الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

فنقول : حيث كانت الأقسام التي أشرنا إليها خمسة فالبحث يقع ههنا في موارد خمسة :

(الأول) ـ سؤر الآدمي المسلم ، والمراد به ما هو أعم من منتحل الإسلام كما أطلق عليه في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) وحينئذ فينقسم السؤر بالنسبة الى ذلك الى الأقسام الثلاثة المتقدمة ، فالقسم الأول والثاني الطاهر والنجس.

وتحقيق القول فيهما هنا ان نقول : ان بعض أفراد ذي السؤر هنا مما اتفق على طهارته وبعض مما اتفق على نجاسته وبعض مما اختلف فيه.

(فالأول) ـ المؤمن عدا من يأتي ذكره في القسم الثالث ، ولا خلاف ولا إشكال في طهارته وطهارة سؤره بل أفضليته ، لما روي من استحباب الشرب من سؤره والوضوء من فضل وضوئه.

و (الثاني) ـ الخوارج والنواصب والغلاة ، ولا خلاف بين أصحابنا في نجاستهم ونجاسة سؤرهم.

و (الثالث) ـ منه ـ المجسمة والمجبرة ، وقد نقل عن الشيخ في المبسوط القول بنجاستهم ، وتبعه ـ في المجسمة ـ العلامة في المنتهى ، والمشهور الطهارة. والكلام في السؤر تابع للقولين. الا ان جملة من القائلين بالطهارة ذهبوا هنا إلى الكراهة ـ كما سيأتي ذكره ـ تفصيا من خلاف الشيخ (رحمه‌الله).

ومنه ـ ولد الزنا ، فالمنقول عن المرتضى القول بنجاسته ، لانه كافر ، ويعزى القول بكفره الى ابن إدريس أيضا. وربما ظهر ذلك ايضا من كلام الصدوق (رحمه‌الله) في الفقيه ، حيث قال (١) : «ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام» وما قيل ـ من ان عدم جواز الوضوء به

__________________

(١) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).

٤٢١

أعم من النجاسة ، فكلامه ليس بصريح في النجاسة ـ مردود بان ذكره مع المشرك ونحوه قرينة واضحة على إرادة النجاسة ، والمشهور الطهارة. والكلام في السؤر تابع للقولين.

ومنه ـ المخالف ، فقد نقل عن ابن إدريس القول بنجاسته عدا المستضعف ، وعن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن ، وأكثر متأخري الأصحاب على الطهارة. وحكم السؤر تابع لذلك.

(القسم الثالث) ـ المكروه ، ومنه ـ سؤر الحائض على الإطلاق عند جملة من أصحابنا ، ومقيدا بالمتهمة عند آخرين.

احتج الأولون بجملة من الاخبار ، كرواية عنبسة بن مصعب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سؤر الحائض يشرب منه ولا يتوضأ». ومثلها رواية الحسين بن ابي العلاء (٢) ورواية أبي بصير (٣).

ويدل على الثاني موثقة علي بن يقطين عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٤) «في الرجل يتوضأ بفضل الحائض؟ قال : إذا كانت مأمونة فلا بأس».

وموثقة عيص بن القاسم (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن سؤر الحائض قال : توضأ منه ، وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل ان تدخلها الإناء». هكذا رواها في التهذيب (٦) واما في الكافي (٧) فرواها في الصحيح ، وفيها في حكاية جوابه (عليه‌السلام) قال : «لا توضأ منه وتوضأ من سؤر الجنب. الحديث». وحينئذ فيكون منتظما في سلك الأخبار المتقدمة ، وقضية حمل المطلق على المقيد ـ كما هي القاعدة المعمول عليها بينهم ـ تقتضي رجحان القول الثاني.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في باب ـ ٨ ـ من أبواب الأسآر.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأسآر.

(٦) في الصحيفة ٦٣.

(٧) ج ١ ص ٤.

٤٢٢

إلا انه لا يخفى ان الأخبار كلها إنما اتفقت في النهي عن الوضوء خاصة ، واما الشرب ففي بعضها تصريح بجوازه وفي بعضها قد طوي ذكره ، ولعل الوجه في ذلك ما أشرنا إليه آنفا (١) من اختصاص ماء الوضوء بالمزية كما في غير هذا الموضع ، لا من حيث كونه سؤرا ، وإلا لعم.

بقي هنا شي‌ء وهو ان أكثر الأصحاب خصوا الكراهة بسؤر المتهمة ، وهي التي لا تتحفظ من النجاسة ، والروايات المقيدة إنما دلت على جواز الوضوء من سؤر المأمونة ، وهي المتحفظة من الدم ، ولا ريب ان غير المأمونة أعم من أن تكون متهمة أو مجهولة ، والظاهر انه لذلك عدل المحقق في الشرائع عن العبارة المشهورة فعبر بغير المأمونة ، وبه صرح السيد السند في شرحه ، حيث قال مشيرا إلى عبارة المصنف : ان ذلك اولى من إناطتها بالتهمة كما ذكره غيره. قال : «لأن النهي إنما يقتضي انتفاء المرجوحية إذا كانت مأمونة ، وهو أخص من كونها غير متهمة ، لتحقق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون الأول. وما ذكره بعض المحققين ـ من ان المأمونة هي غير المتهمة ، إذ لا واسطة بين المأمونة ومن لا امانة لها ، والتي لا امانة لها هي المتهمة ـ غير جيد ، فان المتبادر من المأمونة من ظن تحفظها من النجاسة ونقيضها من لم يظن بها ذلك ، وهو أعم من المتهمة والمجهولة» انتهى. ويمكن ان يقال : انه وان كان نقيض المأمونة ما ذكره من الأعم من المتهمة والمجهولة ، لكن المراد هنا هو المتهمة خاصة ، لأن تعلق الحكم الذي هو الكراهة بانتفاء المأمونية يقتضي حصول العلم أو الظن بمتعلقه الذي هو عدم المأمونية ، وهو لا يحصل مع الجهل بحالها ، لاحتمال كونها مأمونة واقعا.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٢٠.

٤٢٣

فرع

ألحق الشهيد في البيان بالحائض المتهمة ـ بناء على ما اختاره من التقييد بالمتهمة ـ كل متهم ، واستحسنه جملة ممن تأخر عنه ـ منهم : الشهيد الثاني في الروضة. ورده المحقق الشيخ علي بأنه تصرف في النص. ونقل بعض فضلاء المتأخرين عبارة الشيخ علي بما صورته بأنه تصرف في التصرف. وقال في توجيهها : «وكأنه أراد بذلك ان قصر الكراهة في سؤر الحائض على المتهمة ـ للجمع بين الاخبار ـ تصرف أول ، ثم تعدية الحكم الى كل متهم إنما حصل بهذا التصرف ، فهو تصرف ثان في التصرف الأول» وفيه ان مرمى هذه العبارة يؤذن بعدم قوله بالتقييد واختياره له ، مع انه صرح في صدر هذا الكلام بأنه الأصح عنده ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : والحائض المتهمة ـ ما لفظه : «اي بعدم التحفظ من النجاسة والمبالاة بها على الأصح ، جمعا بين روايتي النهي عن الوضوء بفضلها ونفي البأس إذا كانت مأمونة» والظاهر ان ما نقله الفاضل المذكور ناشئ عن غلط في نسخته وتصحيف النص بالتصرف ، والمعنى على ما نقلنا ظاهر لا سترة عليه.

ومن هذا القسم ايضا ما اختلف فيه بالطهارة والنجاسة عند من اختار الطهارة خروجا من خلاف من قال بالنجاسة وان كان من غير الآدمي كما سيأتي ، قال في المعالم بعد ذكر جملة من الافراد المختلف في طهارتها ونجاستها ، ونقل القول بالكراهة في بعضها عن المحقق خروجا من خلاف من قال بالنجاسة ، واعتراضه عليه بأنه لا وجه للتخصيص بالبعض ، لان دليله آت في الكل ـ ما صورته : «وبالجملة فكراهة المذكورات لا ينبغي التوقف فيها حيث يقال بالطهارة ، فإن رعاية الخروج من الخلاف كافية في مثله» انتهى. وفيه نظر ، فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل ومجرد ذهاب البعض وخلافه في الحكم ليس بدليل شرعي حتى تبنى عليه الأحكام

٤٢٤

الشرعية ، فإن أجيب بان الوجه فيه الاحتياط ، قلنا : فيه (أولا) ـ ان الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي. و (ثانيا) ـ انه مع جعله دليلا شرعيا ـ كما هو الأظهر عندنا كما قدمنا تحقيقه في المقدمة الرابعة ـ فهو يدور مدار الاختلاف بين الأدلة كما هو أحد موارده لا مدار الاختلاف بين العلماء وان كان لا عن دليل ، وحينئذ فالحكم بالكراهة ـ فيما تعارضت فيه أدلة الطهارة والنجاسة مع رجحان الأول ـ متجه.

ويلحق بالمسلم ـ في الطهارة والنجاسة عند الأصحاب ـ من بحكمه من الطفل المتولد منه ، ومسبيه والمجنون ، ولقيط دار الإسلام ، ومثله لقيط دار الكفر إذا أمكن تولده من مسلم على قول.

(المورد الثاني) ـ سؤر الكافر ومن بحكمه. ولا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسة من عدا اليهود والنصارى من أصناف الكفار ، سواء كان كفرا أصليا أو ارتداديا ، ونجاسة سؤرهم حينئذ تابع لهم. واما اليهود والنصارى فمحل خلاف بين الأصحاب والأخبار ، كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محله. والحكم في سؤرهم تابع للمترجح من الطرفين. وظاهر القائلين بالطهارة الحكم بكراهة اسآرهم على ما نص عليه في المعالم وغيره. ولا بأس به ، لا لما ذكروه من التفصي من خلاف من ذهب الى القول بالنجاسة ، بل من حيث ان الأخبار متعارضة فيهم طهارة ونجاسة ، فمتى ترجح القول بالطهارة منها فلا بأس بالاحتياط بالنجاسة بحمل ما دل على النجاسة على الاستحباب.

وبحكم الكافر طفله عند الأصحاب ، معللين ذلك بنجاسة أصله ، واستشكله في المدارك بان الدليل ان تم فإنما يدل على نجاسة الكافر المشرك واليهود والنصارى ، والولد قبل بلوغه لا يصدق عليه شي‌ء من ذلك. وهو جيد في الظاهر ، ويؤيده الخبر المشهور عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «ان كل مولود يولد على الفطرة ، وإنما أبواه

٤٢٥

يهودانه أو ينصرانه» (١). فان من الظاهر ان التهويد والتنصير إنما يثبت له مع البلوغ أو بعده ، لما يحصل له من طول المعاشرة والممارسة معهما والانس بهما قبل ذلك ، فيؤثر فيه ويورثه الميل الى مذهبهما واختياره. وتحقيق المسألة كما هو حقه يأتي ان شاء الله تعالى في باب التطهير من النجاسات.

(المورد الثالث) ـ سؤر غير الآدمي من الحيوان المأكول اللحم. ولا خلاف في طهارته لطهارة حيوانه ، إلا ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) حكموا بالكراهة في جملة من افراده.

فمن ذلك ـ سؤر الحيوانات الثلاثة : الخيل والبغال والحمير الأهلية (٢) ولم نقف له على مستند ، وربما علل بان فضلات الفم التي لا تنفك عنها تابعة للجسم. وهو مجرد دعوى خالية من الدليل.

__________________

(١) رواه المجلسي في البحار ج ٢ ص ٨٨ عن غوالي اللئالي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفي ج ١٥ ص ٣٦ قال : وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كل مولود. إلخ» وفي أصول الكافي باب (فطرة الخلق على التوحيد) في حديث عن ابى جعفر (عليه‌السلام) «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : كل مولود يولد على الفطرة ، يعنى على المعرفة بأن الله تعالى خالقه».

ورواه صاحب الوسائل في الباب ٤٨ من كتاب الجهاد عن الصادق (عليه‌السلام) هكذا : «ما من مولود يولد الا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه».

ورواه أحمد في مسنده ج ٢ ص ٢٧٥ عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ورواه عنه ايضا مسلم في الصحيح ج ٢ ص ٤١٢ ورواه البخاري في آخر كتاب الجنائز باب (أولاد المشركين) وفي كتاب القدر باب (الله اعلم بما كانوا عاملين) عن أبي هريرة بلفظ «ما من مولود. إلخ» ورواه ابن حجر في مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢١٨.

(٢) في التقييد بالأهلية إشارة إلى خروج الوحشية من هذه الحيوانات ، لما نقله بعض الأصحاب من الاتفاق على انتفاء الكراهة في الوحشية ، وهو الذي يظهر من الدليل كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى (منه رحمه‌الله).

٤٢٦

ويمكن الاستدلال على ذلك بمفهوم رواية سماعة (١) قال : «سألته هل يشرب سؤر شي‌ء من الدواب ويتوضأ منه؟ فقال : أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس».

وثبوت البأس بالمفهوم وان كان أعم من التحريم ، إلا ان جملة من الأخبار لما دل على جواز الشرب والوضوء من سؤرها ، حمل البأس هنا على الكراهة.

ومما دل على الجواز خصوص صحيحة أبي العباس (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، فلم اترك شيئا إلا سألته عنه ، فقال : لا بأس به. حتى انتهيت الى الكلب ، فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء.».

ورواية معاوية بن شريح (٣) قال : «سأل عذافر أبا عبد الله (عليه‌السلام) ـ وانا عنده ـ عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم اشرب منه وتوضأ. قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا والله انه نجس ، لا والله انه نجس».

وصحيحة جميل بن دراج (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن سؤر الدواب والغنم والبقر أيتوضأ منه ويشرب؟ فقال : لا بأس».

وعموم صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «لا بأس بأن يتوضأ مما يشرب منه ما يؤكل لحمه» ومثلها موثقة عمار (٦) وفيها «كل ما

__________________

(١ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسآر.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسآر ، وفي الباب ـ ١١ ـ من أبواب النجاسات.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسآر.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسآر.

٤٢٧

أكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب».

والحق تقديم العمل بهذه الأخبار ، لاستفاضتها وصراحتها صحة أكثرها ، وضعف ما عارضها سندا ودلالة.

ومنها ـ سؤر الدجاج. وقد أطلق العلامة وغيره كراهة سؤرها ، وعلل بعدم انفكاك منقارها عن النجاسة غالبا ، وحكى في المعتبر عن الشيخ (رحمه‌الله) انه قال : «يكره سؤر الدجاج على كل حال» ثم قال بعده : وهو حسن ان قصد المهملة ، لأنها لا تنفك عن الاغتذاء بالنجاسة. وبه جزم في المعالم ايضا.

وأنت خبير بأن الأخبار الواردة هنا عموما وخصوصا متفقة في نفي البأس عن ذلك وجواز الوضوء والشرب منه.

فمن الأول ـ صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة عمار المتقدمتان.

ومن الثاني ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «فضل الحمامة والدجاج لا بأس به والطير».

وموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) انه «سئل عن ماء شربت منه الدجاجة. قال : ان كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب ، وان لم تعلم ان ان في منقارها قذرا توضأ منه واشرب ، وقال : كل ما يؤكل لحمه فليتوضأ منه وليشربه».

ولا يخفى ان الخروج عن مدلول هذه الروايات عموما وخصوصا ـ وحملها على مجرد نفي الحرمة بمجرد ما ذكروا من التعليل ـ لا يخلو من مجازفة ، سيما ان الكراهة ـ كما عرفت آنفا ـ حكم شرعي ، فيتوقف ثبوته على الدليل.

وما ربما يقال ـ من ان الأمر بالاحتياط في الدين الوارد في جملة من الأخبار

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسآر.

٤٢٨

يشمل مثل هذا ـ ففيه (أولا) ـ ما قدمنا من ان الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي. و (ثانيا) ـ ان المستفاد من الأخبار الدالة على عدم السؤال والفحص عما يشترى من أسواق المسلمين ويؤخذ من أيديهم ـ والنهي عن ذلك وان كان احتمال التحريم أو النجاسة فيه قائما ، والبناء في ذلك على ظاهر الحل والطهارة ، عملا بسعة الحنيفية السمحة السهلة ـ عدم الاحتياط هنا.

(المورد الرابع) ـ سؤر غير الآدمي من الحيوان الغير المأكول اللحم عدا الكلب والخنزير. وقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فذهب الفاضلان وجمهور المتأخرين إلى طهارة سؤر كل حيوان طاهر ، ونقل ايضا عن النهاية والخلاف ، إلا انه استثنى في النهاية سؤر آكل الجيف من الطير ، ونقل عن المرتضى وابن الجنيد استثناء الجلال ، ونقل عن ظاهر الشيخ (رحمه‌الله) في كتابي الأخبار المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه ، لكنه في الاستبصار استثنى من ذلك سؤر الفأرة والبازي والصقر ونحوهما من الطيور. ونقل عن المبسوط انه ذهب الى عدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الانسي عدا ما لا يمكن التحرز منه كالفأرة والحية والهرة ، وجواز استعمال سؤر الطاهر من الحيوان الوحشي طيرا كان أو غيره ، حكاه عنه المحقق في المعتبر. ونقل في المختلف عن ابن إدريس انه حكم بنجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر من غير الطير مما يمكن التحرز عنه. والأظهر من هذه الأقوال هو القول الأول ومحل الخلاف هنا في مواضع أربعة :

(أحدها) ـ الجلال ، وقد عرفت ان المرتضى وابن الجنيد استثنياه من السؤر المباح ، وكذا نقل عن الشيخ في المبسوط. ومقتضى كلامهم الحكم بنجاسة السؤر مع طهارة حيوانه. وقد اعترف جمع ممن تقدمنا انهم لم يقفوا له على دليل.

وربما استدل عليه بان رطوبة أفواهها ينشأ من غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.

٤٢٩

ورد بمنع الملازمة ، وبالنقض ببصاق شارب الخمر إذا لم يتغير به ، وبما لو أكل غير العذرة مما هو نجس.

أقول : ومن المحتمل قريبا ان حكم الشيخ (رحمه‌الله) بنجاسة اللعاب هنا لحكمه بنجاسة العرق. إلا ان فيه ان مورد الدليل العرق خاصة ، والتعدية قياس.

ويدل على المشهور أصالة الطهارة ، وعموم صحيحة الفضل المتقدمة (١) وكذا رواية أبي بصير السالفة (٢) وموثقة عمار (٣) ، حيث قال فيها : «وسئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال : كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا ان ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب».

وحكم جمهور الأصحاب هنا بالكراهة أيضا خروجا من خلاف أولئك الجماعة.

وفيه ما عرفت آنفا (٤) نعم يمكن الاستدلال على ذلك برواية الوشاء عمن ذكره عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «انه كان يكره سؤر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه».

ومفهوم موثقة عمار المتقدمة (٦) الدالة على ان كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب فان الظاهر ان المقام هنا قرينة على التقييد بالوصف ، لكونه مناط الحكم. إلا انه لا يخلو ايضا من خدش.

(ثانيها) ـ آكل الجيف ، وقد عرفت ان الشيخ في النهاية استثناه من طهارة سؤر كل حيوان طاهر وحكم بنجاسته ، والمشهور الطهارة كما تقدم. ولم نقف للشيخ على دليل ، وبذلك اعترف جمع من الأصحاب أيضا ، وظواهر الأخبار المتقدمة وغيرها ظاهر في العدم.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٢٧.

(٢) في الصحيفة ٤٢٨.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسآر.

(٤) في الصحيفة ٤٢٤.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسآر.

(٦) في الصحيفة ٤٢٨.

٤٣٠

وقد صرح الأصحاب هنا بالكراهة أيضا لعين ما تقدم. وفيه ما عرفت غير مرة.

وصار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) إلى الكراهة هنا تمسكا بما قدمنا ذكره في الجلال من التمسك برواية الوشاء وموثقة عمار.

وفيه (أولا) ـ انه لا يقوم دليلا على العموم ، لعدم جريانه فيما يؤكل لحمه.

و (ثانيا) ـ ان الحكم معلق على عدم كونه مأكول اللحم ، ولا مدخل فيه لأكل الجيف ، وهو ظاهر.

(ثالثها) ـ ما لا يؤكل لحمه عدا ما استثني ، وقد تقدم الإشارة إلى الخلاف فيه. ونقل عن الشيخ في الاستبصار الاستدلال عليه بقوله (عليه‌السلام) في موثقة عمار المتقدمة (١) : «كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب» (٢). حيث قال (قدس‌سره) : «هذا يدل على ان ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضؤ به والشرب منه ، لأنه إذا شرط في استباحة سورة ان يؤكل لحمه دل على ان ما عداه بخلافه ، وهذا يجري مجرى قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في سائمة الغنم الزكاة. في انه يدل على ان المعلوفة ليس فيها زكاة».

أقول : ويدل على الاستثناء الذي ذكره (طاب ثراه) موثقة عمار بن موسى الأخيرة (٣) الدالة على حكم الطير ، ورواية إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) «ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسآر.

(٢) الاستدلال بهذه الموثقة على ذلك موجود في التهذيب ايضا ، والعبارة التي ينقلها هي عبارة التهذيب ص ٦٣ ، وليست هذه العبارة في الاستبصار عند تعرضه للموثقة ص ٢٥ من طبع النجف.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٤٣٠.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسآر.

٤٣١

أن يشرب منه ويتوضأ منه». وغيرهما مما تضمن نفي البأس عن تلك الأشياء التي استثناها عموما أو خصوصا.

ورد هذا القول (أولا) ـ بابتنائه على حجية مفهوم الوصف. والأصح عدم حجيته و (ثانيا) ـ باشتمال سند الرواية على جملة من الفطحية.

و (ثالثا) ـ بالمعارضة بما هو أكثر عددا وأصح سندا ، وقد تقدم من ذلك شطر فيما قدمنا من الأخبار.

ومن أظهر الأدلة التمسك بأصالة الطهارة عموما وخصوصا ، فإنها أقوى دليل في الباب وان غفل عن الاستدلال بذلك الأصحاب.

وقد حكم جمهور الأصحاب هنا بالكراهة أيضا تفصيا من الخلاف. ولا بأس به ، لكن لا لما ذكروا ، بل لما عرفت من دلالة رواية الوشاء المتقدمة (١).

(رابعها) ـ المسوخ. وقد حكي عن ابن الجنيد انه استثنى المسوخ من الحكم بطهارة سؤر ما لا يؤكل لحمه ، وذكر في المعالم ان كلامه محتمل لنجاستها ، أو نجاسة لعابها وحده ، كما نقل التصريح به عن بعض الأصحاب. ونقل المحقق في المعتبر عن الشيخ القول بنجاستها ، ونسب هذا القول في المختلف الى سلار وابن حمزة أيضا. وكلام سلار في رسالته كالصريح في نجاسة اللعاب ومحتمل لنجاسة العين والمشهور بين الأصحاب الطهارة على كراهية. والحكم بالكراهة عندهم جار على نحو ما تقدم. ومما يدل على الطهارة عموم الأخبار المتقدمة كصحيحة الفضل (٢) ونحوها.

(المورد الخامس) ـ سؤر نجس العين من الحيوان غير المأكول اللحم وغير الآدمي ، وهو الكلب والخنزير. ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته لنجاسة أصله.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٣٠.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٤٢٧.

٤٣٢

فذلكة (١)

المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارة فم الهرة بمجرد زوال عين النجاسة سواء غابت عن العين أم لا ، صرح بذلك الشيخ والمحقق والعلامة وغيرهم ، وألحق جملة من المتأخرين بها كل حيوان غير الآدمي ، واستحسنه السيد السند في المدارك. وقيل بالنجاسة ، لأصالة البقاء عليها. وقيل بالطهارة بالغيبة ، ذهب إليه العلامة في النهاية ، قال : «لو نجس فم الهرة بسبب كأكل الفأرة وشبهه ، ثم ولغت في ماء قليل ونحن نتيقن نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ، لأنه ماء قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ لا عن الولوغ بعد تيقن نجاسة الفم ، ولو غابت عن العين واحتمل ولوغها في ماء كثير أو جار ، لم ينجس ، لأن الإناء معلوم الطهارة فلا يحكم بنجاسته بالشك» انتهى.

وتمسك الأولون بالأخبار الواردة بنفي البأس عن سؤر الهرة ، وجواز الوضوء والشرب منه ، بناء على ان الهرة لا ينفك فمها عن النجاسة غالبا.

ومن الأخبار في ذلك

صحيحة زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «في كتاب علي : ان الهر سبع ولا بأس بسؤره ، واني لأستحيي من الله ان ادع طعاما لان الهر أكل منه».

ورواية أبي الصباح عنه (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان علي (عليه‌السلام) يقول : لا تدع فضل السنور أن تتوضأ منه ، انما هي سبع». وغيرهما.

قال في كتاب المعالم بعد الاستدلال على ذلك بنحو ما ذكرنا : «ولو فرضنا

__________________

(١) في القاموس فذلك حسابه أنهاه وفرغ منه. وهذه اللفظة كثيرا ما يستعملها المصنفون في مثل هذا الموضع ، وكان المراد بها الإشارة الى ان ما يذكر فيها نهاية وآخر البحث المتقدم (منه رحمه‌الله).

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسآر.

٤٣٣

عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب ان الحكم بتوقف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفي قطعا ، والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقف على الدليل. ولا دليل» انتهى. وحاصله يرجع الى ما أشرنا إليه غير مرة وحققناه في المقدمة الحادية عشرة (١) من جواز التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام بعد الفحص عن الدليل وعدم الوقوف عليه. وهو هنا كذلك ، فان عدم وجود دليل على التكليف بإزالة النجاسة في مثل ذلك مع عموم البلوى بذلك دليل على عدم التكليف بذلك وحصول البراءة منه ، وليس بعد ذلك إلا الحكم بالطهارة بمجرد زوال عين النجاسة.

واما القول بالتوقف على الغيبة فلا دليل عليه ، كما أشار إليه بقوله : «والواسطة بين ذلك. إلخ» (٢).

واستدل في المدارك على إلحاق غير الهرة من الحيوانات بها بالأصل وعدم ثبوت التعبد بغسل النجاسة عنه.

(أقول) : والاحتجاج بالأصل هنا لا يخلو من ضعف ، فان عروض النجاسة أوجب الخروج عن حكمه ، فلا يسوغ التمسك به. واما الثاني فجيد كما أشرنا إليه هذا بالنسبة الى غير الآدمي.

واما الآدمي فهل يحكم بطهارته بمجرد غيبته زمانا يمكن فيه إزالة النجاسة أو مع تلبسه بما هو مشروط بالطهارة عنده ، أو حتى يعلم إزالة النجاسة؟ أقوال ، ظاهر

__________________

(١) في الصحيفة ١٥٥.

(٢) وتوضيحه انه اما ان يكتفى في طهر فمها بمجرد زوال العين كالبواطن أو يعتبر فيها ما يعتبر في تطهير المتنجسات من الطرق المعهودة شرعا ، فعلى الأول لا حاجة الى غيبتها ، وعلى الثاني فلا يكتفى بمجرد الاحتمال لا سيما مع بعده ، لان يقين النجاسة لا يزيله إلا يقين الطهارة ، والواسطة غير معقولة (منه رحمه‌الله).

٤٣٤

المشهور الأخير ، وبالأول صرح جملة من المتأخرين ، لكنهم بين مطلق لذلك كما تقدم ، وبين مقيد بشرط علمه بالنجاسة وأهليته للإزالة بكونه مكلفا عالما بوجوب الإزالة عليه ، والى الثاني مال السيد السند في المدارك على تردد فيه بعد ان نقل القول الأول واستشكله. والعجب منه (قدس‌سره) في ذلك ، فان دليله على طهارة الحيوان غير الآدمي جار هنا بعينه ، فإنه لم يثبت ايضا التعبد بالعلم بزوال النجاسة عن ثوب الغير وبدنه. واما ما اختاره (طاب ثراه) من اشتراط التلبس بمشروط بالطهارة عنده ، فيشكل الأمر فيه ايضا بجواز نسيانه ، ولعل ذلك هو وجه التردد الذي ذكره.

ولعل أرجح هذه الأقوال هو الأول ، تمسكا بأصالة البراءة التي أشرنا إليها ، فإن الحكم مما تعم به البلوى ، ولو لم يكن مجرد الغيبة كافيا في الطهارة ، لورد فيه أثر عنهم (عليهم‌السلام) ولبلغنا ذلك ، ولامتنع الاقتداء بإمام الجماعة حتى يسأله ، لأن عروض النجاسة له بالبول والغائط أمر متيقن ، وعروض النسيان له ممكن. وبطلانه أظهر من ان يحتاج الى البيان ، ولا شكل الحال في الحكم بطهارة سائر الناس ممن لم تعلم عدالته مع معلومية الحدث منهم كما ذكرنا ، فلا يحكم بطهارتهم وان أخبروا بذلك ، مع ان المعلوم من الشرع خلافه ، لدلالة الاخبار واتفاق الأصحاب على قبول قول المسلم في ذلك.

ختام مستطاب يشتمل على مقامين تتمة للباب

المقام الأول في الماء المستعمل

والمراد منه هنا ما يكون مستعملا في إزالة حدث أو خبث أو مطلقا ، والأول اما في حدث أصغر أو أكبر ، والثاني اما في الاستنجاء أو غيره من الأخباث ، والثالث غسالة ماء الحمام ، فالكلام هنا يقع في مسائل خمس :

٤٣٥

(المسألة الاولى) ـ في مستعمل الحدث الأصغر. ولا خلاف بين أصحابنا (قدس الله أرواحهم ونور أشباحهم) في طهارته وطهوريته ، حكاه غير واحد منهم.

ويدل ايضا على الأول أصالة الطهارة عموما وخصوصا.

وعلى الثاني عموم الأخبار الدالة على استعمال الماء المطلق في رفع الحدث.

وهذا ماء مطلق.

وخصوص رواية عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل. وقال : الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز ان يتوضأ به وأشباهه. واما الماء الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه ويده في شي‌ء نظيف ، فلا بأس ان يأخذه غيره ويتوضأ به».

ورواية زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه فيتوضؤون به».

ونقل عن أبي حنيفة الحكم بنجاسته نجاسة مغلظة ، حتى انه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم منع أداء الصلاة (٣) ولعله حق في حقه. نعم نقل شيخنا الشهيد

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٣) قال ابن حزم في المحلى ج ١ ص ١٨٥ : «عند أبي حنيفة لا يجوز الغسل ولا الوضوء بما قد توضأ به أو اغتسل به ويكره شربه ، وروى انه طاهر ، والأظهر عنه انه نجس وانه لا ينجس الثوب إذا اصابه الماء المستعمل الا ان يكون كثيرا فاحشا ، الى ان قال : وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إذا توضأ الرجل وهو طاهر من بئر فقد تنجس ماؤها وتنزح كلها ، ولا يجزيه ذلك الوضوء ان كان غير متوضئ ، وكذلك ان اغتسل فيها نجسها كلها ولو اغتسل في سبعة آبار نجسها كلها» وقال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج ١ ص ٩٤ تحت عنوان «الماء المستعمل في رفع الحدث» : «اختلفت الرواية عن أبي حنيفة ، فروى محمد عنه انه طاهر غير مطهر ، وروى أبو يوسف عنه انه نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسن بن زياد عنه انه نجس نجاسة غليظة ، والمشهور عنه عدم التفصيل بين المحدث والجنب ، وفي التنجيس استثنى الجنب لعموم البلوى في المحدث لعدم صون الثياب في الوضوء وإمكان صونها في الجنب» وقال ابن قدامة في المغني ج ١ ص ١٨ : «المستعمل في رفع الحدث طاهر غير مطهر لا يرفع حدثا ولا يزيل خبثا ، قال به الليث والأوزاعي والمشهور عن أبي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك وظاهر مذهب الشافعي ، وعن أحمد في رواية انه طاهر مطهر ، وقال به الحسن وعطاء والنخعي والزهري ومكحول وأهل الظاهر ، والرواية الثانية لمالك ، والقول الثاني للشافعي».

٤٣٦

في الدروس عن الشيخ المفيد انه استحب التنزه عنه ، وظاهر كلامه في المقنعة ربما أشعر أيضا باستحباب التنزه عن ماء الأغسال المستحبة بل والغسل المستحب كغسل اليد للأكل. ولم نقف له على دليل من الاخبار بل ولا من الاعتبار ، بل ربما دلت رواية زرارة المتقدمة على خلافه. الا انه يحتمل قريبا الاختصاص به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للتبرك والشرف.

والمفهوم من كلام شيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين الاستدلال له بما رواه في الكافي (١) عن محمد بن علي بن جعفر عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فاصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه». حيث قال (قدس‌سره) بعد إيراد الخبر المذكور : «وإطلاق الغسل في هذا يشمل الغسل الواجب والمندوب. وفي كلام المفيد (طاب ثراه) في المقنعة تصريح بأفضلية اجتناب الغسل والوضوء بما استعمل في طهارة مندوبة ، ولعل مستنده هذا الحديث ، وأكثرهم لم يتنبهوا له» انتهى. وفيه انه وان سلم ذلك ظاهرا بالنسبة الى ما نقله من الخبر إلا ان عجز الرواية المذكورة يدل على ان مورد الخبر المشار اليه إنما هو ماء الحمام ، حيث قال في تتمة الرواية : «فقلت : ان أهل المدينة يقولون : ان فيه شفاء من العين. فقال : كذبوا ، يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما

__________________

(١) في ج ٢ ص ٢٢٠ ، ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٤٣٧

وكل من خلق الله ثم يكون فيه شفاء من العين» وهذا هو أحد العيوب المترتبة على تقطيع الحديث وفصل بعضه عن بعض ، فإنه بذلك ربما تخفى القرائن المفيدة للحكم كما هنا ، وسيأتي لك كثير من نظائره ان شاء الله تعالى. وحينئذ فظاهر الخبر كراهة الاغتسال من ذلك الماء من حيث كونه ماء الحمام الذي يغتسل منه هؤلاء المعدودون ، وهو لا يقتضي كراهة مستعمل الأغسال مطلقا. وكيف كان فهو مقصور على الغسل ولا دلالة له على كراهة مستعمل الوضوء ، والمدعى أعم من ذلك كما عرفت.

(المسألة الثانية) ـ في مستعمل الحدث الأكبر. والظاهر انه لا خلاف بينهم (رضوان الله عليهم) في طهارة المستعمل في الأغسال المسنونة وطهوريته ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وقد تقدم النقل عن الشيخ المفيد (رضي‌الله‌عنه) بالكراهة.

واما مستعمل الأغسال الواجبة فلا خلاف في طهارته ايضا ، ويدل عليه أصالة الطهارة عموما وخصوصا ، وان التنجيس حكم شرعي ، وهو موقوف على الدليل ، وليس فليس. وتدل على ذلك أخبار مستفيضة :

(منها) ـ صحيحة الفضيل بن يسار (١) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء. فقال : لا بأس ، هذا مما قال الله : ما جعل عليكم في الدين من حرج (٢)».

ولا خلاف أيضا في تطهيره من الخبث كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وانما الخلاف في التطهير به من الحدث ثانيا ، فالمشهور بين المتأخرين هو الجواز ونقل عن الشيخين والصدوقين المنع ، وأسنده في الخلاف الى أكثر أصحابنا ، وهو

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢) سورة الحج الآية ٧٨.

٤٣٨

مؤذن بشهرته في الصدر الأول ، ويظهر من المحقق في كتبه الثلاثة التوقف في ذلك ، حيث نسب المنع في المعتبر إلى الأولوية ، وجعل وجهه التفصي من الخلاف والأخذ بالأحوط ، وفي الشرائع علله ايضا بالاحتياط. وفي المختصر اقتصر على نقل القولين ناسبا المنع إلى الرواية.

والذي يدل على المنع أخبار عديدة : منها ـ رواية عبد الله بن سنان السالفة (١)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «سألته عن ماء الحمام. فقال : ادخله بإزار ، ولا تغتسل من ماء آخر إلا ان يكون فيه جنب ، أو يكثر أهله فلا تدري فيهم جنب أم لا».

ورواية حمزة بن احمد عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمام. قال : ادخله بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».

وصحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) «وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. قال : إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء».

هذا ما حضرني من الأخبار التي تصلح ان تكون مستندا لهذا القول.

واحتج المانع أيضا بأن الماء المستعمل في غسل الجنابة مشكوك فيه ، فلا يحصل باستعماله يقين البراءة.

والذي يدل على الجواز ما تقدم في المسألة الاولى من عموم الأدلة الدالة على استعمال

__________________

(١) في الصحيفة ٤٣٦.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

٤٣٩

المطلق في رفع الحدث من الآيات (١) والروايات ، وهذا ماء مطلق.

وخصوص صحيحة علي بن جعفر عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة؟ إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ، الى ان قال (عليه‌السلام) : فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فان ذلك يجزيه».

ويدل على ذلك أيضا الأخبار المشار إليها آنفا في الاستدلال على أصل الطهارة ، فإنها قد اشتركت في الدلالة على نفي البأس عما ينتضح من جسد الجنب في الإناء حال غسله.

وتفصيل القول في هذه المسألة ان يقال : ان دلالة صحيحة علي بن جعفر على الجواز لا تخلو من اشكال ، لإمكان حملها على الضرورة كما يقتضيه سياق الخبر ، وعلى ذلك حملها الشيخ (رضي‌الله‌عنه) في كتابي الأخبار. وهو جيد ، لما قلنا. وربما يفهم منه ان مذهبه حينئذ جواز الاستعمال في الضرورة ، إلا انه لم ينقل ذلك قولا عنه في المسألة. والتحقيق ان مجرد جمعه بين الأخبار بالوجوه القريبة أو البعيدة لا يوجب كون ذلك مذهبا له ، كما قدمنا الإشارة إليه في مقدمات الكتاب (٣) إذ ليس غرضه ثمة إلا مجرد رفع التنافي بينها ردا على من زعمه ، حتى أوجب خروجه عن المذهب كما أشار إليه في التهذيب (٤) واما الأخبار الدالة على نفي البأس عما ينتضح

__________________

(١) ومنها قوله تعالى : «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا» حيث علق التيمم على عدم وجود الماء ، فينتفى مع وجوده ، وهو صادق على ما نحن فيه ، فلا يسوغ التيمم مع وجود هذا الماء ، ونحو ذلك من العمومات (منه رحمه‌الله).

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٣) في الصحيفة ٩٠.

(٤) في الصحيفة ٢ من الجزء الأول.

٤٤٠