الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

المفهوم من اليوم مع تحديده بالليل» واعترضه في المعالم ـ بعد أن استحسن ما ذكره المحقق من الاحوطية ـ بان الحمل على يوم الصوم يقتضي عدم الاجتزاء باليوم الذي يفوت من اوله جزء وان قل ، وعباراتهم لا تدل عليه بل ظاهرها ما هو أوسع من ذلك ، ولفظ الرواية أيضا محتمل لصدق اسم اليوم وان فات منه بعض الاجزاء ان كانت قليلة. انتهى. وهو حسن.

و (منها) ـ ان جملة من المتأخرين أوجبوا ـ تفريعا على القول بوجوب كون النزح يوم الصوم ـ إدخال جزء من الليل أولا وآخرا من باب مقدمة الواجب. وربما أوجب بعضهم تقديم التأهب بتهيئة الآلات قبل الجزء المجعول مقدمة. والظاهر ان هذه التدقيقات الناشئة من اعتباره كيوم الصوم غير واضحة.

و (منها) ـ كون طريق تراوح الأربعة بأن ينزح كل اثنين وقتا ، بان يكون أحدهما فوق البئر يمتح بالدلو والآخر فيها يملأها ، ثم يستريحان فيقوم الآخران كذلك كذا ذكره جملة منهم. وتخصيص النزح بالكيفية المخصوصة لا دليل في النص عليه. بل يكفي أن يكونا معا في أعلى البئر يمتحان الدلو. بل الظاهر انه الاولى (١) ، لأنه هو المتعارف ، الا ان يبلغ الماء في القلة الى ان الدلو بمجرد وضعه لا يمتلئ ماء بل يحتاج الى وضع الماء فيه. فيتم ما ذكروه ، إلا ان كلامهم أعم من ذلك.

و (منها) ـ انه يستثني لهم من الاشتغال بالنزح الصلاة جماعة والأكل جميعا صرح به الشهيدان وجماعة. وعللوه باقتضاء العرف له ، واقتصر بعض على الأول. فارقا بينهما بأن الثاني يمكن حصوله حال الراحة بخلاف الأول ، فإن الفضيلة الخاصة للجماعة لا تحصل إلا به. وربما نفى بعضهم الاستثناء من أصله.

__________________

(١) وبما استظهرناه صرح بعض علمائنا المتأخرين. قال : لأنه الأقرب المتعارف ونقل (قدس‌سره) عن ابن إدريس انه صرح بأن كيفية التراوح ان يستقى اثنان بدلو واحد يتجاذبانه الى ان يتعبا ، فإذا تعبا قعدا وقام هذان واستراح الآخران (منه قدس‌سره).

٣٨١

و (منها) ـ انه يشترط كون الأربعة رجالا ، صرح به الأكثر ، لمفهوم لفظ القوم على ما نص عليه جملة من أهل اللغة من الاختصاص بالرجال (١) وقال المحقق في المعتبر : «ان عملنا بالخبر المتضمن لتراوح القوم اجتزأنا بالنساء والصبيان» وردّ بما تقدم. وفيه ان صاحب القاموس قد ذكر من أحد معاني القوم ما يدخل فيه النساء ، حيث قال : «القوم الجماعة : من الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة أو تدخله النساء على التبعية» انتهى. ونقل في كتاب مجمع البحرين عن الصنعاني انه ربما دخل النساء تبعا ، لان قوم كل نبي رجال ونساء. وعلى هذا يزول الإشكال بالنسبة الى النساء وإنما يبقى الكلام في الصبيان. وشرط بعضهم في الاجتزاء بالنساء عدم قصور نزحهن عن نزح الرجال. والأحوط بل الأظهر الاقتصار على الرجال ، ويدل على ذلك ما في كتاب الفقه الرضوي. حيث قال (عليه‌السلام) (٢) : «فان كان كثيرا وصعب نزحه فالواجب عليه ان يكتري أربعة رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة إلى الليل».

و (منها) ـ عدم اجزاء ما دون الأربعة وان نهض بعملهم ، وقوفا على ظاهر الخبر من قوله : «يتراوحون اثنين اثنين». واستقرب في التذكرة الاجتزاء بالاثنين القويين اللذين ينهضان بعمل الأربعة. واما الزيادة عليها فاجازوها من باب مفهوم الموافقة الا ان يفضي التكثر الى الإبطاء وتضييع الوقت.

__________________

(١) قال الجوهري : «القوم : الرجال دون النساء» وقال ابن الأثير في نهايته : «القوم في الأصل مصدر قام فوصف به ثم غلب على الرجال دون النساء ، ولذلك قابلهن به» يعني في قوله تعالى : «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ...» قال زهير :

«وما ادري وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء»

(منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ٥.

٣٨٢

(البحث السابع) ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان البئر لا ينجس بالبالوعة وان قربت منه ، الا ان يعلم تعدي ما فيها إلى البئر ـ بناء على القول بانفعالها بالملاقاة ـ أو بتغير ماء البئر بها على ما اخترناه.

ويدل على ذلك ـ مضافا الى ما دل على أصالة الطهارة عموما وخصوصا ـ رواية محمد بن ابي القاسم عن ابي الحسن (عليه‌السلام) المتقدمة في أدلة القوم بعدم نجاسة البئر بالملاقاة (١) واما ما يوهم خلاف ذلك ـ كحسنة الفضلاء المتقدمة في أدلة القول بنجاسة البئر بالملاقاة (٢) ـ فقد عرفت الجواب عنها ثمة. ويزيده تأكيدا ان العمل بظاهرها ـ من الحكم بالنجاسة بمجرد ظن السريان ـ مما تدفعه الأخبار المستفيضة بعدم نقض اليقين إلا بمثله ، وان الشك لا يعارض اليقين ، فلا بد من تأويله بما ذكرنا آنفا.

ثم ان المشهور بين الأصحاب انه يستحب التباعد بين البئر والبالوعة بخمسة أذرع في الأرض الصلبة أو مع فوقية قرار البئر ، وبسبعة فيما عدا ذلك. والصور على هذا القدر ست ، وذلك لان الأرض اما ان تكون صلبة أو رخوة. وعلى كل منهما اما ان تكون البئر أعلى قرارا أو أنزل أو مساوية. ففي أربع صور منها ـ وهي الصلبة بأقسامها الثلاثة وعلو قرار البئر في الرخوة ـ يستحب التباعد بخمسة أذرع ، وما عدا ذلك بسبعة أذرع.

وضم جمع من المتأخرين إلى الفوقية الحسية الفوقية بالجهة في صورة تساوي القرارين ، بناء على ان جهة الشمال أعلى وان مجاري العيون منها. وحينئذ يحصل من ذلك الفوقية والتحتية والتساوي بحسب الجهة أيضا. وبذلك تصير صور المسألة أربعا وعشرين وان لم يكن لبعضها تأثير في اختلاف الحكم في المسألة ، وتفصيلها انه باعتبار

__________________

(١) في الصحيفة ٣٥٦ وقد تقدم ان اسم الراوي في كتب الحديث والرجال (محمد بن القاسم).

(٢) في الصحيفة ٣٥٨.

٣٨٣

الجهة تحصل اربع صور ، لأن البئر اما أن تكون في جهة الشمال والبالوعة في الجنوب أو بالعكس ، أو تكون البئر في جهة المغرب والبالوعة في جهة المشرق أو بالعكس وعلى كل من هذه الصور الأربع تجري الست المتقدمة. ومن ضرب أربع في ست تحصل اربع وعشرون. ففي سبع عشرة منها يكون التباعد بخمسة أذرع ، وفي سبع منها بسبعة أذرع (١).

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ بعد ان نقل عنهم ـ أولا ان ـ في صورة التعارض بين الفوقيتين يجعلونه بمنزلة التساوي ـ ما صورته : «وفي كلام جمع من الأصحاب هنا تأمل ظاهر ، إذ ذكروا ان التباعد بسبع في سبع وبخمس في الباقي والاعتبار يقتضي ان يكون التباعد بسبع في ثمان أو ست ، لان فوقية القرار اما ان تعارض فوقية الجهة وتصير بمنزلة التساوي أولا ، فعلى الأول الأول وعلى الثاني الثاني واما اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكم» انتهى.

(أقول) : ما نقله عنهم ـ من انه مع تعارض الفوقيتين يجعلونه بمنزلة التساوي ثم اعترض عليهم بسببه ـ لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم ، بل صرح غير واحد منهم بأن الفوقية بالجهة إنما تعتبر في الرخاوة مع تساوي القرارين ، ومقتضى ذلك

__________________

(١) لأنك قد عرفت ان التباعد بخمسة أذرع في أربع صور من الست المتقدمة والست هنا قد فرضناها في كل من هذه الصور الأربع ، وحينئذ فتؤخذ الأربع المذكورة من كل واحدة من هذه الأربع هنا فتحصل ست عشرة ، وتزيد واحدة وهي فوقية الجهة في صورة كون البئر في جهة الشمال مع رخاوة الأرض وتساوى القرارين ، فتحصل سبع عشرة حينئذ ، وقد عرفت ايضا ان التباعد بسبعة أذرع في صورتين من الست المذكورة ، وهما صورتا الرخوة الباقيتان ، لخروج صورة علو قرار البئر من صورها ، فتؤخذ الاثنتان من كل من الأربع وتزيد واحدة وهي تساوى القرارين في الأرض الرخوة مع كون البالوعة في جهة الشمال وهي عكس الصورة المزيدة سابقا (منه رحمه‌الله).

٣٨٤

اختصاص اعتبارها بالبئر دون البالوعة. ولهذا صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ في صورة كون البئر في جهة الجنوب مع رخاوة الأرض وعلو قرار البئر ـ بأنه يستحب التباعد بخمسة أذرع نظرا الى علو قرار البئر. وبمقتضى ما ذكره من تعارض القرارين مطلقا ينبغي ان يكون بسبعة.

ونقل عن ابن الجنيد في هذه المسألة ما يخالف المشهور. إلا ان النقل عنه مختلف ، فنقل الأكثر عنه انه قال : «ان كانت الأرض رخوة والبئر تحت البالوعة فليكن بينهما اثنا عشر ذراعا ، وان كانت صلبة أو كانت البئر فوق فليكن بينهما سبعة أذرع» وخطأ هذا النقل في المعالم. ونقل عنه انه قال في المختصر ما صورته : «لا استحب الطهارة من بئر تكون بئر النجاسة التي تستقر فيها من أعلاها في مجرى الوادي ، إلا إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثنى عشر ذراعا وفي الأرض الصلبة سبعة أذرع ، فإن كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، وان كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبعة أذرع فلا بأس ، تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان الديلمي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١)» انتهى. ثم قال في المعالم : «والذي يستفاد من هذه العبارة انه يرى التقدير بالاثني عشر بشرطين : رخاوة الأرض وتحتية البئر. ومع انتفاء الشرط الأول بسبع ، وكذا مع استواء القرار إذا كانت المحاذاة في سمت القبلة ، يعني ان إحداهما كانت في جهة المشرق والأخرى في محاذاتها من جهة المغرب. وهذا الاعتبار يلتفت الى اعتبار الفوقية في الجهة كما حكيناه عن البعض ، فحيث تكون المحاذاة في غير جهة القبلة تكون إحداهما في جهة الشمال فتصير أعلى. وقوله ـ : فان كانت تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ـ ظاهر في نفي التقدير حينئذ» انتهى.

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق. والسند هكذا : «محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن احمد بن يحيى عن إبراهيم بن إسحاق عن محمد ابن سليمان الديلمي عن أبيه قال سألت أبا عبد الله. الحديث» وسيأتي الخبر في الصحيفة ٣٨٨.

٣٨٥

واستدل على المشهور برواية الحسن بن رباط عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن البالوعة تكون فوق البئر. قال : إذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع ، وان كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع من كل ناحية ، وذلك كثير» (٢).

ورواية قدامة بن ابي يزيد الحمار عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته كم ادنى ما يكون بين البئر والبالوعة؟ فقال : ان كان سهلا فسبعة أذرع وان كان جبلا فخمسة أذرع ، ثم قال : يجري الماء إلى القبلة إلى يمين ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة».

وجه الاستدلال بهما ان في كل من الروايتين إطلاقا وتقييدا فيجب الجمع بينهما بحمل المطلق من كل منهما على المقيد من الأخرى ، وذلك بالنسبة إلى التقدير بالسبعة ، فإنه في الرواية الأولى مطلق بالنسبة إلى صلابة الأرض ورخاوتها ، والثانية قد اشتملت مع الصلابة على خمسة ، فتحمل السبعة في الأولى على الرخاوة خاصة جمعا (٤). والسبعة في الرواية الثانية أيضا مطلق بالنسبة إلى فوقية البالوعة على البئر وعكسه ، وفي الأولى

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) ما ذكره مطابق لما في الكافي ، واما رواية التهذيب فهي هكذا : «قال : إذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع ، وإذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كل ناحية ، وذلك كثير».

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق. والراوي لهذه الرواية قد أهمل في كتب الرجال. وفي حاشية الوافي ان كنية أبيه (أبو يزيد) كما في الكافي لا (أبو زيد) وإسقاط الياء ـ كما في عامة نسخ التهذيبين ـ من تحريف النساخ ، وان (الحمار) بالحاء المهملة وتشديد الميم. انتهى. ويؤيد ذلك انه قد ذكر في باب الكنى من كتب الرجال (أبو يزيد الحمار) فان من المحتمل ان يكون أبا قدامة هذا.

(٤) وحينئذ يكون معنى الرواية الاولى انه إذا كانت البالوعة فوق البئر فسبعة ما لم تكن الأرض صلبة فإنه تكفى الخمسة (منه قدس‌سره).

٣٨٦

قد خص السبعة بفوقية البالوعة والخمسة بعكسه ، وحينئذ فتحمل السبعة المطلقة على فوقية البالوعة (١). ويتلخص من ذلك ان السبعة حينئذ مقيدة برخاوة الأرض مع عدم كون قرار البئر أعلى ، وهو أعم من أن يكون مساويا أو يكون قرار البالوعة أعلى.

وأورد عليه ان الجمع بين الخبرين المذكورين لا ينحصر في الطريق المذكور ، إذ كما يقيد الحكم بالسبعة في الموضعين يمكن ان يقيد الحكم بالخمسة فيهما (٢). وفيه انه لا يخفى ان الغرض من التحديد في هذه الأخبار والشروط المذكورة فيها إنما هو منع تعدي ماء البالوعة إلى البئر ، فمع السهولة فيما عدا صورة علو قرار البئر لما كان مظنة التعدي كان اعتبار البعد بالسبعة أليق ، ومع الصلابة وكذا مع علو قرار البئر في السهلة لما كان مظنة عدم التعدي حسن الاقتصار على الخمسة ، فلا يحتاج الى قيد آخر ، ومن ذلك يعلم حكم المساواة في صورة الرخاوة وانه يستحب أن يكون بسبعة. وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني من إنكار المستند في ذلك ، حيث قال في كتاب الروض : «والرواية التي هي مستند الحكم ليس فيها ما يدل على حكم التساوي ، لأنه جعل السبع مع فوقية البالوعة والخمس مع فوقية البئر. والتساوي مسكوت عنه» انتهى. فإنه وان لم تدل عليه الرواية الأولى لكنه داخل تحت الرواية الثانية ، حيث حكم فيها بأنه ان كان سهلا فسبع ، خرج عنه بالتقييد بالرواية الأولى صورة ارتفاع البئر قرارا أو جهة على القول الآخر كما عرفت. فيبقى الباقي.

__________________

(١) ويكون معنى الرواية الثانية : ان كان سهلا فسبعة أذرع ما لم يكن قرار البئر أعلى فإنه تكفى الخمسة (منه قدس‌سره).

(٢) فيقال : التقدير بالخمسة في الخبر الأول مقيد بالصلابة لدلالة الثانية على السبعة في صورة الرخاوة. وتقيد في الثانية بعدم فوقية البالوعة ، لدلالة الأولى على السبعة في صورة فوقية البالوعة (منه قدس‌سره).

٣٨٧

ثم ان بعض الأصحاب عبر في هذا المقام بأنه إذا كانت البئر فوق البالوعة جهة أو قرارا أو كانت الأرض صلبة فخمس وإلا فسبع ، وعلى هذا يكون حكم المساواة في صورة الرخاوة ما ذكرنا من السبع ، وبعضهم ـ كالعلامة في الإرشاد ـ قال : انه إذا كانت البئر تحت البالوعة أو كانت الأرض سهلة فسبع وإلا فخمس. وعلى هذا فحكم المساواة في الصورة المذكورة خمس. وهو غير جيد ، لما عرفت.

وقد تلخص من هذا انه يستحب التباعد بخمس في صور الصلبة جميعا وصورة علو البئر قرارا أو جهة ، وما عداه فبسبع.

واستدل ابن الجنيد ـ كما أشرنا إليه فيما قدمنا من كلامه ، وبذلك ايضا استدل له في المختلف ـ برواية محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البئر يكون الى جنبها الكنيف. فقال لي : ان مجرى العيون كلها من مهب الشمال ، فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل منها لم يضرها إذا كان بينهما اذرع. وان كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقل من اثني عشر ذراعا ، وان كان تجاها (٢) بحذاء القبلة وهما مستويان في مهب الشمال فسبعة أذرع».

ولا يخفى عليك ان الرواية المذكورة غير منطبقة على مذهب ابن الجنيد على كلا النقلين.

(اما على الأول) فلأنهم نقلوا عنه التباعد بسبع أذرع في صورة فوقية البئر ، مع انه ليس في الرواية المذكورة لذلك اثر.

و (اما على الثاني) فلأنه نقل عنه التفصيل في صورة علو البالوعة بالرخاوة والصلابة ، والرواية ـ كما ترى ـ لا تفصيل فيها لشي‌ء من ذلك.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) كذا في التهذيب والمقنع ، وفي المختلف تجاهها (منه قدس‌سره).

٣٨٨

ونقل عنه ايضا القول بأنه ان كانت البالوعة تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، مع انه صرح في الرواية في هذه الصورة باشتراط ان يكون بينهما اذرع. وتكلف في المعالم للجواب هنا بأنه لعل الوجه في عدم تعرض ابن الجنيد لهذا الشرط ـ مع كونه مصرحا به في الرواية ـ هو عدم الانفكاك عنه عادة حيث يحمل لفظ الأذرع على أقل الجمع ، فإنه من المستبعد جدا ان توضع بالوعة في جنب بئر بأقل من ثلاثة أذرع. ولا يخلو من بعد ،

وقد جمع بعض الأصحاب بين هذه الرواية وروايتي المشهور (١) بحمل إطلاق الأذرع في صورة فوقية البئر على الخمس ، وتقييد التقدير بالسبع في صورة المحاذاة برخاوة الأرض وتحتية البئر وحمل الزائد على السبع في صورة فوقية الكنيف على المبالغة في القدر المستحب. واعترضه في المعالم بان في الحمل الأول تكلفا. واما التقييد ففاسد لان فرض المحاذاة ـ كما هو صريح لفظ الحديث ، ومقتضى المقابلة لصورتي علو كل منهما ـ كيف يجامع الحمل على تحتية البئر؟ نعم حمل الزيادة في الاثني عشر على المبالغة ممكن. وأجيب بأن رواية ابن رباط قرينة على الحمل بلا تكلف. وما ذكره من فساد التقييد فاسد ، لأن المحاذاة التي في الحديث إنما هي المحاذاة بالنسبة إلى جهة الشمال ، وكذا علو كل منهما إنما هو بالنسبة إليها ، وهو ظاهر. فحينئذ لا ينافيان تحتية البئر بالنظر الى القرار كما هو مراد (٢). وهو جيد.

هذا. والموجود في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) نسبة الخلاف في هذه المسألة الى ابن الجنيد خاصة ، مع ان ظاهر الصدوق في المقنع ذلك ايضا ، حيث نقل

__________________

(١) المتقدمتين في الصحيفة ٣٨٦.

(٢) لا يخفى انه لا حاجة في الجمع الى اعتبار تحتية البئر ، لما عرفت من استحباب السبع في صورة التساوي كما أوضحناه آنفا. نعم لا بد من اعتبار عدم فوقية قرارها ، وكذا لا بد في الصورة الاولى من عدم فوقية قرار البالوعة لينطبق على المشهور. والخبران اللذان هما مستند المشهور قرينة هذا التقييد (منه رحمه‌الله).

٣٨٩

مضمون الرواية المذكورة من غير اشعار بكونها رواية ، وهو يعطي افتاءه بذلك والقول به. ثم انه (قدس‌سره) في الكتاب المذكور قال بعيد ذلك : «وان أردت أن تجعل الى جنب البالوعة بئرا ، فإن كانت الأرض صلبة فاجعل بينهما خمسة أذرع ، وان كانت رخوة فسبعة أذرع» وظاهر كلاميه يشعر بالفرق بين البالوعة والكنيف.

إلا انه في كتاب من لا يحضره الفقيه فرض المسألة في الكنيف ، وذكر التباعد بالسبع والخمس في صورتي الرخوة والصلبة.

هذا. وقد تقدم في حسنة الفضلاء (١) التقدير بالسبع في صورة علو البالوعة ، وبالثلاث أو الأربع في عكسه ، قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : «والاولى الوقوف على ما تضمنته حسنة الفضلاء ، لأنها أحسن سندا وأقرب الى الاحتياط لو لا شهرة خلافه بين الأصحاب ، مع انه على المشهور يمكن الجمع بين الروايات الثلاث بحمل الحسنة على شدة الاستحباب. وهو اولى من الطرح» انتهى.

واستند القائلون بإلحاق العلو جهة بالعلو قرارا برواية محمد بن سليمان الديلمي المذكورة (٢) ويشكل بأنهم لم يعملوا بها فيما دلت عليه من الأحكام ، فكيف يتم لهم الاستناد إليها في خصوصية هذا الحكم؟ فإن أجيب بأنه قد عارضها في تلك الأحكام الروايتان المتقدمتان (٣) وهذا الحكم لم يعارضها فيه شي‌ء. قلنا : ان تلك الروايتين قد عارضتهما أيضا حسنة الفضلاء (٤) مع كونها أرجح سندا منهما ، فيجب عليهم القول بمضمونها.

ثم انه قد روى الحميري في كتاب قرب الاسناد (٥) عن محمد بن خالد الطيالسي

__________________

(١ و ٤) المتقدمة في الصحيفة ٣٥٨.

(٢) في الصحيفة ٣٨٨.

(٣) في الصحيفة ٣٨٦.

(٥) في الصحيفة ١٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق. وفيهما بدل «تلي الوادي» هنا «مما يلي الوادي».

٣٩٠

عن العلاء عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن البئر يتوضأ منها القوم والى جانبها بالوعة. قال : ان كان بينهما عشرة أذرع وكانت البئر التي يستقون منها تلي الوادي فلا بأس». والظاهر ان المراد بكونها تلي الوادي يعني كونها في جهة الشمال ، بناء على ان مجرى العيون منها. ولم أقف على قائل بمضمون هذا الخبر بل ولا على ناقل له في كتب الاستدلال.

ولا يخفى ما في ظاهر هذا الخبر مضافا الى خبر الديلمي (١) وكذا حسنة الفضلاء (٢) من الدلالة على الفوقية بالجهة ، وبذلك ايضا يشعر خبر قدامة المتقدم (٣).

أقول : ولعل اختلاف التقديرات في هذه الاخبار ـ مفصلا بالفوقية والتحتية تارة ، واخرى بالصلابة والرخاوة بالزيادة والنقصان ، ومطلقا في بعض ـ كله قرينة الاستحباب بزيادة ونقصان في مراتبه. والله اعلم.

الفصل الخامس

في المضاف ، وفيه مسائل :

(الأولى) ـ المضاف هو ما لا ينصرف اليه لفظ الماء على الإطلاق عرفا بل يحتاج في صدقه الى القيد ، كالمصعد من الأنوار والمعتصر من الثمار والممتزج بما يسلبه الإطلاق.

ولا خلاف في طهارته باعتبار أصله ، ويدل على ذلك ايضا قول الصادق (عليه‌السلام) في موثقة عمار (٤) : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر».

__________________

(١) المتقدم في الصحيفة ٣٨٨.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٣٥٨.

(٣) في الصحيفة ٣٨٦.

(٤) راجع التعليقة ١ في ٤٢ والتعليقة ٤ في الصحيفة ١٤٩.

٣٩١

ولا خلاف أيضا في انفعاله بملاقاة النجاسة وان كثر ، نقل الإجماع على ذلك جملة من معتمدي الأصحاب.

ويدل عليه ايضا ما رواه السكوني عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) : «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة. فقال : يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل» (١).

واعترض على الرواية بضعف السند أولا ، وورودها في مورد خاص ثانيا ، وعدم ظهورها في النجاسة ثالثا.

ولا يخفى ما في هذه المناقشات من التعسف.

(أما الأولى) فبما عرفت في المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب.

و (اما الثانية) فلما عرفت في المقام الخامس من المقدمة الثالثة (٢) من ان تعدية الحكم في مثل هذا المقام من قبيل تنقيح المناط القطعي ، إذ لا يعلم هنا مدخل لخصوصية السؤال.

و (اما الثالثة) فلأن الأمر بإهراق المرق المذكور وغسل اللحم أظهر دلالة على النجاسة من ان يحوم حوله الإنكار.

ويدل على ذلك أيضا رواية زكريا بن آدم المروية بطرق ثلاث (٣) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن قطرة نبيذ أو خمر مسكر قطرت في قدر فيه لحم

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، وفي الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٢) في الصحيفة ٥٦.

(٣) ورواها صاحب الوسائل في الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ، وفي الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

٣٩٢

كثير ومرق كثير. قال : يهراق المرق أو يطعم أهل الذمة أو الكلب ، واللحم اغسله وكله. الحديث».

واستدل ايضا على الحكم المذكور بصحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فان كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك».

وهذا الاستدلال بمكان من الضعف ، إذ مورد الرواية ليس مما نحن فيه ، فان المضاف في اصطلاحهم لا يشمل مثل الدهن والزيت. وقياسه عليهما باعتبار الاشتراك في الميعان باطل عندنا (أما أولا) ـ فلعدم بناء الأحكام على القياس. و (اما ثانيا) ـ فلعدم ثبوت كون مطلق الميعان علة حتى يلزم من الاشتراك فيها ذلك.

واستدل أيضا بأن المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لتنجيس ما لاقته ، فيظهر حكمها عند الملاقاة ، ثم تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا.

واعترض عليه بان قبول المائع النجاسة ، ان كان باعتبار الرطوبة المقتضية للتأثير عند ملاقاة النجاسة فمن البين أنها موجودة في كثير من افراد الجامد الذي من شأنه الميعان كالسمن ، ولا ريب في عدم تأثره بنجاسة ما يتصل به من اجزائه المحكوم بنجاستها مع تحقق الملاقاة بينهما. وقد صرح بهذا في الحديث الذي احتجوا به. وان كان باعتبار الدليل الدال فكان الاولى الاحتجاج به على تقدير وجوده.

وكيف كان فكون الحكم إجماعيا مما يهون الخطب ، وجملة من متأخري المتأخرين إنما عولوا في هذه المسألة عليه. لما نقلنا عنهم من الطعن في الأدلة.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، وفي الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة. وفي الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٣٩٣

(المسألة الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الإجماع غير ومنهم (١) ـ عدم جواز رفع الحدث بالمضاف.

وخالف في ذلك الصدوق في الفقيه ، فقال (٢) : «ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد» وأصرح منه كلامه في الأمالي (٣).

ونقل الشيخ في الخلاف عن قوم من أصحاب الحديث جواز الوضوء بماء الورد.

حجة الصدوق ـ على ما نقل ـ رواية محمد بن عيسى عن يونس عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة؟

قال : لا بأس بذلك».

وأجاب الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب (٥) عنه بأنه خبر شاذ شديد الشذوذ وان تكرر في الكتب والأصول ، فإنما أصله يونس عن ابي الحسن (عليه‌السلام) ولم يروه غيره ، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره ، وما يكون هذا حكمه لا يعمل به ، ولو سلم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الذي هو التحسين ، وقد بينا فيما تقدم ان ذلك يسمى وضوء ، ثم قال : «وليس لأحد أن يقول : ان في الخبر انه سأله عن ماء الورد يتوضأ به للصلاة. لأن ذلك لا ينافي ما قلناه ، لانه يجوز ان يستعمل للتحسين ومع هذا يقصد به الدخول في الصلاة ، من حيث انه متى استعمل الرائحة الطيبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربه كان أفضل من ان يقصد به التلذذ حسب دون وجه الله. ثم قال : ويحتمل ايضا أن يكون أراد بقوله : «ماء الورد» الماء الذي وقع فيه الورد. لان ذلك يسمى ماء ورد وان لم يكن معتصرا منه ، لان كل شي‌ء جاور غيره فإنه

__________________

(١) منهم : المحقق في الشرائع ، والعلامة في النهاية والمنتهى ، والشهيد في الذكرى ، والشيخ في كتابي الأخبار (منه رحمه‌الله).

(٢) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).

(٣) في الصحيفة ٣٨٣.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٥) في الصحيفة ٦٢.

٣٩٤

يكسبه اسم الإضافة إليه» انتهى كلامه زيد مقامه. وأشار بقوله : «وقد بينا فيما تقدم ان ذلك يسمى وضوء» إلى موثقة عبيد بن زرارة (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الدقيق يتوضأ به. قال : لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع به». حيث قال بعد إيراد الخبر المذكور : «معناه انه يجوز التمسح به والتوضؤ الذي هو التحسين دون الوضوء للصلاة» انتهى.

ونقل عن ظاهر ابن ابي عقيل (٢) انه جوز الوضوء به حال الضرورة فيقدم على التيمم. وهو ـ مع عدم الدليل عليه ـ محجوج بما سيأتي ذكره.

حجة الأكثر على انحصار رفع الحدث في المطلق وجوه : (منها) ـ قوله سبحانه : «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...» (٣) حيث أوجب التيمم عند فقد الماء ، ولا خلاف في ان إطلاق الماء لا ينصرف الى المضاف. ومنه علم سقوط الواسطة ، فإنه لو كان الوضوء جائزا بغيره لم يجب التيمم ، وهو ظاهر.

و (منها) ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يكون معه اللبن يتوضأ منه للصلاة؟ فقال : لا ، إنما هو الماء والصعيد».

ورواية عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين (٥) قال : «إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضأ باللبن ، إنما هو الماء أو التيمم.».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب التيمم.

(٢) إنما أسند النقل الى ظاهره لانه صرح بجواز استعماله مع الضرورة ، وهو شامل بإطلاقه للاستعمال في رفع الحدث والخبث ، وأكثر الأصحاب انما نقلوا خلافه في رفع الخبث خاصة ، والشهيد في الدروس نقله عنه في رفع الحدث ايضا ، حيث قال : «فلو اضطر اليه تيمم خلافا لابن ابى عقيل» وكأنه نظر الى ما ذكرناه (منه رحمه‌الله).

(٣) سورة النساء. الآية ٤٦ وسورة المائدة. الآية ٨.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٣٩٥

وجه الاستدلال حصر طهارة الوضوء في الماء والصعيد الدال على نفي غيرهما. وما يوهم خلاف ذلك ـ من قوله في ذيل الخبر الثاني : «فان لم يقدر على الماء وكان نبيذا. فاني سمعت حريزا يذكر في حديث : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد توضأ بالنبيذ ولم يقدر على الماء». ـ فمحمول على التقية ، وفي الاستشهاد بنقل حريز إيناس بذلك. ويحتمل ايضا حمل النبيذ على ما ينبذ فيه تمر لكسر مرارة الماء كما كان يستعمل سابقا لكن على وجه لا يخرج به الماء عن الإطلاق ، كما تضمنه حديث الكلبي النسابة (١) إلا أن الظاهر بعده (٢) ويحتمل ايضا ان تكون هذه التتمة من كلام عبد الله بن المغيرة.

و (منها) ـ ان الحدث المانع من الدخول في الصلاة معنى مستفاد من الشرع فيجب استمراره بعد وجود سببه الى أن يثبت له رافع شرعي. والذي ثبت رافعيته من الشرع هو الماء المطلق. والقول بأنه يمكن المناقشة هنا بمنع حجية الاستصحاب مردود بان هذا الاستصحاب ليس من القسم المتنازع فيه. وهو القسم الرابع من الأقسام المتقدمة في المقدمة الثالثة ، بل هو من القسم الثاني أو الثالث من الأقسام المتقدمة الذي هو عبارة عن عموم الدليل أو إطلاقه ، كما تقدم إيضاحه (٣).

و (منها) ـ قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (٤) فإنه تعالى ذكر الماء هنا في معرض الامتنان على العباد. فلو حصلت الطهارة بغيره لكان الامتنان بالأعم أولى. واعترض على هذا الوجه بأنه يجوز ان يخص أحد الشيئين الممتن بهما بالذكر لكونه أبلغ وأكثر وجودا وأعم نفعا. وقد تقرر ان التخصيص بالذكر لا ينحصر في التخصيص بالحكم.

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢) وجه البعد ان المفروض ان النبيذ ماء مطلق ايضا ويتناوله الماء بإطلاقه ، فيدخل في عموم المقدورية على الماء في عبارة الخبر ، فكيف صح جعله قسيما ومقابلا له؟ (منه رحمه‌الله).

(٣) في المطلب الثاني في الصحيفة ٥١.

(٤) سورة الفرقان. الآية ٥١.

٣٩٦

هذا. ولم أقف على موافق للصدوق (طاب ثراه) من الأصحاب إلا ما يظهر من كلام المحدث الكاشاني في مفاتيحه ووافية ، حيث قال في الأول ـ بعد الكلام في المسألة ـ ما لفظه : «ويحتمل قويا الجواز ، لصدق الماء على ماء الورد ، لأن الإضافة ليست إلا لمجرد اللفظ كماء السماء ، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط بغيره ، مع تأيد الخبر بعمل الصدوق ، وضمانه صحة ما رواه في الفقيه ، وعدم المعارض الناص» انتهى. وقال في الثاني ـ بعد نقل خبر يونس المتقدم ـ (١) ما لفظه : «وافتى بمضمونه في الفقيه ، ونسبه في التهذيبين الى الشذوذ ، ثم حمله على التحسين والتطيب للصلاة دون رفع الحدث ، مستدلا بما في الخبر الآتي «إنما هو الماء والصعيد» (٢). أقول : هذا الاستدلال غير صحيح ، إذ لا منافاة بين الحديثين ، فان ماء الورد ماء استخرج من الورد» انتهى.

وحاصل هذا الكلام يرجع الى ان الماء المضاف الذي يخرج بالإضافة عن كونه مطلقا إنما هو ما إذا أضيف المطلق الى جسم من الأجسام على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق. واما ما اتخذ من الورد فهو ماء مطلق قد تصاعد حتى تكونت منه تلك الأجسام ثم استخرج منها ، فإضافته للورد لفظية كماء السماء وماء البئر ونحوهما وان كان قد اكتسب بسبب ذلك تغيرا في الأوصاف ، فإن ذلك لا يخرجه عما كان عليه من الإطلاق.

وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور :

(أما أولا) ـ فلأنه بمقتضى ذلك لا ينحصر ما ذكره في ماء الورد بخصوصه ، بل يجري في ماء العنب والرمان ونحوهما من الثمار التي يعتصر منها من حيث تصاعده إليها بالسقي ، بل مثل أوراق الشجر ونحوها كما لا يخفى ، فالواجب بمقتضى ما ذكره جواز الوضوء بالماء المتخذ من جميع ذلك. ولا أظنه يقوله.

__________________

(١) في الصحيفة ٣٩٤.

(٢) وهو خبر ابى بصير المتقدم في الصحيفة ٣٩٥.

٣٩٧

و (اما ثانيا) فلانه لا خلاف بين كافة الناس في ان إطلاق الماء لا يشمل هذه المياه ، بخلاف ماء البئر وماء السماء ونحوهما ، وما ذاك إلا لخروج تلك المياه عن الإطلاق دون هذه.

و (اما ثالثا) ـ فلأنه كما ان الماء المطلق بإضافته إلى مثل الزعفران يخرج عن الإطلاق لاكتسابه اجزاء منه ، كذلك ما تكونت منه تلك الثمار قد استحال عن حقيقته الاولى وخرج عنها إلى حقيقة أخرى ، وإلا لكان البول اولى بعدم الخروج عن إطلاق الماء ، لانه لم يكتسب بعد شربه إلا المرور على تلك المجاري الباطنة وان اكتسب عفونة ونتنا باللبث فيها آنا ، مع انه لا يسمى ماء بالكلية فضلا عن ان يكون مطلقا. وما ذاك إلا لخروجه عن حقيقة الماء بالكلية بسبب تغير طبعه وانقلاب حقيقته إلى حقيقة أخرى ، مع ان أصله الماء بل بقاء المائية فيه أظهر. وما نحن فيه كذلك ايضا.

و (اما رابعا) ـ فلان الصدوق (رضوان الله عليه) ليس معصوما يجب الاقتداء به ، ومخالفة هذا القائل (قدس‌سره) له ـ وكذا غيره من الأخباريين في جملة من المسائل ـ أكثر من ان يحصى. على ان كلامه في الفقيه نقل لمتن الخبر ، فهو قابل للاحتمال ايضا. وضمانه صحة ما يرويه في الكتاب المذكور لا تأييد فيه ، لانه يكفينا في المقام تأويل الخبر بأحد الوجوه التي ذكرها شيخنا الطوسي (طيب الله مرقده) من غير ضرورة الى رده وطرحه رأسا لينافي ضمانه المذكور.

و (اما خامسا) ـ فلما ذكره في كتاب الفقه الرضوي ، حيث قال (عليه‌السلام) (١) : «كل ماء مضاف أو مضاف اليه فلا يجوز التطهير به ويجوز شربه ، مثل ماء الورد وماء القرع وماء الزعفران وماء الخلوق وغيره مما يشبهها ، وكل ذلك لا يجوز استعماله إلا الماء القراح والتراب». انتهى. وقد قدمنا لك في تتمة المقدمة الثانية (٢)

__________________

(١) في الصحيفة ٥.

(٢) في الصحيفة ٢٥.

٣٩٨

ان الكتاب المذكور معتمد عليه عندنا وعند جملة من مشايخنا (قدس الله تعالى أرواحهم).

(المسألة الثالثة) ـ المشهور بين الأصحاب (طيب الله مضاجعهم) ان المضاف لا يرفع خبثا ، وذهب السيد المرتضى ـ ونقل ايضا عن الشيخ المفيد ـ الى جواز رفع الخبث به ، ونقل عن ابن ابي عقيل ايضا القول بذلك ، إلا انه خص جواز استعماله بالضرورة. وعبارته المنقولة عنه شاملة بإطلاقها للاستعمال في رفع الحدث والخبث ، كما أشرنا إليه آنفا (١). وظاهر كلام جملة من الأصحاب تخصيص خلاف السيد هنا بالمضاف ، والذي وقفت عليه في كلامه في المسائل الناصرية ـ وكذا نقله عنه الشيخ في الخلاف والمحقق في المعتبر ـ هو جواز ازالة الخبث بالمائعات مطلقا (٢).

استدل الجمهور من أصحابنا على ما ذهبوا اليه بوجوه :

(أحدها) ـ ورود الأوامر بالغسل بالماء ، وهي كثيرة ستأتي ان شاء الله تعالى في أحكام النجاسات ، والمتبادر عند الإطلاق هو المطلق. ولو كان الغسل بغيره جائزا لكان تعيينه في هذه الأخبار لا يخلو من حرج وضيق ، وهو ممتنع.

وأورد عليه ان الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معينة. والمدعى عام. وأجاب المحقق في بعض مسائله بأنه لا قائل منا بالفرق.

أقول : ويمكن الجواب بالتعدية الى غير ما هو مذكور في تلك الاخبار بطريق تنقيح المناط القطعي الذي تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثالثة (٣) ويمكن ايضا ان يدعى ان الغسل حقيقة فيما يقع بالماء المطلق خاصة.

__________________

(١) في التعليقة ٢ في الصحيفة ٣٩٥.

(٢) قال في المسائل الناصرية ـ بعد قول جده الناصر : لا يجوز إزالة النجاسة بشي‌ء من المائعات سوى الماء المطلق ـ ما لفظه : «عندنا انه يجوز إزالة النجاسة بالمائع الطاهر وان لم يكن ماء ، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف (منه قدس‌سره).

(٣) في الصحيفة ٥٦.

٣٩٩

(ثانيها) ـ ان ملاقاة النجاسة للمائع تقتضي نجاسته ، والنجس لا يزول به النجاسة.

واعترض عليه بان مثله وارد في الماء المطلق القليل. فإن النجاسة تزول به مع تنجسه بالملاقاة.

وأجاب المحقق (رحمه‌الله) بالمنع من نجاسة المطلق عند وروده على النجاسة ، كما هو مذهب المرتضى في بعض مصنفاته. وبان مقتضى الدليل التسوية بينهما ، لكن ترك العمل به في المطلق للإجماع ولضرورة الحاجة الى الإزالة ، والضرورة تندفع بالمطلق فلا يسوى به غيره ، لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل.

(ثالثها) ـ ان منع الشرع من استصحاب الثوب النجس ـ مثلا ـ في الصلاة ثابت قبل غسله بالماء ، فيثبت بعد غسله بغير الماء عملا بالاستصحاب.

وأورد عليه (١) ان الاستصحاب المقبول هو ما يكون دليل الحكم فيه غير مقيد بوقت ، وفي تحقق ذلك هنا نظر ، إذ العمدة في إثبات المنع المذكور بطريق العموم هو الإجماع. ومن البيّن ان الاتفاق إنما وقع على منع استصحاب النجس قبل الغسل مطلقا لا قبل الغسل بالماء.

وفيه نظر (أما أولا) ـ فلان العمدة في منع الصلاة في الثوب النجس إنما هي الأخبار الدالة على النهي عن ذلك ، ولا شك ان النهي ظاهر في العموم لجميع الأزمنة ـ كما صرحوا به في الأصول ـ الى ان يظهر الرافع له.

و (اما ثانيا) ـ فلانه مع تسليم اختصاص الدليل بالإجماع فلا منافاة ، فإن الإجماع متى قام على المنع من الصلاة في الثوب النجس والنهي عن ذلك ، فالنهي أيضا عام بالتقريب المذكور الى ان يثبت الرافع ، فان المراد بكون دليل الحكم غير مقيد بوقت يعني ان التقييد غير مفهوم من نفس اللفظ الدال على ذلك الحكم. بل هو مطلق

__________________

(١) هذا الإيراد ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم. وتبعه عليه الفاضل الخوانساري في شرح الدروس. وفيه ما ذكرناه (منه قدس‌سره).

٤٠٠