الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

(الثاني) ـ القول بالنجاسة لكن حكمه حكم المحل قبل الغسلة ، فيجب غسل ما اصابه ماء الغسلة الأولى مرتين والثانية مرة فيما يجب فيه المرتان ، وهكذا. ونقل هذا القول عن شيخنا الشهيد ومن تأخر عنه ، واليه مال المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) في شرح الإرشاد. والوجه في الفرق بين الغسلتين ـ باعتبار التعدد في الأولى دون الثانية فيما يجب غسله مرتين مثلا ـ هو ان المحل المغسول تضعف نجاسته بعد كل غسلة وان لم يطهر ، ولهذا يكفيه من العدد بعدها ما لا يكفي قبلها ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك ، لان نجاسته مسببة عنه ، فلا يزيد حكمه عليه. لان الفرع لا يزيد على الأصل. وهذا هو المقيد لتلك الأدلة الدالة على النجاسة على الإطلاق. قال والدي (نور الله تعالى مرقده) بعد نقل هذا الكلام : «أقول : هذا التفصيل بالفرق بين المنفصل من الغسلتين وان كان لا يفهم من الأخبار ، لكنه قريب من جهة الاعتبار» انتهى. وهو كذلك إلا انه بمجرده لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي.

(الثالث) ـ القول بالنجاسة ان كان من الغسلة الاولى والطهارة ان كان من الثانية فيما يغسل مرتين مثلا ، ومرجعه الى ان حكمه كالمحل بعد الغسلة. وهذا القول منقول عن الشيخ في الخلاف ، ونقل عنه ايضا تخصيص ذلك بتطهير الثوب. واما المستعمل في تطهير الآنية فلا ينجس عنده مطلقا سواء كان من الأولى أو من غيرها.

احتج في الخلاف ـ على ما نقل عنه ـ على الأول بأنه ماء قليل معلوم حصول النجاسة فيه فيجب ان يحكم بنجاسته. وبرواية العيص المتقدمة (١).

وعلى الثاني بأن الماء على أصل الطهارة ، والنجاسة تحتاج الى دليل. وبالروايات المتقدمة في مسألة الاستنجاء (٢).

وعلى الثالث بان الحكم بالنجاسة يحتاج الى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه. وبأنه لو حكم بالنجاسة لما طهر الإناء أبدا ، لأنه كلما غسل فما يبقى فيه من النداوة

__________________

(١) في الصحيفة ٤٧٧.

(٢) في الصحيفة ٤٦٨.

٤٨١

يكون نجسا ، فإذا طرح فيه ماء آخر نجس ايضا ، وذلك يؤدي الى ان لا يطهر ابدا.

وأورد عليه ان التوجيه الذي ذكره لنجاسة الغسلة الاولى في غسل الثوب ـ على تقدير تمامه ـ يقتضي نجاسة الثانية ، لأن المحل لم يطهر بعد ، وإلا لم يحتج إليها ، وإذا كان الحكم بنجاسته باقيا فالماء الملاقي له ـ والحال هذه ـ ينجس ايضا ، لعين ما ذكره في الاولى. والرواية التي تمسك بها ليس فيها تقييد بالأولى ، فإن كانت صالحة للاحتجاج فهي متناولة للصورتين. وما ذكره من التعليل لطهارة غسالة الإناء جار بعينه في غسالة الثوب كما لا يخفى.

ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الروض عن الشيخ في الخلاف انه احتج على طهارة الغسلة الأخيرة بأن المحل بعدها طاهر مع بقاء مائها فيه ، والماء الواحد لا تختلف أجزاؤه في الطهارة والنجاسة ، ثم أجاب عنه باختصاص المتصل بالعفو للحرج والضرورة بخلاف المنفصل. وانه يعارض بماء الاولى ، للقطع ببقاء شي‌ء منه. وبالجملة فكلام الشيخ (رحمه‌الله) في هذا المجال لا يخلو من الاشكال ، وتعليلاته لا تخلو من الاختلال.

والتحقيق ان يقال : انه لما قام الدليل على طهارة المحل بعد الغسل في ثوب كان أو إناء مع العصر فيما ورد فيه ، وكان من المعلوم عادة تخلف شي‌ء في المحل المغسول ، فإنه يجب الحكم بطهارة المحل مع ما تخلف فيه ، فان ثبت الدليل على نجاسة الغسالة وجب الحكم بها ، ولا ينافيه اتصالها سابقا بذلك الماء المتخلف ، واي بعد في ان يوجب الشارع اجتناب ما ينفصل من الغسالة عن الثوب والبدن ولا يوجبه في المتخلف والباقي منها؟ فإن أحكام الشرع تعبدية لا مجال للعقل فيها بوجه.

(الرابع) ـ القول بالطهارة مطلقا وان حكمها كالمحل بعد الغسل. وهو على طرف النقيض من القول الأول ، وقواه الشيخ في المبسوط ، وجعل الأحوط في تطهير الثياب النجاسة مطلقا ، والأحوط في تطهير الأواني النجاسة في الغسلة الاولى. والى القول بالطهارة مطلقا يميل ظاهر كلام الشهيد في الذكرى ، وربما كان الظاهر

٤٨٢

من كلام ابن بابويه في الفقيه اختياره ، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر ورافع الحدث الأكبر طاهر إجماعا ، ونقل عن المحقق الشيخ علي في بعض فوائده اختياره ، ويعزى الى جماعة من متقدمي الأصحاب اختياره ايضا كما نقله في المعالم. ومقتضى مذهب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) الطهارة بشرط ورود الماء على النجاسة ، واقتفاه ابن إدريس في ذلك ، واليه يميل كلام السيد السند في كتاب المدارك ، والمحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته عليه.

ونقل عن المبسوط الاستدلال عليه بان ما يبقى في الثوب جزء منه ، وهو طاهر إجماعا ، فيكون المنفصل ايضا كذلك.

وفيه زيادة على ما سلف ـ ان ما يبقى في الثوب ان أريد به ما هو أعم من الغسلة الأولى فالإجماع على طهارته ممنوع. وان كان من الأخيرة فلا يثبت به المدعى بتمامه.

ونقل السيد في المدارك عن جماعة من الأصحاب ان من قال بطهارة الغسالة اعتبر فيها ورود الماء على النجاسة ، قال : «وهو الذي صرح به المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في المسائل الناصرية. ولا بأس به ، لأن أقصى ما يستفاد من الروايات انفعال القليل بورود النجاسة عليه ، فيكون غيره باقيا على حكم الأصل» انتهى.

أقول : ومن ثم احتجوا على هذا القول ـ على ما نقله شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الروض ـ بأنه لو حكم بنجاسة القليل الوارد لم يكن لوروده اثر ، ومتى لم يكن له أثر لم يشترط الورود ، فيطهر النجس وان ورد على القليل ، ولانه لو حكم بنجاسته لم يطهر المحل بالغسل العددي. والتالي باطل بالإجماع. والملازمة واضحة.

وأنت خبير بما في الحجة الأولى كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في الكلام في المطهرات ، من ان جملة من علمائنا القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة اشترطوا في التطهير بالقليل وروده على النجاسة وان نجس بعد حصول التطهير به ، وحينئذ فالأثر المترتب على وروده حصول التطهير به وان تنجس بعد ذلك.

٤٨٣

واما الثانية فقد تقدم نقل جواب العلامة عن ذلك ـ وما أورد عليه ، وما أجبنا به عن الإيراد المشار اليه ، وما هو الحق في الجواب عن ذلك ـ في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد.

وتنظر والدي (نور الله تعالى ضريحه) فيما نقله في المدارك من اشتراط القائلين بطهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة دون العكس ، قائلا بعد نقله ذلك عنه : «لا يخفى ما فيه ، لان من جملة القائلين بطهارة الغسالة من قال بعدم نجاسة القليل مطلقا بالملاقاة ومن المعلوم انه لا يظهر للشرط وجه عندهم. ومنهم من قال بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا كالشيخ (قدس‌سره) وابن إدريس ومن وافقهما من المتأخرين ، فكيف يتم اشتراط ورود الماء على النجاسة دون عكسه في صحة التطهير بالقليل وطهارة الغسالة؟ بناء على ان الماء حينئذ لا ينجس بالملاقاة ، مع قولهم بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا من غير فرق بين الأمرين ، ومن ثم استوجه في الذكرى عدم اعتبار الورود مع ميله إلى طهارة الغسالة مطلقا ، لانه لو اقتضى ورود النجاسة على الماء نجاسة الغسالة وعدم صحة التطهير به ، لاقتضى ذلك ايضا ورود الماء على النجاسة ، لأن الامتزاج بالنجاسة حاصل على كل تقدير. وبهذا يعلم ما في الاستدلال على طهارة الغسالة ايضا ، لابتنائه على هذا الاشتراط. وبالجملة فهذا الاشتراط ـ وكذا الاستدلال المبني عليه ـ لا يتم على القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، ولا على القول بطهارته مطلقا. نعم يتجه على مذهب السيد المرتضى (عطر الله مرقده) حيث حكم بعدم نجاسة القليل في مادة ورود الماء على النجاسة دون عكسه ، فيتجه هنا اشتراط الورود في صحة التطهير وطهارة الغسالة ، لأنه مع ورود النجاسة على الماء ينجس ، فلا يفيد المحل عنده طهارة فضلا عن طهارة غسالته. نعم يبقى الإشكال في الحكم بطهارة الغسالة مع القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، لحصول المنافاة بين الأمرين. وربما يجاب عنه حينئذ باختيار أن الغسالة قد خرجت بالدليل عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، كما خرج ماء الاستنجاء منها.

٤٨٤

ولا استبعاد بعد قيام الدليل عليه ، مع ما في النجاسة من العسر والحرج ، وكون النجاسة والطهارة من التعبديات المحضة ، مع ضعف أدلة النجاسة. وفيه نظر» انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه. وهو وجيه.

(الخامس) ـ القول بالنجاسة مطلقا وان كان بعد طهارة المحل ، بمعنى ان ماء كل غسلة كمغسولها قبل الغسل وان ترامت الغسلات الى غير النهاية ، حكاه الشهيد (رحمه‌الله) في حاشية الألفية عن بعض الأصحاب ، قال في المدارك بعد حكاية القول المذكور : «وربما نسب الى المصنف والعلامة ، وهو خطأ ، فإن المسألة في كلامهما مفروضة فيما تزال به النجاسة ، وهو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم بالطهارة» انتهى.

أقول : نقل الشيخ مفلح الصيمري في شرح كتاب موجز الشيخ ابن فهد عن مصنفه انه نقل هذا القول في كتاب المهذب والمقتصر عن المحقق والعلامة وابنه فخر المحققين ، ثم نسبه في ذلك الى الغلط الفاحش والسهو الواضح وأطال في بيان ذلك ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الروض ـ بعد نقله القول المذكور ـ ان قائله احتج بأنه ماء قليل لاقى نجاسة ، قال : «وبيانه ان طهارة المحل بالقليل على خلاف الأصل المقرر من نجاسة القليل بالملاقاة. فيقتصر فيه على موضع الحاجة ، وهو المحل دون الماء» ثم رده بحكم الشارع بالطهارة عند تمام الغسلات ، فلا اعتبار بما حصل بعد ذلك ، وبلزوم الحرج المنفي. وناقش بعض أفاضل متأخري المتأخرين في كلام شيخنا الشهيد الثاني هنا بما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج في المقام عليه. وكيف كان فهذا القول بمحل سحيق عن جادة التحقيق فهو بالإعراض عنه حقيق.

إذا عرفت ذلك فاعلم انا لم نعثر في الأخبار على ما يقتضي الحكم في الغسالة إلا على رواية العيص ورواية عبد الله بن سنان السالفتين (١) والاولى منهما ظاهرة

__________________

(١) في الصحيفة ٤٧٧ و ٤٣٦.

٤٨٥

في النجاسة وان أجيب عنها بما تقدم ، إلا انك قد عرفت ما فيه. واما الثانية فهي مجملة في ذلك ، إذ غاية ما يستفاد منها المنع من الوضوء به ، وهو أعم من النجاسة كما عرفت آنفا.

نعم ربما يستفاد ـ من جملة من الأخبار المتفرقة في أحكام متعددة ـ الطهارة ، إلا انه ايضا ربما يستفاد من جملة أخرى النجاسة.

فما يستفاد من ظاهره الطهارة ـ الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح من غسالة الجنب في إنائه حال الغسل (١) بناء على ما قدمنا بيانه من ان الغالب في المغتسل من الجنابة بقاء النجاسة إلى آن الغسل ، كما تشعر به الاخبار الواردة في صفة غسل الجنابة (٢).

ومنه ـ صحيحة هشام بن سالم (٣) الواردة في السطح يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب ، قال : «لا بأس به ، ما اصابه من الماء أكثر منه».

وجه الدلالة التعليل المستفاد منها مع ضم تنقيح المناط اليه. وقريب منها ظاهر التعليل المتقدم في رواية العلل المتقدمة في المسألة الثالثة (٤) كما أشرنا إليه ثمة.

ومنه ـ الاخبار الدالة على الأمر بالرش أو النضح فيما يظن فيه النجاسة من ثوب أو أرض أو نحوهما وهي كثيرة ، ومنها ـ

صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس. فقال : رش وصل».

وجه الدلالة انه لو تنجس الماء الوارد بالملاقاة لكان الرش سببا لزيادة المحذور.

ومنه ـ صحيحة إبراهيم بن عبد الحميد (٦) قال : «سألت أبا الحسن (عليه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجناية.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) في الصحيفة ٤٦٨.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب النجاسات.

٤٨٦

السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ الى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو. قال : اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر ، فان أصبت مس شي‌ء منه فاغسله وإلا فانضحه». والتقريب ما تقدم.

ومما يؤيد ذلك إطلاق الاخبار الواردة بتطهير البدن من البول من غير تقييد بالأعضاء السافلة.

كصحيحة الحسين بن ابي العلاء (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الجسد. قال : صب عليه الماء مرتين ، فإنما هو ماء».

ومما يؤيده ايضا نفي البأس عما ينزو من الأرض النجسة في إناء المغتسل كما في رواية عمر بن يزيد (٢) وعد التجنب عن ذلك من الحرج كما في رواية الفضيل (٣) فإنه يدل بمفهوم الموافقة على ان ما يترشح من الغسالة حال الغسل لا بأس به وان اجتنابه حرج ايضا.

وأنت خبير بان المستفاد من هذه الأدلة مع ضم رواية عبد الله بن سنان (٤) هو الطهارة مع عدم الطهورية من الحدث. واما الطهورية من الخبث فيبقى على حكم الأصل ، إذ لا مخرج له من الأدلة.

والى هذا القول مال المحدث الأمين (قدس‌سره) حيث قال بعد الكلام في المسألة : «ملاحظة الروايات الواردة في أبواب متفرقة تفيد ظاهرا طهارة غسالة الأخباث وسلب طهوريتها بمعنى رفع الحدث ، ولم أقف على دلالة على سلب طهوريتها بمعنى إزالة الخبث ، والأصل المستصحب بمعنى الحالة السابقة ـ وأصالة الطهورية بمعنى القاعدة الكلية ، والبراءة الأصلية بمعنى الحالة الراجحة ، والعمومات ـ تقتضي

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٤٤٦.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٤٣٨.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٤٣٦.

٤٨٧

إجراء حكم الطهورية بهذا المعنى الى ظهور مخرج. والله اعلم».

ومما يستفاد منه النجاسة ما تقدم في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة من الأخبار الدالة على اهراق ماء الركوة والتور ونحوهما متى وقع فيها إصبع أو يد فيها قذر ، فإن إطلاق تلك الاخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم لا بل ولو لم يكن بقصد الغسل ، فإنه يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين ولم يتغير الماء بمجرد ذلك الوضع أو لم يكن ثمة عين ، إذ لا يشترط في إزالة الخبث وتطهير النجاسة القصد الى ذلك كما لا يخفى. نعم هذا انما يتمشى على تقدير القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، واما من خص ذلك بورود النجاسة على الماء دون العكس ـ كالسيد المرتضى والمحدث الأمين وغيرهما ممن اختار هذه المقالة ، كما أسلفنا نقله في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد ـ فلا يتجه ذلك عنده ، لانه يحكم بنجاسة الماء بمجرد ملاقاته النجاسة ، ولا يفيدها تطهيرا عنده فضلا عن ان يكون طاهرا بعد الانفصال عنها. وقد تقدم البحث معهم في اعتبار الورود وعدمه في المقام المشار اليه وحصول الإشكال في ذلك ، ومنه ينقدح الاشكال هنا ايضا.

ومما يدل بظاهره ايضا على نجاسة الغسالة ما تقدم ذكره في أدلة القول بالنجاسة من إيجاب تعدد الغسل فيما ورد فيه ذلك ، وإهراق الغسلة الاولى من الظروف ، ووجوب العصر فيما ورد فيه ، وعدم تطهير ما لا يخرج منه الماء إلا بالكثير ، فإنه لا وجه لهذه الأشياء على تقدير القول بطهارة الغسالة. وما أجيب به عن ذلك ـ من كون ذلك تعبدا ـ بعيد جدا.

ومنه ـ رواية العيص المتقدمة (١) وما أجيب به عنها مما قدمنا نقله قد عرفت ما فيه. وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف والاحتياط فيها لازم. والله العالم.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٧٧.

٤٨٨

تنبيهات

(الأول) ـ اعلم ان ما ذكره جملة من المتأخرين ومتأخريهم بالنسبة إلى القول بالنجاسة مطلقا وهو القول الأول من الأقوال التي قدمنا ذكرها ـ من ان حكم الغسالة كالمحل قبل الغسل فيعتبر التعدد فيما تلاقيه متى كان معتبرا في المحل ـ لم أجد له أثرا في كلام القائلين بهذا القول كالمحقق والعلامة ، بل يحتمل ان يكون مرادهم انه في حكم المحل قبل الغسلة ، إذ غاية ما يدل عليه كلامهم هو النجاسة ، واما انه يجب فيما يلاقيه العدد المعتبر في المحل فلا ، بل ظاهر كلام شيخنا الشهيد في الذكرى ان القول المنسوب اليه وهو القول الثاني من الأقوال المتقدمة هو بعينه القول الأول ، وان القول بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم الغسالة حكم المحل قبل الغسلة ، فإنه نقل أولا القول بالطهارة عن المبسوط ، ثم نقل مذهب الشيخ في الخلاف ، ثم نقل مذهب المحقق والعلامة وهو القول بالنجاسة مطلقا ونقل أدلته وطعن فيها. ثم قال : «ولم يبق دليل سوى الاحتياط ولا ريب فيه. فعلى هذا ماء الغسلة كمغسولها قبلها وعلى الأول كمغسولها بعدها أو كمغسولها بعد الغسل» انتهى. ومثله كلام المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في شرح القواعد. وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) وغيره ـ من المغايرة بين القولين ـ كما ترى. والجواب ـ بأنه لا منافاة لجواز اختيار الشيخين المشار إليهما كون الحكم في الغسالة على تقدير النجاسة انها كالمحل قبل الغسلة ، واختيار أولئك على هذا التقدير كونها في حكم المحل قبل الغسل ـ

فيه (أولا) ـ ان ذلك فرع تصريح القائلين بالنجاسة مطلقا بكونها كالمحل قبل الغسل.

و (ثانيا) ـ ان التفريع في عبارة الذكرى إنما جرى على مقتضى الأقوال المتقدمة ، فإن قوله : «فعلى هذا» اي فعلى القول بالنجاسة ، وهو المنقول عن

٤٨٩

المحقق والعلامة ، وقوله : «وعلى الأول. إلخ» إشارة إلى مذهبي المبسوط والخلاف وان كان على سبيل اللف والنشر المشوش ، وعلى تقدير ما ذكر في الجواب يلزم عدم التفريع على مذهب المحقق ولعلامة.

(الثاني) ـ الظاهر ـ على تقدير القول بنجاسة الغسالة ـ الاكتفاء في تطهير ما لاقته بالمرة الواحدة ، وفاقا للمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ، ونقله أيضا في الكتاب المذكور عن بعض مشايخه المعاصرين.

لنا ـ أصالة البراءة من التكليف به ، إذ مورد التعدد في الأخبار نجاسات مخصوصة ، وهذا ليس منها ، فلا مقتضي للتعدد فيه سواء كان من الغسلة الأولى أو غيرها. وما ذكره الأصحاب من الأقوال المتقدمة في ذلك لم نقف له على دليل معتمد.

(الثالث) ـ ادعى المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى الإجماع على ان ما تزال به النجاسة مطلقا لا يجوز رفع الحدث به. واحتجا لذلك ـ مع الإجماع ـ برواية عبد الله بن سنان المتقدمة (١) الدالة على ان ما يغسل به الثوب لا يجوز ان يتوضأ به. ويرد على الأول ما سيأتي من ظاهر عبارتي الدروس والذكرى ، مضافا الى ما عرفت في المقدمة الثالثة (٢) من المجازفة في دعوى الإجماعات في كلامهم (رضوان الله عليهم) وقد تقدم في المسألة الثالثة (٣) من النقل عن المولى الأردبيلي ما يوهن هذه الدعوى ايضا وعلى الثاني ان الرواية أخص من المدعى ، إلا ان يضم الى ذلك تنقيح المناط.

(الرابع) ـ قال شيخنا الشهيد في الدروس : «وفي إزالة النجاسة نجس ان تغير بالإجماع ، وإلا فنجس في الأولى على قول ، ومطلقا على قول ، وكرافع الأكبر على قول ، وطاهر إذا ورد على النجاسة على قول. والاولى ان ماء الغسلة كمغسولها قبلها» انتهى.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٣٦.

(٢) في الصحيفة ٣٥.

(٣) في الصحيفة ٤٧٧.

٤٩٠

ولا ريب ان القول الأول هو ما ذهب اليه الشيخ في الخلاف. واما القول الثاني فالظاهر انه هو المنقول عن المحقق والعلامة ، وهو أول الأقوال التي قدمناها. وربما ظهر من كلام المحقق الشيخ علي في فوائد التحرير ان ذلك إشارة إلى القول الخامس الذي قدمناه. وهو بعيد. واما القول الثالث فنقله في الذكرى عن ابن حمزة والبصروي ، حيث قال : «وابن حمزة والبصروي سويا بين رافع الأكبر ومزيل النجاسة» انتهى. والظاهر أنهما قائلان مع طهارته برفعه الحدث حينئذ ، ويكون هذا هو الفرق بين هذا القول وبين ما بعده بلا فصل. ويحتمل ان يكون وجه الفرق باعتبار ورود الماء في الثاني دون هذا القول. وشيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ مع استقصائه نقل الأقوال في هذه المسألة ـ لم ينقل هذا القول معها ، مع ان صريح العبارة المذكورة ـ وظاهر عبارة الذكرى ـ انه قول آخر في المسألة. ونسب هذا القول المحقق الشيخ علي (رحمه‌الله) في شرح القواعد إلى الأشهر بين المتقدمين ، ثم نقل بعده قول المرتضى وابن إدريس ، مع ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : «والعجب خلو أكثر كلام المتقدمين عن الحكم في الغسالة مع عموم البلوى بها» انتهى.

بقي الكلام في قوله : «والاولى ان ماء الغسلة كمغسولها قبلها» هل هو قول آخر خارج عن الأقوال المتقدمة أم لا؟ الذي يظهر لي من كلام الذكرى ـ كما قدمنا بيانه ـ ان هذا إشارة إلى اختيار القول المتقدم بالنجاسة لكن لا على سبيل الجزم ، ونسبته إلى الأولوية هنا مثل نسبته الى الاحتياط في عبارة الذكرى ، وقد عرفت ان مقتضى كلام شيخنا الشهيد الثاني عد ذلك قولا مغايرا.

(الخامس) ـ قال السيد السند في المدارك : «اختلف القائلون بعدم نجاسة الغسالة في ان ذلك هل هو على سبيل العفو بمعنى الطهارة دون الطهورية ، أو تكون باقية على ما كانت عليه من الطهورية ، أو يكون حكمها حكم رافع الحدث الأكبر؟

٤٩١

فقال بكل قائل» وقال في المعتبر : «ان ما تزال به النجاسة لا يرفع به الحدث إجماعا» انتهى.

وأنت خبير بان مقتضى القول الأول من هذه الأقوال التي نقلها هو الطهارة خاصة دون الطهورية من حدث كان أو من خبث حسبما تقدم في معنى العفو عندهم في ماء الاستنجاء ، ومقتضى القول الثاني هو الطهورية من الخبث والحدث ، كما يشعر به التعبير ببقائه على ما كان عليه من الطهورية ، وحينئذ فلا معنى للقول الثالث وجعله ثالثا إلا باعتبار الطهارة والطهورية من الخبث خاصة دون الحدث لتتم مقابلته بالقولين الآخرين. وفي فهم هذا المعنى من التشبيه نوع اشكال ، اللهم إلا ان يعلم ان مذهب القائل بهذا القول كون رافع الحدث مطهرا من الخبث دون الحدث كما هو مذهب الشيخين. وقد عرفت ان هذا القول منسوب الى ابن حمزة والبصروي ، الا انه لم ينقل مذهبهما في تلك المسألة. والذي يقرب الى الفهم ـ وبه صرح ايضا المحقق الشيخ حسن في المعالم وغيره في غيره ـ ان المراد من التشبيه هو كونه طاهرا مطهرا من الحدث والخبث كما هو المشهور ، إلا انه لا يخلو ايضا من شي‌ء. وبالجملة فإن فهم المراد من هذه العبارة يتوقف على معرفة مذهب هذا القائل في مسألة غسالة الحدث الأكبر ليمكن تمشية التشبيه. ويحتمل ان يكون مراد القائل المذكور بالتشبيه لحوق حكم الغسالة من سائر الأخباث لغسالة الحدث الأكبر وترتبها عليها ، فان قيل بالرفع من الحدث في تلك قيل به في هذه وإلا فلا. والظاهر بعده.

(السادس) ـ قال في المدارك ايضا ـ بعد نقل اشتراط القائلين بطهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة دون العكس ـ ما صورته : «وربما ظهر من كلام الشهيد (رحمه‌الله) في الذكرى عدم اعتبار ذلك ، فإنه مال الى الطهارة مطلقا واستوجه عدم اعتبار الورود في التطهير. وهو مشكل ، لنجاسة الماء بورود النجاسة عليه عنده ، اللهم إلا ان يقول : ان الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال القليل بعد ورود النجاسة

٤٩٢

عليه ، وذلك لا ينافي الحكم بطهارة المحل المغسول فيه ، لصدق الغسل مع الورود وعدمه» انتهى.

وفيه (أولا) ـ ان ظاهر الشهيد (رحمه‌الله) ايضا القول بنجاسة القليل مع ورود الماء على النجاسة ، لتصريحه بان الامتزاج بالنجاسة حاصل على التقديرين ، والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة ، وحينئذ فلا وجه لاختصاص الإشكال بمادة ورود النجاسة على القليل دون عكسه.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره في الاعتذار عنه ـ من ان الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال الماء بعد ورود النجاسة عليه ، وهو لا ينافي طهارة المحل المغسول ، لصدق الغسل في حال الورود وعدمه ـ لا يكاد يحسم مادة الإشكال ، بل ربما يزيد في الاختلال ، إذ غاية ما يعطيه هو صحة التطهير به مع نجاسة الغسالة ، فلا يدفع الإشكال بالنسبة إلى حكمه بطهارة الغسالة بل يؤكده. نعم لو كان المعلوم من مذهبه القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة مع ورود الماء على النجاسة ، والقول بالتطهير دون الطهارة مع ورود النجاسة على الماء ، لاتجه ما ذكره. الا ان الظاهر من مذهبه هو الميل إلى طهارة الغسالة مطلقا من غير اعتبار الورود كما نقله عنه فيما تقدم من عبارته ، وحينئذ فالظاهر ان وجه الاشكال هو ما سبق التنبيه عليه في مسألة نجاسة القليل بالملاقاة من ان القول بنجاسة القليل بالملاقاة يقتضي عدم صحة التطهير به فضلا عن طهارة الغسالة ، فكيف يتم مع ذلك القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة؟ والجواب عنه ما عرفته في آخر الكلام المتقدم نقله عن الوالد (قدس‌سره) من خروج غسالة النجاسة من كلية نجاسة القليل بالملاقاة بالدليل كما خرج ماء الاستنجاء. إلا ان فيه ما عرفته آنفا من الاشكال وعدم وضوح الدليل في هذا المجال.

(السابع) ـ هل الباقي في المحل بعد العصر فيما يجب فيه ذلك ـ أو الإراقة

٤٩٣

في الأواني ونحوها ـ طاهر مطلقا ، أو نجس مطلقا ، أو معفو عنه ، أو طاهر ما دام في المحل ونجس بعد الانفصال؟ أقوال :

ظاهر المشهور الأول ، وهو الظاهر من الأدلة كما قدمنا ذكره.

ومقتضى القول الخامس هو الثاني. وقد عرفت ما فيه.

ونقل عن ظاهر المحقق في المعتبر الثالث. وفيه إشكال ، فإن عبارته في هذا المقام لا تخلو من الإبهام ، وذلك فإنه ـ بعد ان اختار النجاسة في غسالة إناء الولوغ ونقل عن الشيخ الحكم بالطهارة ، واحتجاجه بأنه لو كان المنفصل نجسا لما طهر الإناء ، لأنه كان يلزم نجاسة البلة الباقية بعد المنفصل ثم ينجس الماء الثاني بنجاسة البلة وكذا ما بعده ـ قال : «والجواب ان ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالإجماع فلا يقدح ما ذكره ، ولانه معفو عنه دفعا للحرج» انتهى. ولا ريب ان حكمه بالطهارة التي ادعى عليها الإجماع مناف للعفو الذي هو عبارة عن النجاسة وان سلب حكمها. ولا مجال لحمل العفو هنا على المعنى الذي ذكروه في الاستنجاء ، إذ الكلام في تأثر الملاقي لهذه البلة بالنجاسة وعدمه ، لا في رفع الحدث والخبث ونحوهما وعدمه.

والذي يظهر لي ان مراده بالعفو هنا ليس هو المعنى المصطلح بل التنبيه على بيان ان الحكم بالطهارة إنما هو من قبيل الرخص الواردة في الشريعة ، إذ مقتضى كلية نجاسة الماء القليل بالملاقاة هو النجاسة ، لكنه لما كان اللازم من النجاسة هنا الحرج عفى الشارع عن النجاسة وحكم بالطهارة دفعا للعسر والحرج ، ولا يبعد ايضا حمل عبارته المتقدمة في الاستنجاء على ذلك ، وبه يرتفع التناقض الذي أوردناه عليها ثمة. وبالجملة فالظاهر عندي من عبارته هنا هو الحكم بطهارة البلة الباقية وان كانت العلة هو العفو ، وإلا لتناقض طرفا كلاميه. نعم ذكر المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) العفو في هذا المقام احتمالا ، حيث قال : «وإذا خرج منه ما يمكن الإخراج عادة بقي المحل مع ما فيه طاهرا أو عفوا ، للضرورة والحرج والسهلة» انتهى.

٤٩٤

وبالقول الرابع صرح العلامة في القواعد ، والظاهر انه مبني على ما اختاره من عدم نجاسة القليل الذي تزال به النجاسة إلا بعد الانفصال عن المحل ، قال في الكتاب المذكور : «والمتخلف في الثوب بعد عصره طاهر ، فان انفصل فهو نجس» انتهى. فعنده انه إذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته قطعا ، والمتخلف فيه على حكم الطهارة ، فلو بالغ أحد في عصره فانفصل منه شي‌ء كان نجسا ، لأن أثر ملاقاته للمحل النجس عنده إنما يظهر بعد الانفصال. ولعل هذا منشأ وهم من نقل عنه القول بالنجاسة وان حكم بطهر المحل كما تقدم في القول الخامس ، قال المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في شرح الكتاب : «والظاهر ان هذا الحكم عنده مختص بالغسل المقتضي لحصول الطهارة ، فلو غسل زيادة على الموظف كان ماء الغسل الزائد طاهرا ، لعدم ملاقاته للمحل في حال نجاسته ، مع إمكان أن يقول بنجاسته ايضا ، لانفصال شي‌ء من الماء المتخلف في المحل معه والتنجيس فيه بعد انفصاله. وهو بعيد ، مع ان الأصل العدم» انتهى. وكيف كان فالقول المذكور وما يبتني عليه بمحل من البعد عن ساحة الاخبار المعصومية.

(الثامن) ـ قال العلامة في المنتهى : «إذا غسل الثوب من البول في إجانة بأن يصب عليه الماء ، فسد الماء وخرج من الثانية طاهرا ، اتحدت الآنية أو تعددت».

ثم احتج على ذلك بوجهين : (أحدهما) ـ انه قد حصل الامتثال بغسله مرتين فيكون طاهرا.

و (ثانيهما) ـ صحيحة محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال : اغسله في المركن مرتين ، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة».

وأورد عليه بأنه يشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء المجتمع تحته في الإجانة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات.

٤٩٥

سيما على مذهبه المتقدم من عدم نجاسة الغسالة إلا بعد الانفصال عن المحل المغسول ، ومن المعلوم ان الماء هنا بعد انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في الإناء ، واللازم مما ذكر تنجسه به.

وقد يتكلف في دفع الإيراد المذكور بان المراد من الانفصال خروج الغسالة عن الثوب أو الإناء المغسول فيه ، تنزيلا للاتصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول ، للحديث المذكور.

قيل : ولا يخفى ان هذا التكلف إنما يحسن ارتكابه مع قيام الدليل الواضح على نجاسة الغسالة ، وإلا فظاهر الرواية يدل على طهارة الغسالة.

وفيه (أولا) ـ ان هذا التكلف إنما ارتكب لدفع المنافاة بين كلامي العلامة (قدس‌سره) من حكمه بنجاسة الغسالة بعد الانفصال وحكمه بطهارة الثوب في الصورة المفروضة ، فنزل الإناء في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع به المنافاة بين كلاميه واما الكلام في نجاسة الغسالة وطهارتها فهو بحث آخر.

و (ثانيا) ـ ان دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسالة مع تضمنها وجوب التعدد في الغسل محل اشكال كما عرفت ، إلا ان يدعى حمل التعدد على محض التعبد وفيه ما تقدم. على انه ربما يقال : ان أصل الإشكال مما لا ورود له في هذا المجال وان ذكره بعض علمائنا الأبدال ، وذلك فان الثوب بعد وضعه في الإجانة وصب الماء عليه حتى يغمره ويأتي عليه ، فان الماء يدخل في جميع اجزائه وان انفصل بأسفل الإجانة. ولكن مثل هذا لا يعد انفصالا عرفا ، بل الانفصال في مثل هذا إنما يصدق بعد رفع الثوب من الإجانة وخروج الماء بنفسه أو بالعصر.

(التاسع) ـ قد عرفت ان محل الخلاف في الغسالة ـ طهارة ونجاسة ـ إنما هو مع عدم التغير ، والا فلو تغيرت بالاستعمال تنجست إجماعا ، والمشهور ان التغير المعتبر هنا هو التغير في أحد الأوصاف الثلاثة خاصة كما تقدم. ونقل عن العلامة في النهاية

٤٩٦

انه استقرب اجراء زيادة الوزن مجرى التغير ، فلو غسلت النجاسة بماء فزاد وزنه بعد الغسل كان حكمه كالمتغير. وهو ـ مع عدم الوقوف له على دليل ـ عديم الرفيق في ذلك السبيل.

(المسألة الخامسة) ـ في غسالة الحمام ، وقد اختلف كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكمها ، فقال الصدوق عطر الله مرقده (١) : «ولا يجوز التطهير بغسالة الحمام ، لانه تجتمع فيه غسالة اليهودي والمجوسي والنصراني والمبغض لآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو شرهم» وقريب منه كلام أبيه في رسالته اليه وقال الشيخ في النهاية : «غسالة الحمام لا يجوز استعمالها على حال» وجرى عليه ابن إدريس ، فقال : «غسالة الحمام لا يجوز استعمالها على حال ، وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة (عليهم‌السلام) آثار معتمدة قد أجمع الأصحاب عليها لا أحد خالف فيها» وقال المحقق في المعتبر : «ولا يغتسل بغسالة الحمام إلا ان يعلم خلوها من النجاسة» ونحوه قال العلامة في القواعد.

وظاهر ما عدا عبارتي النهاية وابن إدريس هو الطهارة ، إذ مقتضاها عدم جواز الاستعمال ، وهو أعم من النجاسة. ويؤيده نقل الصدوق الرواية الدالة على نفي البأس عن ملاقاتها الثوب (٢) وربما حمل كلام النهاية على ما تقضي به العادة من عدم انفكاك غسالة الحمام عن ملاقاة النجاسة ، كما اعتذر به المحقق عنه في نكت النهاية ،. إذ لم نقف له على حجة في تعميم المنع من استعمالها.

وبالطهارة صرح العلامة في المنتهى. فقال بعد نقل بعض الأقوال المتقدمة : «والأقوى عندي انه على أصل الطهارة» ثم استدل بمرسلة الواسطي الآتية. وبالنجاسة صرح في الإرشاد فقال : «غسالة الحمام نجسة ما لم يعلم خلوها من النجاسة»

__________________

(١) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).

(٢) وهي رواية أبي يحيى الواسطي الآتية في الصحيفة ٤٩٨.

٤٩٧

وفي التحرير عبر بعدم جواز الاستعمال كما هو عبارة النهاية.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة روايات.

(منها) ـ رواية حمزة بن احمد عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمام. قال : ادخله بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».

و (منها) ـ رواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام ، فان فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء. وفيها غسالة الناصب ، وهو شرهما».

و (منها) ـ رواية علي بن الحكم عن رجل عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام ، فإنه يغتسل فيه من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».

و (منها) ـ رواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن ابي الحسن الماضي (عليه‌السلام) (٤) قال : «سئل عن مجتمع الماء في الحمام من غسالة الناس يصيب الثوب. قال : لا بأس».

و (منها) ـ ما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب العلل (٥) في الموثق عن عبد الله بن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «وإياك

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٥) في الصحيفة ١٠٦ وفي الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٤٩٨

ان تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».

وأنت خبير بان الظاهر ان مطرح النزاع في هذه المسألة إنما هو حال الشك في عروض شي‌ء من النجاسات ، وإلا فمع العلم بملاقاة شي‌ء منها فلا خلاف في الحكم بالنجاسة ممن قال بنجاسة القليل بالملاقاة ، ومع العلم بالخلو عنها فالظاهر انه لا إشكال في الحكم بالطهارة ، ولا خلاف في ذلك إلا ما يظهر من عبارة الصدوق ، إلا ان الظاهر صرفها الى ما ذكره المحقق من التفصيل ، حيث استثنى من المنع من الغسل بالغسالة صورة العلم بخلوها من النجاسة ، وكذا ظاهر عبارتي النهاية وابن إدريس ، إلا انه لا يبعد صرفهما الى ما ذكرنا آنفا.

وقال المحقق في المعتبر ـ بعد نقل ما تقدم من كلام ابن إدريس وان عبر عنه ببعض المتأخرين إلا انه هو المراد على التعيين ـ ما صورته : «وهو خلاف الرواية ، وخلاف ما ذكره ابن بابويه ، ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية ورواية مرسلة ذكرها الكليني ، قال : بعض أصحابنا عن ابن جمهور ، وهذه مرسلة وابن جمهور ضعيف جدا ، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال ، فأين الإجماع واين الأخبار المعتمدة؟ ونحن نطالبه بما ادعاه وأفرط في دعواه» انتهى. وأشار بقوله : وهو خلاف الرواية. إلى رواية الواسطي ، حيث قدمها أولا ، وبالرواية التي رواها الكليني إلى رواية ابن ابي يعفور.

ثم انه مع الشك في ملاقاة النجاسة الذي هو محل النزاع كما ذكرنا ، فهل يحكم بالطهارة أو النجاسة أو المنع من الاستعمال خاصة؟ الأول صريح العلامة في المنتهى كما عرفت ، واليه مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم ، منهم : المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، حيث قال : «والذي يقتضيه النظر انه مع الشك في النجاسة تكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال وان كان اجتنابها أحوط» والى ذلك مال المحقق الشيخ حسن

٤٩٩

في المعالم ، وقبله والده في الروض وغيرهم. والثاني صريح العلامة في الإرشاد ، وربما تبعه فيه بعض من تأخر عنه ، قال في المعالم : «وربما قيل انه حجته النهي عن استعمالها وسقوطها ظاهر» انتهى. والثالث ظاهر الصدوقين والمحقق. إلا انهم خصوا المنع بالغسل ، والذي فهمه من تأخر عنهم من كلامهم هو الحكم بالطهارة وان امتنع الغسل بها.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لقائل أن يقول : ان جل الأخبار المتقدمة قد دلت على المنع من الغسل ، والظاهر انه لا خصوصية لذكر الغسل إلا من حيث ان الحمام غالبا إنما اتخذ لذلك ، والأحكام في الاخبار ـ كما نبهنا عليه غير مرة ـ إنما تخرج بناء على الافراد المتكررة الغالبة ، وحينئذ فلا فرق في المنع من الاستعمال بين الغسل وغيره ومما يوضح ذلك ان الحكم بالنجاسة في أكثر المواضع إنما استفيد من نهي الشارع عن استعمال ما لاقته أو الأمر بغسله أو نحو ذلك ، حتى انه لو ورد شي‌ء بلفظ النجاسة في مقام النزاع لسارعوا إلى تأويله بالحمل على المعنى اللغوي ، ويؤيد ذلك ما ذكره السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد الاستدلال على نجاسة البول من غير المأكول بحسنة عبد الله بن سنان المتضمنة للأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه (١) وكلام في البين ـ ما صورته : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له ، بل سائر الأعيان النجسة إنما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها» انتهى. والأمر فيما نحن فيه كذلك.

فان قيل : ان القاعدة الكلية الدالة على طهارة ما لا يعلم ملاقاته النجاسة ترد ما ذكرتم.

قلنا : ما ذكرنا من الاخبار بالتقريب المذكور خاص ، وهو مقدم على العام كما تقرر بين العلماء الأعلام.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب النجاسات.

٥٠٠