الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

من بدن الجنب فسيأتي ما فيها. وحينئذ فلم يبق إلا الدليل الأول ، فلقائل أن يقول : ان عموم تلك الأدلة مخصوص بالأخبار المذكورة كما هو القاعدة المطردة. إلا ان ذلك فرع سلامة هذه الاخبار من الطعن ، وهي غير سالمة.

أما الخبر الأول (١) فضعيف السند باشتماله على احمد بن هلال الذي حاله في الضعف أشهر من ان يذكر ، واحتمال الحمل على وجود النجاسة في بدن الجنب ، بل الظاهر رجحانه كما سيأتي بيانه.

واما الثاني (٢) ففيه (أولا) ـ انه معارض بصحيحة محمد بن مسلم أيضا الأخرى (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره ، اغتسل من مائه؟ قال : نعم لا بأس ان يغتسل منه الجنب».

ورواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت : أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال : ان ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا».

إلا انه يمكن حمل هذين الخبرين على ما له مادة أو كان كثيرا ، ويخص الأول بما ليس كذلك كما نقل عن الشيخ الجمع به بين صحيحتي محمد بن مسلم ، وحينئذ تبقى الصحيحة الأولى سالمة من المعارض.

و (ثانيا) ـ تضمنه للتعويل على الشك والاحتمال في المنع في مقابلة يقين

__________________

(١) وهو خبر عبد الله بن سنان المتقدم في الصحيفة ٤٣٦.

(٢) وهو صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الصحيفة ٤٣٩.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ، والباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

٤٤١

الطهارة الثابت بالأصل ، وهو خلاف القواعد الشرعية المتفق عليها (١) فلا بد من الخروج عن ظاهره الى الحمل على الكراهة ومرجوحية الاستعمال. إلا انه يمكن تطرق النظر الى هذا الوجه أيضا بأن يقال : ان هذا مخصوص بصورة الشك بوجود الجنب ، والخروج فيه ـ عن الظاهر باعتبار ما ذكر من المعارض ـ متجه. لكن يبقى الكلام في صورة العلم بوجود الجنب ، كما هو أحد الأمرين المذكورين في الخبر ، والخروج عن الظاهر ثمة لمعارض لا يستلزم الخروج عنه فيما لا معارض فيه ، غاية الأمر أنه يراد من الخبر الحقيقة والمجاز باعتبارين ، ولا نكير فيه.

وما أجاب به في المعالم عن ذلك ـ حيث قال : «ان هذا تكلف ، والتعلق بهذا التكلف إنما يتوجه لو كانت الرواية ظاهرة في المدعى من غير هذا الوجه. والأمر على خلاف ذلك.

(اما أولا) ـ فلان عدم الاغتسال من ماء الحمام مع مباشرة الجنب له إنما أفاده فيها استثناؤه من النهي عن الاغتسال بماء آخر ، وهو أعم من الأمر به ، إذ يكفي في رفع النهي الإباحة.

و (اما ثانيا) ـ فلان الاغتسال فيها مطلق بحيث يصلح لإرادة رفع الحدث وازالة الخبث ، وستعلم ان المانعين من رفع الحدث به قائلون بجواز استعماله في إزالة الخبث ، فلا بد من التأويل بالنظر اليه ، فتضعف الدلالة ، ويشكل الخروج عن ظواهر العمومات بمجرد ذلك» انتهى ـ مخدوش بوجهيه.

__________________

(١) فإنه تضمن المنع من استعمال ماء الحمام إذا كثر الناس فيه واحتمل وجود الجنب فيهم ، والاتفاق واقع على ان الشك في حصول المقتضى واحتماله غير موجب للمنع فلا بد من صرفه عن ظاهره. ومما يدل ايضا من الاخبار على ما ذكرنا في خصوص هذا المقام مضمرة أبي الحسن الهاشمي قال سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمام لا أعرف اليهودي من النصراني ولا الجنب من غير الجنب؟ قال : تغتسل منه ولا تغتسل من ماء آخر ، فإنه طهور (منه قدس‌سره).

٤٤٢

(اما أولهما) ـ فلما تقرر من أن الاستثناء يقتضي ثبوت الحكم للمستثنى إثباتا ونفيا على عكس ما ثبت للمستثنى منه ، ولذا عرف نجم الأئمة في شرح الكافية المستثنى بأنه المذكور بعد (إلا) وأخواتها مخالفا لما قبلها نفيا وإثباتا ، وحينئذ فإذا قيل : لا تضرب أحدا إلا زيدا. فهم منه انه مريد لضرب زيد وآمر به لا انه أعم من الأمر بضربة وعدمه ، وكذا قوله (عليه‌السلام) (١) : «اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة». مفيد للنهي عن قتل أهل الذمة لا انه للأعم منه ومن عدمه ، ولو تم ما ذكره لا طرد في جميع صور الاستثناء ، فلا يثبت للمستثنى بمجرد الاستثناء حكم على الخصوص ، بل لا بد معه من التصريح ، فلو قال : لزيد علي عشرة إلا ثلاثة. لم يفد نفي الثلاثة عنه بطريق اليقين ، بل لا بد في نفيها جزما من أمر زائد على الاستثناء وهو ظاهر البطلان. وبذلك يظهر لك ان قوله (عليه‌السلام) في الخبر المذكور : «ولا تغتسل من ماء آخر إلا ان يكون فيه جنب.». دال على الأمر بالاغتسال من الماء الآخر مع وجود الجنب لا لمجرد إباحة الآخر وعدم النهى عنه.

و (اما ثانيهما) ـ فلان الاغتسال شرعا وعرفا مخصوص بغير ازالة الخبث ، إذ إنما يطلق عليها الغسل لا الاغتسال (٢).

__________________

(١) لم نعثر على هذا الحديث بعد الفحص عنه في مظانه ، والذي وجدناه في الوسائل في الباب ١٨ من كتاب الجهاد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم» ..

(٢) وحاصل كلامه ان الاستثناء عبارة عن رفع الحكم السابق ، والحكم السابق هنا هو النهى عن الاغتسال بماء آخر ، ورفعه هو عدم النهى عن ذلك ، وعدم النهي أعم من الأمر ، فيرجع الى الإباحة. وفيه ان الاستثناء إنما هو إثبات نقيض ما ثبت للمستثنى منه من الحكم ، كما عرفته من تعريف نجم الأئمة. وايضا على تقدير ما ذكره فرفع الحكم السابق لا يتحقق الا بوجود نقيضه وإثباته للمستثنى ، لانه مع ارادة العموم كما زعمه المحتمل لجواز ان يثبت للمستثنى ما ثبت أولا للمستثنى منه لا يحصل رفع الحكم السابق كما لا يخفى (منه قدس‌سره).

٤٤٣

والتحقيق ان الأظهر في الجواب هو الحمل على وجود النجاسة في بدن الجنب ، حملا على الغالب المتكرر من تأخيرها إلى وقت الغسل. وعلى ذلك ايضا يحمل الخبر الثالث والرابع (١) والى ذلك أشار أيضا في المعالم ، حيث قال : «ولعل الأخبار الواردة بالنهي عن استعمال ما يغتسل به الجنب ناظرة الى ما هو الغالب من عدم انفكاكه من بقايا آثار المني» انتهى.

بل نقول : ان المستفاد من الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة حمل الجنب في الأخبار ـ حيث يطلق ـ على من كان كذلك ، وان لم يكن كليا فلا أقل ان يكون غالبا.

ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «سألته عن غسل الجنابة. قال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ، ثم تغسل فرجك ، ثم تصب الماء على رأسك. الحديث».

وصحيحة زرارة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ فتغسل كفيك ، ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك. الحديث».

وصحيحة ابن ابي نصر (٤) قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول ثم تدخل يدك في الإناء ، ثم اغسل ما أصابك منه. الحديث». الى غير ذلك من الأخبار المستفيضة بذلك ، فمن أحب الوقوف عليها فليرجع الى مظانها.

__________________

(١) وهما رواية حمزة بن احمد وصحيحة محمد بن مسلم المتضمنة لعدم نجاسة الكر المتقدمتان في الصحيفة ٤٣٩.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٦ و ٣٤ من أبواب الجنابة.

٤٤٤

وجه الدلالة ان اشتمال اجوبتهم (عليهم‌السلام) عن بيان كيفية غسل الجنابة على إزالة المني يشعر بان له مدخلا في الكيفية ، وما ذلك إلا بناء على ما قلنا من انه لما كان الغالب تأخير إزالة المني إلى حين ارادة الاغتسال أدرجه في الكيفية. والأحكام في الاخبار ـ كما ذكرنا في غير مقام ـ إنما تبنى على ما هو الغالب المتكرر ، ألا ترى ان أحد سببي الجنابة الموجب للغسل ايضا الإيلاج خاصة ، مع ان الأخبار الواردة في بيان الكيفية إنما خرجت بناء على السبب الآخر الذي هو الانزال ، وما ذاك الا بناء على ما ذكرنا ، وحينئذ فحيث يطلق الجنب في أخبارهم (عليهم‌السلام) يحمل على من كان كذلك إلا مع قيام القرينة المخرجة. وبهذا التحقيق في المقام يحصل المخرج من المضيق في جملة من الأحكام : منها ـ اخبار هذا الموضع ، ومنها ـ الأخبار الواردة بنزح سبع دلاء لاغتسال الجنب في البئر ، فإنه مع عدم النجاسة في بدنه لا يظهر للنزح ـ واجبا أو مستحبا ـ وجه حسن في ذلك المجال. وما تكلفه جملة من أصحابنا لدفع ذلك لا يخلو من تمحل وإشكال ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع للاخبار.

وعلى هذا فتكون الأخبار التي أشرنا إليها آنفا ـ مما دل على نفي البأس عما ينتضح من الجنب حال اغتساله ـ محمولة على الاستثناء من نجاسة القليل دفعا للحرج ، كما يشير اليه الاستشهاد بالآية في صحيحة الفضيل (١) المتقدمة (٢).

__________________

(١) فإن ظاهر الاستشهاد بالآية المذكورة حصول الحرج لو منع من استعمال ذلك الماء الذي انتضح فيه من غسل الجنب ، ومن المعلوم انه لو كان طاهرا فلا منع ولا حرج في ذلك فإنه متى كان بدن الجنب طاهرا والأرض التي يغتسل عليها طاهرة فالمنتضح منها باق على أصله الطهارة كسائر المواضع الملاقية للماء الطاهر ، فأي نكتة تترتب على إيراد الآية هنا؟ بل إنما يتجه إيرادها على تقدير نجاسة الأرض أو بدن الجنب ، إذ موردها كون ذلك رخصة وتخفيفا ، ومن شأن الرخص ورودها في المقامات المقتضية للمنع. ويؤيد ذلك ويوضحه رواية عمر بن يزيد المذكورة ، فان نفى البأس عما ينزو من الأرض التي يبال عليها صريح فيما ذكرناه. والله العالم (منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ٤٣٨.

٤٤٥

وأصرح منها دلالة على الاستثناء المذكور رواية عمر بن يزيد (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال : لا بأس به».

وينبغي التنبيه على فوائد :

(الأولى) ـ ان الماء المستعمل الذي يتعلق به البحث هل هو عبارة عن البقية بعد الاستعمال ـ سواء كان بعد تمام الاستعمال أو في أثنائه ـ أو عبارة عما ينفصل عن البدن ولو تتقاطر وترشح ، أو يخص بما كان له قدر يعتد به فلا يدخل فيه التقاطر ونحوه.

الظاهر انه لا خلاف في خروج الأول وجواز رفع الحدث به ، ويدل عليه الأخبار المتضمنة لاغتساله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع عائشة من إناء واحد ، ومنها صحيحة زرارة (٢) وفيها «فضرب بيده في الماء قبلها فأنقى فرجه ، ثم ضربت هي فأنقت فرجها. ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا. الحديث». قال في الفقيه (٣). «ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد ، ولكن تغتسل بفضله ولا يغتسل بفضلها».

واما الثاني فالذي يظهر من المنتهى انه محل البحث ، إلا ان الظاهر من كلام الصدوق (رحمه‌الله) خلافه. لانه مع منعه التطهير بغسالة الجنب قال (٤) : «وان اغتسل الجنب فنزا الماء من الأرض فوقع في الإناء أو سال من بدنه في الإناء ، فلا بأس به» انتهى. وعلى ذلك تدل الأخبار المستفيضة التي أشرنا إليها آنفا (٥) ومما يؤيد

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الجنابة.

(٣ و ٤) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).

(٥) وهي الأخبار الدالة على نفى البأس عما ينتضح من الجنب حال اغتساله. المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٤٤٦

ذلك ان الشيخ (رضوان الله عليه) قد روى أكثر تلك الروايات ولم يتعرض لردها ولا تأويلها بوجه ، مع كونها مخالفة لمذهبه لو كان ذلك من محل النزاع ، وفيه إيذان بأنه ليس من محل النزاع في شي‌ء. ومع فرض دخوله في محل البحث فهو مردود بالاخبار المشار إليها ، لدلالتها على جواز الاستعمال مع تساقط ماء الغسل في الإناء.

واما الثالث فالظاهر انه هو محل البحث على الخصوص.

(الثانية) ـ ينبغي ان يعلم ان موضع البحث هو الماء الذي يغتسل به المحدث الخالي بدنه من نجاسة خبثية ، وإلا كان حكم الماء المتساقط عن الموضع النجس حكم غسالة النجاسة ، وبذلك صرح ايضا جمع من الأصحاب. والظاهر انه بهذا خرجت الأخبار التي استند إليها الخصم كما أشرنا إليه آنفا.

(الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف في إزالة الخبث بهذا الماء كما مرت الإشارة اليه ، وممن نقل الإجماع على ذلك العلامة في المنتهى وابنه فخر المحققين في الشرح.

واحتج له مع ذلك في المنتهى فقال ما لفظه : «الثالث ـ المستعمل في غسل الجنابة يجوز إزالة النجاسة به إجماعا منا ، لإطلاقه. والمنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب لا يوجب المنع من إزالة النجاسة ، لأنهم إنما قالوه ثم لعلة لم توجد في إزالة الخبث ، فان صحت تلك العلة ظهر الفرق وبطل الإلحاق ، وإلا حكموا بالتساوي في الماءين كما قلناه» انتهى.

وعبارة الذكرى هنا ظاهرة في الخلاف ، حيث قال : «جوز الشيخ والمحقق إزالة النجاسة به ، لطهارته ولبقاء قوة إزالته الخبث وان ذهب قوة رفعه الحدث ، وقيل : لا ، لان قوته استوفيت فالتحق بالمضاف» انتهى ، ومن ثم اعترض به بعض المتأخرين على مدعي الإجماع. وأجاب في المعالم باحتمال ان يكون المنقول عنه في عبارة الذكرى بعض المخالفين ، كما يشعر به تعليله الواهي المنقول ثمة. وفيه ان المعهود

٤٤٧

من كلامه التصريح بذلك لو كان ، ثم احتمل ايضا ان يكون هذا القول مستحدثا بعد دعوى الإجماع فلا يقدح. وفيه ما فيه. إلا ان فيه ان الخطب هين بعد الإحاطة بما أسلفنا من ضعف أدلة المنع من رفع الحدث ، وحينئذ فلا تكون في شك من ضعف هذا القول في هذا المكان من أي قائل كان.

(الرابعة) ـ المنقول في كتب الأصحاب (رضوان الله عليهم) جعل محل الخلاف هو غسالة الحدث الأكبر ، حتى ان المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ بعد ان نقل عن المنتهى الاقتصار ـ في جواز إزالة النجاسة بالمستعمل ـ على ما استعمل في غسل الجنابة كما قدمنا من عبارته ـ حمل ذكر غسل الجنابة على التمثيل دون الحصر. وأنت خبير بان كلام الصدوق في الفقيه صريح في التخصيص بغسالة الجنابة ، وكذا الأخبار المنقولة دليلا للقول المذكور كما أسلفناها ، ومثله ايضا ما نقله في المختلف عن الشيخ (رحمه‌الله) من الدليل ، حيث قال : احتج الشيخ (رحمه‌الله) بأن الإنسان مكلف بالطهارة بالمتيقن طهارته المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله ، والمستعمل في غسل الجنابة ليس كذلك ، لانه مشكوك فيه ، فلا يخرج عن العهدة باستعماله ، ولا معنى لعدم الاجزاء إلا ذلك. وبما رواه عبد الله بن سنان ثم ساق الرواية كما قدمنا (١). ولم يحضرني من كتب أولئك القائلين زيادة على ما ذكرت لا حقق منه الحال ، وينبغي التنبيه لمثل ذلك. وعلى تقدير كون محل البحث على ما نقله الأصحاب من العموم فلا يخفى ان الدليل حينئذ أخص من المدعى لما عرفت. نعم ربما يتمسك بقوله (عليه‌السلام) في رواية عبد الله بن سنان (٢) التي هي أحد أدلة ذلك القول : «وأشباهه» بعطفه على «الماء الذي يغتسل به من الجنابة». إلا ان فيه احتمال عطفه على فاعل «يجوز» اعني قوله : «ان يتوضأ به» بمعنى انه لا يجوز الوضوء به ولا أشباه الوضوء من سائر الاستعمالات في رفع حدث أو خبث.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٣٦.

(٢) في الصحيفة ٤٣٦.

٤٤٨

(الخامسة) ـ نفى جملة من المتأخرين الخلاف عن المستعمل في الأغسال المندوبة ونقل ذلك ايضا عن الشيخ في الخلاف ، وهو ظاهره في الاستبصار أيضا. والظاهر انه بناء منهم على عدم رفعه الحدث ، كما هو المشهور من عدم التداخل بين الأغسال المستحبة والواجبة وعدم رفع المستحب للحدث ، وإلا فإنه يأتي الكلام فيه ايضا كما لا يخفى. وسيأتي ما يوضح هذه الجملة في بحث نية الوضوء ان شاء الله تعالى.

(السادسة) ـ إذا وجب الغسل من حدث مشكوك فيه ـ كمن تيقن الجنابة والغسل وشك في المتأخر منهما ، وواجد المني في ثوبه المختص به ، ونحوهما ـ فهل يكون الماء مستعملا أم لا؟ اشكال نبه عليه في المنتهى ، قال : «لأنه ماء طاهر في الأصل لم تعلم ازالة الجنابة به ، فلا يلحقه حكم المستعمل. ويمكن ان يقال انه مستعمل ، لانه قد اغتسل به من الجنابة وان لم تكن معلومة ، الا ان الاغتسال معلوم فيلحقه حكمه ، لأنه ماء أزال مانعا من الصلاة ، فانتقل اليه المنع كالمتيقن» انتهى.

واستظهر بعض (١) الاحتمال الأول ، ووجهه غير ظاهر.

والأظهر عندي الثاني ، لأنه متى حكم بكونه محدثا شرعا وممنوعا من الصلاة بدون الغسل ، ترتب على غسله ما يترتب على غسل متيقن الحدث. واما كونه كذلك واقعا أم لا فلا يؤثر في المقام ، إذ الأحكام الشرعية ـ كما عرفت في غير موضع ـ إنما ترتبت على الظاهر لا على نفس الأمر والواقع.

(السابعة) ـ هل يشترط في صدق الاستعمال الانفصال عن البدن أم لا؟ المفهوم من كلام العلامة (قدس‌سره) ـ في النهاية والمنتهى ـ الثاني ، قال في المنتهى : «لو اغتسل من الجنابة وبقيت في العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على العضو الى تلك اللمعة جاز ، اما على ما اخترناه نحن فظاهر ، واما على قول

__________________

(١) هو المحقق الشيخ حسن في المعالم ، والفاضل الخراساني في الذخيرة (منه رحمه‌الله).

٤٤٩

الحنفية فكذلك (١) لأنه إنما يكون مستعملا بانفصاله عن البدن ، الى ان قال : وليس للشيخ فيه نص ، والذي ينبغي ان يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة ، فإنه لم يشترط في المستعمل الانفصال» انتهى.

وأنكر هذه النسبة إلى الشيخ (رحمه‌الله) جمع ممن تأخر عنه ، لعدم تصريحه بذلك في كتبه المشهورة ، مع استلزام ذلك عدم الاجتزاء بإجراء الماء في الغسل من محل الى آخر بعد تحقق مسماه. وهو بمحل من البعد بل البطلان ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في كيفية الغسل من الجنابة (٢).

(الثامنة) ـ لو اجتمع كر فصاعدا من الماء المستعمل ، فهل يزول عنه حكم الاستعمال بذلك أم لا؟ قولان ، اختار أولهما الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى ، وثانيهما المحقق في المعتبر. وتردد الشيخ في الخلاف.

احتج في المنتهى بما حاصله ان بلوغ الكر مانع من الانفعال بالنجاسة. فمنعه من الانفعال بارتفاع الحدث أولى ، إذ لو كانت نجاسة لكانت تقديرية. وبأنه لو اغتسل في كر لما انفعل فكذا المجتمع. ثم قال : «لا يقال : يرد ذلك في النجاسة العينية. لأنا نقول : هناك إنما حكمنا بعدم الزوال لارتفاع قوة الطهارة بخلاف المتنازع» انتهى.

احتج المحقق في المعتبر بان ثبوت المنع معلوم شرعا فيقف ارتفاعه على وجود الدلالة ، قال : «وما يدعى ـ من قول الأئمة (عليهم‌السلام) : «إذا بلغ الماء كرا

__________________

(١) تقدم الكلام في قول الحنفية في التعليقة ٣ في الصحيفة ٤٣٦.

(٢) لتصريح جملة منها «انه يصب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» وفي بعض «ان كان يغتسل في مكان يسيل الماء على رجليه بعد الغسل فلا عليه ان لا يغسلهما ، وان كان يغتسل في مكان يستنقع رجلاه في الماء فليغسلهما» (منه رحمه‌الله).

٤٥٠

لم يحمل خبثا» (١). ـ لم نعرفه ولا نقلناه عنهم ، ونحن نطالب المدعي نقل هذا اللفظ بالإسناد إليهم. اما قولهم (عليهم‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (٢). فإنه لا يتناول موضع النزاع ، لان هذا الماء عندنا ليس بنجس ، ولو بلغ كرا ثم وقعت فيه نجاسة لم تنجسه. نعم لا يرتفع ما كان فيه من المنع» انتهى.

ونقل عن الشيخ في الخلاف ان منشأ التردد عنده ، من انه ثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرا فيحتاج في جواز استعماله بعد بلوغه الى دليل ، ومن دلالة ظاهر الآيات والأخبار على طهارة الماء ، خرج منه الناقص عن الكر بدليل فيبقى ما عداه ، وقولهم (عليهم‌السلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (٣).

ولا يخفى على المنصف الخبير ان ما ذهب اليه المحقق هو الحري بالتخيير ، قال في المعالم بعد نقل كلمات القوم في هذا المجال ، ونعم ما قال : «والعجب ان الشيخ احتج في الخلاف ـ على عدم زوال النجاسة في المجتمع من الطاهر والنجس ـ بأنه ماء محكوم بنجاسته ، فمن ادعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع ، فعليه الدليل ، وليس هناك دليل فيبقى على الأصل. ولو صح الحديث الذي جعله في موضع النزاع منشأ لاحتمال زوال المنع ، لكان دليلا على زوال النجاسة هناك ، وليس بين الحكمين في الخلاف إلا أوراق يسيرة. والحق بناء الحكم هنا على الخلاف الواقع في زوال النجاسة بالإتمام ، فمن حكم بالزوال هناك تأتى له الحكم هنا بطريق اولى ، ومن لا فلا. واما التفرقة التي صار إليها الشيخ والعلامة فلا وجه لها» انتهى.

(التاسعة) ـ قال في المنتهى : «لو غسل رأسه خارجا ثم أدخل يده في القليل

__________________

(١) تقدم الكلام فيه في التعليقة ١ في الصحيفة ٣٤٦.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) تقدم الكلام فيه في التعليقة ١ في الصحيفة ٣٤٦.

٤٥١

ليأخذ ما يغسل به جانبه ، فالأقرب ان الماء لا يصير مستعملا ، ولو نوى غسل يده صار مستعملا» انتهى.

وتوقف في النهاية في صورة وضع اليد ليأخذ ما يغسل به.

قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين (١) : «وكأن وجه التوقف انه لا دخل للقصد في غسل اليد ، بل إدخاله يده في الإناء يحسب من الغسل وان لم يقصده ، فيصير به مستعملا. ولا يخفى ان لهذا الوجه قوة سيما إذا كان عند إدخال اليد ذاهلا عن أنه يقصد الغسل والأخذ ، وحينئذ يقوى الاشكال. وما ذكره بعضهم ـ من انه لا وجه لهذا التوقف ـ لا وجه له» انتهى. وأشار بقوله : «وما ذكره بعضهم. إلخ» الى صاحب المعالم ، حيث قال بعد نقل التوقف عن النهاية : «ولا وجه له».

أقول : وما ذكره هذا الفاضل مردود من وجوه :

(أحدها) ـ ما تقدم في الفائدة الاولى من الاتفاق على خروج مثل ذلك عن المستعمل ، كما يدل عليه أخبار غسله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع عائشة.

و (ثانيها) ـ ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في بحث النية من ان المدار في تميز الأفعال بعضها عن بعض من عبادات وغيرها على القصود والنيات.

و (ثالثها) ـ انه يأتي على قوله انه لو ارتمس في الماء وكان جنبا ذاهلا عن قصد الغسل فضلا عن ان يكون ناويا لأخذ شي‌ء من داخل الماء ، فإنه يحصل له الطهارة من حدث الجنابة. ولا أظنه يلتزمه.

وبالجملة فكلامه هنا مما لا ينبغي ان يلتفت اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.

(العاشرة) ـ لا يخفى انه كما يصدق المستعمل بالنسبة الى ما يسيل ويتقاطر من الاغتسال ترتيبا ، كذلك يصدق بالنسبة الى ما يغتسل فيه ارتماسا من الماء القليل

__________________

(١) هو الفاضل الخوانساري في شرح الدروس (منه رحمه‌الله).

٤٥٢

من غير خلاف يعرف فيه بينهم. إلا ان الخلاف هنا وقع في موضعين :

(أحدهما) ـ ان المرتمس إذا نوى خارج الماء سواء كان بجميع بدنه أم لا ، فهل يحكم بصحة غسله وان كان الماء يصير مستعملا بعد إتمام غسله ، أو يصير الماء بمجرد إدخال عضو فيه بعد النية مستعملا ويكون غسله حينئذ باطلا ، بناء على المنع من استعمال المستعمل ثانيا.

قرب في المنتهى الأول وجعله في النهاية احتمالا ، حيث قال فيها : «لو نوى قبل تمام الانغماس اما في أول الملاقاة أو بعد غمس بعض البدن ، احتمل ان لا يصير مستعملا ، كما لو ورد الماء على البدن ، فإنه لا يحكم بكونه مستعملا بأول الملاقاة ، لاختصاصه بقوة الورود ، والحاجة الى رفع الحدث ، وعسر افراد كل موضع بماء جديد. وهذا المعنى موجود سواء كان الماء واردا أو هو» انتهى.

أقول : وربما كان وجه الاحتمال الآخر هو الفرق بين الغسل الترتيبي والارتماسي ، بأن يقال : ان عدم الحكم بكونه مستعملا في الترتيبي بأول الملاقاة ـ لما ذكر من الضرورة ولزوم الحرج ـ لا يستلزم الحكم بذلك في الارتماسي ، لانتفائهما فيه ، بأن ينوي بعد تمام الانغماس لئلا يلزم المحذور المذكور. إلا ان فيه ان ما دل على جواز الارتماس من الأخبار مطلق لا تقييد فيه بكونه في الكثير أو كون النية بعد تمام الانغماس في الماء. وما دل من الأخبار على منع استعمال المستعمل ثانيا ـ بعد تسليمه ـ لا شمول له للصورة المذكورة حتى تقيد به تلك الأخبار ، فيجب العمل بإطلاق تلك الأخبار ، والحكم باجزاء الارتماس على اي نحو كان.

و (ثانيهما) ـ إذا نوى بعد تمام انغماسه في الماء فإنه يصح غسله إجماعا ويكون الماء مستعملا ، لكن هل يكون مستعملا بالنسبة اليه والى غيره وان لم يخرج من الماء ، أو لا يكون مستعملا بالنسبة إليه حتى يخرج من الماء أو ينتقل الى محل آخر وان كان مستعملا بالنسبة إلى غيره بدون ذلك ، أو يكون

٤٥٣

مستعملا بالنسبة إليه بدون ذلك ولا يكون مستعملا بالنسبة إلى غيره إلا بذلك؟ أقوال :

(أولها) ـ صريح العلامة في المنتهى ، حيث قال : «لو انغمس الجنب في ماء قليل ، فان نوى بعد تمام انغماسه واتصال الماء بجميع البدن ارتفع حدثه ، لوصول الماء الطهور الى محل الحدث مع النية ، ويكون مستعملا ، وهل يحكم بالاستعمال في حق غيره قبل انفصاله عنه؟ الوجه ذلك» انتهى.

و (ثانيها) ـ ظاهر الشهيد في الذكرى ، حيث قال : «يصير الماء مستعملا بانفصاله عن البدن ، فلو نوى المرتمس في القليل بعد تمام الارتماس ارتفع حدثه وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره وان لم يخرج».

وأورد عليه بان حكمه ـ بصيرورته مستعملا بالنسبة إلى غيره قبل الخروج ـ مشكل بعد قوله أولا : ان الاستعمال يتحقق بانفصاله عن البدن ، إذ مقتضاه توقف صيرورته مستعملا حينئذ على خروجه أو انتقاله تحت الماء الى محل آخر غير ما ارتمس فيه.

وأجيب بأنه كان مراده اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة إلى نفس المغتسل وان كان ظاهر عبارته العموم. ولا يخلو من بعد ، لعدم صحة تفريع «فلو نوى» على ما قبله (١).

ولعل الأظهر في الجواب انه (قدس‌سره) جعل تمام الارتماس المترتب عليه ارتفاع الحدث وصيرورة الماء مستعملا في حكم انفصال الماء عن البدن ، فيكون مراده بانفصال الماء عن البدن المترتب عليه صيرورته مستعملا ما هو أعم من ذلك. وبهذا المعنى

__________________

(١) لانه متى فسر قوله : «يصير الماء مستعملا. إلخ» بالمغتسل نفسه وخص به يصير اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة إليه خاصة ، مع ان ما فرع عليه من صيرورة الماء مستعملا بعد نية المرتمس بعد تمام الارتماس انما هو بالنسبة إلى الغير ، ولا وجه للتفريع المذكور ، لتغاير محل الحكم المذكور (منه رحمه‌الله).

٤٥٤

صرح شيخنا الشهيد الثاني في شرح الإرشاد (١) والظاهر ان تحقق الاستعمال وصدقه على الماء متفرع على رفع الحدث به في صورة الارتماس وان لم يخرج ، إذ يصدق عليه انه ماء اغتسل به من الجنابة ، فتشمله رواية ابن سنان (٢) القائلة بان ما يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز ان يتوضأ به. ويجب بناء على العمل بها التجنب عنه. واما التوقف على الخروج أو الانتقال فمما لا دليل عليه في حقه ولا في حق غيره. لما ذكرناه.

و (ثالثها) ـ ظاهر العلامة في النهاية ، حيث قال : «لو انغمس الجنب في ماء قليل ونوى ، فان نوى بعد تمام انغماسه فيه واتصال الماء بجميع البدن ارتفع حدثه وصار مستعملا للماء ، وهل يحكم باستعماله في حق غيره قبل انفصاله؟ يحتمل ذلك ، لانه مستعمل في حقه فكذا في حق غيره. وعدمه ، لان الماء ما دام مترددا على أعضاء المتطهر لا يحكم باستعماله. فعلى الأول لا يجوز لغيره رفع الحدث به عند الشيخ ويجوز على الثاني» انتهى. ولا يخفى عليك ما في تعليله العدم من الوهن بما حققناه قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى وكلام النهاية : «والتحقيق ان الانفصال إنما يعتبر في صدق الاستعمال بالنظر الى المغتسل ، فما دام الماء مترددا على العضو لا يحكم باستعماله بالنسبة اليه ، وإلا لوجب عليه افراد كل موضع من البدن بماء جديد ، ولا ريب في بطلانه ، إذ الأخبار ناطقة بخلافه ، والبدن كله في الارتماس كالعضو الواحد. واما بالنظر الى غير المغتسل فيصدق الاستعمال بمجرد اصابة الماء المحل المغسول بقصد الغسل ، وحينئذ فالمتجه هنا صيرورة الماء مستعملا بالنسبة الى غير المغتسل بمجرد النية والارتماس ، وتوقفه بالنظر اليه على الخروج أو الانتقال. وقد حكم

__________________

(١) حيث قال : «لو ارتمس في القليل ارتفع حدثه بعد تمام الارتماس ، لأنه في حكم الانفصال ، وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره وان لم يخرج منه» انتهى. (منه رحمه‌الله).

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٤٣٦.

٤٥٥

في المنتهى بصيرورته مستعملا بالنسبة إليهما قبل الانفصال. والوجه ما ذكرناه» انتهى.

وفيه نظر من وجوه :

(اما أولا) ـ فلان هذا الفرق الذي ذكره بين المغتسل وغيره اما مستفاد من كلام المانعين أو من الأدلة الواردة لهم ، وكلاهما ممنوع (اما الأول) فلعدم تصريح أحد منهم بذلك. و (اما الثاني) فلأن المستفاد من رواية ابن سنان (١) التي هي أصرح أدلتهم صدق الاستعمال على هذا الماء بعد حصول رفع الحدث به ، انفصل أو لم ينفصل. واما ما علل به عدم الاستعمال بالنسبة إلى المغتسل نفسه ـ من انه ما دام الماء مترددا على العضو لا يحكم. إلخ ـ ففيه ان هذا انما يلزم بالنسبة إلى المغتسل ترتيبا أو ارتماسا إذا نوى خارج الماء مثلا كما تقدمت الإشارة إليه آنفا ، لا فيما إذا نوى بعد تمام الارتماس كما هو المفروض. وعدم الحكم بكونه مستعملا ثمة للحرج الذي ذكره لا يستلزم ذلك في محل البحث ، لعدم العلة المذكورة.

و (اما ثانيا) ـ فلانه يرد عليه انه لو لم يخرج من الماء مدة يوم مثلا لا يحكم باستعمال الماء بالنسبة إليه فيجوز له الوضوء أو الاغتسال منه ، بل ولو خرج بعض بدنه ولم يخرج بتمامه. والتزامه لا يخلو من بعد.

و (اما ثالثا) ـ فلان حكمه بأن الانتقال بمنزلة الخروج ـ في صدق الاستعمال به ـ فيه ان جميع هذا الماء اما في حكم الماء الواحد أو المياه المتعددة ، فعلى الأول فما لم ينفصل عنه بتمامه فإنه يجري فيه الدليل الذي ذكره ، وعلى الثاني فإنه يلزم جواز ان يتطهر به شخص آخر في موضع آخر منه وان انتقل أو خرج ايضا ، وهو لا يقول به. نعم اعتبار الانتقال أو الخروج انما يعتبر بعد النية داخل الماء في صدق الغسل الذي هو عبارة عن جري جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو بمعاون لو كان الماء ساكنا ، وهو غير محل البحث.

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٤٣٦.

٤٥٦

(الحادية عشرة) ـ هل يختص البحث في هذه المسألة والخلاف فيها بما كان قليلا فقط ، أو يشمل الكثير ايضا؟

الظاهر من كلمات جمع من الأصحاب ـ تصريحا تارة وتلويحا اخرى ـ هو الاختصاص بالقليل.

ونقل بعض فضلاء متأخري المتأخرين عن شيخنا المفيد في المقنعة انه حكم بكراهة الارتماس في الماء الكثير الراكد. والظاهر انه ليس الوجه فيه إلا صيرورته مستعملا يمتنع الطهارة به من الحدث ثانيا بناء على مذهبه. والكراهة في كلام المتقدمين ـ كما هو في الأخبار ـ أعم من المعنى المصطلح.

قال شيخنا البهائي (قدس‌سره) في حواشي كتاب الحبل المتين ـ بعد ان نقل في الأصل صحيحة صفوان بن مهران الجمال الدالة على السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، وقد تقدمت في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة (١) وصحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع (٢) قال : «كتبت الى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقى فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من البول أو يغتسل فيه الجنب ، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب : لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه». ـ ما صورته : «استدلال العلامة في المختلف بالحديث السابع والثامن يعطي ان الخلاف ليس في الماء المنفصل عن أعضاء الغسل فقط ، بل هو جار في الكر الذي يغتسل فيه ايضا فتدبر» انتهى.

أقول : فيه ان الظاهر ان استدلال العلامة بصحيحة صفوان إنما هو من حيث الإطلاق الشامل للأقل من كر ، ولهذا انه نقل ثمة عن الشيخ (رحمه‌الله) الجواب عن الصحيحة المذكورة بالحمل على بلوغ الكر ولم يتعرض لرده. وهو ظاهر في ان الكر ليس محل خلاف كما لا يخفى.

__________________

(١) في الصحيفة ٢٩٦.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

٤٥٧

واما صحيحة محمد بن إسماعيل فلا يخفى ما فيها من الإجمال. لأن الماء المسؤول عنه وان كان السائل قد سأل عن بيان حده الذي يجوز التوضؤ معه لكن الامام (عليه‌السلام) لم يبينه له ، إلا انه بالنظر الى قيام الدليل على نجاسة الماء القليل وانه بالنسبة إلى الطهارة حينئذ في حكم العدم ، فلا بد من الحمل على الكرية وحمل النهي عنه إلا مع الضرورة على التنزيه ، بناء على انه يشترط في ماء الطهارة ما لا يشترط في غيره من المزية ، وحينئذ يتم ما ذكره شيخنا البهائي (رحمه‌الله) بالنسبة الى هذا الخبر.

نعم يبقى الكلام في استدلال العلامة به على الجواز ، فان للخصم الاستدلال به على المنع وحمل الجواز هنا على الضرورة كما ينطق به لفظه ، بعين ما تقدم (١) من حمل الشيخ صحيحة علي بن جعفر على ذلك. وقول العلامة في المختلف ـ في بيان وجه الاستدلال بهذه الرواية : «انه لو كان هذا الماء غير مطهر لما جاز الوضوء منه من ضرورة وغيرها» ـ مردود بحصول الرخص في الشريعة في مواضع لا تحصى ، وليس الرخصة إلا بتجويز ما منع منه تخفيفا وتسهيلا في بعض الموارد كما لا يخفى. إلا ان كلام الشيخ في التهذيب (٢) ظاهر الإباء لذلك ، حيث انه ـ بعد ان نقل عبارة المقنعة الدالة على انه بالاغتسال في الكثير يخالف السنة ـ استدل عليه بالصحيحة المذكورة ، قائلا بعد نقلها : «قوله (عليه‌السلام) : ـ لا توضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه ـ يدل على كراهة النزول فيه ، لانه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال الضرورة. ثم قال : واما الذي يدل على انه لا يفسد الماء إذا زاد على الكر ـ بنزول الجنب فيه ـ ما تقدم من الأخبار وانه إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء» انتهى. وهو ـ كما ترى ـ صريح في عدم دخول قدر الكر في محل الخلاف ، وعبارة المقنعة المنقولة ايضا ظاهرة الانطباق على هذا الكلام ، فحينئذ فما توهم من نسبة الخلاف إليهما في قدر

__________________

(١) في الصحيفة ٤٤٠.

(٢) في الصحيفة ٤٢.

٤٥٨

الكر ايضا ظاهر البطلان إلا ان يعلم تصريحهما بذلك في محل آخر. والله أعلم.

(الثانية عشرة) ـ روى الشيخ في التهذيب (١) في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة ، إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ، فكيف يصنع به وهو يتخوف ان يكون السباع قد شربت منه؟ فقال : إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفا امامه وكفا عن يمينه وكفا عن شماله. فإن خشي ان لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده ، فان ذلك يجزيه. وان كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه. وان كان الماء متفرقا فقدر ان يجمعه وإلا اغتسل من هذا وهذا. فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فان ذلك يجزيه».

أقول : وهذا الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار ، وقد تكلم فيه جملة من علمائنا الأبرار رفع الله تعالى أقدارهم في دار القرار ، وحيث كان مما يتعلق بهذا المقام ويدخل في سلك هذا النظام رأينا بسط الكلام فيه وإردافه بما يكشف عن باطنه وخافية.

فنقول : ان الكلام فيه يقع في مواضع :

(الأول) ـ اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ان النضح للجوانب الأربعة في الخبر المذكور هل هو للأرض أم البدن. وعلى اي منهما فما الغرض منه وما الحكمة فيه؟

فقيل بان محل النضح هو الأرض ، وقد اختلف في وجه الحكمة على هذا القول.

__________________

(١) في الصحيفة ١١٨ ، وفي الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٤٥٩

فظاهر الخبر المشار اليه ـ وبه صرح البعض ـ ان ذلك لدفع النجاسة الوهمية الناشئة من تخوف شرب السباع التي من جملتها الكلاب ونحوها مع قلة الماء. ولكن فيه ان تعداد النضح في الجهات الأربع لا يظهر له وجه ترتب على ذلك ، إذ يكفي النضح في جهة واحدة. ولعل الأقرب كون ذلك لما ذكر مع منع رجوع الغسالة إلى الماء ، كما يشير اليه قوله (عليه‌السلام) في آخر الخبر : «فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه». فإنه يشعر بكون النضح أولا لمنع رجوع الغسالة ، لكن مع قلة الماء على الوجه المذكور لا عليه ان يغتسل ويرجع الى مكانه.

ويؤيد ذلك ويوضحه ان الذي صرح به غير هذا الخبر من الأخبار الواردة في هذا المضمار هو ان العلة منع رجوع الغسالة.

ومنها ـ رواية ابن مسكان (١) قال : «حدثني صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد ان يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال :

ينضح بكف بين يديه وكفا من خلفه وكفا عن يمينه وكفا عن شماله ، ثم يغتسل».

وما رواه في المعتبر (٢) والمنتهى عن جامع البزنطي عن عبد الكريم عن محمد ابن ميسر عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سئل عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : ينضح بكف بين يديه وكف خلفه وكف عن يمينه وكف عن شماله ، ويغتسل».

وبذلك ايضا صرح شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب من لا يحضره الفقيه (٣) حيث قال : «فان اغتسل الرجل في وهدة وخشي ان يرجع ما ينصب عنه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء الماء المضاف والمستعمل.

(٢) في الصحيفة ٢٢.

(٣) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).

٤٦٠