الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون. قلت : سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله ، ونقول : الذي قاله شيطان. فقال. مهلا يا ان هذا حكم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان إنك أخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق الدين» ورواه في كتاب المحاسن ، وزاد ـ بعد قوله : «إنك أخذتني بالقياس» ـ «ان السنة لا تقاس ، ألا ترى انها تؤمر بقضاء صومها ولا تؤمر بقضاء صلاتها». ولا يخفى عليك ما في الخبر المذكور من الصراحة في المطلوب.

و (منها) ـ ما ورد من قول الصادق (عليه‌السلام) لأبي حنيفة : «اتق الله ولا تقس الدين برأيك ، فإن أول من قاس إبليس ، الى أن قال : ويحك أيهما أعظم ، قتل النفس أو الزنا؟ قال : قتل النفس. قال : فان الله عزوجل قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة. ثم قال : أيهما أعظم ، الصلاة أو الصوم؟ قال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ، فكيف يقوم لك القياس؟

فاتق الله ولا تقس».

و (منها) ـ قوله (عليه‌السلام) لأبي حنيفة في عدة اخبار : «البول أقذر أم المني؟ فقال : البول أقذر. فقال : يجب على قياسك ان يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب الله الغسل من المني دون البول (١).

__________________

(١) وفي بعض الاخبار ايضا : لما قال له السائل : «الحائض تقضي الصلاة؟ قال : لا. قال : تقضى الصوم؟ قال : نعم. قال : من اين جاء هذا؟ قال أول من قاس إبليس. ثم قال : والصائم يستنقع في الماء؟ قال نعم. قال : يبل الثوب على جسده؟ قال : لا ، قال : من اين جاء هذا؟ قال : ذا من ذاك». ومن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه جارية له فله ان يصيب منها بالنهار؟ فقال : سبحان الله اما يعرف حرمة شهر رمضان ، ان له في الليل

٦١

و (منها) ـ ما رواه في تفسير العسكري (عليه‌السلام) (١) عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : قال : قال : «يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم وأصحاب الرأي ، الى أن قال : اما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من ظاهرهما». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع (٢) وقد دلت على كون ذلك قياسا ولا سيما الخبر الأول منها ، مع انه قد استفاضت الأخبار عنهم (عليهم‌السلام) بالمنع عن العمل بالقياس بقول مطلق من غير تخصيص بفرد بل صار ذلك من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام).

فما يظهر ـ من بعض مشايخنا المتأخرين (٣) من كون ذلك ليس من باب القياس ، مستندا الى ان ما جعل فرعا على الأصل في الحكم أولى بالحكم من الأصل فكيف يجعل فرعا عليه؟ ـ اجتهاد في مقابلة النصوص أو غفلة عن ملاحظة ما هو في تلك الاخبار مسطور ومنصوص. على انه يمكن الجواب عما ذكره من عدم الفرعية بأن الحكم إنما ثبت أولا وبالذات بمنطوق الكلام للتأفيف مثلا ، لمنافاته لوجوب الإكرام ، والضرب إنما ثبت له لمشاركته للأول في العلة المذكورة وان كانت العلة أشد بالنسبة إليه

__________________

سبحا طويلا. قلت : أليس له ان يأكل ويشرب ويقصر فقال : ان الله تعالى قد رخص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة وتخفيفا لموضع التعب والنصب ووعث السفر ، ولم يرخص له في مجامعة النساء في السفر بالنهار في شهر رمضان ، وأوجب عليه قضاء الصيام ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره ، ثم قال : والسنة لا تقاس. الحديث». (منه رحمه‌الله).

(١) في تفسير قوله تعالى : «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضّالِّينَ».

(٢) روى اخبار المنع عن العمل بالقياس في الوسائل في باب ـ ٦ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) هو شيخنا بهاء الملة والحق والدين في كتاب الزبدة ، حيث أشار الى ذلك في المتن وبين وجهه في الحاشية بما نقلناه عنه رحمه‌الله (منه قدس‌سره).

٦٢

وأشديتها بالنسبة إليه لا تخرجه عن الفرعية ، إذ اعتبار الأصالة والفرعية إنما هو بالنظر الى ما دل عليه الكلام أولا وبالذات وثانيا وبالعرض.

وربما استند بعض الفضلاء الى الاستدلال على الحجية بقول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في خطابه للأنصار : «أتوجبون عليه الحد والرجم ، ولا توجبون عليه صاعا من ماء؟» (١).

وسيأتي الجواب عن ذلك في باب غسل الجنابة في مسألة الجماع في دبر المرأة.

وأما منصوص العلة فظاهر كلام المرتضى (رضي‌الله‌عنه) إنكاره. والعلامة وجمع من الأصحاب على القول به.

احتج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) بما ملخصه : ان علل الشرع انما تنبئ عن الدواعي إلى الفعل أو عن وجه المصلحة فيه ، وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة ويكون في أحدهما داعية في فعله دون الآخر مع ثبوتها فيه ، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة ، وقد يدعو الشي‌ء إلى غيره في حال دون حال وعلى وجه دون وجه. الى ان قال : «فإذا صحت هذه الجمل لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي والقياس وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه».

وحكى العلامة (قدس‌سره) عن المانعين الاحتجاج بان قول الشارع : حرمت الخمر لكونها مسكرة. يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار ، وان تكون إسكار الخمر بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرا في العلة. وإذا احتمل الأمران لم يجز القياس. ثم أجاب بالمنع من احتمال اعتبار القيد في العلية ، ثم أطال في البحث الى ان قال : «والتحقيق ان النزاع هنا لفظي. لأن المانع إنما يمنع من التعدية لأن قوله : حرمت الخمر لكونه مسكرا. محتمل لان يكون في تقدير التعليل بالإسكار المختص بالخمر ، فلا

__________________

(١) هذا من صحيح زرارة المروي في الوسائل في باب ـ ٦ ـ من أبواب الجنابة من كتاب الطهارة.

٦٣

يعم ، وان يكون في تقدير التعليل بمطلق الإسكار فيعم ، والمثبت يسلم ان التعليل بالإسكار المختص بالخمر غير عام وان التعليل بالمطلق يعم. فظهر انهم متفقون على ذلك. نعم النزاع وقع في أن قوله ـ : حرمت الخمر لكونه مسكرا ـ هل هو بمنزلة علة التحريم للإسكار أم لا؟ فيجب ان يجعل البحث في هذا لا في ان النص على العلة هل يقتضي ثبوت الحكم في جميع مواردها ، فان ذلك متفق عليه» انتهى (وفيه) ان الأمر كما ذكر لو كان حجة الخصم ما ذكره خاصة ، وقد عرفت من كلام السيد (رضي‌الله‌عنه) التعليل بغير ذلك مما لا ينطبق عليه هذا التفصيل الذي ذكره.

ونقل عن المحقق (رحمه‌الله) التفصيل في المسألة بأنه إذا نص الشارع على العلة وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية الحكم وكان ذلك برهانا. واليه مال ايضا المحقق الشيخ حسن في المعالم ، وأجاب فيه عن حجة المرتضى (رضي‌الله‌عنه) بان المتبادر من العلة ـ حيث يشهد الحال بانسلاخ الخصوصية فيها ـ تعلق الحكم بها لا بيان الداعي ووجه المصلحة. وما ذكره (قدس‌سره) جيد بالنظر الى مفهوم العلة ، إلا ان المتتبع ـ لعلل الشرع الواردة في الاخبار ـ لا يخفى عليه ان جلها إنما هو من قبيل ما ذكره المرتضى (رضي‌الله‌عنه).

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : «والحق أن يقال : إذا حصل القطع بان الأمر الفلاني علة لحكم خاص من غير مدخلية شي‌ء آخر في العلية وعلم وجود تلك العلة في محل آخر لا بالظن بل بالعلم ، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحل الآخر ، لأن الأصل حينئذ يصير من قبيل النص على كل ما فيه تلك العلة ، فيخرج في الحقيقة عن القياس. وهذا مختار المحقق لكن هذا في الحقيقة قول بنفي حجية القياس المنصوص العلة ، إذ حصول هذين القطعين مما يكاد ينخرط في سلك المحالات إلا في تنقيح المناط» انتهى. وهو جيد.

٦٤

وبالجملة فالحق هو عدم القول بالحجية في كلا الموضعين إلا مع الدلالة العرفية في بعض الموارد أو بما يرجع الى تنقيح المناط القطعي (١) والله وأولياؤه أعلم.

المقدمة الرابعة

في الاحتياط

وقد اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في وجوبه واستحبابه ، فالمجتهدون على الثاني ، والأخباريون على وجوبه في بعض المواضع ، وربما يظهر من كلام بعض متأخري المجتهدين عدم مشروعيته.

قال المحقق (قدس‌سره) ـ على ما نقله عنه غير واحد ـ في كتاب الأصول : «العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى وجوبه ، وقال آخرون مع اشتغال الذمة : يكون العمل بالاحتياط واجبا ومع عدمه لا يجب مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء ، نجس. واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة أم لا بد من سبع؟ وفيما عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم لا بد من ثلاث؟ احتج القائلون بالاحتياط بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك». وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا ، فيجب ان لا يحكم ببراءتها إلا بيقين ولا يكون هذا إلا مع الاحتياط. والجواب عن الحديث ان نقول : هو خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الأصول. سلمناه لكن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة ، لأنه إلزام مشقة لم يدل الشرع عليها. فيجب اطراحها بموجب الخبر.

__________________

(١) والى القول بمنع حجية كل من الفردين المذكورين مال المحدث السيد نعمة الله الجزائري (قدس‌سره) مستندا الى دخولهما في القياس الذي تواترت الأخبار بالنهي عنه : و (منها) ـ قول الصادق (عليه‌السلام) فيما استفاض عنه «ان أصحاب القياس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا». قال : «وهو بإطلاقه متناول لجميع افراد القياس في موضع النزاع وغيره» (منه رحمه‌الله).

٦٥

والجواب عن الثاني ان نقول : البراءة الأصلية مع عدم الدلالة الناقلة حجة ، وإذا كان التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية على الزيادة في المثال المذكور كان العمل بالأصل أولى ، وحينئذ لا نسلم اشتغالها مطلقا بل لا نسلم اشتغالها إلا بما حصل الاتفاق عليه أو اشتغالها بأحد الأمرين. ويمكن ان يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الإناء واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن نأخذ بما حصل الإجماع عليه في الطهارة ، ليزول ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة». انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو محل نظر من وجوه : (أحدها) ـ ان ما جعله موضوعا للنزاع من مسألة إناء الولوغ ونحوها ليس كذلك على إطلاقه ، لأنه مع تعارض الأدلة فللناظر الترجيح بينها والعمل بما يترجح في نظره من أدلة أي الطرفين ، وحينئذ فلا مجال هنا للقول بوجوب الاحتياط ، واما الاستحباب فيمكن إذا ترجح عنده الأقل ، فإنه يمكن حمل الزائد على الاستحباب كما هو المعروف عندهم في أمثال ذلك. نعم مع عدم الترجيح فالمتجه ـ كما سيأتي تحقيقه ـ وجوب الاحتياط في العمل والتوقف في الحكم.

و (ثانيها) ـ ما أجاب به أولا عن الخبر المذكور ، فإنه مبني على اشتراط القطع في الأصول وعدم العمل بالآحاد مطلقا ، وكلاهما محل نظر (اما الأول) فلعدم الدليل عليه ، ومن تأمل اختلافاتهم في الأصول وتكثر أقوالهم وادعاء كل منهم التبادر على خلاف ما يدعيه الآخر ، علم ان البناء على غير أساس ، ومن ثم وقع الإشكال في جل مسائله والالتباس ، ولو كانت أدلته مما تفيد القطع كما يدعونه لما انتشر فيه الخلاف ، كما لا يخفى على ذوي الإنصاف. على انه لو ثبت ثمة دليل على اشتراط القطع في الأصول لوجب تخصيصه بالأصول الكلامية والعقائد الدينية ، إذ هي المطلوب فيها ذلك بلا خلاف ، دون هذه التي لم يرد لها أصل في الشريعة. وانما هي من محدثات العامة ومخترعاتهم كما حققناه في محل أليق.

٦٦

و (اما الثاني) فلما صرح به جم غفير من أصحابنا ـ متقدميهم ومتأخريهم ـ ولا سيما هذا القائل نفسه في كتاب المعتبر وكذا في كتابه في الأصول ، بل الظاهر انه إجماعي كما ادعاه غير واحد منهم ، من حجية خبر الواحد والاعتماد عليه ، وعلى ذلك يدل من الاخبار ما يضيق عن نشره نطاق البيان ، وما سبق الى بعض الأوهام ـ من تناقض كلامي الشيخ في العمل بخبر الواحد ودعوى المرتضى الإجماع على عدم جواز العمل به ـ فهو توهم بارد وخيال شارد نشأ عن قصور التتبع لكلامهم والتطلع في نقضهم وإبرامهم ، لدلالة كلام الشيخ (رضوان الله عليه) في غير موضع من كتبه على صحة أخبارنا وتواترها عن الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم) ، وان المراد بالخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به هو ما كان من طريق المخالفين مما لم تشتمل عليه أصولنا التي عليها معتمد شريعتنا قديما وحديثا. ولتصريح المرتضى (رضي‌الله‌عنه) على ما نقله عنه جمع : منهم صاحب المعالم ، من أن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها اما بالتواتر أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وان وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد. انتهى. وحينئذ فيرجع كلامه الى كلام الشيخ في معنى الخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به ، وقد مضى في المقدمة الثانية ما فيه مقنع للبيب ومرجع للموفق المصيب.

و (ثالثها) ـ ما أجاب به عن الدليل الثاني من الاستناد إلى حجية البراءة الأصلية في المقام. وفيه ما تقدم نقله عنه (قدس‌سره) في المعتبر. من ان الاعتماد على البراءة الأصلية إنما يتجه فيما يعلم انه لو كان هناك دليل لعثر عليه ، اما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف. والدليل في الجملة هنا موجود. ووجود المعارض لا يخرجه عن كونه دليلا. ولو عورض بمرجوحيته في مقابلة المعارض فلا يصلح للدلالة ، فالدليل العام

٦٧

على وجوب الاحتياط كاف في الخروج عن قضية الأصل ووجوب الزيادة.

و (رابعها) ـ قوله : ويمكن ان يقال قد أجمعنا. إلخ. فإن فيه ان ثبوت الإجماع إنما هو قبل الغسل بالمرة. واما بعد الغسلة الواحدة فليس ثمة إجماع ، فالاستصحاب غير ثابت. على ان في الاستدلال بالاستصحاب ما قد عرفت آنفا. نعم يمكن ان يقال : ان مقتضى صحاح الاخبار ان يقين كل من الطهارة والنجاسة لا يزول إلا بيقين مثله. والنجاسة هنا ثابتة بيقين قبل الغسل بالكلية ، ولا تزول إلا بيقين وهو الغسل بالأكثر. وزوالها بالأقل مشكوك فيه ، وهو لا يرفع يقين النجاسة ، والاستصحاب هنا مما لا خلاف في حجيته ، لدلالة صحاح الاخبار عليه كما سبق تحقيقه في المسألة المذكورة. هذا.

والتحقيق في المقام ـ على ما أدى اليه النظر القاصر من أخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) ـ هو ان يقال : لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا واستفاضة الأمر به ، كما سيمر بك شطر من اخباره. وهو عبارة عما يخرج به المكلف من عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبا.

(فالأول) ـ كما إذا تردد المكلف في الحكم ، اما لتعارض أدلته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكلية بناء على نفي البراءة الأصلية ، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكليات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.

و (الثاني) ـ كما إذا حصل الشك باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي احتمالا مستندا الى بعض الأسباب المجوزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعي إباحة شي‌ء وحليته ، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب انه مما حرمه الشارع وان لم يعلم به المكلف ، ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك انها أرضعت معك

٦٨

الرضاع المحرم إلا انه لم يثبت ذلك شرعا. ومنه ايضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه ، اما إذا لم يحصل له ما يوجب الشك والريبة في ذلك ، فإنه يعمل على ما ظهر له من الدليل وان احتمل النقيض باعتبار الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، بل ربما كان مرجوحا ، لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين ما يحتمل تطرق احتمال النجاسة أو الحرمة اليه كاخبار الجبن واخبار الفراء ، جريا على مقتضى سعة الحنيفية ، كما أشار إليه في صحيحة البزنطي (١) الواردة في السؤال عن شراء جبة فراء لا يدرى أذكية هي أم غير ذكية ليصلي فيها ، حيث قال (عليه‌السلام) : «ليس عليكم المسألة. ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول : ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وان الدين أوسع من ذلك».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الاحتياط قد يكون متعلقا بنفس الحكم الشرعي وقد يكون متعلقا بجزئيات الحكم الشرعي وافراد موضوعه. و (كيف كان) فقد يكون الاحتياط بالفعل وقد يكون بالترك وقد يكون بالجمع بين الافراد المشكوك فيها ، ولنذكر جملة من الأمثلة يتضح بها ما أجملناه ويظهر منها ما قلناه.

فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل بان تردد بين احتمالي الوجوب والاستحباب ، فالواجب التوقف في الحكم والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل ، ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب.

وفيه (أولا) ـ ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الشرعية.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكروه يرجع الى ان الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة الأصلية ، ومن المعلوم ان أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٥٥ ـ من أبواب لباس المصلى من كتاب الصلاة.

٦٩

وهو أعلم بها ، ولا يمكن ان يقال : مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية ، فإنه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.

ومن هذا القسم ايضا ما تعارضت فيه الاخبار على وجه يتعذر الترجيح بينها بالمرجحات المنصوصة ، فإن مقتضى الاحتياط التوقف عن الحكم ووجوب الإتيان بالفعل متى كان مقتضى الاحتياط ذلك.

(فان قيل) : ان الأخبار في الصورة المذكورة قد دل بعضها على الإرجاء وبعضها على العمل من باب التسليم (قلنا) : هذا ايضا من ذلك ، فان التعارض المذكور ـ مع عدم ظهور مرجح لأحد الطرفين ولا وجه يمكن الجمع به في البين ـ مما يوجب دخول الحكم المذكور في المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط ، وسيأتي ما فيه مزيد بيان لذلك.

ومن هذا القسم ايضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا تعم بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية ، فإن الحكم فيه ما ذكر كما سلف بيانه في مسألة البراءة الأصلية.

ومن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي ـ لكن بالترك ـ ما إذا تردد الفعل بين كونه واجبا أو محرما ، فان المستفاد من الاخبار ان الاحتياط هنا بالترك.

كما تدل عليه موثقة سماعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره. فهو في سعة حتى يلقاه».

وموثقة زرارة (٢) «في أناس من أصحابنا حجوا بامرأة معهم فقدموا الى الوقت

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ١٤ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الحج. وفي باب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

٧٠

وهي لا تصلي ، وجهلوا ان مثلها ينبغي أن يحرم. فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس فقالوا : تخرج الى بعض المواقيت فتحرم منه. وكانت إذا فعلت ذلك لم تدرك الحج ، فسألوا أبا جعفر (عليه‌السلام) فقال : تحرم من مكانها ، قد علم الله نيتها».

وجه الدلالة ان المرأة المذكورة قد تركت واجبا لاحتمال حرمته عندها ، والامام (عليه‌السلام) قررها على ذلك ولم ينكره عليها ، بل استحسن ذلك من فعلها بقوله : قد علم الله نيتها.

وما توهمه ـ بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) (١) من دلالة هذه الرواية على عدم الاحتياط ، حتى نظمها في سلك اخبار زعم انها تدل على عدم الاحتياط وجعلها معارضة لاخبار الاحتياط ـ ناشى‌ء عن عدم إعطاء التأمل حقه من التحقيق ، وعدم النظر في الأخبار بعين التدقيق.

ومن الاحتياط المستحب في الحكم الشرعي بالفعل أو الترك ما إذا تعارضت الأدلة في حكم بين فعله وجوبا أو استحبابا وترجح في نظر الفقيه الثاني بأحد المرجحات الشرعية ، فإن الإتيان بالفعل أحوط ، ولذا ترى الفقهاء في مثل هذا الموضع يحملون الدليل المرجوح على الاستحباب تفاديا من طرحه ، كاخبار غسل الجمعة عند من يرجح الاستحباب. أو تعارضت الاخبار بين الحرمة والكراهة مع ترجيح الثاني ، فإن الاحتياط هنا بالترك ، وعلى هذا أيضا جرى الفقهاء (رضوان الله عليهم) في غير موضع.

ومن الاحتياط الواجب في جزئيات الحكم الشرعي بالإتيان بالفعل ما إذا علم أصل الحكم وكان هو الوجوب ولكن حصل الشك في اندراج بعض الافراد تحته ،

__________________

(١) هو شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (قدس‌سره) في كتاب العشرة الكاملة (منه رحمه‌الله).

٧١

وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد دالة على ذلك.

ومن هذا القسم ـ لكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا كان الحكم الشرعي التحريم وحصل الشك في اندراج بعض الجزئيات تحته ، فان الاحتياط هنا بالترك ، كحكم السجود على الخزف والحكم بطهارته بالطبخ ، فإن أصل الحكم في كل من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد بسبب الشك في استحالته بالطبخ وعدمها قد أوجب الشك في اندراجه تحت أصل الحكم ، فالاحتياط ـ عند من يحصل له الشك المذكور ـ واجب بترك السجود وترك استعماله فيما يشترط فيه الطهارة. ومنه الشك في اندراج بعض الأصوات تحت الغناء المعلوم تحريمه ، فان الاحتياط واجب بتركه ، واما من يعمل بالبراءة الأصلية فإنه يرجح بها هنا جانب العدم ، فلا يتجه ذلك عنده.

ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الافراد المشكوك فيها ما إذا اشتغلت ذمته يقينا بواجب لكن تردد بين فردين أو أزيد من افراد ذلك الواجب ، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع. ومنه من اشتغلت ذمته بفريضة من اليومية مع جهلها في الخمس مثلا ، فإنه يجب عليه الإتيان بالخمس مقتصرا فيما اشترك منها في عدد على الإتيان بذلك العدد مرددا في نيته. ومنه التردد في وجوب الجمعة ، فإنه يجب عليه الجمع بينها وبين الظهر. الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.

واما الاحتياط المستحب فعلا أو تركا فقد تقدم لك شطر من أمثلته ، والمتدرب لا يخفى عليه استنباط ذلك.

ولا بأس بنقل جملة من الاخبار المشتملة على ذكر الاحتياط وتذييل كل منها بما يوقف الناظر على سواء الصراط ، فإن جملة من مشايخنا (رضوان الله عليهم) قد اشتبه عليهم ما تضمنته من الأحكام ، حتى صرحوا بتعارضها في المقام على وجه يعسر

٧٢

الجمع بينها والالتئام كما تقدمت الإشارة إليه (١).

فمن ذلك ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء عليهما ، أم على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما عن الصيد. قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال (عليه‌السلام) : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط» (٣).

وهذه الرواية قد دلت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات الحكم الشرعي مع الجهل به وعدم إمكان السؤال. وذلك لان ظاهر الرواية ان السائل عالم بأصل وجوب الجزاء وإنما شك في موضعه بكونه عليهما معا جزاء واحدا أو على كل منهما جزاء بانفراده.

ومن ذلك ـ صحيحته الأخرى عن أبي إبراهيم (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة؟ أهي ممن لا تحل له أبدا. فقال : لا اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت : بأي الجهالتين أعذر : بجهالته ان يعلم ان ذلك محرم عليه أم بجهالته انها في عدة؟ فقال : احدى الجهالتين أهون من الأخرى ، الجهالة بأن

__________________

(١) في صحيفة ٧١ سطر (٨).

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ١٨ ـ من أبواب كفارات الصيد وتوابعها من كتاب الحج. وفي باب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) تتمة الصحيحة هكذا : «حتى تسألوا عنه فتعلموا».

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها من كتاب النكاح.

٧٣

الله حرم عليه ذلك ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت : هو في الأخرى معذور ، فقال : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها. الحديث».

وهذه الرواية قد اشتملت على فردي الجاهل بالحكم الشرعي والجاهل ببعض جزئياته ، ودلت على معذورية كل منهما إلا ان الأول أعذر ، لعدم قدرته على الاحتياط ، وبيان ذلك : ان الجاهل ـ بالحكم الشرعي وهو تحريم التزويج في العدة جهلا ساذجا غير متصور له بالمرة ـ لا يتصور الاحتياط في حقه بالكلية ، لعدم تصوره الحكم بالمرة كما عرفت. واما الجاهل بكونها في عدة مع علمه بتحريم التزويج في العدة ، فهو جاهل بموضوع الحكم المذكور مع معلومية أصل الحكم له ، ويمكنه الاحتياط بالفحص والسؤال عن كونها ذات عدة أم لا ، إلا انه غير مكلف به ، بل ظاهر الاخبار مرجوحية السؤال والفحص كما في غير هذا الموضع مما قدمنا الإشارة اليه (١) ، وكل ذلك عملا بسعة الحنيفية وسهولة الشريعة. نعم لو كان في مقام الريبة فالأحوط السؤال ، كما يدل عليه بعض الاخبار.

ومن ذلك ـ رواية عبد الله بن وضاح (٢) قال : «كتبت الى العبد الصالح (عليه‌السلام) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفأصلي حينئذ أو أفطر إن كنت صائما ، أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك».

(أقول) : والاحتياط هنا ـ بالتوقف على ذهاب الحمرة عند من قام له الدليل على ان الغروب عبارة عن استتار القرص المعلوم بعدم رؤيته عند المشاهدة مع عدم

__________________

(١) في صحيفة (٦٩) سطر (٤).

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ١٦ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة. وفي باب ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

٧٤

الحائل ـ محمول على الاستحباب. واما عند من يجعل امارة الغروب زوال الحمرة ـ كما هو المختار عندنا ، لحمل تلك الأخبار على التقية ـ فهو محمول على الوجوب ، وكلامه (عليه‌السلام) هنا محتمل لكلا الأمرين.

ومن ذلك ـ صحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليه‌السلام) في المتمتع بها (١) حيث قال فيها : «اجعلوهن من الأربع (٢) فقال له صفوان ابن يحيى : على الاحتياط. قال : نعم».

والظاهر كما استظهره أيضا جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) حمل الاحتياط هنا على المحاذرة من العامة والتقية منهم ، لاستفاضة النصوص وذهاب جمهور الأصحاب الى عدم الحصر في المتعة وانها ليست من السبعين فضلا عن الأربع ، ولعل وجهه انه إذا اقتصر على جعلها رابعة لم يمكن الاطلاع عليه بكونها متعة ليطعن عليه بذلك ليتيسر دعوى الدوام له ، بخلاف ما إذا جعلها زائدة على الأربع ، فإنه لا يتم له الاعتذار ولا النجاة من أولئك الفجار.

ومن ذلك ـ رواية شعيب الحداد (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (ع) : رجل من مواليك يقرئك السلام وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج فطلقها ثلاثا على غير السنة ، وقد كره ان يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : هو الفرج وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوجها».

(أقول) : ظاهر هذا الخبر كما ترى كون المطلق مخالفا ، ولا خلاف بين

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٤ ـ من أبواب المتعة من كتاب النكاح.

(٢) هذا قول ابى جعفر (عليه‌السلام) فإن الرواية هكذا : قال قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «اجعلوهن من الأربع».

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ١٥٦ ـ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه من كتاب النكاح.

٧٥

الأصحاب في إلزامه بما الزم به نفسه من صحة الطلاق ، وبه استفاضت جملة من الأخبار ايضا ، وحينئذ فيحمل الاحتياط هنا على الاستحباب ، إلا ان الأقرب عندي هو أن يقال : ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) وان اتفقوا على الحكم المذكور ، إلا ان الروايات فيه مختلفة ، فإن جملة من الأخبار كما دلت على ما ذهب إليه الأصحاب ، كذلك جملة منها ايضا قد دلت على انه «إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة» وحمل ـ بعض الأصحاب لها على غير المخالف ـ يرده ما اشتمل عليه بعضها من ذكر المخالف. والحكم لا يخلو من نوع اشتباه ، لتعارض الأخبار ، والاحتياط فيه مطلوب. والأمر بالاحتياط هنا مما قوى الشبهة وأكدها ، وحينئذ فلا يبعد وجوب الاحتياط هنا. ويحتمل أن يكون هذا الخبر من جملة الأخبار المانعة وان عبر عن ذلك بالاحتياط وجعله في قالبه ، فيتحتم كون الاحتياط فيه على جهة الوجوب. والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال.

وأما الأخبار الدالة على رجحان العمل بالاحتياط على الإطلاق في هذا الشأن فهي أكثر من أن يحويها نطاق البيان في هذا المكان (١) ومنها قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لكميل بن زياد كما رواه الشيخ (رحمه‌الله) في كتاب الأمالي مسندا عن الرضا (عليه‌السلام) : «يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك». وما رواه الشهيد عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث طويل قال فيه : «وخذ بالاحتياط لدينك في جميع أمورك ما تجد اليه سبيلا». وما رواه الفريقان عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك». وما روي عنهم (عليهم‌السلام) : «ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» الى غير ذلك من الأخبار ، وحينئذ فما ذهب اليه ذلك البعض ـ من عدم مشروعية الاحتياط ـ خروج عن سواء

__________________

(١) روى هذه الاخبار في الوسائل في باب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

٧٦

ذلك الصراط ، حيث قال : «ان الاحتياط ليس بحكم شرعي فلا يجوز العمل بمقتضاه ، بل الواجب ان ما يعمل به هو ما ساق اليه الدليل ورجحه. وكلما ترجح عنده تعين عليه وعلى مقلده العمل به ، والعمل بالاحتياط عمل بما لم يؤد إليه الدليل» غفلة عما فصلته تلك الأخبار التي ذكرناها وأجملته هذه الأخبار التي تلوناها ، والدليل ـ كما رجح العمل بما ترجح في نظر الفقيه ـ رجح ايضا العمل بما فيه الاحتياط ، وقوله ـ : «انه ليس بدليل شرعي» على إطلاقه ـ ممنوع كما عرفت مما تلوناه. نعم لو كان ذلك الاحتياط إنما نشأ من الوساوس الشيطانية والأوهام النفسانية كما يقع من بعض الناس المبتلين بالوسواس ، فالظاهر من الأخبار تحريمه كما ورد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله : «ان الوضوء مد والغسل صاع ، وسيأتي أقوام يستقلون ذلك ، فأولئك على غير سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس» (١). ولانه مع اعتقاد شرعيته تشريع في الدين ، والله يهدي من يشاء الى صراطه المبين.

المقدمة الخامسة

في حكم الجاهل بالأحكام

وقد اختلف في ذلك كلام علمائنا الأعلام (أسكنهم الله تعالى أعلى درجة في دار السلام) فالمشهور بينهم عدم المعذورية إلا في أحكام يسيرة كحكمي الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، وفرعوا على ذلك بطلان عبادة الجاهل ـ وهو عندهم من لم يكن مجتهدا ولا مقلدا ـ وان طابقت الواقع ، حيث أوجبوا معرفة واجبها وندبها وإيقاع كل منهما على وجهه. وان تلك المعرفة لا بد أن تكون عن اجتهاد أو تقليد ، فصلاة المكلف ـ بدون أحد الوجهين ـ باطلة عندهم وان طابقت الواقع وطابق اعتقاده

__________________

(١) رواه في الوسائل في باب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء.

٧٧

وإيقاعه الواجب والندب ـ ما هو المطلوب شرعا.

وذهب جمع من المتأخرين ومتأخريهم إلى معذورية الجاهل مطلقا إلا في مواضع يسيرة ، حتى حكم بعض متأخري المتأخرين (١) بصحة صلاة العوام كيف كانت ، واقتصر بعض على ما طابق الواقع من ذلك.

وظواهر الأخبار في المسألة لا تخلو عن تناقض يحتاج الى مزيد كشف وبيان لترتفع به غشاوة الشبهة عن جملة الأذهان.

فمن الأخبار الدالة ـ على القول المشهور ـ قول ابي الحسن (عليه‌السلام) في مرسلة يونس بعد أن سأله السائل «هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون اليه؟ فقال : لا» (٢). وقول الصادق (عليه‌السلام) لحمران بن أعين في شي‌ء سأله عنه : «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» (٣). وقوله (عليه‌السلام) : «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا» (٤). وكذا يدل على ذلك الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم (٥) والأمر بالتفقه في الدين. ومما يدل على القول الآخر أخبار مستفيضة متفرقة في جزئيات الأحكام ،

__________________

(١) البعض الأول هو المحدث السيد نعمة الله الجزائري ، والثاني هو المحقق المولى الأردبيلي (قدس‌سرهما) وقد نقلنا كلامهما بلفظة في كتاب الدرر النجفية ، وذكرنا ما يتعلق به نفيا وإثباتا ، وأشبعنا الكلام في المسألة في الكتاب المشار اليه حسبما يراد (منه قدس‌سره).

(٢) المروي في الوسائل في باب ـ ٧ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوزان يقضي به من كتاب القضاء.

(٣) المروي في الكافي في باب (سؤال العالم وتذاكره) من كتاب فضل العلم.

(٤) في حديث ابى جعفر الأحول عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) المروي في الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوزان يقضى به من كتاب القضاء.

(٥) المروية في الوسائل في باب ـ ٤ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوزان يقضى به من كتاب القضاء.

٧٨

فمن ذلك ما ورد في باب الحج وهو أخبار كثيرة.

(منها) ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «من لبس ثوبا لا ينبغي له لبسه وهو محرم ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شي‌ء عليه».

ومرسلة جميل (٢) عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما‌السلام) : «في رجل نسي أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها وطاف وسعى؟ قال : تجزيه نيته إذا كان قد نوى ذلك فقد تم حجه وان لم يهل».

ورواية عبد الصمد بن بشير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي وعليه قميصه ، فوثب عليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا : شق قميصك وأخرجه من رجليك ، فان عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجك فاسد. فطلع أبو عبد الله (عليه‌السلام) فقام على باب المسجد فكبر واستقبل الكعبة ، فدنا الرجل من ابي عبد الله (عليه‌السلام) وهو ينتف شعره ويضرب وجهه ، فقال له أبو عبد الله (عليه‌السلام) : اسكن يا عبد الله ، فلما كلمه وكان الرجل أعجميا ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ما تقول؟ قال : كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شي‌ء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وانزعه من قبل رجلي وان حجي فاسد وان علي بدنة. فقال له : متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال : قبل ان ألبي. قال : فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل ، اي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شي‌ء عليه. طف بالبيت أسبوعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه‌السلام) واسع

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٨ ـ من أبواب بقية كفارات الإحرام من كتاب الحج.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٠ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الحج.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٤٥ ـ من أبواب تروك الإحرام من كتاب الحج.

٧٩

بين الصفا والمروة وقصر من شعرك ، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع كما يصنع الناس».

ومن ذلك ـ ما ورد في النكاح في العدة. ومنه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة (١) وبمضمونها روايات عديدة (٢).

ومن ذلك ـ ما ورد في الحدود كموثقة عبد الله بن بكير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) : «في رجل شرب الخمر على عهد ابي بكر وعمر. واعتذر بجهله بالتحريم ، فسألا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فأمر (عليه‌السلام) بان يدار به على مجالس المهاجرين والأنصار ، وقال : من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه. ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله». وبمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة.

ومن ذلك ـ ما ورد في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٤) وهذا من جملة ما استثناه من قال بعدم معذورية الجاهل ، وما ورد في من أقام عشرة أيام وصلى قصرا جاهلا كصحيحة منصور بن حازم (٥) وكذا ما ورد في من جهر في موضع الإخفات وأخفت في موضع الجهر (٦) وهذا أيضا أحد ما استثنوه.

__________________

(١) في صحيفة ٧٣ سطر ١١.

(٢) رواها في الوسائل في باب ـ ١٧ ـ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها من كتاب النكاح.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ١٠ ـ من أبواب حد المسكر من كتاب الحدود والتعزيرات.

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ١٧ ـ من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.

(٥) المروية في باب ـ ١٧ ـ من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.

(٦) رواه في الوسائل في باب ـ ٢٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة من كتاب الصلاة.

٨٠