الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

أو عام إلى غاية يعلم بها ارتفاع ذلك الحكم. ووقوع الخلاف في الرافع لا يوجب تقييدا في الحكم حتى يقال ان الحكم هنا مقيد. وبالجملة فإن الشارع نهى عن الصلاة في الثوب النجس حتى تزال النجاسة ، سواء كان مستند هذا النهي الإجماع أو الخبر. والنهي ـ كما ذكرنا ـ ظاهر في العموم الى وجود الرافع ، فلو وقع الخلاف في بعض الأشياء بأنها هل تكون رافعة أم لا فللمانع ان يتمسك بالاستصحاب الذي هو عبارة عن عموم الدليل أو إطلاقه حتى يثبت المدعي كون ذلك رافعا شرعا. وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.

(رابعها) ـ قوله تعالى : «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...» (١). وجه الاستدلال انه خص التطهير بالماء فلا يقع بغيره. أما المقدمة الأولى فلانه تعالى ذكر الآية في معرض الامتنان ، فلو حصلت الطهارة بغيره كان الامتنان بالأعم أولى ولم يكن للتخصيص فائدة. واعترض عليه بما مر ذكره في المسألة الثانية في الاستدلال بقوله سبحانه : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (٢).

أقول : ومن الأدلة ايضا ان يقال : ان الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان لا مدخل للعقل فيهما بوجه كسائر أحكام الشرع ، فما علم من الشرع كونه منجسا يجب قصر الحكم بالنجاسة على ملاقاته ، وما علم من الشرع كونه رافعا للنجاسة وموجبا للتطهير يجب قصر الحكم بالطهارة عليه. ولعل هذا أقوى دليل في المقام.

احتج السيد ـ على ما نقل عنه ـ بوجوه :

(الأول) ـ إجماع الفرقة ، حكاه عنه العلامة في المختلف ، ونقل عن المحقق في بعض مصنفاته ان المفيد والمرتضى أضافا ذلك الى مذهبنا.

أقول : وهو ظاهر كلام السيد (رضي‌الله‌عنه) في المسائل الناصرية.

__________________

(١) سورة الأنفال. الآية ١٢.

(٢) سورة الفرقان. الآية ٥١.

٤٠١

وأجاب العلامة في المختلف عن ذلك بأنه لو قيل ان الإجماع على خلاف دعواه أمكن ان أريد به أكثر الفقهاء ، إذ لم يوافقه على ما ذهب اليه من وصلنا خلافه.

وفيه ان خلاف المفيد ـ كما حكيناه ـ محكي في غير موضع من كتب الأصحاب.

وقال المحقق (طاب ثراه) ـ بعد ما قدمنا نقله عنه من ان المفيد والمرتضى أضافا القول بذلك الى مذهبنا ـ ما صورته : «اما علم الهدى فإنه ذكر في الخلاف انه إنما أضاف ذلك الى المذهب لانه من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الأدلة النقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها ، ونحن نعلم انه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة ، بل ربما كان غير الماء أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل. واما المفيد فإنه ادعى في مسائل الخلاف ان ذلك مروي عن الأئمة (عليهم‌السلام) ثم قال : اما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل ، فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى. واما المفيد فنمنع دعواه ونطالبه بنقل ما ادعاه» انتهى. وأشار بقوله : «واما نحن فقد فرقنا. إلخ» الى ما يأتي من كلامه في جواب الاحتجاج بالآية.

أقول : وبما عرفت في المقام الثاني من المقدمة الثالثة (١) ، من أمر الإجماع وما فيه من النزاع ـ وكذا في المقدمة العاشرة في الكلام على دليل العقل ـ يظهر لك ما في هذا الدليل وانه غير واضح السبيل ، فإنه لا مجال للعقل في الأحكام الشرعية ، لبنائها على التوقيف من المبلغ للشريعة «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (٢).

(الثاني) ـ قوله تعالى : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» (٣) حيث أمر بتطهير الثوب ولم يفصل بين الماء وغيره. حكى ذلك عنه في المختلف ، وحكى عنه ايضا انه اعترض على نفسه فيه بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء ، ثم أجاب بأن تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة عنه. وقد زالت بغير الماء مشاهدة ، لأن الثوب لا يلحقه عبادة.

__________________

(١) في الصحيفة ٣٥.

(٢) سورة الحشر. الآية ٨.

(٣) سورة المدثر. الآية ٥.

٤٠٢

وأجاب العلامة في المختلف بان المراد بالآية ـ على ما ورد به التفسير ـ لا تلبسها على معصية ولا على غدر ، فان الغادر الفاجر يسمى دنس الثياب. سلمنا ان المراد بالطهارة المتعارف شرعا ، لكن لا دلالة فيه على ان الطهارة بأي شي‌ء تحصل ، بل دلالتها على ما قلناه من ان الطهارة إنما تحصل بالماء أولى ، لأن مع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا ، وليس كذلك لو غسلت بغيره. وقوله : النجاسة قد زالت حسا. قلنا : لا يلزم من زوالها في الحس زوالها شرعا ، فان الثوب لو يبس بلله بالماء النجس أو البول لم يطهر وان زالت النجاسة عنه ، مع انه (رحمه‌الله) أجاب ـ حين سئل عن معنى نجس العين ونجس الحكم ـ بأن الأعيان ليست نجسة ، لأنها عبارة عن جواهر مركبة وهي متماثلة فلو نجس بعضها لنجس سائرها وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره ، وقد علم خلافه ، وإنما التنجيس حكم شرعي ، ولا يقال نجس العين إلا على المجاز دون الحقيقة ، وإذا كانت النجاسة حكما شرعيا لم تزل عن المحل إلا بحكم شرعي ، فحكمه (رحمه‌الله) بزوالها عن المحل بزوالها حسا ممنوع. انتهى.

وأجاب المحقق (رحمه‌الله) عن الآية (١) بمنع دلالتها على موضع النزاع ، لأنها دالة على وجوب التطهير ، والبحث ليس فيه بل في كيفية الإزالة ، ثم اعترض على نفسه ـ أولا ـ بأن الطهارة إزالة النجاسة كيف كان. وأجاب بأن هذا أول المسألة. واعترض ـ ثانيا ـ بان الغسل بغير الماء يزيل عين النجاسة فيكون طهارة. وأجاب ـ أولا ـ بالمنع فإن النجاسة إذا مازجت المائع شاعت فيه. والباقي في الثوب منه تعلق به حصة من النجاسة ، ولأن النجاسة ربما سرت في الثوب فسدت مسامه فتمنع غير الماء من الولوج حيث هي ، وتبقى مرتكبة في محلها. ثم سلم زوال عين النجاسة ـ ثانيا ـ وقال : لكن لا نسلم زوال نجاسة تخلفها ، فإن المائع بملاقاة النجاسة يصير عين نجاسة ، فالبلة المتخلفة

__________________

(١) هذا الجواب نقله عنه في المعالم ، والظاهر انه منقول من بعض أجوبته في المسائل وإلا فهو ليس في كتاب المعتبر مما حضرني من نسخته (منه رحمه‌الله).

٤٠٣

منه في الثوب بعض المنفصل النجس فيكون نجسا ، أو نقول : للنجاسة الرطبة أثر في تعدي حكمها الى المحل. كما ان النجاسة عند ملاقاة المائع تتعدى نجاستها اليه ، فعند وقوع النجاسة الرطبة تعود اجزاء الثوب الملاقية لها نجسة شرعا ، وتلك العين المنفعلة لا تزول بالغسل. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما في هذه الأجوبة من التكلف. والصواب في الجواب هو ما استفاضت به أخبار أهل الذكر (صلوات الله عليهم) في تفسير الآية المشار إليها من ان المراد بالتطهير فيها إنما هو رفع الثياب وتشميرها ، ففي الكافي (١) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «اي فشمر». وفي رواية «يقول : ارفعها ولا تجرها». وفي أخرى عن الكاظم (عليه‌السلام) «ان الله عزوجل قال لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ). وكانت ثيابه طاهرة وانما أمره بالتشمير». وفي المجمع عن الصادق (عليه‌السلام) «معناه وثيابك فقصر». وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) «قال الله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ). أي فشمر». والقمي في تفسيره «وتطهيرها تشميرها». وحينئذ فإذا اتفقت اخبارهم (عليهم‌السلام) بتفسيرها بهذا المعنى ، واللفظ مجمل يحتاج في تعيين المراد منه الى التوقيف منهم (عليهم‌السلام) ولا يجوز القطع على مراده (سبحانه) بدون ذلك كما عرفته في المقدمة الثالثة (٢) فلا يجوز تجاوزه الى غيره ، لان القرآن عليهم انزل ، وهم أعرف بما أبهم منه وأجمل.

واما ما ذكره العلامة (رحمه‌الله) من التفسير فلم نقف له في الأخبار على خبر ، ولعله من كلام سائر المفسرين. إلا انه ينافي ظاهر عبارته (٣).

(الثالث) ـ إطلاق الأمر بالغسل من النجاسة من غير تقييد ، وقد وقع

__________________

(١) ج ٢ ص ٢٠٧.

(٢) في المقام الأول في الصحيفة ٢٧.

(٣) فإن نسبته الى الورود يشعر بكونه على سبيل الرواية اللهم إلا أن تكون من طرق العامة (منه رحمه‌الله).

٤٠٤

ذلك في عدة اخبار (١) كما سيأتي ان شاء الله تعالى في مبحث النجاسات. ونقل عنه في المختلف انه اعترض على نفسه هنا أيضا بأن إطلاق الأمر بالغسل ينصرف الى ما يغسل به في العادة ، ولم تقض العادة بالغسل بغير الماء. ثم أجاب بالمنع من اختصاص الغسل بما يسمى الغاسل به غاسلا عادة ، إذ لو كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما مما لم تجر العادة بالغسل به ، ولما جاز ذلك وان لم يكن معتادا إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة وان المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة من غير اعتبار العادة.

وأجيب عنه (أولا) ـ بأن الغسل حقيقة في استعمال الماء ، وبعض أطلق لفظ الحقيقة وبعض قيدها بالشرعية ، والمطلقون احتجوا لذلك بسبقه الى الذهن وتبادره عند الإطلاق كما يعلم مراد الآمر بقوله : اسقني.

و (ثانيا) ـ بأن إطلاق الأوامر الواردة في الأخبار محمول على المقيد من الأوامر المذكورة مما قدمنا الإشارة إليه.

أقول : ما ادعاه المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ـ من نقض الحمل على العادة بالغسل بماء الكبريت ـ مردود بان الحمل على العادة لا يوجب اشتراط العادة في كل فرد فرد من افراد المياه المطلقة ، وإلا لما جاز التطهير بماء مطلق لم يوجد إلا تلك الساعة بل النظر في ذلك الى نوع الكلي ، فما أجاب به (قدس‌سره) من المنع ممنوع.

(الرابع) ـ ان الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة ، كما تشهد به رواية

__________________

(١) منها : قول الصادق (عليه‌السلام) في خبر ابن ابي يعفور ـ وقد سأله عن المنى يصيب الثوب ـ : «ان عرفت مكانه فاغسله ، وان خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله».

وقوله في خبر الحلبي : «وإذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه المنى فليغسل الذي أصاب ثوبه».

الى غير ذلك من الاخبار (منه قدس‌سره).

٤٠٥

حكم بن حكيم الصيرفي (١) ، قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أبول فلا أصيب الماء ، وقد أصاب يدي شي‌ء من البول ، فأمسحه بالحائط والتراب ، ثم تعرق يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال لا بأس به». ورواية غياث ابن إبراهيم عن ابي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) قال : «لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق».

وأجاب المحقق في المعتبر بان خبر حكم بن حكيم مطرح ، لان البول لا يزول عن الجسد بالتراب باتفاق منا ومن الخصم. واما خبر غياث فمتروك ، لان غياثا بتري ضعيف الرواية ولا يعمل على ما ينفرد به ، قال : ولو صحت نزلت على جواز الاستعانة في غسله بالبصاق لا ليطهر المحل به منفردا ، فان جواز غسله به لا يقتضي طهارة المحل ، ولم يتضمن الخبر ذلك ، والبحث ليس إلا فيه.

(أقول) : وسيأتي لك الكلام في رواية حكم بن حكيم وتحقيق الحال فيها بما تندفع به شبهة المستند إليها من غير ضرورة إلى طرحها (٣).

تذنيب

قال المحدث الكاشاني (قدس‌سره) في كتاب المفاتيح : «يشترط في الإزالة إطلاق الماء على المشهور ، خلافا للسيد والمفيد ، وجوزا بالمضاف ، بل جوز السيد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول العين ، لزوال العلة. ولا يخلو من قوة ، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات ، اما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم فلا ، فكل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلا ما خرج

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٣) في المسألة الثالثة من مسائل البحث الأول من أحكام النجاسات.

٤٠٦

بدليل ، حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب والبدن. ومن هنا يظهر طهارة البواطن كلها بزوال العين. مضافا الى نفي الحرج ، ويدل عليه الموثق (١) وكذا أعضاء الحيوان المتنجسة غير الآدمي كما يستفاد من الصحاح» انتهى.

وهذا الكلام يدل صريحا على موافقته للسيد فيما ذكره من تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح على الوجه المذكور ، وظاهرا على موافقته له أيضا في رفع الخبث بالمضاف لكن في غير الثوب والجسد.

وهو منظور فيه من وجوه : (أحدها) ـ ان الطهارة والنجاسة ـ كما عرفت ـ حكمان شرعيان متوقفان على التوقيف والرسم من صاحب الشريعة في تعيين ما يجعله نجسا أو طاهرا أو منجسا أو مطهرا ، ولم يعلم منه ان مجرد الإزالة أحد المطهرات الشرعية مطلقا. وقوله ـ : انه لم يعلم من الشرع وجوب غسل النجاسة بالماء عن كل جسم ، بل كل ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلا الثوب والبدن ـ مردود بان المعلوم من الشرع خلافه ، وإلا لكان الأمر بتطهير الأواني من ولوغ الكلب والخنزير والخمر وموت الفأرة ونحو ذلك عبثا محضا ، لإمكان زوال العين بدونه من تمسيح ونحوه ، مع انه في إناء الولوغ ورد الأمر بغسله بالماء بعد تعفيره. ولا ريب انه مع فرض وصول لعاب من الكلب في الإناء فإنه يزول بالتعفير ، فما الحاجة الى الماء حينئذ؟ سيما على القول بوجوب المرتين كما هو المشهور ، مع انه ايضا مروي كما سيأتي في محله ان شاء الله تعالى وكذا المواضع المأمور فيها بالتعدد ثلاثا أو سبعا ، فان زوال العين ـ لو كان ثمة عين ـ يحصل بأول مرة ، فما الموجب للتعدد لو لم يكن المحل باقيا على النجاسة؟ مع بناء الشريعة على السهولة والتخفيف في الأحكام. ما هذا إلا رمي في الظلام من هذا الامام.

__________________

(١) الظاهر انه يريد موثق عمار «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر. الحديث. المروي في الوسائل في الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب النجاسات.

٤٠٧

(ثانيها) ـ ان ـ ما ادعاه ـ من كلية طهارة ما علم زوال النجاسة عنه في غير الفردين المذكورين ـ دعوى لا دليل عليها ، بل للخصم ان يقلب ذلك عليه ويقول : ان كل متنجس يجب تطهيره بالماء إلا ما خرج بدليل ، ولا شك ان هذه الكلية أكثر افرادا وأشمل أعدادا من الكلية التي ادعاها ، لما عرفت من الأوامر الواردة بغسل الأواني وازالة النجاسات عن الثوب والبدن وغسل الفرش والبسط ونحو ذلك. ونحن لم نجد من افراد الكلية التي ادعاها في النصوص سوى الفردين المذكورين ، وهما طهارة البواطن وطهارة أعضاء الحيوان بالغيبة. وهل يصح في الأذهان السليمة والطباع المستقيمة ان يدعى ـ في الأحكام الشرعية المبنية على التوقيف والسماع من صاحب الشرع ـ حكم كلي وقاعدة مطردة ولم يرد لها في الخارج عنهم (عليهم‌السلام) إلا فردان أو ثلاثة؟ ما هذا إلا نوع من الاجتهاد الصرف والتخريج البحث ، بل لم يبلغ المجتهدون ـ الذين قد بسط عليهم لسان التشنيع في جملة مصنفاته ، سيما رسالته المسماة بسفينة النجاة ـ إلى مثل هذا ، لان قصارى ما ربما يرتكبه بعضهم إلحاق بعض الافراد الغير المنصوصة بما هو منصوص وإثبات الحكم في مادة جزئية ، لا إثبات حكم كلي وقانون أصلي مع كونه خاليا من الدليل بمجرد وجود فرد أو فردين ولو كان هذا الحكم كما يدعيه كليا مع مطابقته للسهولة والتخفيف الذين عليهما بناء الشريعة المحمدية ، لتكثرت في الخارج افراده واستفاضت عنهم (عليهم‌السلام) جزئياته ان لم يصرحوا بكليته.

(ثالثها) ـ انه قد اختار في مسألة الأرض والبواري ونحوها ـ إذا جففتها الشمس بعد زوال عين النجاسة ـ عدم الطهارة ، بل حكم بالعفو خاصة مع بقاء النجاسة وعدم طهرها إلا بالماء. مع ان هذا مما يدخل تحت هذه القاعدة التي ادعاها هنا. إذ هو مما علم زوال النجاسة عنه قطعا. فلم لم يحكم بطهره؟ بل حكم بالنجاسة ، مستدلا

٤٠٨

على ذلك بالروايات الواردة هناك التي من جملتها صحيحة ابن بزيع (١) قال : «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه ، هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال : كيف يطهر من غير ماء». فانظر أيدك الله تعالى الى قوله : (عليه‌السلام) على جهة التعجب : «كيف يطهر من غير ماء» وما فيه من الصراحة في ان التطهير مطلقا لا يكون إلا بالماء.

(رابعها) ـ انه قد تفرد بان المتنجس لا ينجس ، بمعنى ان النجاسة لا تتعدى إلا من عين النجاسة دون محلها بعد زوال العين ، مع حكمه هناك ببقاء المحل على النجاسة واحتياجه الى التطهير. وظاهر كلامه ـ كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى (٢) ـ أعم من ان يكون في البدن أو غيره. وهنا قد حكم بالطهارة بمجرد زوال العين في غير الموضعين المشار إليهما في كلامه. ولا يخفى عليك ما بينهما من التدافع. وسيأتي الكلام معه أيضا في هذه المسألة ان شاء الله تعالى.

(المسألة الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه لو خالط المطلق مضاف مخالف له في الصفات ولم يسلبه الإطلاق لم يخرجه عن الطهورية وقد نقل الإجماع عليه غير واحد منهم. اما لو كان ذلك المضاف مسلوب الأوصاف ـ كماء الورد العديم الرائحة ـ فعن الشيخ (رحمه‌الله) انه جعل الحكم منوطا بالأكثرية ، ثم قال : «فان تساويا ينبغي القول بجواز استعماله ، لأن الأصل الإباحة. وان قلنا يستعمل ذلك ويتيمم كان أحوط» وعن ابن البراج انه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ولا إزالة النجاسة ، ويجوز في غير ذلك. حكى ذلك عنهما العلامة في المختلف. ونقل فيه عن ابن البراج انه نقل مباحثة جرت بينه وبين الشيخ في ذلك ، وخلاصتها تمسك

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) في المسألة الثالثة من مسائل البحث الأول من أحكام النجاسات.

٤٠٩

الشيخ بالأصل الدال على الإباحة ، وتمسكه هو بالاحتياط ، ثم قال في المختلف : «والحق عندي خلاف القولين معا وان جواز التطهير به تابع لإطلاق الاسم ، فان كانت الممازجة أخرجته عن الإطلاق لم تجز الطهارة به ، وإلا جازت ، ولا اعتبر في ذلك المساواة والتفاضل ولو كان ماء الورد أكثر وبقي إطلاق اسم الماء أجزأت الطهارة به ، لانه امتثل المأمور به وهو الطهارة بالماء المطلق. وطريق معرفة ذلك ان يقدر ماء الورد باقيا على أوصافه. ثم يعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة» انتهى. وما ذكره من التقدير لم يتعرض لوجهه هنا ، إلا انه وجهه في النهاية بأن الإخراج عن الاسم سالب للطهورية ، وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف ، فيعتبر بغيره ، كما يفعل في حكومات الجراح.

وأنت خبير بان ما ذكره في المختلف من تبعية التطهير لإطلاق الاسم حق لا اشكال فيه ، لأن إجراء الأحكام تابع للتسمية. واما ما ذكره من التقدير فلا دليل عليه شرعا ولا عرفا. وما علله به في النهاية محل نظر ، فإنه إذا سلم ان هذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف لزم حينئذ جواز الطهارة به ، لابتنائها ـ كما عرفت ـ على وجود الاسم. إلا انه يمكن أن يقال : انه مع تقدير انتفاء الأوصاف في المضاف واتفاقه مع المطلق ، لا يظهر سلب الإطلاق ولا يتميز عن المطلق في مادة بالكلية ولو فرض انه خالطه من المضاف المفروض أضعافا مضاعفة ، فلو بني الكلام على ملاحظة الإطلاق وعدم تميز المضاف عن الماء المطلق لأشكل الأمر في ذلك ، فلا بد من تقدير الأوصاف حينئذ. ويمكن الجواب ببناء الأمر على استهلاك أحدهما في جنب الآخر ، ويدعى حينئذ ان حصول الاسم لأحدهما تابع لاكثريته وغلبته على الآخر بحيث يستهلكه.

والى القول باعتبار تقدير المخالفة ـ كما ذكره العلامة ـ ذهب الشهيد في الدروس

٤١٠

والشيخ علي في بعض فوائده. ووجهه بان الحكم لما كان دائرا مع بقاء اسم الماء مطلقا ـ وهو إنما يعلم بالأوصاف ـ وجب تقدير بقائها قطعا ، كما يقدر الحر عبدا في الحكومة. والتقريب بهذا التقدير أجود مما ذكره العلامة (١) إلا ان فيه ـ كما ذكرنا ـ ان الاستعلام ممكن بدون اعتبار تقدير الأوصاف. كما إذا علم مقدار الماءين في الجملة قبل المزج ، ولا يحتاج الى التقدير.

ثم اعلم ان العلامة (رحمه‌الله) ذكر اعتبار تقدير الوصف في كثير من كتبه ، ولم يتعرض فيها لبيان الوصف المقدر. وقد حكى عنه المحقق الشيخ علي انه قال في بعض كتبه : «يجب التقدير على وجه تكون المخالفة وسطا ، ولا تقدر الأوصاف التي كانت قبل ذلك» واستوجهه الشيخ علي ايضا ، وقربه بأنه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حد سواء ، فيجب رعاية الوسط ، لأنه الأغلب والمتبادر عند الإطلاق قال : «وإنما قلنا ان الزائد هنا لا ينظر اليه بعد الزوال لانه لو كان المضاف في غاية المخالفة في أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص ، فكذا لو زالت أصلا ورأسا» انتهى. واعترض عليه بان النظر الى كلامه الأخير يقتضي كون المقدر هو أقل ما يتحقق معه الوصف لا الوسط. وتحقيقه ان نقصان المخالفة ـ كما فرضه ـ لو انتهى الى حد لم يبق معه إلا أقل ما يصدق به المسمى ، لم يؤثر ذلك النقصان ، ولا اعتبر مع الوصف الباقي أمر آخر ، فكذا مع زوال الوصف من أصله ، واعتبار الأغلبية والتبادر هنا مما لا وجه له كما لا يخفى ، فظهر ان المتجه على القول بتقدير الوصف هو اعتبار الأقل.

__________________

(١) لأنه جعل المدار على إطلاق الماء ، والعلم بالأوصاف انما هو لأجل العلم ببقاء الإطلاق وعدمه ، فيجب تقدير بقائها ليمكن العلم ببقاء الإطلاق وعدمه. إلا ان فيه ما عرفت من ان الطريق الى استعلام بقاء الإطلاق وعدمه لا ينحصر في ذلك (منه قدس‌سره).

٤١١

فرع

لو كان مع المكلف ما لا يكفيه للطهارة من المطلق وأمكن إتمامه بمضاف على وجه لا يسلبه الإطلاق. فنقل عن الشيخ انه قال : «ينبغي أن يجوز استعماله وليس واجبا ، بل يكون فرضه التيمم ، لانه ليس معه من الماء ما يكفيه لطهارته».

واستضعفه العلامة في المختلف باستلزامه التنافي بين الحكمين ، فان جواز الاستعمال يستلزم وجوب المزج ، لان الاستعمال إنما يجوز بالمطلق ، فان كان هذا الاسم صادقا عليه بعد المزج وجب المزج ، لأن الطهارة بالمطلق واجبة ولا تتم إلا بالمزج ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وان كذب الإطلاق عليه لم يجز استعماله في الطهارة ويكون خلاف الفرض ، فظهر التنافي بين الحكمين (١) ثم قال : «والحق عندي وجوب المزج ان بقي الإطلاق ، والمنع من استعماله ان لم يبق» انتهى. وأجاب ابنه فخر المحققين في الشرح بأن الطهارة واجب مشروط بوجود الماء والتمكن منه ، فلا يجب إيجاده ، لأن شرط الواجب المشروط غير واجب ، اما مع وجوده فيتعين استعماله.

وأورد عليه المحقق الشيخ علي في شرح القواعد انه ان أراد بإيجاد الماء ما لا يدخل تحت قدرة المكلف فاشتراط الأمر بالطهارة حق ولا يضرنا ، وان أراد به الأعم فليس بجيد ، إذ لا دليل يدل على ذلك ، والإيجاد المتنازع فيه معلوم كونه

__________________

(١) الظاهر ان مراد الشيخ (ره) من هذه العبارة ان المزج فيه غير واجب ، لكن لو مزج فلا شك في وجوب الطهارة به بعد المزج ، معللا بان وجوب الطهارة المائية مشروط بوجود الماء ، وقبل المزج الماء غير موجود ففرضه التيمم. وربما قيل : ان معنى كلامه (رحمه‌الله) انه لا يجب المزج ، ولو مزج لا يجب التطهير به بل يتخير بعد المزج ايضا بين الطهارة به والتيمم ، معللا بان الاشتباه في الحس لا يستلزم اتحاد الحقيقة ، والوجوب تابع لاتحاد الحقيقة ، فلا يجب الطهارة به ، واما جوازها فلصدق الاسم ولا يخفى بعده من كلام الشيخ الأجل «قده» (منه رحمه‌الله).

٤١٢

مقدورا للمكلف ، والأمر بالطهارة خال من الاشتراط. فلا يجوز تقييده إلا بدليل ثم قال : «والأصح مختار المصنف».

أقول : أنت خبير بأنه لا خلاف في ان الطهارة المائية مشروطة بوجدان الماء كما يدل عليه قوله سبحانه (١) : «... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...» (٢) وحينئذ فلا معنى لقوله : «ان الأمر بالطهارة خال من الاشتراط».

وبعض فضلاء متأخري المتأخرين (٣) دفع كلام فخر المحققين بان وجدان الماء صادق عرفا على ما نحن فيه قبل المزج ، فشرط الطهارة المائية وهو وجدان الماء موجود ، قال : «وهو ليس بأبعد من الوجدان فيما إذا أمكن حفر بئر مثلا ، والظاهر انه لا نزاع في انه إذا أمكن حفر بئر ـ مثلا ـ لتحصيل الماء وجب ، فلم لم يحكم بالوجوب هنا ،

__________________

(١) في سورة النساء. الآية ٤٦. وسورة المائدة. الآية ٨.

(٢) فإنه يدل على ان الفرض عند عدم وجدان الماء هو التيمم. ومنه يعلم ان وجوب الطهارة بالماء مشروط بوجدانه (منه رحمه‌الله).

(٣) هو الفاضل الخوانساري في شرح الدروس. وقال أيضا في موضع آخر ـ بعد ان ادعى صدق وجدان الماء عرفا على ما نحن فيه وانه في العرف يقولون انه واجد للماء ـ ما لفظه : «وهذا نظير ما إذا فرض ان شرط الحج هو الزاد والراحلة وكان لأحد مال غير الزاد والراحلة ولكن أمكنه أن يشتريهما به ، فإنه في العرف يقولون انه واجد للزاد والراحلة وان شرط وجوب الحج متحقق ، بخلاف ما إذا لم يكن له مال أصلا ولكنه يقدر على الاكتساب ، إذ حينئذ لا يقولون ان شرط الحج متحقق» انتهى. وفيه ان الظاهر ان التنظير المذكور ليس في محله ، إذ لا يخفى ان وجدان الماء الذي لا يقوم بالطهارة في حكم العدم لوجوب الانتقال الى التيمم بالنظر اليه ، فمزجه بالماء المضاف ليحصل به إيجاد الماء المطلق الموجب للطهارة أشبه شي‌ء بالاكتساب بتقريب ما قالوه في قبول هبة ما يستطيع به الحج من انه نوع اكتساب فلا يجب عليه. ولا ريب ان ما نحن فيه أدخل في الاكتساب في الاحتمال فيكون حينئذ من قبيل ما إذا لم يكن له مال للاستطاعة ولكنه يقدر على الاكتساب لا من قبيل ما ذكره. ونظير ما ذكره انما هو من له مال يمكنه ان يشترى به ماء كما لا يخفى (منه رحمه‌الله).

٤١٣

والتفرقة خلاف ما يحكم به الوجدان» والى هذا يشير كلام السيد السند في المدارك ايضا وفيه ان الظاهر الفرق بين الوصول الى الماء الموجود بحفر ونحوه وتحصيله بعد وجوده في حد ذاته وبين إيجاده ، لأنك تعلم ان هذا الماء المطلق الموجود قبل المزج في حكم العدم ، لوجوب التيمم معه لو لم يكن المضاف موجودا إجماعا ، فالمزج حينئذ نوع إيجاد لما تجب به الطهارة المائية. وبذلك يظهر لك رجحان كلام الشيخ (رضوان الله عليه) وان بناء كلامه إنما هو على عدم صدق وجدان الماء في الصورة المفروضة.

(المسألة الخامسة) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) في طريق تطهير المضاف بعد نجاسته على أقوال :

(أحدها) ـ ما ذهب اليه الشيخ في المبسوط حيث قال : «لا يطهر إلا بان يختلط بما زاد على الكر من المطلق. ثم ينظر. فان سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال ، وان لم يسلبه إطلاق اسم الماء وغير أحد أوصافه : إما لونه أو طعمه أو ريحه ، لم يجز استعماله ايضا بحال» وربما كان الظاهر من المعتبر ايضا اختيار هذا القول ، حيث نقل هذا الكلام ولم يتعرض لرده. والى هذا ذهب العلامة في التحرير الا انه لم يعتبر الزيادة على الكر. وبعضهم عده لذلك قولا رابعا في المسألة ، إلا ان الظاهر ـ كما ذكره البعض ـ ان ذكر الزيادة في كلام الشيخ إنما خرج مخرج التساهل في التعبير.

واعترض على هذا القول بان الدليل إنما دل على نجاسة الكثير من المطلق بتغير أحد أوصافه الثلاثة إذا كان التغير بالنجاسة لا بالمتنجس ، والتغير هنا إنما هو بالمتنجس. وبينهما فرق واضح.

وأجيب بأن المضاف صار بعد تنجيسه في حكم النجاسة ، فكما ينجس الملاقي له ينجس المتغير به.

وفيه انه ان أريد بصيرورته في حكم النجاسة يعني في جميع الأحكام فهو ممنوع ، وان أريد في بعضها فهو غير مجد في المقام.

٤١٤

قيل : ويمكن أن يحتج عليه باستصحاب النجاسة حتى يثبت المزيل.

وأجيب بأن التمسك بالاستصحاب هنا مشكل ، إذ ثبوت أصل النجاسة للمضاف إنما ثبت بالإجماع ، وهو مفقود في هذه الصورة ، فيصير بمنزلة المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة.

وفيه نظر ، فان بعض الأخبار التي قدمناها في المسألة الأولى ظاهر بل صريح في النجاسة ، والدليل غير منحصر في الإجماع كما توهموه. ولا ريب ان الأخبار الدالة على المنع من استعمال المتنجس عامة لجميع الأحوال الى ان يظهر الرافع.

والحق في الجواب ان من شروط العمل بالاستصحاب عدم معارضة استصحاب آخر له ، ولا ريب ان استصحاب الطهارة في الماء المطلق هنا معارض ، ولا ترجيح لأحد الاستصحابين على الآخر فتساقطا ، ويرجع الى أصالة الطهارة العامة في جميع الأشياء وأصالة الحل. بل التحقيق في المقام ان يقال : انه لما كانت الأخبار دالة على ان الكر لا ينفعل بمجرد الملاقاة وانما ينفعل بتغير أوصافه بالنجاسة ، وقد اتفق الأصحاب على انه مطهر لما مازجه واستهلك فيه من النجاسة أو المتنجس ماء كان أو غيره ، وجب القول بطهارة ما نحن فيه ، لاندراجه تحت عموم تلك الأخبار ، واتفاق الأصحاب ، وتحقق الرافع لاستصحاب النجاسة (١) وخلاف من خالف في هذه المادة لا يثمر نقضا.

(أما أولا) ـ فلعدم الدليل بل الدليل على خلافه واضح السبيل.

و (اما ثانيا) ـ فلكون المخالف نفسه هنا أحد القائلين هناك ، فلا تقدح مخالفته هنا في الإجماع المدعى. وبالجملة فالظاهر ان الطهارة في الصورة المذكورة مما لا يحوم حولها الشك.

__________________

(١) فيه إشارة إلى انه لو تمسك الخصم بالاستصحاب فجوابه انه قد تحقق رافعه كما تقدم بيانه (منه رحمه‌الله).

٤١٥

(الثاني) ـ ما ذهب إليه العلامة في المنتهى والقواعد (١) من الاكتفاء بممازجة الكر له من غير اشتراط للزيادة عليه ، ولا لعدم تغير أحد أوصافه بالمضاف ، بل ولا لعدم سلبه الإطلاق وان خرج المطلق بذلك عن كونه مطهرا ، فاما الطهارة فتثبت للجميع (٢).

وعلل بان بلوغ الكرية سبب لعدم الانفعال إلا مع التغير بالنجاسة ، فلا يؤثر المضاف في تنجيسه باستهلاكه إياه ، لقيام السبب المانع. وليس ثمة عين نجسة يشار إليها تقتضي التنجيس.

وأجيب بأن بلوغ الكرية وصف للماء المطلق ، وإنما يكون سببا لعدم الانفعال مع وجود موصوفه ، ومع استهلاك المضاف للمطلق وقهره إياه يخرج عن الاسم ، فيزول الوصف الذي هو السبب لعدم الانفعال ، فينفعل حينئذ ولو بالمتنجس كسائر أقسام المضاف.

قيل : ولا يخفى ان هذا الجواب إنما يتم لو تمسك باستصحاب نجاسة المضاف ، وقد عرفت عدم تماميته ، إذ الإجماع فيما نحن فيه مفقود. وفيه نظر قد تقدم بيانه.

(الثالث) ـ ما ذهب إليه العلامة أيضا في النهاية والتذكرة واقتفاه جملة من المتأخرين ، وهو الاكتفاء بممازجة الكر له من غير زيادة ، لكن بشرط بقاء الإطلاق بعد الامتزاج ، ولا أثر لتغير أحد الأوصاف. والوجه فيه ، اما بالنسبة

__________________

(١) والى هذا القول جنح الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بناء على توقف إبطال دليله على الاستصحاب ، وهو غير مسلم ، فان الدليل على نجاسة المضاف بالملاقاة انما هو الإجماع ، والخلاف في موضع النزاع يدفعه. وأنت خبير بان الدليل غير منحصر في الإجماع كما توهمه هو وغيره. بل الأخبار التي قدمناها صريحة في ذلك (منه رحمه‌الله).

(٢) قال في القواعد : «لو نجس المضاف ثم امتزج بالمطلق الكثير فغير أحد أوصافه فالمطلق على طهارته. فان سلبه الإطلاق خرج عن كونه مطهرا لا طاهرا» انتهى. (منه رحمه‌الله).

٤١٦

الى الاكتفاء بالكر فلأن الغرض من الكثرة عدم قبول المطلق النجاسة ، وبلوغ الكرية كاف فيه ، فلا وجه لاعتبار الزائد ، واما بالنسبة إلى اشتراط بقاء الإطلاق فلان المضاف يتوقف طهره على شيوعه في المطلق بحيث يستهلك فيه. وهذا لا يتم بدون بقاء المطلق على إطلاقه ، وإذا لم تحصل الطهارة للمضاف وصار المطلق بخروجه عن الاسم قابلا للانفعال فلا جرم ينجس الجميع ، وبالنسبة الى عدم تأثير تغير أحد الأوصاف به ان الأصل في الماء الطهارة ، والدليل انما دل على نجاسته مع التغير بالنجاسة ولم يحصل كما عرفت.

واعلم ان المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في شرح القواعد صرح بالنسبة إلى القول الثاني بأن موضع النزاع ما إذا أخذ المضاف النجس وألقي في المطلق الكثير فسلبه الإطلاق ، فلو انعكس الفرض وجب الحكم بعدم الطهارة جزما ، لان موضع المضاف النجس نجس لا محالة ، فيبقى على نجاسته ، لان المضاف لا يطهره والمطلق لم يصل اليه ، فينجس المضاف به على تقدير طهارته. انتهى. وبذلك صرح جمع ممن تأخر عنه.

الفصل السادس

في الأسآر. والبحث فيها يقع في مواضع :

(الأول) ـ السؤر لغة : البقية والفضلة كما في القاموس ، أو البقية بعد الشرب كما نقله في المعالم عن الجوهري ، وقيل عليه ان ما نسبه الى الجوهري لم نجده في الصحاح ، ولعله أراد أنه بهذه العبارة ليس فيه ، وإلا فقد ذكر فيه ان سؤر الفأرة وغيرها ما يبقى بعد شربها. ونقل في كتاب مجمع البحرين عن المغرب وغيره ان السؤر هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ثم أستعير لبقية

٤١٧

الطعام. ونقل فيه ايضا عن الأزهري ان السؤر هو ما يبقى بعد الشراب. وقال الفيومي في كتاب المصباح المنير : «والسؤر بالهمزة من الفأرة وغيرها كالريق من الإنسان» وهو ـ كما ترى ـ مخالف لما تقدم. ومنه يظهر ان كلام أهل اللغة غير متفق في المقام (١).

وفي اصطلاح أصحابنا ـ على ما ذكره الشهيد (رحمه‌الله) وجملة ممن تأخر عنه ـ انه ماء قليل باشره جسم حيوان ، واستظهر في المدارك تعريفه في هذا المقام بأنه ماء قليل باشره فم حيوان. ثم اعترض على التعريف الأول ، قال : «أما أولا ـ فلأنه مخالف لما نص عليه أهل اللغة ودل عليه العرف العام بل والخاص ، كما يظهر من تتبع الأخبار وكلام الأصحاب ، وان ذكر بعضهم في باب السؤر غيره استطرادا. وكون الغرض هنا بيان الطهارة والنجاسة لا يقتضي هذا التعميم ، لأن حكم ما عدا السؤر يستفاد من مباحث النجاسات. و (اما ثانيا) ـ فلان الوجه الذي لأجله جعل السؤر قسيما للمطلق ـ مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة ـ وقوع الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين وكراهة بعض آخر. وليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق المباشرة ، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أن مرادهم بالسؤر المعنى الذي ذكرناه خاصة» انتهى. وأنت خبير بما فيه من المناقشات التي ليس في التعرض لها كثير فائدة (٢).

__________________

(١) فإن كلام القاموس ظاهر الدلالة في العموم للماء وغيره مع الملاقاة بالفم وغيره وما نقله في المجمع صريح في التخصيص بالماء المباشر بالفم ، وكلام المصباح ظاهر أيضا في المغايرة لكل من المعنيين المتقدمين (منه رحمه‌الله).

(٢) (اما أولا) ـ فلما عرفت من اختلاف كلام أهل اللغة كما قدمنا ذكره. واما الاخبار فكذلك كما ذكرناه ، وبه يظهر بطلان الاستناد إلى اللغة والعرف الخاص. واما العام فقد عرفت الكلام فيه في غير مقام و (اما ثانيا) ـ فلان التعريف المقصود به افادة حكم

٤١٨

والتحقيق ان يقال : انه لما كان الغرض من التعريف ـ حيث كان ـ هو بيان حكم كلي وقاعدة تبتني عليها الأحكام الشرعية ، فلا بد من ابتنائه على الدليل الشرعي ولا تعلق له بالخلاف والوفاق ، وحينئذ فإن أريد بالتعريف هنا بالنظر الى ما أطلق فيه لفظ السؤر من الأخبار ، ففيه انه لا دلالة في الأخبار على الانحصار في خصوصية الشرب بالفم ، إذ غاية ما فيها ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ السؤال عن سؤر ذلك الحيوان هل يتوضأ منه ويشرب أم لا؟ بل فيها ما يدل على إطلاق السؤر على الفضلة من الجوامد ، كاخبار الهرة التي منها قول علي (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (١) : «ان الهر سبع ولا بأس بسؤره ، واني لأستحيي من الله ان ادع طعاما لان الهر أكل منه». وان أريد بالنظر الى ما دل عليه بعض الاخبار من المغايرة بين السؤر وذي السؤر في الحكم أو الاتفاق ، فالمفهوم منها ايضا ما هو أعم من المباشرة بالفم أو غيره ، كما في صحيحة عيص بن القاسم (٢) حيث قال (عليه‌السلام) : «وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل ان تدخلها الإناء». وبالجملة فالأظهر في التعريف ـ بالنظر الى ظواهر الاخبار ـ تعميم الحكم في المباشرة بالفم وغيره ماء كان أو غيره. نعم متى أريد السؤر من الماء خاصة اختص بالتعميم الأول.

على ان الحق ان يقال : ان أفراد السؤر بالبحث على حدة ـ وجعله قسيما للمطلق مع كونه قسما منه ـ مما لم يقم عليه دليل ، وان جرت الأصحاب (رضوان الله عليهم) على ذلك جيلا بعد جيل ، فإن الذي يظهر من الأخبار ان الأمر لا يبلغ الى هذا المقدار الموجب لاستقلاله وامتيازه عن المطلق على حياله ، وتوضيحه ان

__________________

شرعي كلي وجعله قاعدة كلية لا يبتنى على كلام الأصحاب واختلافهم أو اتفاقهم ، وانما يبتنى على الأدلة الواردة في المقام (منه قدس‌سره).

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسآر.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأسآر.

٤١٩

ما حكموا فيه من الأسآر بالطهارة والنجاسة ليس لخصوصية كونه سؤرا ، وإنما هو من حيث التبعية لذي السؤر في الطهارة والنجاسة ، وهذا حكم عام ، ومحله مبحث النجاسات والمطهرات. وما اختلفوا فيه منها طهارة ونجاسة فإنما نشأ من اختلافهم في حيوانه بذلك ايضا ، ومحل هذا ايضا هناك. واما خلاف من خالف ـ فحكم بنجاسة أسآر بعض الحيوانات مع حكمه بطهارة ذلك الحيوان ـ فلا دليل عليه كما سيظهر لديك ان شاء الله تعالى. وما حكموا فيه بالكراهة من تلك الأسآر فهو ايضا خال من الدليل ، كما سنتلوه عليك ان شاء الله تعالى ، عدا موضع واحد وهو سؤر الحائض المتهمة ، فإن الأخبار قد دلت على النهي عنه ، إلا ان غاية ما تدل عليه هو النهي بالنسبة إلى الوضوء خاصة دون الشرب وغيره ، والظاهر ان الوجه فيه هو اختصاص ماء الطهارة بالمزية زيادة على غيره من سائر المياه المستعملة كما ورد من كراهة الوضوء بالماء الآجن والمشمس ونحوهما ، وهذا بمجرده لا يوجب افراد بعض اجزاء الماء المطلق بعنوان على حدة وجعله قسيما له ، وإلا لكان الفردان المذكوران كذلك ولان اختصاص الكراهة بالوضوء دون غيره يخرج ذلك عن كونه حكما كليا في السؤر كما يدعونه.

(الموضع الثاني) ـ ان ذا السؤر اما ان يكون آدميا أو غيره ، والأول اما مسلم ومن بحكمه أو كافر ومن بحكمه ، والثاني اما مأكول اللحم أو غيره ، وغير مأكول اللحم اما طاهر العين أولا ، فالأقسام خمسة. والسؤر عندهم اما طاهر أو نجس أو مكروه. ولا يخفى ان أكثر مباحث هذا الفصل ـ وما يتعلق بها من التحقيق وبسط الأدلة التي بها تليق ـ قد وكلناها الى مبحث النجاسات ، فإنها بذلك انسب كما أشرنا إليه آنفا ، ولنشر هنا إجمالا الى ما يخص هذا المقام جريا على وتيرة من تقدمنا من علمائنا الأعلام جزاهم الله تعالى عنا أفضل جزاء في دار الإكرام.

٤٢٠