الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص والدلالة الالتزامية ولا بد لنا ان نتكلم على ما لا بد منه في مطالب :

(المطلب الأول) ـ في البراءة الأصلية ، اعلم ان الأصل ـ كما ذكره جملة من الفضلاء ـ يطلق على معان (أحدها) ـ الدليل كما يقال : الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة و (ثانيها) ـ الراجح كقولهم : الأصل في الكلام الحقيقة و (ثالثها) ـ القاعدة كقولهم : الأصل في البيع (١) اللزوم ، والأصل في تصرفات المسلمين الصحة.

و (رابعها) ـ الاستصحاب كقولهم : إذا تعارض الأصل والظاهر فالأصل مقدم. والأصل فيما نحن فيه اما بمعنى الراجح ، والمراد منه ما يترجح إذا خلى الشي‌ء ونفسه ، بمعنى انه متى لوحظت الذمة من حيث هي هي مع قطع النظر عن التكليفات فان الراجح براءتها ، كما في قولهم : الأصل في الكلام الحقيقة ، بمعنى ان الراجح ذلك لو خلي الكلام ونفسه من غير قرينة صارفة عن معناه الموضوع له. ويحتمل ان يكون الأصل هنا ايضا بمعنى استصحاب الحالة التي كان عليها الشي‌ء قبل التكليف أو قبل حال الاختلاف كاستصحاب براءة الذمة قبل ذلك. ومن هنا صرح بعضهم بان الوجه في التمسك بالبراءة الأصلية من حيث ان الأصل في الممكنات العدم.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المعنى الأول من هذه المعاني مما لا اشكال ولا خلاف فيه ، وكذا الثاني في غير البراءة الأصلية. واما فيها ففيه ما سيتضح لك من التفصيل

__________________

(١) وما ذكروه ـ من قولهم : الأصل في البيع اللزوم ، حتى انهم كثيرا ما يتمسكون به في إثبات بيع أو عقد مشتمل على شرط مختلف في صحته وفساده ـ ففيه ان ظاهر الاخبار ترده ، فان العقود المشتملة على القيود بعضها مما دلت الاخبار على صحته وبعضها مما دلت على فساد الشرط دون العقد ، والحكم بالصحة والفساد تابع لما ورد عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) كما أشرنا الى ذلك في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات هذا الكتاب (منه رحمه‌الله).

٤١

ان شاء الله تعالى. واما الثالث فان كانت تلك القاعدة مستفادة من الكتاب والسنة فلا إشكال في صحة البناء عليها ، ومنه قولهم : الأصل في الأشياء الطهارة ، أي القاعدة المستفادة من النصوص ـ وهي قولهم (عليهم‌السلام) : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (١) ـ تقتضي طهارة كل شي‌ء ، واما الرابع فهو محل الاختلاف في المقام ومرمى سهام النقض والإبرام.

ثم انه يجب ان يعلم ان الأصل بمعنى النفي والعدم إنما يصح الاستدلال به ـ على تقديره ـ على نفي الحكم الشرعي لا على إثباته ، ولهذا لم يذكر الأصوليون البراءة الأصلية في مدارك الأحكام الشرعية ، وحينئذ فإذا كانت أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمة من جهة أخرى امتنع الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الثوبين أو الإناءين بعينه واشتبه بالآخر ، فإنه لا يصح الاستدلال على طهارة كل واحد منهما بان يقال : الأصل عدم نجاسته ، فإنه ينتج من ذلك الحكم بطهارتهما ويلزم منه اشتغال الذمة بالنجاسة لمعلوميتها كما عرفت وان جهل تعيينها ، ولذلك فروع (٢) كثيرة في أبواب

__________________

(١) الوارد بهذا المضمون هو موثق عمار الذي رواه الشيخ في التهذيب في كيفية غسل الأواني من باب (تطهير الثياب وغيرها من النجاسات) من كتاب الطهارة. ورواه في الوسائل في باب ـ ٣٧ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة. وإليك نصه : «عن محمد بن احمد بن يحيى عن احمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك».

(٢) (منها) ـ ما لو اشتغلت ذمة المكلف بصلاة من الخمس غير معينة ، فإنه لا يصح ان يقال : الأصل براءة الذمة من كل فرد فرد من تلك الأفراد المعلومة الاشتغال وان جهل محله ، بل الواجب كما ورد به النص الإتيان بجميع الافراد المشكوكة ، ومثله الشك في الجمعة والظهر ، والشك في القبلة. وفي جميع هذه المواضع يجب الاحتياط بما يوجب الخروج من عهدة التكليف. نعم لو حصل الشك مع ذلك الواجب في محرم كما إذا وجب عليه وطء

٤٢

الفقه يقف عليها المتدبر. والسر في ذلك ان حجية الأصل في النفي والعدم إنما هو من حيث لزوم قبح تكليف الغافل كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى ، وهذا لا يجري في إثبات الحكم به ، ولا دليل سوى ذلك ، فيلزم إثبات حكم بلا دليل.

إذا تقرر ذلك فاعلم ان البراءة الأصلية على قسمين : (أحدهما) ـ انها عبارة عن نفي الوجوب في فعل وجودي الى ان يثبت دليله ، بمعنى ان الأصل عدم الوجوب حتى يثبت دليله. وهذا القسم مما لا خلاف ولا إشكال في صحة الاستدلال به والعمل عليه ، إذ لم يذهب أحد الى أن الأصل الوجوب ، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق وللأخبار الدالة على ان «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١). و «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٢). و «رفع القلم عن تسعة أشياء ، وعد منها

__________________

الزوجة بنذر وشبهه واشتبهت بالأجنبية ، امتنع الاحتياط بالإتيان بالأفراد المشكوكة ، لتحريم وطء الأجنبية مطلقا معلومة كانت أو مشتبهة. وللزوم الجمع بين النقيضين. وهكذا في كل موضع تردد الفعل بين الوجوب والتحريم ، كما لو وجب قتل شخص قصاصا فاشتبه بمحترم ونحو ذلك ، فإنه لا مجال هنا لأصالة الوجوب ولا للاحتياط ، ويفهم من بعض الاخبار ـ كما ذكرنا في المقدمة الرابعة ـ ان الاحتياط هنا بالترك (منه رحمه‌الله).

(١) المروي في الوسائل عن التوحيد والكافي في باب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء. ولكن رواية الكافي ليس فيها كلمة (علمه).

(٢) الشهاب في الحكم والآداب ص ٧ (في الألف الموصول والمقطوع) للقاضي محمد بن سلامة والذي وقفنا عليه مما يوافقه في المعنى من كتبنا ـ هي رواية السفرة المروية في الكافي في باب ٤٨ ـ من كتاب الأطعمة وفي الوسائل في باب ٢٣ ـ من كتاب اللقطة. وإليك نص الرواية كما في الكافي :

«علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها ، وفيها سكين. فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : يقوم ما فيها ثم يؤكل ، لانه يفسد وليس له بقاء ، فان جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتى يعلموا».

٤٣

ما لا يعلمون» (١). و (ثانيهما) ـ انه عبارة عن نفي التحريم في فعل وجودي الى ان يثبت دليله بمعنى ان الأصل الإباحة وعدم التحريم في ذلك الفعل الى ان يثبت دليل تحريمه ، وهذه هي البراءة الأصلية التي وقع النزاع فيها نفيا وإثباتا ، فالعامة كملا وأكثر أصحابنا على القول بها والتمسك في نفي الأحكام بها ، حتى طرحوا في مقابلتها الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الأخبار الموثقة ، كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية كالمسالك والمدارك ونحوهما ، فالأشياء عندهم اما حلال أو حرام خاصة ، وجملة علمائنا المحدثين وطائفة (٢) من الأصوليين على وجوب التوقف والاحتياط ، فالأشياء عندهم مبنية على التثليث (٣) (حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك) ، وربما نقل ايضا القول بأن الأصل التحريم الى ان تثبت الإباحة ، وهو ضعيف.

والحق ـ الحقيق بالاتباع ، وهو المؤيد باخبار أهل الذكر (صلوات الله عليهم) ـ هو القول الثاني ، ولنا عليه وجوه :

__________________

(١) رواه في الوسائل عن الكافي والتوحيد والخصال في باب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد. وإليك نص الحديث كما

عن التوحيد والخصال : «عن احمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد ابن عيسى عن حريز بن عبد الله عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا اليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».

(٢) منهم الشيخ (قدس‌سره) في كتاب العدة ، فإنه قد اختار القول بالتثليث في الأحكام ومنع من الاعتماد على البراءة الأصلية وأطال في الاستدلال ، ونقل ذلك أيضا في الكتاب المذكور عن شيخه المفيد (رضى الله عنه) وقد نقلنا شطرا من كلامه في المسألة في كتاب الدرر النجفية. ومثله ايضا المحقق في المعتبر (منه رحمه‌الله).

(٣) نقله الشيخ في كتاب العدة عن طائفة من أصحابنا الإمامية البغداديين (منه قدس‌سره).

٤٤

(الأول) ـ ان ما عداه قول بلا دليل فيجب إطراحه ، وأدلة الخصم لا تنهض بالدلالة كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى.

(الثاني) ـ استفاضة الاخبار بان لله في كل واقعة حكما شرعيا مخزونا عند أهله حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ، وحينئذ فإذا كان جميع الأحكام قد ورد فيها خطاب شرعي فكيف يصح التمسك بأصالة العدم والاستدلال به؟ نعم الاستدلال بذلك انما يتجه على مذهب المخالفين القائلين بأن جميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أظهره للصحابة ولم يكتم شيئا منه لا عن الأبيض ولا الأسود ، ولا خص أحدا دون أحد بشي‌ء من علومه ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء شي‌ء مما جاء به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فالمجتهد إذا فحص وفتش عن الأدلة الشرعية ولم يقف على دليل ذلك الحكم يجب عنده الجزم بنفي ذلك الحكم ويكون التمسك بالبراءة الأصلية على نفيه ، كما قالوا : عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي لعدم الحكم ، وبعبارة أخرى عدم وجود الدليل دليل على العدم. واما عندنا معاشر الإمامية فحيث استفاض في أخبارنا ـ بل صار من ضروريات ديننا ـ إنه أودع علومه عند أهل بيته وخصهم بها دون غيرهم ، واستفاض ايضا انه لم يبق شي‌ء من الأحكام جزئي ولا كلي إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي وحكم إلهي وان جميع ذلك عندهم ، وانهم كانوا في زمن تقية وفتنة ، فقد يجيبون عن السؤال بما هو الحكم الشرعي الواقعي تارة وقد يجيبون بخلافه تقية وقد لا يجيبون أصلا ، فلا يتجه اجراء هذا الكلام ولا صحته في هذا المقام (١) ، ولا تمام هذه القاعدة ولا ما يترتب عليها من الفائدة ، ولا يمكن التمسك بالعدم الأصلي الذي هو عبارة عن عدم تعلق التكليف

__________________

(١) إذ الفرض انه لا حكم من الأحكام إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي وان كان لم يصل إلينا ، فكيف يقال : الأصل براءة الذمة وخلوها لعدم الدليل واقعا ، بمعنى انها إذا لوحظت مع قطع النظر عن تعلق التكليف فالراجح الحكم بخلوها وبراءتها؟ (منه رحمه‌الله).

٤٥

ووقوعه بالكلية. وما ذكرنا سابقا ـ من صحة الاستدلال بالقسم الأول من قسمي البراءة الأصلية على نفي الوجوب في فعل وجودي ـ لا باعتبار عدم الحكم واقعا بل لعدم وصول الحكم وللزوم تكليفنا بذلك مع عدم العلم بالحكم للحرج المنفي بالآية والرواية ، وللاخبار المشار إليها ثمة. نعم ما ذكروه يتم عندنا فيما تعم به البلوى من الأحكام كما نبه على ذلك جملة من علمائنا الاعلام (١) واليه أشار المحقق في المعتبر حيث قال في بيان معاني الاستصحاب : «الثاني ـ ان يقال : عدم الدليل على كذا فيجب نفيه. وهذا يصح فيما يعلم انه لو كان هناك دليل لظفر به ، اما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف» انتهى.

(الثالث) ـ استفاضة الأخبار بتثليث الأحكام «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك». ولو تم ما ذكروا من العمل بالبراءة الأصلية المقتضي لدخول ما دلت عليه في الحلال البين ، لم يبق للقسم الثالث فرد يندرج تحته ولما كان للتثليث وجه ، بل يتعين القول بالتثنية وهو الحلال والحرام خاصة ، والاخبار بخلافه.

(الرابع) ـ الأخبار المتكاثرة بل المتواترة معنى انه مع عدم العلم بالحكم الشرعي يجب السؤال منهم (عليهم‌السلام) أو من نوابهم ، والا فالتوقف والوقوف على جادة الاحتياط. ولو كان للعمل بالبراءة الأصلية أصل في الشريعة لما كان لأمرهم (عليهم‌السلام) بالتوقف وجه.

__________________

(١) من ان عدم الدليل يدل على العدم ـ والتمسك بالبراءة الأصلية على عدم الحكم واقعا ـ يتم عندنا في الأحكام التي تعم بها البلوى ، كوجوب قصد السورة ووجوب نية الخروج من الصلاة بالتسليم ونحوهما ، فان المحدث الماهر ـ إذا تتبع الأدلة حق تتبعها في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ، ولم يظفر بما يدل على ذلك ـ يحصل له الجزم أو الظن القوى عند بعض بعدم الحكم. وتحقيق القول فيما اجملنا هنا يرجع فيه الى كتابنا الدرر النجفية ، حيث ان المسألة فيه قد أعطيناها حقها من التحقيق ووفيناها ما هو بها حقيق (منه رحمه‌الله).

٤٦

(الخامس) ـ انه قد ورد عنهم (عليهم‌السلام) جملة من الطرق لترجيح الاخبار كما تقرر في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ، ولم يذكروا البراءة الأصلية في جملة تلك الطرق ، بل قد اشتملت مقبولة عمر بن حنظلة بعد التوافق في جميع طرق الترجيح على الإرجاء حتى يلقى امامه (١) ، معللا له بان «الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». وحينئذ فإذا كان الواجب مع الاتفاق في جميع تلك الطرق هو ترك الحكم من كل منهما والتوقف فأي ترجيح بأصالة البراءة التي ذكروها؟ إذ لو كانت دليلا شرعيا على العدم وموجبة لترجيح ما اعتضد بها لترجح بها هنا أحد الجانبين وما ربما يظهر من كلام بعض الأجلاء ـ من أن ذلك مخصوص بالمنازعات في الأموال والفرائض والمواريث كما يعطيه صدر الخبر وهو قول السائل : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث». ـ ففيه (أولا) ـ ان خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب كما تقرر عندهم. و (ثانيا) ـ ان هذه الترجيحات التي ذكرها (عليه‌السلام) لم يخصها أحد من الأصحاب بالاخبار المتعارضة في خصوص هذه الأشياء التي ذكرها بل يجرونها في كل حكم تعارضت فيه الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار وذاق لذيذ تلك الثمار.

احتج بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن القول بالبراءة الأصلية مما تدل عليه الآية والاخبار ، كقوله تعالى : «خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» (٢) وقول الصادق

__________________

(١) ومن ذلك ايضا ما ورد في موثقة سماعة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه». فتراه في هذا الخبر أيضا أوجب التوقف الذي هو ساحل الهلكة ولم يرجح بأصالة البراءة ولا بغيرها (منه رحمه‌الله).

(٢) سورة البقرة آية ٢٩.

٤٧

(عليه‌السلام) : «كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١). قال : على انا لا نعني بالبراءة الأصلية عدم التكليف بالكلية ، لظهور فساده بما استفاض في الاخبار انه لا حكم من الأحكام الا وقد ورد فيه خطاب شرعي ، وانما نعني بها عدم تعلق التكليف بنا وأصالة براءة الذمة منه ، لعدم الوقوف على دليله ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان. ولعين ما تقدم من الاخبار المشار إليها في المعنى الأول من معاني البراءة الأصلية. وأجاب بتخصيص الشبهة والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الاخبار ، واما ما لم يرد فيه نص فليس من الشبهة في شي‌ء ، وعلى تقدير تسليم كونه شبهة وشمول تلك الاخبار له يخرج بالأخبار الدالة على ان

«كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي» ونحوه.

وما ذكره (قدس‌سره) محل نظر ، أما الآية المذكورة فالجواب عنها (أولا) ـ ما عرفت في المقام الأول من ان محل الاستدلال من القرآن العزيز هو ما كان محكم الدلالة. والآية المذكورة مجملة محتملة لمعان عديدة كما سيظهر لك و (ثانيا) ـ انه قد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال : «خلق لكم ما في الأرض لتعتبروا به. الحديث». وعلى هذا يسقط الاستدلال رأسا و (ثالثا) ـ ان غاية ما تدل عليه انه (سبحانه) خلق ما في الأرض لأجل منافع العباد الدينية والدنيوية بأي وجه اتفق ، وذلك لا يستلزم اباحة كل شي‌ء ، ومجرد خلقه للانتفاع لا يستلزم حلية ما لم يرد في حليته نص ، لجواز الانتفاع به على وجه آخر ، إذ لا شي‌ء من الأشياء إلا وفيه وجوه عديدة من المنافع. ولئن سلمنا الدلالة فالتخصيص قائم بما قدمنا من الأخبار كما قد خصت بغيرها مما لا يخالف فيه الخصم.

__________________

(١) المروي في الفقيه في باب (وصف الصلاة من فاتحتها الى خاتمتها).

وفي الوسائل في باب ـ ١٩ ـ من أبواب القنوت من كتاب الصلاة. وفي باب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

٤٨

واما الرواية فمن وجوه أيضا عديدة : (أحدها) ـ ان هذا الخبر وما ضاهاه مما استدلوا به اخبار آحاد لا تفيد إلا الظن ، والمسألة من الأصول المطلوب فيها القطع عندهم. و (ثانيها) ـ ان هذا الخبر وما شاكله موافق للعامة ، لدلالتها على التثنية في الأحكام بالحل والتحريم وانه لا وجود للتشابه فيها ، وانه لا توقف ولا احتياط في شي‌ء من الأحكام كما هو مذهبهم ، والاخبار التي قدمناها دالة على التثليث والتوقف ووجوب الاحتياط في بعض وهو المتشابه ، وقد تقرر في أخبارنا وجوب الأخذ بخلافهم فان الرشد فيه. و (ثالثها) ـ ان المفروض في الخبر المذكور عدم وجود النهي وعدم حصول العلم ، والحال ان النهي موجود فيما أشرنا إليه آنفا من الاخبار وهو النهي عن القول بغير علم في الأحكام الشرعية والنهي عن ارتكاب الشبهات ، وحصل ايضا العلم منها وهو العمل بالاحتياط في بعض افراد موضع النزاع والتوقف في بعض ، وعلى هذا يكون مضمون هذا الخبر وأمثاله مخصوصا بما قبل إكمال الشريعة أو بمن لم يبلغه النهي العام المعارض لهذه الاخبار ، فيبقى الآن مضمونها غير موجود عند العلماء العارفين بمعارضاتها. و (رابعها) ـ الحمل على الخطابات الشرعية ، وحاصل معناه : ان كل خطاب شرعي فهو باق على إطلاقه وعمومه حتى يرد فيه نهي في بعض افراده يخرجه عن ذلك الإطلاق ، مثل قولهم : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (١). و «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه» (٢). ونحو ذلك من القواعد الكلية والضوابط الجلية. و (خامسها) ـ ان العمل بهذا الخبر وما شابهه خلاف الاحتياط وما يقابلها موافق للاحتياط ، فإنه لا خلاف في رجحان

__________________

(١) تقدم الأصل في ذلك في صحيفة (٤٢).

(٢) قد روى الأحاديث الواردة بهذا المضمون في الوسائل في باب ـ ٣٥ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة ، وفي باب ـ ٦١ ـ من أبواب الأطعمة المباحة من كتاب الأطعمة والأشربة ، وفي باب ـ ٣١ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.

٤٩

الاحتياط في المقام وإنما الخلاف في وجوبه أو استحبابه ، فالنافون للبراءة الأصلية على الوجوب والمثبتون لها على الاستحباب ، والأخبار الدالة على الأمر بالاحتياط في الدين أوضح دلالة وأكثر عددا فالعمل بها أرجح البتة.

وأما قوله : على انا لا نعني بأصالة البراءة ، الى آخره. فان فيه انه خروج عن ظاهر العبارة بل عن تصريحاتهم بذلك كما لا يخفى على من راجع كلامهم ، فان مرادهم بالإباحة هي الإباحة الأصلية التي هي عبارة عن عدم تعلق التكليف ، لكن هذا القائل حيث استشعر الإيراد بالأخبار التي أشرنا إليها التجأ إلى القول بما ذكره ، مع ان فيه ايضا ان الإباحة الشرعية أحد الأحكام الشرعية المتوقفة ايضا على الدليل ، ولا دليل على اباحة ما لا نص فيه ، والآية والخبر اللذان هما عمدة أدلة أولئك القائلين بالحجية قد عرفت ما فيهما.

وأما الأخبار التي استند إليها في عدم تعلق التكليف بنا حتى يظهر دليله ، فهي محمولة على المعنى الأول من معنيي البراءة الأصلية كما ينساق للناظر من ظواهر ألفاظها لا المعنى الثاني منهما ، لمعارضتها بالأخبار المستفيضة التي أشرنا إليها آنفا من حيث دلالتها على وجوب الكف والتثبت في كل فعل وجودي لم نقطع بجوازه عند الله تعالى.

واما جوابه ـ بتخصيص الشبهة والتثليث في الأحكام بما تعارضت فيه الاخبار بناء على ظنه انحصار الدليل في مقبولة عمر بن حنظلة ونحوها ـ ففيه ان الاخبار دالة على ما هو أعم بل صريحة في الفرد الذي ندعيه ، ومن ذلك ما رواه في الفقيه (١) من خطبة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) حيث قال : «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها ، ثم قال (عليه‌السلام) : حلال بين وحرام بين وشبهات

__________________

(١) في باب (نوادر الحدود) وفي الوسائل في باب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

٥٠

بين ذلك. الحديث». ومن المعلوم ان السكوت عنها إنما هو باعتبار عدم النص عليها بالكلية. وفي حديث الطيار عن الصادق (عليه‌السلام) (١) : «لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون (٢) الا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد». وبمضمونه أخبار عديدة. وحينئذ فلا يتجه ما ذكره من إخراج ما لم يرد فيه نص من الشبهة على تقدير شمول تلك الأخبار ، فإن الدليل على دخوله في الشبهة ليس مختصا بعموم اخبار الشبهة كما توهمه ، بل خصوص هذه الاخبار الناصة عليه بخصوصه الآمرة بالتوقف فيه والرد إلى أصحاب العصمة (سلام الله عليهم).

واما الاخبار التي ادعى الاستناد إليها والتخصيص بها فقد عرفت وجه الجواب عنها مفصلا. (المطلب الثاني) ـ في الاستصحاب ، اعلم انهم صرحوا بان الاستصحاب يقع على أقسام أربعة : (أحدها) ـ استصحاب نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة منه الى ان يظهر دليله ، وهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية التي تقدم الكلام عليها بمعنييها. و (ثانيها) ـ استصحاب حكم العموم الى ان يقوم المخصص ، وحكم النص الى ان يرد الناسخ. و (ثالثها) ـ استصحاب إطلاق النص الى ان يثبت المقيد. و (رابعها) ـ استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، بمعنى انه يثبت حكم في وقت ثم يجي‌ء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك

__________________

(١) المروي في الوسائل في باب ـ ٤ و ٨ و ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) وهذا القسم من افراد الشبهة ربما عبر عنه بما ذكر في هذا الخبر ، وربما عبر عنه تارة بالمبهمات كما في خبر عبد الرحيم القصير وصفوان وموسى الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) وربما عبر عنه تارة بالمبهمات المعضلات كما في الخطبة المروية عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال في جملة وصف أبغض الخلق الى الله : «وان نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به. فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت ، فهو خباط عشوات ركاب شبهات. الحديث». (منه رحمه‌الله).

٥١

الحكم فيه ، فيحكم ببقائه على ما كان ، استصحابا لتلك الحالة الأولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لا خلاف ولا إشكال في حجيته بالمعنى الثاني والثالث ، لان مرجعها الى الاستدلال بعموم النص وإطلاقه ، وإنما الاشكال والخلاف في أحد معنيي البراءة الأصلية. وقد تقدم وفي المعنى الرابع ، وهو محل الخلاف في المقام ومنتصل سهام النقض والإبرام ، فجملة من علمائنا الأصوليين بل أكثرهم على ما نقله البعض على القول بالحجية ، والمشهور بين المحدثين وجملة من علمائنا الأصوليين ـ بل نقل بعض انه مذهب أكثرهم ايضا ـ على العدم ، وهو المنقول عن الشيخ والسيد المرتضى والمحقق. وهو اختيار صاحبي المعالم والمدارك. ومثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم وجد الماء في أثنائها ، فإن الاتفاق واقع على وجوب المضي فيها قبل الرؤية ، لكن هل يستمر على فعلها والحال كذلك أم يستأنف؟ مقتضى الاستصحاب الأول.

احتج القائلون بالحجية بوجوه : (أحدها) ـ ان المقتضي للحكم الأول ثابت والعارض لا يصلح رافعا له ، فيجب الحكم بثبوته في الثاني. وجوابه ان صلاحية العارض للرفع وعدمها فرع الثبوت في الثاني ، فإن غاية ما دل عليه الدليل ثبوت الحكم في الزمن الأول ، وثبوته في الثاني يحتاج الى دليل.

و (ثانيها) ـ ان الثابت أولا قابل للثبوت ثانيا ، وإلا لانقلب من الإمكان الذاتي إلى الاستحالة ، فيجب ان يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم إلا بمؤثر ، لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه الى الآخر إلا لمؤثر ، فإذا كان التقدير عدم العلم بالمؤثر يكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب. وجوابه ان توقف الانعدام على مؤثر فرع الوجود بالفعل لا إمكان الوجود.

وبالجملة فالمانع مستظهر ، قال سيدنا المرتضى (قدس‌سره) ـ في الاحتجاج

٥٢

على إبطال العمل بالاستصحاب ـ ما حاصله : ان في الاستصحاب جمعا بين حالين مختلفين في حكم من غير دلالة ، فانا إذا كنا أثبتنا الحكم في الحالة الأولى بدليل فالواجب ان ننظر ، فان كان الدليل يتناول الحالين ، سوينا بينهما فيه إلا أنه ليس من الاستصحاب في شي‌ء ، وان كان تناول الدليل إنما هو للحالة الأولى فقط والثانية عارية عن الدليل ، فلا يجوز إثبات مثل الحكم لها من غير دليل ، وجرت هذه الحالة مع الخلو عن الدليل مجرى الأولى لو خلت من دلالة ، فإذا لم يجز إثبات الحكم للأولى إلا بدليل فكذلك الثانية. انتهى. وهو جيد.

و (ثالثها) ـ ان الفقهاء عملوا باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، والموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف ، وذلك كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه يعمل على يقينه. وجوابه انه قياس مع وجود الفارق ، لان الاستصحاب المقاس عليه من القسم الثاني من الأقسام المتقدمة ، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر. (أما أولا) ـ فإن محل الاستصحاب المتنازع فيه هو الحكم الشرعي ، وذلك القسم محل الاستصحاب فيه جزئيات الحكم الشرعي ، والشارع قد أوجب في الحكم الشرعي البناء على العلم واليقين دون جزئيات الحكم ، فان الحكم فيها مختلف كما أوضحناه في محل أليق (١) و (اما ثانيا) ـ فلأن الاستصحاب المقاس عليه ليس هو في التحقيق من الاستصحاب في شي‌ء كما صرح به علم الهدى (رضي‌الله‌عنه) فيما تقدم من كلامه ، بل هو عمل بإطلاق الدليل أو عمومه ، لأن قوله ـ : «لا تنقض اليقين بالشك. ولا تنقضه إلا بيقين آخر». وقوله : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر». ونحو ذلك ـ دال على ثبوت تلك الأحكام في جميع الأحوال والأزمان الى ان يحصل يقين وجود الرافع ، بخلاف الاستصحاب المتنازع فيه ، فان الدليل ـ كما عرفت ـ إنما دل

__________________

(١) قد أوضحنا ذلك حسبما يراد على وجه لا يتطرق إليه الإيراد في كتاب الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وفقنا الله تعالى لإتمامه (منه قدس‌سره).

٥٣

على حكم الحال الاولى وسكت عن الثانية ، ولهذا سمي تعديته الى الحال الثانية حيث كانت عارية عن الدليل استصحابا ، ومن ثم ايضا جعل الاستصحاب دليلا برأسه مقابلا للسنة ، وبإبطال الأدلة المذكورة تنتفي الحجية ويزيد ذلك بيانا ايضا وجوه :

(الأول) ـ ان مفاد الاستصحاب ـ على ما ذكروه ـ إنما هو الظن ، وقد قامت الأدلة القاطعة ـ كما بسطنا الكلام عليه في كتاب المسائل ـ على ان الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى غير معتبر شرعا. على ان وجود الظن ايضا فيه ممنوع ، لان موضوع المسألة الثانية مقيد بالحالة الطارئة وموضوع المسألة الأولى مقيد بنقيض تلك الحالة ، فكيف يظن بقاء الحكم الأول؟

(الثاني) ـ انه لا يخفى ـ على من راجع الاخبار وغاص لجج تلك البحار ـ انه قد ورد من الشارع في بعض الصور حكم يوافق الاستصحاب بالمعنى الذي ذكروه وفي بعضها ما يخالفه. ومنه يعلم انه ليس حكما كليا ولا قاعدة مطردة تبنى عليه الأحكام ، ومن تأمل ـ في أحاديث مسألة المتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة التي هي المثال الدائر للاستصحاب ـ ظهر له صحة ما قلنا ، فان بعضها قد دل على انه ينصرف من الصلاة ويتوضأ ما لم يركع ، وبعضها على انه يمضي في صلاته مطلقا ، وبعضها على انه ينصرف بعد أن صلى ركعة ويتوضأ ويبني على ما مضى ، وجل الاخبار دال على الانصراف وان كان في بعضها (ما لم يركع) وبعضها (ولو بعد تمام الركعة) ولم يرد بالمضي إلا رواية محمد بن حمران ، فلو كان الاستصحاب ـ الذي اعتمدوه دليلا في الأحكام ومثلوا له بهذا المثال ـ دليلا برأسه. لوجب ـ على هذا المصلي بمقتضى ذلك ـ المضي في الصلاة ولزم طرح هذه الاخبار. وفيه من البطلان ما لا يحتاج الى البيان (١).

__________________

(١) ومثل ذلك مسألة من نوى الإقامة عشرا ثم بدا له. سواء كان بعد الصلاة أم قبلها فان مقتضى العمل بالاستصحاب وجوب التمام بنية الإقامة القاطعة للسفر والاستمرار على ذلك ، وان العزم على السفر بعد ذلك ولو قبل الصلاة تماما لا يزيل حكم نية الإقامة مع ان الاخبار فيه فصلت بالصلاة وعدمها ، فلو كان الاستصحاب قاعدة كلية يتحتم البناء عليها في الأحكام لما كان للتفصيل وجه في هذا المقام (منه رحمه‌الله).

٥٤

(الثالث) ـ ان هذا الموضع من المواضع الغير المعلوم حكمه تعالى فيها في غير ما دلت عليه النصوص ، وقد تواترت الاخبار في مثل ذلك بوجوب التوقف والاحتياط كما سلف تحقيقه. هذا. والمفهوم ـ من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على المدارك ـ الميل الى العمل بالاستصحاب على تفصيل ذكره هناك. وقد بسطنا الكلام على المسألة المذكورة في كتاب الدرر النجفية ، ونقلنا كلام المحدث المذكور وأوضحنا ما فيه من القصور ، وكذا كلام بعض الاعلام في المقام وما يتعلق به من النقض والإبرام ، وههنا مواضع من الأحكام قد حصل الشك في اندراجها تحت القسم الثالث الذي هو عبارة عن إطلاق النص ، أو القسم الرابع الذي هو محل النزاع سيأتي التنبيه عليها في مواضعها ان شاء الله تعالى.

(المطلب الثالث) ـ في لحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب. ومرجع ذلك الى دلالة المفهوم موافقة أو مخالفة.

وتفصيل القول في ذلك ان دلالة اللفظ على معناه اما ان تكون في محل النطق أو لا في محله.

والأول ـ اما ان يكون مطابقة أو تضمنا أو التزاما ، والا ولان صريح المنطوق والثالث غير صريحه ، وهو أقسام :

(أحدها) ـ ما يتوقف صدق المعنى أو صحته عليه ، ويسمى دلالة اقتضاء. و (الأول) ـ نحو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان. الحديث» (١). فان صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة ونحوها. و (الثاني) ـ نحو قوله سبحانه : «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» (٢) فإن صحة المعنى تتوقف على تقدير

__________________

(١) رواه في الوسائل في باب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد.

(٢) سورة يوسف آية ٨٢.

٥٥

الأهل ، لأن السؤال من القرية لا يصح عقلا ، وحجية هذا القسم ظاهرة إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به.

(الثاني) ـ ما لا يتوقف عليه صدق المعنى ولا صحته لكنه اقترن بحكم على وجه يفهم منه انه علة لذلك الحكم ، فيلزم حينئذ جريان الحكم المذكور في غير هذا المورد مما اقترن بتلك العلة ، ويسمى بدلالة التنبيه والإيماء ، نحو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أعتق رقبة» (١). حين قال له الأعرابي : واقعت أهلي في شهر رمضان. فإنه يفهم منه ان علة وجوب العتق هي المواقعة فتجب في كل موضع تحققت ، وكما إذا قيل له (عليه‌السلام) : صليت مع النجاسة فقال : أعد صلاتك. فإنه يفهم منه ان علة الإعادة هي النجاسة ، فتجب الإعادة حينئذ في كل موضع تحققت النجاسة ، والظاهر حجيته مع علم العلية وعدم مدخلية خصوص الواقعة في ذلك. وهذا أحد قسمي تنقيح المناط ، واليه أشار المحقق في المعتبر حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي ، وهو كذلك ، فان مدار الاستدلال في جل الأحكام الشرعية على ذلك ، إذ لو لوحظ خصوصية السائل أو الواقعة لم يثبت حكم كلي في مسألة شرعية إلا نادرا.

(الثالث) ـ ما لم يقصد عرفا من الكلام ولكنه يلزمه ، نحو قوله تعالى : «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» (٢) مع قوله سبحانه : «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» (٣) فإنه يعلم منه ان أقل مدة الحمل ستة أشهر ، والمقصود من الآية الأولى إنما هو بيان حق الوالدة وتعبها ، وفي الثانية بيان مدة الفصال ، ولكن قد لزم منهما بيان أقل الحمل ، وتسمى دلالة إشارة ، وحجيته ظاهرة مع قطعية اللزوم.

__________________

(١) هذا من حديث رواه في الوسائل عن الفقيه في باب ـ ٨ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك من كتاب الصيام.

(٢) سورة الأحقاف آية ١٥.

(٣) سورة لقمان آية ١٤.

٥٦

واعترض بعض الفضلاء على عد الدلالة الالتزامية بأقسامها الثلاثة من المنطوق واختار دخولها في المفهوم ، محتجا بان المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم ما دل عليه لا في محله ، والمطلوب بالدلالة الالتزامية ليس مدلولا عليه في محل النطق.

والثاني ـ وهو دلالة اللفظ لا في محل النطق ، وتسمى دلالة المفهوم ـ قسمان : مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة ، لان حكم غير المذكور اما موافق لحكم المذكور نفيا وإثباتا أو لا ، والأول الأول والثاني الثاني.

فالقسم الأول يسمى بفحوى الخطاب ولحن الخطاب. ومثلوه بقوله تعالى : «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...» (١) فإنه يعلم من حال التأفيف وهو محل النطق حال الضرب وهو غير محل النطق ويعلم اتفاقهما في الحرمة ، وقوله سبحانه : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (٢) فإنه يعلم منه حال ما زاد على الذرة والمجازاة عليه. ومرجعه الى التنبيه بالأدنى اي الأقل مناسبة على الأعلى اي الأكثر مناسبة ، وهو حجة إذا كان قطعيا ، بمعنى قطعية العلية في الأصل كالاكرام في منع التأفيف وعدم تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء ، وكون العلة أشد مناسبة في الفرع ، واما إذا كان ظنيا فيدخل في باب القياس المنهي عنه ، كما يقال : يكره جلوس الصائم المجبوب في الماء لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة. لعدم علم كون علة الكراهة للمرأة هو جذب الفرج الماء.

والقسم الثاني ويسمى دليل الخطاب ـ ينقسم الى مفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم الصفة. ومفهوم الحصر. ومفهوم العدد. ومفهوم الزمان والمكان.

وقد وقع الخلاف بين الأصوليين من أصحابنا وغيرهم في حجية المفهوم بجميع

__________________

(١) سورة الإسراء. آية ٢٣.

(٢) سورة الزلزال. آية ٧ و ٨.

٥٧

أقسامه ، فنفاه من أصحابنا المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وجماعة من العامة ، واليه مال المحدث السيد نعمة الله الجزائري والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس الله سرهما) وأدلة القوم ـ في كتب الأصول من الطرفين ـ متصادمة ، والاحتجاجات متعارضة ، الا ان الظاهر تبادر ذلك في كثير من الأمثلة الواردة في جملة منها. ولعل ذلك بحسب العرف ولم نقف في النصوص على ما يقتضي الحجية في شي‌ء منها سوى مفهوم الشرط ، فقد ورد في جملة منها ما يدل على ذلك.

فمنها ـ ما ورد عن الصادق (عليه‌السلام) في تفسير قوله تعالى : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» (١) قال : «والله ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم. فقيل : كيف ذاك؟ قال : انما قال : فعله كبيرهم هذا ان نطقوا ، وان لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم هذا شيئا».

و (منها) ـ ما رواه الشيخ في التهذيب في باب النفر من منى (٢) عنه (عليه‌السلام) في حديث قال فيه : «فان الله عزوجل يقول : «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» (٣) فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجل لكنه قال ومن تأخر فلا اثم عليه».

و (منها) ـ ما رواه في الكافي والفقيه عن عبيد بن زرارة (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٥) قال : ما أبينها من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه».

__________________

(١) سورة الأنبياء. آية ٦٣.

(٢) وفي الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب العود إلى منى ورمى الجمار والمبيت والنفر من كتاب الحج.

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٠٣.

(٤) وفي الوسائل في باب ـ ١ ـ من أبواب من يصح منه الصوم من كتاب الصيام.

(٥) سورة البقرة. آية ١٨٥.

٥٨

و (منها) ـ ما رواه في الفقيه في باب الشقاق. في الصحيح عن ابن ابي عمير عن هشام بن الحكم : «انه تناظر هو وبعض المخالفين في الحكمين بصفين : عمرو ابن العاص وأبي موسى الأشعري ، فقال المخالف : ان الحكمين لقبولهما الحكم كانا مريدين للإصلاح بين الطائفتين. فقال هشام : بل كانا غير مريدين للإصلاح بين الطائفتين. فقال المخالف : من اين قلت هذا؟ قال هشام : من قول الله تعالى في الحكمين : «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما» (١) فلما اختلفا ولم يكن بينهما اتفاق على أمر واحد ولم يوفق الله بينهما. علمنا انهما لم يريدا الإصلاح.».

ولا ريب ان هشاما من أجلاء ذوي الأفهام ورؤساء علماء الكلام ، ولهذا ان خصمه سلم اليه ولم يمكنه الرد عليه.

والعجب هنا من المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (طاب ثراه) في كتاب الفوائد الطوسية ، حيث بالغ في إنكار حجية مفهوم الشرط. وأورد جملة من الآيات القرآنية دالة على عدم جواز اعتبار مفهوم الشرط. مع ورود ما سردناه من الاخبار الدالة على ذلك بأوضح دلالة ، وانه قد تقرر ـ عند القائلين بحجيته ـ ان اعتبار المفهوم إنما يصار إليه إذا لم يكن للتعليق على الشرط فائدة سوى الانتفاء بانتفائه ، وما أورده من الآيات كلها من ذلك القبيل. هذا.

واما ما ذكروه ـ من الملازمة بالنسبة الى مقدمة الواجب وكذلك استلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ـ فلم نقف له في الاخبار على اثر ، مع ان الحكم في ذلك مما تعم به البلوى. وقد حققنا ـ في كتاب الدرر النجفية في مسألة البراءة الأصلية ، وأشرنا الى ذلك ايضا هنا في المطلب الأول من المقام الثالث ـ ان التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام بعد تتبع الأدلة وعدم الوقوف على ذلك

__________________

(١) سورة النساء. آية ٣٦.

٥٩

فيها حجة واضحة ، ولو كان الأمر كما ذكروا ، لورد عنهم (عليهم‌السلام) النهي عن أضداد الواجبات من حيث هي كذلك بالنسبة إلى مسألة استلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص. والتالي باطل. على انه لا يخفى ما في القول بذلك من الحرج المنفي بالآية والرواية كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (١) وحينئذ فيكون داخلا في باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» (٢).

تتميم نفعه عميم

جمهور الأصوليين من أصحابنا وغيرهم على حجية قياس الأولوية ومنصوص العلة ، ومثلوا للأول بدلالة تحريم التأفيف في الآية على تحريم أنواع الأذى الزائدة عليه. وسماه بعضهم بالقياس الجلي ، وأنكره المحقق وجمع من الأصحاب ، واختلفوا في وجه التعدية في الآية ، فذهب بعض إلى انه من قبيل دلالة المفهوم وهو مفهوم الموافقة كما تقدم تحقيقه ، وقيل انه منقول عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى ، لاستفادة ذلك المعنى من اللفظ من غير توقف على استحضار القياس ، وهو اختيار المحقق.

ويدل على عدم حجيته من الاخبار ما رواه الصدوق في كتاب الديات (٣) عن ابان (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال عشرة من الإبل. قلت : قطع اثنين : قال عشرون

__________________

(١) قال (قدس‌سره) ـ بعد الكلام في المسألة ـ ما صورته : لو كان كذلك لم يتحقق السفر إلا لأوحدي الناس ، لمصادمته غالبا لتحصيل العلوم الواجبة ، وقلما ينفك الإنسان عن شغل الذمة بشي‌ء من الواجبات الفورية. مع انه على ذلك التقدير موجب لبطلان الصلاة الموسعة في غير آخر وقتها. ولبطلان النوافل اليومية وغيرها. انتهى (منه رحمه‌الله).

(٢) الذي قد تضمنته خطبة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) المروية في الفقيه في باب (نوادر الحدود) المتقدمة في صحيفة (٥٠) وغيرها من الروايات.

(٣) في باب (الجراحات والقتل بين الرجال والنساء) وفي الوسائل في باب ـ ٤٥ ـ من أبواب ديات الأعضاء من كتاب الديات.

(٤) ابن تغلب.

٦٠