أعين : قال : «سألت أبا عبد الله (ع) عمن لا يعرف شيئا هل عليه شي‌ء؟ قال : لا». وما رواه في الفقيه والتوحيد (٢) في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) : قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : رفع عن أمتي تسعة ، وعد منها ما لا يعلمون».

ومما يؤكد ذلك ما روي أيضا : «انه ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء ان يعلموا» رواه في الكافي (٣). وقوله : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٤). وقوله : «ان الله يحتج على العباد بما آتاهم

__________________

(١) في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية) وفي الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد.

(٢) رواه في الفقيه في باب ـ ١٤ ـ (من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه) من الجزء الأول وفي التوحيد في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية).

وفي الكافي في باب (ما رفع عن الأمة) من كتاب الايمان والكفر. وفي الوسائل في باب ـ ٣٠ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة عن الفقيه والخصال ، وفي باب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد عن التوحيد والخصال والكافي.

(٣) في باب (بذل العلم) من كتاب فضل العلم ، وهو حديث طلحة بن زيد عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قرأت في كتاب على (عليه‌السلام) ان الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال ، لان العلم كان قبل الجهل».

(٤) وهو حديث ابى الحسن زكريا بن يحيى عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) رواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب (التعريف البيان والحجة والهداية) ورواه الكليني في الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد ، الا ان رواية الكليني ليس فيها كلمة (علمه).

٨١

وعرفهم» (١). الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.

ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجوه : (أظهرها) ان يقال : ان الجاهل ـ كما يطلق على الغافل عن الحكم بالكلية ـ يطلق ايضا على غير العالم بالحكم وان كان شاكا أو ظانا ، والمفهوم من الأخبار ان الجاهل بالحكم الشرعي على المعنى الثاني غير معذور بل الواجب عليه الفحص والتفتيش عن الأدلة أو السؤال ، ومع تعذر الوقوف على الحكم ففرضه التوقف عن الحكم والفتوى والوقوف على جادة الاحتياط في العمل ، وان الحكم بالنسبة إليه من الشبهات المشار إليها في قولهم (عليهم‌السلام) : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك» (٢). وعلى هذا الفرد تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل ووجوب التفقه والعلم والسؤال.

ومما يدل ـ على ان حكم الجاهل بهذا المعنى ما ذكرنا ـ صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة (٣) الواردة في جزاء الصيد كما أشرنا إليه ثمة.

وحسنة بريد (٤) الكناسي في من تزوجت في العدة جاهلة ، حيث قال

__________________

(١) وهو من حديث حمزة بن الطيار عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) الذي رواه الكليني في الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد ورواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية).

(٢) الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة المروية في الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء ، وغيرها من الروايات في باب ـ ١٢ ـ من تلك الأبواب.

(٣) في صحيفة ٧٣ سطر ٢.

(٤) بالباء الموحدة والراء المهملة كما عليه نسخ الحدائق المطبوعة والمخطوطة التي وقفنا عليها ، وهو من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) على ما نقله صاحب جامع الرواة عن رجال الميرزا محمد ، ويحتمل ان يكون بالياء المثناة والزاي المعجمة ، وهو المكنى بأبي خالد ، وهو من أصحاب الباقر والصادق (عليهما‌السلام) على ما نقله صاحب جامع الرواة عن رجال

٨٢

الراوي فيها : «قلت : فان كانت تعلم ان عليها عدة ولا تدري كم هي؟ فقال : إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة ، فتسأل حتى تعلم» (١). وهما ظاهرتا الدلالة على ذلك وان كان موردهما جزئيات الحكم الشرعي.

وأما الجاهل بالمعنى الأول فلا ريب في معذوريته ، لان تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية وأيدتها الأدلة النقلية ، والى ذلك يشير قوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الرحمن المتقدمة في سابق هذه المقدمة (٢) الواردة في التزويج في العدة في تعليل ان الجاهل بالتحريم أعذر من الجاهل بكونها في عدة : «وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها» بمعنى انه مع جهله بان الله حرم عليه التزويج في العدة لا يقدر على الاحتياط بالترك ، لعدم تصور الحكم بالكلية ، بخلاف الظان أو الشاك فإنه يقدر على ذلك لو تعذر عليه العلم وعلى هذا تحمل الأخبار الأخير الدالة على المعذورية.

واما ما يفهم من كلام ذلك البعض المشار اليه آنفا (٣) من الحكم بصحة صلاة العوام كيف كانت وان اشتملت على الإخلال بالواجبات ، فظني انه على إطلاقه غير تام ، فإنه متى قام العذر للجاهل بمجرد جهله وصحت صلاته كصلاة الفقيه بجميع شروطها وواجباتها ووسعه البقاء على جهله ، لزم سقوط التكليف. فما الغرض من أمر الشارع بهذه الأحكام والفصل فيها بين الحلال والحرام؟ والى من تتوجه هذه الأوامر؟ والى من أرسلت

__________________

الميرزا محمد. ونقل عن بعضهم انه مال الى البناء على اتحادهما وان أبا خالد الكناسي اسمه (بريد) بالباء الموحدة والراء المهملة لا (يزيد) بالياء المثناة والزاي المعجمة ، وانه من أصحاب الباقر والصادق (عليهما‌السلام) ومال صاحب جامع الرواة إلى اتحادهما مع بريد بن معاوية العجلي ، لما ذكره في باب الياء من كتابه.

(١) رواها صاحب الوسائل في باب ـ ٢٧ ـ من أبواب حد الزنا من كتاب الحدود والتعزيرات.

(٢) في صحيفة ٧٣ سطر ١١.

(٣) في صحيفة ٧٨ سطر ٢.

٨٣

الرسل وأنزلت الكتب؟ إذا وسع الجاهل البقاء على جهله وصحت جميع أفعاله وأعماله الواقعة كذلك ، وفي هذا من الشناعة ما لا يلتزمه من له ادنى قدم في التحصيل ، واخبار ـ «لا يسع الناس البقاء على الجهالة» (١). وحديث تفسير قوله سبحانه : «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (٢) وما روي في حسنة زرارة (٣) عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حين رأى من يصلي ولم يحسن ركوعه ولا سجوده ، من انه قال : «نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني». وما استفاض عنهم (صلوات الله عليهم) : «ليس منا من استخف بصلاته». وفي جملة منها «لا ينال شفاعتنا من استخف بصلاته» (٤). الشامل ذلك بإطلاقه للعالم والجاهل ـ مما يرد هذا القول ويبطله.

والقول الفصل في ذلك ان يقال : ان الظاهر ان الحكم في ذلك يختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه ، وقوة عقولهم وإفهامهم وعدمها. ولكل تكليف يناسب حاله ، ويرجع ذلك بالأخرة إلى الجاهل بمعنييه

__________________

(١) تقدم بعضها في صحيفة ٧٨ سطر ٧. وقد روى في الوسائل في باب ـ ٧ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء. كما قد روى حديث الأحول وهو قوله (عليه‌السلام) : «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا». في باب ـ ٩ ـ من الأبواب المذكورة.

(٢) في سورة الانعام. آية ١٥١. وهو الحديث الذي روى في أمالي الشيخ عن المفيد عن ابن قولويه عن الحميري عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) وقد سئل عن قوله تعالى «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» فقال : ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فان قال : نعم. قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وان قال : كنت جاهلا. قال : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجة البالغة».

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٣ ـ من أبواب الركوع من كتاب الصلاة.

(٤) روى في الوسائل الأخبار المتضمنة لذلك في باب ـ ٦ ـ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها من كتاب الصلاة.

٨٤

المتقدمين (١). وذلك فان من المعلوم ان سكان الصحاري والرساتيق ليسوا في الانس بالأحكام والشرائع ، كسكان المدن والأمصار المشتملة على العلماء والوعاظ والجمعات والجماعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. ولهذا نهى الشارع عن سكون تلك وندب الى سكون هذه ، لانه بمجرد ذلك يحصل التأدب بالآداب الشرعية ، والتخلق بالأخلاق المرضية ، والاطلاع على الأحكام النبوية بمداخلة أبناء النوع ومعاشرتهم ، بل مجرد رؤيتهم ، كما لا يخفى على من تأمل ذلك ، وحينئذ فالعامي من سكان الصحاري ـ مثلا ـ إذا أخذ العبادة من آبائه وتلقاها من اسلافه على اي وجه كان ، معتقدا انها هي العبادة التي أمر بها الشارع ولم يعلم زيادة على ذلك ، فالظاهر صحتها.

(أما أولا) ـ فلأنه جاهل بما سوى ذلك جهلا ساذجا ، وتوجه الخطاب الى مثله كما قدمنا (٢) ممتنع عقلا ونقلا.

و (أما ثانيا) ـ فلانه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى جاهل الإمامة من المخالفين انهم ممن يرجى لهم الفوز بالنجاة في الآخرة ، فإذا كان ذلك حال المخالفين في الإمامة التي هي من أصول الدين فكيف بعوام مذهبنا في الفروع؟ وكذا القول بالنسبة إلى قوة العقل والفهم وعدمها ، فان خطاب كاملي العقول وثاقبي الأذهان ليس كخطاب غيرهم من البله والصبيان والنسوان ، وقد ورد عنهم (عليهم‌السلام) : «انما يداق الله العباد على ما وهبهم من العقول» (٣).

و «انه سبحانه يحتج على العباد بما آتاهم

__________________

(١) في صحيفة ٨٢ سطر ٣.

(٢) في صحيفة ٨٣ سطر ٤.

(٣) وهو حديث ابى الجارود عن ابى جعفر (عليه‌السلام) المروي في الكافي في كتاب العقل والجهل بالنص الآتي : «إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا».

٨٥

وعرفهم» (١). وان الايمان درجات فلا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن يبرأ من صاحب الدرجة السافلة ولا يوبخه عليها» (٢). وحينئذ فتكليف ضعفة العقول ليس كتكليف كامليها ، ومما يؤكد ذلك انه قد ورد في أخبارنا ان المستضعفين من المخالفين ممن يرجى لهم الفوز بالجنة ، وان دل ظاهر الآية الشريفة على انهم من المرجئين لأمر الله ، إلا ان ظاهر جملة من الأخبار ان عاقبة أمرهم إلى الجنة ، بل قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) على ما نقله عنه السيد نعمة الله الجزائري (رحمه‌الله) في بعض فوائده : «أن المستضعفين ـ من الكفار ممن لم تقم عليه الحجة من عوامهم ومن بعد عن بلاد الإسلام ـ ممن يرجى لهم النجاة» قال السيد نعمة الله بعد نقل ذلك عنه : «وهذا القول وان لم يوافقه عليه الأكثر إلا انه غير بعيد من تتبع موارد الاخبار» انتهى. وحينئذ فلو أوقع أحد هؤلاء العبادة التي أخذها من آبائه واسلافه ، معتقدا ان هذا هو أقصى ما هو مكلف به. فالظاهر صحتها بالتقريب المتقدم. واما بالنسبة الى من عدا من ذكرنا فالظاهر ان جهلهم ليس كجهل أولئك حتى يكون موجبا للعذر لهم ومصححا لعباداتهم ، فإنه لا أقل ان يكونوا ـ بمن يصحبونه من المصلين الآتين بالصلاة على وجهها وبجملة حدودها ، ويشاهدونه من الملازمين على ذلك في جميع الأوقات والحالات سيما في المساجد والجماعات ـ يحصل لهم الظن الغالب ـ ان تنزلنا عن دعوى العلم ـ بان هذه هي الصلاة المأمور بها شرعا ، وان ما نقص عنها وخالفها ان لم يكن معلوم البطلان فلا أقل ان يكون مظنونه أو مشكوكه ، وحينئذ فيرجع

__________________

(١) وهو من حديث حمزة بن الطيار عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) المروي في الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد ، وفي كتاب التوحيد للصدوق في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية).

(٢) روى الكليني الأخبار المتضمنة لذلك في الكافي في باب (درجات الايمان) والباب الذي يليه من كتاب الايمان والكفر.

٨٦

الى الجهل بالمعنى الآخر الموجب للفحص والسؤال والعلم والتفقه ، واستحقاق العقوبة على ترك ذلك ، وبطلان العمل مع الإخلال بما هنالك ، كما يدل عليه قوله (عليه‌السلام) : «إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة فتسأل حتى تعلم» (١). وربما يستأنس لذلك ايضا بقول الصادق (عليه‌السلام) في آخر حديث عبد الصمد بن بشير (٢) : «واصنع كما يصنع الناس». وفي هذا المقام مباحث شريفة وفوائد لطيفة قد وشحنا بها هذه المسألة في كتاب الدرر النجفية مع بسط في أصل المسألة تشتاقه الطباع وتلذه الأسماع.

المقدمة السادسة

في التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية

والبحث هنا يقع في موارد :

(أحدها) ـ تعارض الآيتين من الكتاب العزيز ، والواجب ـ أولا ـ الفحص والتفتيش من الاخبار في نسخ إحداهما للأخرى وعدمه ، فان علم فذاك ، وإلا فإن علم التأريخ فالمتأخر ناسخ للسابق ، وإلا فإن اشتملت إحداهما على إطلاق أو عموم بحيث يمكن التقييد أو التخصيص حكم به ايضا ، وإلا فالواجب التوقف والاحتياط ان أمكن. وإلا فاختيار إحداهما من باب التسليم.

و (ثانيها) ـ تعارض الآية والرواية. والذي ذكره بعض أصحابنا انه ان كانت إحداهما مطلقة أو عامة ، وجب تقييدها بالأخرى ، وإلا فالاحتياط ان لم يمكن الجمع بينهما بحيث يحصل الظن القوي بالمراد ولو بحسب القرائن الخارجة. ونقل

__________________

(١) في حسنة بريد الكناسي المتقدمة في صحيفة ٨٢ سطر ١٢.

(٢) المتقدم في صحيفة ٧٩ سطر ٧.

٨٧

ـ عن جملة من أصحابنا : منهم ـ السيد المرتضى والشيخ (عطر الله مرقديهما) ـ المنع من تخصيص القرآن بخبر الواحد.

ونقل الاحتجاج على ذلك بان القرآن قطعي وخبر الواحد ظني ، والظني لا يعارض القطعي.

ورد (أولا) ـ بأن التخصيص إنما هو في الدلالة ، وقطعية المتن غير مجدية ، لأن الدلالة ظنية. و (ثانيا) ـ بمنع ظنية خبر الواحد ، بل هو أيضا قطعي من جهة الدلالة.

والأظهر الاستدلال على ذلك بالأخبار المستفيضة الدالة على ان «كل خبر لا يوافق القرآن فهو زخرف ،. وان كل شي‌ء مردود الى الكتاب والسنة ،. وانه إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من قول الله عزوجل أو من قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلا فالذي جاءكم اولى به» (١). الى غير ذلك مما يدل على طرح ما خالف القرآن ، إلا ان هذه الأخبار معارضة بما هو أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة من الأخبار الدالة على تخصيص عمومات الآيات القرآنية وتقييد مطلقاتها في غير موضع من أبواب الفقه ، وقول كافة الأصحاب أو جمهورهم بذلك ، مع اعتضاد تلك الآيات في جملة من المواضع المذكورة بأخبار أخر أيضا دالة على ما دلت عليه تلك الآيات من إطلاق أو عموم.

والتحقيق في المقام ان يقال : ينبغي ان يحمل كلام السيد والشيخ (قدس‌سرهما) على خبر الواحد الذي يمنعان حجيته في الأحكام الشرعية ، وهو ما لم يكن من طريقنا أو لم تشتمل عليه أصولنا كما تقدمت الإشارة الى ذلك في المقدمة الخامسة (٢) ، لتصريحهما

__________________

(١) روى صاحب الوسائل هذه الاخبار في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في المقدمة الرابعة في صحيفة ٦٧ سطر ٧.

٨٨

بصحة أخبارنا المذكورة وثبوت تواترها عن الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام).

واما الاختلاف الواقع بين الاخبار المذكورة فيمكن دفعه بالجمع بينها بأحد وجوه :

(أحدها) ـ حمل الأخبار الدالة على المنع من التخصيص على التخصيص بما ورد من طريق العامة ، أو كان خارجا عن أخبار الأصول التي عليها المدار بين الشيعة الأبرار ، أو كان مخالفا لعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا ، ونحو ذلك.

(الثاني) ـ حمل المخالفة في تلك الأخبار على ما إذا كان مضمون الخبر مبطلا لحكم القرآن بالكلية. والتقييد والتخصيص بيان لا مخالفة.

(الثالث) ـ حمل المخالفة على مخالفة محكم الكتاب ونصوصه.

(الرابع) ـ ان المراد بطلان الخبر المخالف للقرآن إذا علم تفسير القرآن بالأثر عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم) إذ لا شك في بطلان المخصص إذا كان ارادة العموم من القرآن معلوما بالنص. نعم ربما ورد في الاخبار ما يطابق تلك الآيات في الإطلاق أو العموم الا انه ليس مما نحن فيه في شي‌ء (١).

و (ثالثها) ـ تعارض الخبرين المعلومي الورود عنهم (عليهم‌السلام) وقد ذكر جملة من الأصحاب انه ان أمكن الجمع بين الدليلين ولو بتأويل بعيد فهو أولى من طرح أحدهما. ويرد على ذلك ان هذا مما لا يتمشى في أخبارنا. لورود الكثير منها على جهة التقية التي هي على خلاف الحكم الشرعي واقعا ، إذ التقية كما قد عرفت

__________________

(١) لان الكلام فيما إذا وردت تلك الأخبار مفسرة للآية فيما دل عليه ظاهرها من العموم أو الإطلاق أو نحوهما ، واما ورودها موافقة لها في الجملة من غير ان تكون على جهة التفسير لها فيرتكب في الجمع بين الآية والأخبار أو بين الاخبار بعضها مع بعض كما أشرنا إليه سابقا من ان أكثر علمائنا بل كلهم في جملة من المواضع عملوا على ذلك كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى في جملة من المسائل الآتية في أبواب الكتاب (منه قدس‌سره).

٨٩

في المقدمة الأولى أصل الاختلاف في أخبارنا ، فكيف يتمحل الجمع بينها وبين ما هو خلافها واقعا؟ نعم إنما يتمشى ذلك على قواعد العامة ، لعدم ورود حديث عندهم على جهة التقية. والظاهر ان من صرح بذلك من أصحابنا إنما أخذه من كلامهم غفلة عن تحقيق الحال وما يلزمه من الاشكال.

(لا يقال) : ان الشيخ (رحمه‌الله تعالى) في كتابي الأخبار هو أصل هذه الطريقة ومحقق هذه الحقيقة ، حيث انه جمع بين الأخبار لقصد رفع التنافي بينها بوجوه عديدة ، وان كانت بعيدة بل جملة منها غير سديدة ، رعاية لهذه القاعدة وطلبا لهذه الفائدة.

(لأنا نقول) : نعم قد فعل الشيخ ذلك لكن ليس لرعاية هذه القاعدة ـ كما يتوهم ـ بل السبب الحامل له على ذلك هو ما أشار إليه (قدس‌سره) في أول كتاب التهذيب ، من أن بعضا من الشيعة قد رجع عن مذهب الحق لما وجد الاختلاف في الأخبار ، فقصد (قدس‌سره) إزاحة هذه الشبهة عن ضعفة العقول ومن ليس له قدم راسخ في المعقول والمنقول ، وارتكب الجمع ولو بالوجوه البعيدة وأكثر من الاحتمالات. كل ذلك لدفع تلك الشبهة. وبهذا يندفع عنه ما أورده المتأخرون في جمل من مواضع الجمع بين الأخبار بالبعد أو الفساد ، فان مثله (قدس‌سره) ـ ممن لا يشق غباره ولا يدفع اشتهاره ـ لا يخفى عليه ما اهتدى إليه أولئك الأقوام وما أوردوه عليه في كل مقام ، لكنهم من قبيل ما يقال : «أساء سمعا فأساء اجابة»

وقد ذكر علماء الأصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره الى محصول. والمعتمد عندنا على ما ورد من أهل بيت الرسول ، من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات ، إلا انها بعد لا تخلو من شوب الاشكال ، فلا بد من بسط جملة منها في هذا المجال ، والكلام فيها بما يكشف نقاب الإجمال وينجلي به غياهب الاشكال.

٩٠

فنقول : مما ورد في ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (١) (عطر الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم عن عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه‌السلام) وفيها : «فان كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وافقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر. قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر. قال : فقال : ينظر الى ما كان ـ من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به ـ المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وانما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع. وأمر بين غيه فيجتنب. وأمر مشكل يرد علمه الى الله والى رسوله. قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت : جعلت فداك أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم ، بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد. قلت : جعلت فداك فان وافقهم الخبران

__________________

(١) رواه الكليني في الكافي في باب (اختلاف الحديث) من كتاب فضل العلم ورواه الصدوق في الفقيه في باب ـ ٩ ـ (الاتفاق على عدلين في الحكومة) من الجزء الثالث. ورواه الشيخ في التهذيب في باب (الزيادات في القضاء والأحكام) من كتاب القضاء. ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

٩١

جميعا؟ قال : ينظر الى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

ومن ذلك ـ ما رواه الأئمة الثلاثة (١) (نور الله مراقدهم) بأسانيدهم عن داود ابن الحصين عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) : «في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينها فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، واختلف العدلان بينهما ، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت الى الآخر».

ومنه ـ ما رواه الثقة الجليل احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب الاحتجاج (٢) عن سماعة بن مهران قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل به والآخر ينهانا عن العمل به؟ قال : لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي صاحبك فتسأله عنه. قال : قلت : لا بد أن يعمل بأحدهما. قال : اعمل بما فيه خلاف العامة».

ومنه ـ ما رواه في الكتاب المذكور (٣) عن الحسن بن الجهم عن الرضا

__________________

(١) رواه الصدوق في الفقيه في باب ـ ٩ ـ (الاتفاق على عدلين في الحكومة) من الجزء الثالث. ورواه الشيخ في التهذيب في باب (الزيادات في القضاء والأحكام) من كتاب القضاء. ولم نجده في الكافي في الموضع المناسب له. ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء عن الفقيه والتهذيب فقط. ورواه صاحب الوافي عنهما فقط أيضا في باب (من لا يجوز التحاكم اليه ومن يجوز) من أبواب القضاء والشهادات من الجزء التاسع.

(٢) في احتجاج ابى عبد الله الصادق في الصحيفة ١٨٥ طبع إيران سنة ١٣٠٢. ورواه في الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) في الموضع المتقدم ، وفي الوسائل أيضا كذلك.

٩٢

(عليه‌السلام) قال : «قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا. فإن كان يشبههما فهو منا ، وان لم يكن يشبههما فليس منا. قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق؟ فقال : إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت».

ومنه ـ ما رواه الشيخ محمد بن علي بن ابي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللئالي (١) عن العلامة مرفوعا عن زرارة بن أعين : قال : «سألت الباقر (عليه‌السلام) فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي انهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال (عليه‌السلام) : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : انهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال : انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ ما خالفه ، فان الحق فيما خالفهم. فقلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف اصنع؟ فقال : اذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. فقلت : انهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال : اذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» قال في الكتاب المذكور بعد نقل هذه الرواية : وفي رواية انه (عليه‌السلام) قال : «اذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله».

ومنه ـ ما رواه في الكافي (٢) في الموثق عن سماعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى

__________________

(١) ورواه صاحب المستدرك في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) في باب (اختلاف الحديث) من كتاب فضل العلم ، ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

٩٣

من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» قال في الكافي بعد نقل هذه الرواية : وفي رواية أخرى : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك».

ومنه ـ ما رواه الصدوق (رحمه‌الله) في كتاب عيون اخبار الرضا (عليه‌السلام) (١) بسنده عن احمد بن الحسن الميثمي : انه «سئل الرضا (عليه‌السلام) يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الشي‌ء الواحد ، فقال (عليه‌السلام) : ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمر إلزام ، فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وامره ، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكرهه ولم يحرمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ، أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وما لم تجدوه في شي‌ء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف ـ وأنتم طالبون باحثون ـ حتى يأتيكم البيان من عندنا».

ومنه ـ ما رواه الشيخ السعيد قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته المعمولة في بيان أحوال أحاديث أصحابنا وصحتها (٢) بإسناده عن الصدوق ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «قال

__________________

(١) في الاخبار المنثورة عن الرضا (عليه‌السلام) في الصحيفة ١٩١ طبع إيران سنة ١٣١٨ ، ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) وفي الوسائل في الموضع المتقدم.

٩٤

الصادق (عليه‌السلام) : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه».

ومنه ـ ما رواه في الرسالة المذكورة عن ابن بابويه بسنده عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف القوم». وروى فيها بهذا النحو أخبارا عديدة متفقة المضمون على الترجيح بالعرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه.

ومنه ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار (٢) قال : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى ابي الحسن (عليه‌السلام) : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في ركعتي الفجر في السفر : فروى بعضهم ان صلهما في المحمل وروى بعضهم ان لا تصلهما إلا على الأرض. فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع (عليه‌السلام) : موسع عليك بآية عملت».

ومنه ـ ما رواه في كتاب الاحتجاج في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري الى صاحب الزمان (عليه‌السلام) (٣) «يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه ان يكبر؟ فان بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه ان يقول بحول الله وقوته أقوم وأقعد. الجواب :

__________________

(١) ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) في صلاة المسافر من كتاب القضاء من التهذيب ، ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) في الصحيفة (٢٤٧) طبع إيران سنة ١٣٠٢. ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضي به من كتاب القضاء.

٩٥

في ذلك حديثان ، أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة الى أخرى فعليه التكبير. واما الحديث الآخر فإنه روي انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا».

ومنه ـ ما رواه في الكتاب المذكور عن الحرث بن المغيرة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد اليه».

ومنه ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (٢) بسنده عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أرأيتك لو حدثتك بحديث ـ العام ـ ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه ، بأيهما كنت تأخذ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك الله».

ومنه ـ ما رواه في الكتاب المذكور ايضا (٣) بسنده عن المعلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم» قال في الكافي بعد نقل هذا الخبر : وفي حديث آخر : «خذوا بالأحدث».

__________________

(١) في احتجاج ابى عبد الله الصادق (عليه‌السلام) في الصحيفة ١٨٥ طبع إيران سنة ١٣٠٢. ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) في باب (اختلاف الحديث) من كتاب فضل العلم ، ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) في الموضع المتقدم وفي الوسائل أيضا كذلك.

٩٦

إذا عرفت ذلك فتحقيق الكلام في هذه الأخبار يقع في مواضع :

(الأول) ـ لا يخفى أن مقبولة عمر بن حنظلة (١) ومرفوعة زرارة (٢) قد اشتملتا على الترجيح بأعدلية الراوي وافقهيته ، وهذا الطريق من طرق الترجيح لم يتعرض له ثقة الإسلام في ديباجة الكافي في ضمن نقله طرق الترجيحات ، وإنما ذكر الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة والأخذ بالمجمع عليه ، ولعل الوجه فيه ما ذكره بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) من انه لما كانت أحاديث كتابة كلها صحيحة عنده ـ كما صرح به في غير موضع من ديباجة كتابه ـ فلا وجه للترجيح بعدالة الراوي. ويحتمل ايضا أن يقال : ان في الترجيح بأحد تلك الوجوه الثلاثة غنية عن الترجيح بعدالة الراوي كما سيأتي تحقيقه. ويؤيد ذلك خلو ما عدا الخبرين المذكورين ورواية داود ابن الحصين (٣) من الأخبار الواردة في هذا المضمار عن عد ذلك في جملة المرجحات.

ويؤيده أيضا ما رواه في الكافي (٤) عن ابن ابي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن اختلاف الحديث : يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلا فالذي جاءكم به اولى به». فإنه (عليه‌السلام) لم يرجح بالوثاقة ولم يقل اعمل بما تثق به دون ما لا تثق به مع كون السؤال عن الاختلاف الناشئ عن رواية الثقة وغير الثقة.

(الثاني) ـ انه قد اشتملت مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة على جملة الطرق الواردة في الترجيح ، لكنهما قد اختلفتا في الترتيب بين تلك الطرق ، فاشتملت الاولى منهما على الترجيح بالأعدلية والافقهية ثم بالمجمع عليه ثم بموافقة الكتاب

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٩٣ السطر ٥ ،.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٩٢ السطر ٤.

(٤) في باب (الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب) من كتاب فضل العلم.

٩٧

ثم بمخالفة العامة ، والثانية منهما قد اشتملت على الترجيح بالشهرة أولا ثم بالأعدلية والأوثقية ثم بمخالفة العامة ثم بالأحوطية ، ولم يذكر فيها الترجيح بموافقة القرآن ، كما لم يذكر في الأولى الترجيح بالأحوطية.

ويمكن الجواب (أولا) بأن يقال : ان الترتيب غير منظور فيهما ، لأنه في الحقيقة انما وقع في كلام السائل لا في كلامه (عليه‌السلام) وغاية ما يفهم من كلامه (عليه‌السلام) هو الترتيب الذكري. وهو لا يستدعي الترتيب في وقوع الترجيح ، وحينئذ فأي طريق اتفق من هذه الطرق عمل عليه ، وبذلك يندفع ما قيل : ان مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة (١) ـ حيث قدم فيها الترجيح بالأعدلية والأوثقية ـ انه لا يصار الى غير الطريق المذكور إلا مع تعذر الترجيح به ، وهكذا باقي الطرق.

(لا يقال) : يلزم الاشكال لو تعارضت الطرق المذكورة : بأن كان أحد الخبرين مجمعا عليه مع موافقته للعامة والآخر غير مجمع عليه مع مخالفته لهم ، أو أحدهما موافقا للكتاب مع موافقته للعامة والآخر مخالفا للعامة وللكتاب.

(لأنا نقول) : غاية ما يلزم من ذلك خلو الروايتين المذكورتين عن حكم ذلك ، والمدعى إنما هو عدم دلالتهما على الترتيب في هذه الطرق لا الدلالة على عدم الترتيب واقعا أو الدلالة عليه. على انا نقول : انه مع القول بعدم المخالفة بين الاخبار والقرآن إذا كانت مخصصة له كما أسلفنا بيانه (٢) ، فلا نسلم وجود هذه الفروض المذكورة في أخبارنا المعمول عليها عندنا ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار وتصفح الأخبار بعين الاعتبار ، ومع إمكان وجود ذلك فيمكن ايضا القول بأنه متى تعارض طريقان من الطرق المذكورة. يصار الى الترجيح بغيرهما إن أمكن ، أو بهما مع اعتضاد أحدهما بمرجح آخر من تلك الطرق ان وجد ، وإلا صير الى التوقف والإرجاء أو التخيير.

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

(٢) في الصحيفة ٨٩ السطر ٧.

٩٨

ويمكن أن يقال أيضا في الجواب (ثانيا) عن اختلاف الخبرين المذكورين في الترتيب بين الطرق : بأنه لا يبعد ترجيح العمل بما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة (١) ، لاعتضادها بنقل الأئمة الثلاثة (رضوان الله عليهم) وتلقي الأصحاب لها بالقبول حتى انه اتفقت كلمتهم على التعبير عنها بهذا اللفظ الذي كررنا ذكره ، واطباقهم على العمل بما تضمنته من الأحكام. بخلاف الرواية الأخرى ، فإنا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللئالي ، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الاخبار والإهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور.

(الثالث) ـ انه قد دلت مقبولة عمر بن حنظلة (٢) على الإرجاء والتوقف بعد التساوي في طرق الترجيحات المذكورة. ومرفوعة زرارة (٣) على التخيير في العمل بأحدهما بعد ذلك ، وبعض الاخبار قد دل على التوقف والإرجاء من غير ذكر شي‌ء من الطرق قبل ذلك. وبعض آخر قد دل على التخيير كذلك. ولعل الأخيرين (٤) محمولان على عدم إمكان الترجيح بتلك الطرق ، لاستفاضة الأخبار بالترجيح سيما بالقرآن ومخالفة العامة أولا ، بل العمل بهما وان لم يكن ثمة مخالف من الأخبار ، الا ان خبر سماعة ـ المنقول عن كتاب الاحتجاج (٥) ـ ينافي ذلك ، ولعله محمول على إمكان الوصول الى الامام (عليه‌السلام) وإمكان التأخير ، إذ الترجيح بهذه الطرق فرع تعذر الوصول اليه (عليه‌السلام) بغير مشقة (٦) وقد اختلفت كلمة أصحابنا (رضوان الله عليهم)

__________________

(١ و ٢) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٩٣ السطر ٥.

(٤) وهو البعض الدال على التوقف والإرجاء من غير ذكر شي‌ء من الطرق قبل ذلك والبعض الدال على التخيير كذلك (منه قدس‌سره).

(٥) في الصحيفة ٩٢ السطر ٩.

(٦) والا فلو كان في بلده (عليه‌السلام) أو قريبا بحيث يمكنه الأخذ منه فالظاهر

٩٩

عليهم) في وجه الجمع بين خبري الإرجاء والتسليم على وجوه :

(فمنها) ـ حمل خبر الإرجاء على الفتوى وحمل خبر التخيير على العمل ، بمعنى انه لا يجوز للفقيه ـ والحال كذلك ـ الفتوى والحكم وان جاز له العمل بأيهما شاء من باب التسليم. وبه صرح جملة من مشايخنا المتأخرين ، واستدل بعضهم على ذلك بصحيحة علي بن مهزيار ومكاتبة الحميري المتقدمتين (١) وظني انهما ليستا من ذلك الباب ، إذ الظاهر من الأخبار ان التخيير في العمل من باب الرد والتسليم إنما هو مع تعذر رد الحكم لهم (عليهم‌السلام) وتساوي الخبرين في طرق الترجيح ، فالحكم حينئذ فيه التخيير في العمل خروجا من الحيرة ودفعا للحرج والضرورة ، كما ينادي به كلام ثقة الإسلام الآتي نقله (٢). فهو من قبيل الرخص الواردة عنهم (عليهم‌السلام) في مقام الضرورة كالعمل بالتقية ونحوه ، واما مع رد الحكم للإمام (عليه‌السلام) وامره بالتخيير فالظاهر ان الحكم الشرعي في ذلك هو التخيير ، وهو أحد الوجوه التي يجمع بها بين الأخبار إذا ظهر له مستند منها. والأمر هنا كذلك.

و (منها) ـ حمل الإرجاء على زمن وجوده (عليه‌السلام) وإمكان الرد اليه ، وحمل التخيير على زمان الغيبة وعدم إمكان الوصول اليه. وبه صرح الثقة الجليل احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج (٣) وفيه ان ذلك يتم بالنسبة

__________________

انه لا يسوغ له الترجيح بتلك الطرق ، وكذا لو لم يكن في بلده وأمكن التأخير إلى مراجعته ورؤيته فالظاهر انه لا يسوغ الترجيح بها ايضا (منه رحمه‌الله).

(١) في الصحيفة ٩٥ السطر ٨ و ١٣.

(٢) في هذه المقدمة في الموضع الخامس.

(٣) قال (قدس‌سره) في الكتاب المذكور بعد نقل مقبولة عمر بن حنظلة : «واما قوله (عليه‌السلام) للسائل ـ : ارجه وقف عنده حتى تلقى إمامك ـ أمر بذلك عند تمكنه من الوصول الى الامام ، فاما إذا كان غائبا ولا يتمكن من الوصول اليه والأصحاب كلهم مجمعون على الخبرين ولم يكن هناك رجحان لرواة أحدهما على رواة الآخر بالكثرة والعدالة ، كان الحكم بهما من باب التخيير» ثم استدل برواية الحسن بن الجهم ورواية الحرث بن المغيرة المتقدمتين (منه رحمه‌الله).

١٠٠