الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

الاستقذار ، والنهي عن التوضؤ على الكراهة جمعا.

و (ثالثا) ـ ان المفهوم من سوق الخبر المذكور فرض الحكم في محل يتكثر ورود النجاسة على البئر ويظن نفوذها فيه ، وما هذا شأنه لا يبعد إفضاؤه مع القرب الى تغير الماء خصوصا مع طول الزمان. ويؤيد ذلك تتمة الخبر المذكور ، حيث قال زرارة : «فقلت له : فان كان مجرى البول بلزقها وكان لا يلبث على الأرض؟ فقال : ما لم يكن له قرار فليس به بأس وان استقر منه قليل. فإنه لا يثقب الأرض ولا يغوله حتى يبلغ البئر ، وليس على البئر منه بأس ، فتوضأ منه ، إنما ذلك إذا استنقع كله» وحينئذ فلعل الحكم بالتنجيس ناظر إلى شهادة القرائن بأن تكرر جريان البول في مثله يفضي الى حصول تغير ، أو يقال ان كثرة ورود النجاسة على المحل مع القرب يثمر ظن الوصول الى الماء. بل ربما حصل العلم بقرينة الحال.

واما الدليل الثالث فجوابه ان الأمر بذلك أعم من أن يكون للنجاسة أو لغيرها من الأسباب التي ذكرها القائل بالاستحباب ، وهي زوال النفرة وطيب الماء. ويختلف ذلك باختلاف الآبار غزارة ونزارة وسعة وضيقا ، ولعله السر في اختلاف الأخبار في المقدرات في النجاسة الواحدة.

واما القول بالتفصيل باشتراط الكرية وعدمه ، فاستدل له بعموم ما دل من الأخبار على اشتراط الكرية في عدم الانفعال.

وبرواية الحسن بن صالح الثوري عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شي‌ء».

ويدل عليه ايضا ما في كتاب الفقه الرضوي (٢) حيث قال (عليه‌السلام) :

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) في الصحيفة ٥.

٣٦١

«وكل بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها ، فسبيلها سبيل الجاري إلا أن يتغير لونها أو طعمها أو رائحتها». انتهى.

ويمكن ايضا الاستدلال عليه

بموثقة أبي بصير (١) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة. قال : لا بأس به إذا كان فيها ماء كثير».

والجواب عن الأول بتخصيص العموم بما قدمنا من الاخبار (٢).

وعن الروايات المذكورة بضعف السند (أولا) ـ فلا تنهض بمعارضة ما قدمناه من الأخبار ، سيما صحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة في صدر أخبار الطهارة (٣) الدالة بأوضح دلالة على عدم النجاسة مطلقا سيما لمكان المادة.

و (ثانيا) ـ بالحمل على ان اشتراط الكرية لعله لعدم الاحتياج الى النزح بالكلية. كما يشعر به قوله في كتاب الفقه الرضوي : «فسبيلها سبيل الجاري». واما إذا نقصت عن كر احتاجت الى النزح وان كان استحبابا ، ولفظ النجاسة في رواية الثوري محمول على المعنى اللغوي.

واما القول بالطهارة ووجوب النزح ، فوجهه بالنسبة إلى الجزء الأول ما قدمنا (٤) وبالنسبة الى الثاني الأوامر الدالة على النزح ، والأمر حقيقة في الوجوب.

والجواب عن الثاني ان القول بوجوب النزح ـ مع شدة هذا الاختلاف في الاخبار

__________________

(١) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة. ولم نجد موثقة لأبي بصير بهذا المتن في كتب الحديث ، وإنما الموجود فيها نسبة هذا المتن الى عمار ولعل ذلك من اشتباه النساخ. وقد رواها صاحب الوسائل في الباب ـ ١٤ و ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢ و ٣ و ٤) في الصحيفة ٣٥٣.

٣٦٢

في تقديره بالنسبة إلى النجاسة الواحدة ـ مما لا يكاد يقبله الذوق السليم ، وحينئذ فيجب حمل الأمر على الاستحباب كما قدمنا. ويؤيد ذلك أيضا الأمر بالنزح مع الاتفاق على عدم النجاسة في جملة من الموارد.

واما ما نقل عن الجعفي (١) فلم نعثر له على دليل.

(البحث الثالث) ـ اعلم انه حيث كان القول الراجح عندنا من تلك الأقوال هو القول بالطهارة واستحباب النزح كما أوضحناه ، أغمضنا النظر عن الاشتغال بالبحث عن بيان المقدرات لكل من النجاسات وما وقع فيها من الاختلافات ، لعدم مزيد فائدة في البحث عن ذلك. واعتمادا على ما ذكره أصحابنا (شكر الله سعيهم) فيما هنالك ومسارعة إلى الاشتغال بما هو أهم وفي النفع والإفادة أتم. لكنا نقتصر هنا على نقل أنموذج من تلك الاختلافات الواقعة في الاخبار في جملة من المقدرات مع وحدة النجاسة.

(فمنها) ـ الفأرة ، ففي صحيح زيد الشحام (٢) «ما لم تتفسخ يكفيك خمس دلاء». وفي رواية أبي بصير (٣) «سبع دلاء». ومثله في رواية عمرو بن سعيد بن هلال (٤) ورواية علي بن أبي حمزة (٥) ورواية سماعة (٦) وفي صحيح علي بن يقطين (٧) «يجزيك ان تنزح منها دلاء». وكذا في صحيح الفضلاء (٨) ورواية الفضل البقباق (٩) وفي صحيح

__________________

(١) وهو اعتبار ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتى لا ينجس.

(٢ و ٣ و ٧ و ٨ و ٩) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ و ١٨ و ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق. ولم يصرح في كتب الحديث بكون الراوي ابن أبي حمزة ، ولكنه استظهر ذلك كما سيأتي في الكلب والسنور.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ و ١٨ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٦٣

معاوية بن عمار (١) «ثلاث دلاء». وفي رواية أبي خديجة (٢) «أربعون دلوا». وفي موثقة عمار الساباطي (٣) «تنزح كلها».

و (منها) ـ الكلب ، ففي صحيح الشحام المتقدم (٤) «خمس دلاء». وفي رواية أبي بصير الآنفة (٥) ايضا «سبع دلاء». وفي رواية أبي مريم (٦) «نزح الجميع». وكذا في موثقة عمار (٧) وفي صحيح علي بن يقطين المتقدم (٨) ايضا «دلاء». وكذا في صحيح الفضلاءالمتقدم (٩) وكذا في رواية الفضل البقباق (١٠) وفي رواية علي (١١) ـ والظاهر انه ابن أبي حمزة ـ «عشرون أو ثلاثون أو أربعون».

و (منها) ـ بول الصبي ، ففي رواية علي بن أبي حمزة (١٢) «دلو واحد». وفي رواية منصور بن حازم عن عدة من أصحابنا (١٣) «سبع دلاء». وفي صحيح معاوية ابن عمار (١٤) «كله». مع ان غاية ما ينزح لبول الرجل أربعون دلوا ، وكذا في موثق عمار الساباطي (١٥).

و (منها) ـ السنور ، ففي صحيحة علي بن يقطين (١٦) «يجزيك ان تنزح منها دلاء». وفي رواية علي (١٧) ـ والظاهر كونه ابن أبي حمزة ـ «عشرون أو ثلاثون أو أربعون» وفي

__________________

(١ و ٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ و ٢٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤ و ٦ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١و ١٦ و ١٧) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق. والنص هكذا «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما يقع في الآبار. فقال : اما الفارة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء الا ان يتغير الماء ، فينزح حتى يطيب. فان سقط فيها كلب فقدرت ان تنزح ماءها فافعل. الحديث» ..

(١٢ و ١٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق.

(١٤) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٥ و ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق.

(١٥) لم نجد في كتب الحديث موثقا لعمار يدل على ذلك ، ولعل هذا من اشتباه النساخ.

٣٦٤

موثقة سماعة (١) «ثلاثون أو أربعون». وفي صحيح زيد الشحام المتقدم (٢) «خمس دلاء». وفي رواية عمرو بن سعيد المتقدمة (٣) «سبع دلاء».

و (منها) ـ الخنزير ، ففي صحيح الفضلاء المتقدم (٤) «دلاء». وفي موثقة عمار المتقدمة (٥) «تنزح البئر كلها». الى غير ذلك من الاخبار الواردة في هذا المضمار.

وقد اضطربت آراء القائلين بالنجاسة في الجمع بينها ، وتمييز عثها من سمينها والشيخ (رحمه‌الله تعالى) في كتابي الأخبار قد جمع بينها بوجوه بعيدة ومحامل غير سديدة. والمتأخرون ـ بناء على الاصطلاح المحدث في تنويع الاخبار الى الأنواع الأربعة ـ هان الخطب عند القائل منهم بالنجاسة في جملة من الموارد برد الأخبار بضعف الاسناد. واما القائلون بالطهارة فقد حملوا الاختلاف الواقع في هذه الأخبار على الاختلاف في افراد الآبار بالغزارة والنزارة ، واختلاف النجاسة كثرة وقلة ومكثا وعدمه ونحو ذلك ، إلا ان فيه ان الاخبار قد وردت مطلقة ، ففي كون الاختلاف لذلك نوع بعد.

ولعل الأقرب ان ذلك إنما خرج مخرج التقية ، لما قدمنا لك في المقدمة الاولى من تعمدهم (عليهم‌السلام) المخالفة في الفتاوى وان لم يكن بذلك قائل من المخالفين.

واحتمل بعض محققي المحدثين من المتأخرين كون هذا الاختلاف من باب تفويض الخصوصيات لهم (عليهم‌السلام) لتضمن كثير من الاخبار ان خصوصيات كثير من الأحكام مفوضة إليهم (عليهم‌السلام) كما كانت مفوضة إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليعلم المسلم لأمرهم من غيره ، أو من باب الإفتاء تارة بما لا بد منه في تحقيق القدر المستحب وتارة بما هو الأفضل ، وتارة بما هو متوسط بينهما.

__________________

(١ و ٢ و ٤) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ و ٢٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٦٥

(البحث الرابع) ـ لو تغير ماء البئر بالنجاسة فعلى ما اخترناه من عدم انفعالها بالملاقاة ، فالظاهر حينئذ وجوب النزح حتى يزول التغير ، ويدل عليه قول الرضا (عليه‌السلام) في صحيح ابن بزيع المتقدم (١) «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأن له مادة». وفي صحيح الشحام عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) : «فان تغير الماء فخذ منه حتى يذهب الريح». وفي رواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (٣) «الا ان يتغير الماء ، فينزح حتى يطيب». وفي موثقة سماعة (٤) «وان أنتن حتى يوجد ريح النتن في الماء نزحت البئر حتى يذهب النتن من الماء». وفي رواية زرارة (٥) «وان غلبت الريح نزحت حتى تطيب».

ولا ينافي ذلك ما في صحيحة معاوية بن عمار (٦) من قوله (عليه‌السلام) : «ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا ان ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب ، وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر». ورواية منهال (٧) من قوله (عليه‌السلام) : «وان كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو ، فان غلب عليها الريح بعد مائة دلو فانزحها كلها». ورواية ابي خديجة (٨) في الفأرة من قوله (عليه‌السلام) : «وان انتفخت فيه ونتنت نزح الماء كله». لإمكان حمل هذه الأخبار على ما لا يزول التغير إلا بنزح الجميع كما يشير اليه الخبر الثاني ، ويحتمل في الخبر الأول الحمل على ان اسناد النزح إلى البئر مجاز ، وانما المراد ما يذهب به التغير كما تضمنته موثقة سماعة ، ويحتمل الحمل الاستحباب ايضا جمعا.

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٣ و ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢ و ٣ و ٤) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٧) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٨) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٦٦

هذا. ولم أقف على موافق للصدوق (طاب ثراه) من الأصحاب إلا ما يظهر من كلام المحدث الكاشاني في مفاتيحه ووافيه ، حيث قال في الأول ـ بعد الكلام في المسألة ـ ما لفظه : «ويحتمل قويا الجواز ، لصدق الماء على ماء الورد ، لأن الإضافة ليست إلا لمجرد اللفظ كماء السماء ، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط بغيره ، مع تأيد الخبر بعمل الصدوق ، وضمانه صحة ما رواه في الفقيه ، وعدم المعارض الناص» انتهى. وقال في الثاني ـ بعد نقل خبر يونس المتقدم ـ (١) ما لفظه : «وافتى بمضمونه في الفقيه ، ونسبه في التهذيبين الى الشذوذ ، ثم حمله على التحسين والتطيب للصلاة دون رفع الحدث. مستدلا بما في الخبر الآتي «إنما هو الماء والصعيد» (٢) أقول : هذا الاستدلال غير صحيح ، إذ لا منافاة بين الحديثين ، فان ماء الورد ماء استخرج من الورد» انتهى.

وحاصل هذا الكلام يرجع الى ان الماء المضاف الذي يخرج بالإضافة عن كونه مطلقا إنما هو ما إذا أضيف المطلق الى جسم من الأجسام على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق. واما ما اتخذ من الورد فهو ماء مطلق قد تصاعد حتى تكونت منه تلك الأجسام ثم استخرج منها ، فإضافته للورد لفظية كماء السماء وماء البئر ونحوهما وان كان قد اكتسب بسبب ذلك تغيرا في الأوصاف. فإن ذلك لا يخرجه عما كان عليه من الإطلاق

وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور :

(أما أولا) ـ فلأنه بمقتضى ذلك لا ينحصر ما ذكره في ماء الورد بخصوصه ، بل يجري في ماء العنب والرمان ونحوهما من الثمار التي يعتصر منها من حيث تصاعده إليها بالسقي. بل مثل أوراق الشجر ونحوها كما لا يخفى ، فالواجب بمقتضى ما ذكره جواز الوضوء بالماء المتخذ من جميع ذلك. ولا أظنه يقوله

__________________

(١) في الصحيفة ٣٩٤.

(٢) وهو خبر أبي بصير المتقدم في الصحيفة ٣٩٥.

٣٦٧

فلو كان الحكم فيما له مقدر منصوص أكثر الأمرين مع التغير ، لامروا به (عليهم‌السلام) ولو في بعض تلك الأخبار. وأنت خبير أيضا بأن القول الثاني عند التأمل لا يصح أن يكون قولا على حدة كما سيظهر لك.

و (ثالثها) ـ التفصيل بكون النجاسة منصوصة المقدر فيجب نزح أكثر الأمرين من المقدر وما به يزول التغير ، أو غير منصوصة فيجب نزح الجميع ومع التعذر فالتراوح ، ذهب اليه ابن إدريس واختاره في المختلف وقواه في الروض.

وحجته في وجوب أكثر الأمرين فيما له مقدر ما قد عرفت في القول الثاني. وفيه ما قدمنا ثمة. واما في وجوب نزح الجميع أو التراوح فالظاهر انه من جهة كونه لا نص فيه ، وما لا نص فيه مع عدم التغير حكمه كذلك. فمع التغير بطريق أولى. وفيه ان المبني عليه لا نص فيه ايضا ، مع ان عموم الأخبار المتقدمة شامل لمثل هذه الصورة المذكورة. لتضمنها النزح بما يزول به التغير أعم من أن تكون النجاسة المغيرة منصوصة المقدر أم لا.

و (رابعها) ـ هو الثالث بعينه بالنسبة إلى الشق الأول ، والاكتفاء بزوال التغير بالنسبة إلى الشق الثاني. اختاره المحقق الشيخ حسن في المعالم بناء على القول بالانفعال. واستظهره أيضا جملة ممن تأخر عنه.

وحجته بالنسبة إلى الشق الأول ما عرفت في حجتي القول الثاني والثالث. وفيها ما ذكرنا ثمة. وبالنسبة إلى الشق الثاني عموم الأخبار المتقدمة (١) الدالة على الطهارة بزوال التغير. ولا معارض لها بالنسبة الى ما لا مقدر له ، فيجب العمل بها. وهو حسن. ولا يخفى عليك ان القول الثاني لا يخرج عن أحد هذين القولين. فعده في المسألة قولا على حدة لا يخفى ما فيه كما أشرنا إليه آنفا.

__________________

(١) في الصحيفة ٣٦٦.

٣٦٨

و (خامسها) ـ نزح ما يزيل التغير أولا ثم نزح المقدر بعده ان كان لتلك النجاسة مقدر ، وإلا فالجميع ، وان تعذر فالتراوح.

وحجة هذا القول بالنسبة إلى الشق الأول إعطاء كل من الأسباب حقه من السببية (١) وبالنسبة إلى الشق الثاني ما عرفت في القول الثالث. ويرد على الحجة الأولى ما قدمنا (٢) من الاخبار الدالة على الاكتفاء بزوال التغير مطلقا. ومع تسليم تخصيصها ـ بناء على ما زعموا من الجمع بينها وبين روايات التقدير ـ فيكفي في ذلك الاكتفاء بأكثر الأمرين كما ذكروا ثمة ، فلا موجب حينئذ للتعدد. مع ان الأظهر هو التداخل مع تعدد النجاسات كما هو أحد الأقوال في المسألة. وعلى الحجة الثانية ما عرفته في القول الثالث.

و (سادسها) ـ وجوب نزح الجميع ، فان تعذر فالتراوح. ونقل عن الصدوقين والمرتضى وسلار.

والحجة ، اما على وجوب نزح الجميع مع عدم التعذر ما تقدم (٣) من رواية ابي خديجة وصحيحة معاوية بن عمار ورواية منهال.

واما على التراوح مع التعذر فموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) في حديث طويل ، قال : «وسئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير. قال : تنزف كلها. ثم قال : فان غلب الماء فلتنزف يوما إلى الليل ثم يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما الى الليل وقد طهرت».

__________________

(١) لان وقوع النجاسة ذات المقدر موجب لنزح المقدر لها ، فإذا انضم اليه التغير الموجب لنزح ما يزول به صارا سببين ، ولا منافاة بينهما ، فيعمل كل منهما عمله ، ويقدم مزيل التغير ، لكون الجمع بين الأمرين لا يتم الا به (منه قدس‌سره).

(٢ و ٣) في الصحيفة ٣٦٦.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٦٩

واحتجوا أيضا بأنه ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه اجمع.

والجميع منظور فيه ، اما الروايات المشار إليها فيجب تأويلها بما عرفت آنفا (١) جمعا بينها وبين ما قدمناه من الاخبار. واما الخبر المذكور فالعمل به فرع وجوب نزح الجميع ، ومتى لم يثبت بطل ما ترتب عليه. على ان مورد الخبر التراوح مع تعذر نزح الجميع لمجرد النجاسة لا للتغير ، وأحدهما غير الآخر كما عرفت آنفا. واما الحجة الأخيرة فأضعف ، لانه بعد ورود النصوص بالطهارة مع زوال التغير لا مجال لإيجاب نزح الجميع.

و (سابعها) ـ وجوب نزحها أجمع ، فإن تعذر فيما به يزول التغير. ونقل عن الشيخ في المبسوط. ونقل عن المحقق نسبته الى المفيد ايضا. وظاهر هذا القول انه في صورة التعذر يكتفى بمزيل التغير ، أعم من ان يكون في نجاسة ذات مقدر أم لا ، ووجهه ـ بالنسبة إلى نزح الجميع ـ الأخبار الدالة على ذلك ، كصحيحة معاوية بن عمار وروايتي ابي خديجة ومنهال المتقدمات (٢) بحملها على صورة الإمكان. وبالنسبة الى ما به يزول التغير الأخبار التي قدمناها (٣) بحملها على صورة تعذر نزح الجميع. وهذا الجمع بين الاخبار وان كان محتملا إلا ان الظاهر هو رجحان ما قدمنا من المحامل عليه سيما الأول ، لدلالة رواية منهال (٤) عليه ، ولانه مما تجتمع عليه الاخبار من غير ارتكاب تخصيص (٥) إلا في اخبار نزح الجميع ، فإنها مخصوصة بما إذا لم يزل التغير بدونه.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) في الصحيفة ٣٦٦.

(٥) فإن حاصل اخبار الاكتفاء بمزيل التغير حينئذ انه يجب النزح حتى يزول التغير ولو ادى الى نزح الجميع إذا توقف زوال التغير عليه ، فنزح الجميع الذي هو مدلول تلك الأخبار الأخر أحد أفراد ما دلت عليه الاخبار الأولة ، وهو مخصوص بما إذا لم يزل التغير إلا به ، وعلى القول المذكور يلزم تخصيصان : أحدهما في اخبار الجمع لحملها على الإمكان وثانيهما في اخبار مزيل التغير لحملها على عدم إمكان نزح الجميع (منه قدس‌سره).

٣٧٠

وعلى تقدير هذا القول يلزم التخصيص في أخبار الطرفين ، ومهما أمكن العمل بالخبر من غير تخصيص بالكلية أو تعدده فهو اولى.

و (ثامنها) ـ وجوب نزحها أجمع ، فإن تعذر بغلبة الماء يعتبر أكثر الأمرين واختاره الشهيد في الدروس ، واستظهر بعض المتأخرين من كلام المعتبر ايضا.

وحجة هذا القول مركبة من الوجوه المتقدمة. وضعفها يعلم من ضعفها.

فروع :

(الأول) ـ لو زال تغير البئر بغير النزح ، فعلى المختار من الطهارة وعدم النجاسة بمجرد الملاقاة لا إشكال في طهارتها بذلك. لمكان المادة. وعلى القول بالنجاسة فهل يجب نزح الجميع ، نظرا إلى انه ماء محكوم بنجاسته وقد تعذر ضابطة تطهيره ، فيتوقف الحكم بطهارته على نزح الجميع ، أو يكتفى بنزح ما يزول به التغير لو كان ، نظرا إلى انه مع بقاء التغير يكفي نزح القدر الذي به يزول ، فلأن يكتفي به مع الزوال اولى؟ قولان ، اختار أولهما ـ العلامة في التذكرة وابنه فخر المحققين ، وقواه في الذكرى. وثانيهما ظاهر الشهيد في البيان ، وبه جزم في المعالم وقبله والده (قدس‌سرهما) وقواه جملة من متأخري المتأخرين. وأجابوا عن دليل القول الأول بمنع تعذر الضابط مطلقا ، فإنه ممكن في كثير من صور العلم بالمقدار الذي يزول به التغير ولو تقريبا. نعم مع فرض عدم العلم في بعض الصور يتوقف الحكم بالطهارة على نزح الجميع ، إذ لا سبيل الى العلم بنزح المقدار الا به.

(الثاني) ـ لو غار ماء البئر بعد النجاسة ثم عاد ، فعلى المختار من عدم الانفعال بالملاقاة لا إشكال في الطهارة. وعلى القول الآخر فالذي صرح به جملة من الأصحاب انه كذلك ايضا ، قالوا : لأن المقتضي للطهارة ذهاب الماء ، وهو كما يحصل بالنزح

٣٧١

يحصل بالغور ، ولا يعلم كون العائد هو الغائر ، فالأصل فيه الطهارة. وبان النزح لم يتعلق بالبئر بل بمائها المحكوم بنجاسته ، ولا يعلم وجوده والحال هذه ، فلا يجب النزح.

واعترض عليه بان الوجهين المذكورين ضعيفان (اما الأول) فلأنا لا نسلم ان المقتضي للطهارة ذهاب الماء ، لجواز ان يكون المقتضي النزح باعتبار انه يوجب جريان الماء فتطهر أرض البئر وماؤها. وهذا المعنى مفقود في الغور ، فلا تطهر أرض البئر ، وكل ما ينبع من الماء يصير نجسا. لملاقاته النجاسة بناء على القول المذكور.

و (اما الثاني) فلأن عدم تعلق النزح بمائها لا دخل له في المقام ، إذ الكلام في ان ارض البئر كانت نجسة ولم يعلم لنجاستها مزيل ، إذ ما علم من الشرع انه مزيل انما هو النزح ، وقياس الغور عليه قياس مع الفارق كما ذكرنا ، فتستصحب نجاستها ، وكل ما ينبع يصير نجسا كما عرفت.

(أقول) : ويؤيده انه يلزم على ما ذكروه من الوجه الأول انه لو غار منه القدر الذي يجب نزحه فإنه يحكم بطهارة الباقي ، مع ان الظاهر انهم لا يلتزمونه.

(الثالث) ـ قد صرح جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه كما يطهر البئر بالنزح يطهر الدلو والمباشر والرشاء. والاخبار خالية من التصريح بذلك ، الا ان المحقق في المعتبر ذكر في حكم الدلو انه لو كان نجسا بعد انتهاء النزح لم يسكت عنه الشرع. ولان الاستحباب في النزح يدل على عدم نجاستها ، والا لوجب نجاسة ماء البئر عند الزيادة عليه قبل غسلها ، والمعلوم من عادة الشرع خلافه.

وتبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه منهم : العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى. وغيرهما في غيرهما.

ولا يخفى ان هذا الوجه جار أيضا في الرضا والمباشر الا انه في الأخير أضعف.

٣٧٢

ومرجع الدليل الأول الى ما قدمنا الإشارة إليه في المقدمة العاشرة (١) من ان التمسك بالبراءة الأصلية ـ فيما لم يعثر فيه على نص بعد الفحص والتفتيش مما يعم به البلوى من الأحكام ـ حجة واضحة. والأصل هنا براءة الذمة من التكليف بتطهير هذه الأشياء بعد تمام النزح. الا ان الاحتياط في تطهير المباشر ثيابه وبدنه خروجا من احتمال المحذور ، وتطهير الباقي أيضا نور على نور.

وأظهر من ذلك اجراء الوجه المذكور في جوانب البئر بالنسبة الى ما يتساقط حال النزح ، فإنه يحكم بطهارته لعين ما ذكر. وربما يظهر من بعض العبارات الحكم بالعفو عنه حال تساقطه ، معللا ذلك بالمشقة المنفية. وهو بعيد. والتعليل ممنوع بالحكم بالطهارة بعد تمام النزح كما قلنا. ولعل ذلك كله من مؤيدات القول بعدم انفعال البئر بالملاقاة ، للسلامة من هذه التكلفات.

(الرابع) ـ صرح جملة من الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) بأنه لا يعتبر الدلو في النزح لازالة التغير ولا في نزح الجميع ، إذ الغرض في الموضعين إخراج الماء وهو يصدق بأي وجه اتفق ، ومثله في نزح الكر. اما في نزح المقدرات فهل يتعين نزحه بالدلو ، أو تكفي آلة تسع العدد دفعة أو دفعات؟ قولان : اختار أولهما ـ المحقق في المعتبر ، والعلامة في المنتهى والتحرير ، والشهيد في الدروس والبيان ، والشهيد الثاني أيضا. وثانيهما ـ العلامة في أكثر كتبه ، والشهيد في الذكرى ، والمحقق الشيخ حسن في المعالم ، وغيرهم.

احتج القائلون بالثاني بان الأمر بالنزح وارد على الماء والدلاء مقدار ، فيكون

__________________

(١) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، والصحيح (الحادية عشرة) وذلك في الصحيفة ١٥٥.

٣٧٣

القدر هو المراد ، وتقييده بالعدد لانضباطه وظهوره بخلاف غيره. وبان الغرض من النزح إخراج الماء من حد الواقف الى كونه جاريا جريانا يزيل التأثير الحاصل من النجاسة ويفيده التطهير ، ولذلك اختلف فيه التقدير ، لاختلاف النجاسات بقوة التأثير وضعفه ، وتفاوت الآبار بسعة المجاري وضيقها. ولا يخفى ان هذا الغرض يحصل بإخراج القدر المعين بأي وجه اتفق.

وأجيب عن الأول بأنا لا نمنع كون النزح واردا على الماء وان الدلاء مقدار ، ولكن نمنع كون المراد إخراج القدر مطلقا ، لأن الأوامر وردت بطريق خاص واتباعها لازم.

وعن الثاني بأنه وان كان الغرض من النزح الاجراء إلا أن طرقه مختلفة ، والأدلة إنما وردت ببعض معين منها ، وإلحاق غيره به قياس. مع ان الفارق ربما كان موجودا ، من حيث ان تكرار النزح موجب لكثرة اضطراب الماء وتموجه. وهو مقتض لاستهلاك أجزاء النجاسة الشائعة فيه ، فيكون سببا لطيبة ولعله الحكمة في الأمر به. ومن البين ان ذلك لا يحصل مع الإخراج دفعة أو ما في معناها.

ومن الجواب عن دليلي القول الثاني علم دليل القول الأول ، ومرجعه الى ما ذكره المحقق في المعتبر من عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه. ولأن الحكمة تعلقت بالعدد ولا يعلم حصولها مع عدمه.

قال بعض فضلاء المحدثين من متأخري المتأخرين : «هذا هو الصحيح ، ومن يدعي العلم بحصول الغرض فنقول له : علمك اما من باب مفهوم الموافقة أو تنقيح المناط ، وهما مفقودان هنا ، لان لتعدد النزح مدخلا عظيما في ميل أجزاء النجاسة وآثارها عن جوانب البئر إلى موضع النزح وخروجها بالنزح» انتهى.

٣٧٤

وفي التعليلات من الجانبين خدش (١) إلا ان الوقوف في مثل ذلك على حادة الاحتياط طريق السلامة.

(الخامس) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الدلو التي ينزح بها ما جرت العادة باستعمالها ، إذ لم يثبت للشرع فيها حقيقة على القول بالحقائق الشرعية ولا عرف لزمانهم (عليهم‌السلام) ليحمل عليه. والقاعدة في مثله عند انتفاء الأمرين الرجوع الى العرف الموجود ان لم يخالف وضع اللغة الثابت ، وإلا كان هو المقدم. وكل ذلك منتف فيما نحن فيه ، فيرجع الى ما يصدق عليه الاسم في العرف صغيرا كان أو كبيرا.

وأنت خبير بما في البناء على القاعدة المذكورة وان اشتهر البناء عليها بينهم. لما قدمنا لك في المقدمة العاشرة (٢) وغيرها. لكن الظاهر ان الأمر هنا هين ، للقطع بان لفظ الدلو ليس من الألفاظ التي اختلفت معانيها بحسب اختلاف الأزمنة

__________________

(١) أما تعليل القول الأول فلما عرفت في الأصل. واما تعليل القول الثاني فلاحتمال ان تكون الأوامر الواردة بالدلاء المعينة إنما هي من حيث كون المتعارف في النزح ذلك ، لا من حيث مدخلية خصوص النزح بالدلو في التطهير وان ذلك لوجه حكمة تبنى عليه. وكما انهم صرحوا في غير موضع بأن الأحكام في مقام الدلالة الإجمالية تحمل على ما هو الغالب الشائع ، كذلك في حال ورودها عنهم (عليهم‌السلام) مفصلة يحمل التفصيل عنهم على ذلك ، إذ لو ورد النزح مجملا فإنهم يحملونه على الفرد الشائع المتعارف عادة ، فكذا إذا ورد بخصوصية فرد تكون الخصوصية لذلك لا لوجه حكمة اقتضته ، ولأنهم صرحوا في الأصول بأن التخصيص بالذكر لا ينحصر بالحكم ، كما ذكره السيد السند في المدارك في أول بحث الماء المضاف ، ولاحتمال كون ذلك أحد أفراد الكلي ، على قياس ما ذكروه في عدم وجوب الابتداء في غسل الوجه في الوضوء واليدين بالأعلى والمرفقين في كون البيان الوارد بذلك محمولا على كونه أحد أفراد الكلي لا لتعينه بخصوصه ، فتدبر (منه رحمه‌الله).

(٢) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، والصحيح (الحادية عشرة) وذلك في الصحيفة ١٢١ وقد تقدم أيضا في الصحيفة ١٦٢.

٣٧٥

والأمكنة ، كالرطل والمن والمد والصاع ونحوها ، وبان أفراده مختلفة في كل مكان وزمان.

واما ما يظهر من كلام بعضهم ـ من الاكتفاء بما يعتاد على تلك البئر وان كان نحو آنية الفخار إذا كان مما يستقى به في البلد غالبا ـ فضعيف جدا ، لان تعليق الحكم في الأخبار على الدلو يقتضي الوقوف مع مسماه ، ولا ريب في عدم صدقه على الآنية.

ونقل عن بعض الأصحاب ان المراد بالدلو ما كانت هجرية ، وهي ثلاثون رطلا وعن الجعفي أربعون رطلا. ورد بعدم وجود المستند.

(أقول) : وهو مروي في كتاب الفقه الرضوي (١) حيث قال (عليه‌السلام) : «وإذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنور وما أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسخ ، نزح منها سبعة أدل من دلاء هجر. والدلو أربعون رطلا». الا ان جلّ الأصحاب (رضوان الله عليهم) لما كان اعتمادهم على الكتب الأربعة خاصة ، أو ما قاربها في الشهرة عند آخرين ، كان هذا الكتاب وأمثاله غير معمول على ما تضمنه من الأخبار ، الا ان المفهوم من شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب بحار الأنوار الاعتماد عليه كما أشرنا سابقا اليه (٢).

(السادس) ـ يجب إخراج النجاسة قبل الشروع في النزح على القول بالانفعال بالملاقاة ، وظاهرهم الاتفاق عليه بل صرح بذلك في المنتهى ، وظاهر إطلاق كلامهم عدم الفرق في ذلك بين ما له مقدر وما ليس كذلك ، الا ان المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم صرح بالفرق بينهما ، قال : «فإن الملاقاة الموجبة لنزح المقدر تبقى ما بقيت العين فلا يظهر للنزح فائدة ، ولا يعتبر ذلك في غير المقدر لفقد العلة» انتهى. ولعل ذلك مبني على القول بوجوب نزح الجميع لما لا نص فيه كما اختاره (قدس‌سره)

__________________

(١) في الصحيفة ٥.

(٢) في الصحيفة ٢٥.

٣٧٦

في الكتاب المذكور بناء على القول بالانفعال ، وإلا فعلى القولين الآخرين من الثلاثين أو الأربعين فلا ريب في كون الحكم فيهما كالمقدر بعينه ، والعلة الموجبة فيهما واحدة.

(البحث الخامس) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في طهر البئر بغير النزح من المطهرات المتقدمة (١) فظاهر الأكثر طهرها بذلك ، والنزح الوارد في الاخبار وان اختص بها إلا انها تشارك غيرها في تلك المطهرات. وكلام المحقق في المعتبر يدل على انحصار تطهيرها في النزح ، حيث قال : «وإذا جرى إليها ـ يعني البئر ـ الماء المتصل بالجاري لم تطهر ، لان الحكم متعلق بالنزح ولم يحصل» واختاره بعض محققي متأخري المتأخرين ، قال : «لان التطهير أمر شرعي لا بد له من دليل ولا دليل ظاهرا على ما عدا النزح» واختلف فتوى الشهيد (رحمه‌الله) في هذه المسألة ، فقال في الدروس : «لو اتصلت بالجاري طهرت ، وكذا بالكثير مع الامتزاج. اما لو تسنما عليها من أعلى فالأولى عدم التطهير ، لعدم الاتحاد في المسمى» ومثله أيضا في الذكرى. وقال في البيان : «ينجس ماء البئر بالتغير ، ويطهر بمطهر غيره ، وبالنزح» ثم قال : والأصح نجاسته بالملاقاة أيضا ، وطهره بما مر ونزح كذا ، ثم ذكر المقادير.

ولا يخفى ان اشتراطه عدم علو المطهر على جهة التسنم في الكتابين يخالف ما أطلقه في الثالث من طهارته بمطهر غيره مطلقا.

وممن اختار القول المشهور صاحب المعالم ، حيث قال بعد نقل الأقوال في المسألة : «والتحقيق عندي مساواته لغيره من المياه في الطهارة بما يمكن تحققه فيه من الطرق التي ذكرناها سابقا. ووجهه ـ على ما اخترناه من اشتراط الامتزاج بالمعنى الذي حققناه ـ واضح ، فان ماء البئر ـ والحال هذه ـ يصير مستهلكا مع المطهر ، فلو كان عين النجاسة لم يكن له حكم ، فكيف؟ وهو متنجس ، ولا ريب انه أخف.

__________________

(١) كإلقاء الكر دفعة ، ونزول الغيث ، ووصول الجاري إليها (منه رحمه‌الله).

٣٧٧

واما على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال فلان دليلهم ـ على تقدير تماميته ـ لا يختص بشي‌ء دون شي‌ء ، إذ مرجعه الى عموم مطهرية الماء. فيدخل ماء البئر تحت ذلك العموم والأمر بالنزح لا ينافيه ، لكونه مبنيا على الغالب من عدم التمكن من التطهير بغيره ، ولو أمكن في بعض الموارد فلا ريب ان النزح أسهل منه في الأغلب ايضا ، فلذلك اقتصروا عليه ، ثم ان يجاب النزح ـ على القول بالانفعال أو مع حصول التغير ـ ليس إلا لإفادة الطهارة ، فإذا صار الماء طاهرا بمقتضى ذلك العموم ـ والفرض عدم الدليل على التخصيص ـ لا يبقى للنزح وجه. نعم لو قلنا بوجوب النزح تعبدا لم يتم القول بسقوطه بمجرد الاتصال وان قلنا بالطهارة. واما مع الامتزاج فالظاهر السقوط ، لان الاستهلاك يصيره بمنزلة المعدوم. ووجوب النزح إنما تعلق به في حال البقاء على حقيقته. وبما ذكرنا ظهر ضعف تفصيل الشهيد (رحمه‌الله) لا سيما بعد اشتراط الامتزاج كما صرح به ، فان اعتبار الاتحاد مع ذلك مما لا وجه له. واما ما تمسك به المحقق فدفعه ظاهر بعد ما قررناه» انتهى.

ويرد عليه (أولا) ـ ان الاستهلاك الذي ذكره ممنوع ، كيف؟ ويكتفى في تطهير البئر على هذا القول بمجرد إلقاء الكر مثلا وان كان ماء البئر أضعاف أضعافه على انه يمكن منع التطهير في حال الاستهلاك ايضا. وما ذكره ـ من طهارة النجاسة عند استهلاكها ـ لا يصلح دليلا ، لأنه قياس ، مع وجود الفارق ، إذ النجاسة إذا استهلكت في الماء وسلب عنها اسمها لم تبق نجاستها التابعة للاسم ، بخلاف الماء إذا لم يسلب عنه اسمه وان اختلط بغيره بحيث لا يميزه الحس.

و (ثانيا) ـ انه يمكن ان يكون لخصوصية النزح مدخل في التطهير لا يوجد في غيره ، ولعل اقتصار الشارع عليه لذلك ، لعين ما ذكروه في مسألة تعدد النزح بالدلو فيما له مقدر من وجوب الاقتصار على النزح بالدلو لذلك. ويؤيده اختصاص

٣٧٨

البئر دون سائر المياه بأحكام خاصة وبنائها على جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات كما ذكروه.

وبالجملة فالمسألة محل تردد. والاحتياط في الوقوف على التطهير بالمنصوص.

ولا يخفى ان ما أورده على الشهيد متجه. واما ما أورده على المحقق فقد عرفت ما فيه.

ثم انه قد اختلف كلام القائلين بطهرها بغير النزح في وجه العلة في ذلك ، فظاهر كلام المحقق الشيخ حسن ـ كما تقدم ـ ان العلة هي الاستهلاك بسبب الامتزاج. وقد عرفت ما فيه. وظاهر العلامة في المنتهى ـ حيث قال في تعليل ذلك : «لان المتصل بالجاري كأحد أجزائه فخرج عن البئر» ـ ان العلة في ذلك هو الخروج عن كونه بئرا ولحوق أحكام الجاري له. ولا يخفى ما فيه. وظاهر الشهيد في الذكرى ـ حيث قال : «وامتزاجه بالجاري مطهر ، لأنه أقوى من جريان النزح باعتبار دخول مائها في اسمه» ـ ان العلة فيه هي الامتزاج ، حيث انه أقوى من جريان النزح. وفيه منع ان العلة في النزح حصول الجريان ، لعدم الدليل عليه ، ولجواز ان يكون أمر آخر لا نعلمه.

(البحث السادس) ـ المشهور بين الأصحاب ـ بل نقل الإجماع عليه من القائلين بالتنجس ـ انه مع تعذر نزح البئر جميعا ـ لكثرة الماء فيما يجب له ذلك ـ يجب تراوح أربعة رجال عليها يوما الى الليل ، استنادا إلى موثقة عمار الساباطي. وقد تقدمت في البحث الرابع (١).

واعترض في المعالم على الاستدلال بالخبر المذكور بوجوه :

(أحدها) ـ كون رواته فطحية.

و (ثانيها) ـ تضمن متنه نزح الماء كله لتلك الأشياء المذكورة فيه ، ولا قائل به من الأصحاب.

__________________

(١) في الصحيفة ٣٦٩.

٣٧٩

و (ثالثها) ـ ان ظاهره يدل على وجوب النزح يومين. ولم يذهب إليه أحد.

والجواب عن الأول ، اما على مذاقنا فمعلوم ، واما على مذاق القوم فعند من يعمل بالموثق منهم كذلك ايضا ، واما من يجعله من قسم الضعيف فيجاب بان ضعفه مجبور بعمل الأصحاب وشهرته بينهم في هذا الباب.

واما عن الثاني ، فيمكن بحمل نزح الجميع على الاستحباب أو على التغير كما ذكره في التهذيب (١) وحينئذ فتكون الرواية معمولا بها عند الأصحاب.

واما عن الثالث. فيجوز أن لا تكون (ثم) هنا للترتيب الخارجي ، فإنها كثيرا ما تكون كذلك ، كقوله سبحانه : «كَلّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلّا سَيَعْلَمُونَ» (٢) والجواب باحتمال كونها من كلام الراوي بعيد.

ثم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا لذلك أحكاما ربما يستفاد أكثرها من النص المذكور.

(منها) ـ كون النزح نهارا ، للفظ اليوم في الرواية ، فلا يجزئ الليل ولا الملفق منهما وان زاد عن مقدار يوم. وقوفا على ظاهر النص.

و (منها) ـ انه لا فرق في اليوم بين القصير والطويل. عملا بالإطلاق. ولهم في تحديد اليوم المذكور عبارات مختلفة. ففي كلام الشيخ المفيد من أول النهار الى آخره وتبعه على ذلك جماعة. وفي عبارة الصدوقين من الغدوة إلى الليل ، وفي نهاية الشيخ من الغدوة إلى العشية. قال في المعتبر بعد نقل هذه الأقوال : «ومعاني هذه الألفاظ متقاربة ، فيكون النزح من طلوع الفجر الى غروب الشمس أحوط ، لأنه يأتي على الأقوال» انتهى. وقال الشهيد في الذكرى بعد ذكر اختلاف العبارات في ذلك : «الظاهر انهم أرادوا به يوم الصوم فليكن من طلوع الفجر الى غروب الشمس. لأنه

__________________

(١) في الصحيفة ٦٩.

(٢) سورة النبإ. الآية ٥ و ٦.

٣٨٠