الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

وبالجملة فطريق الاحتياط اعتبار الدفعة على الوجه الذي ذكرنا سابقا في الممازجة والله اعلم.

(الموضع الثالث) ـ ينبغي أن يعلم انه على جميع التقادير من القول بالدفعة والممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال ، لو كان الماء متغيرا بالنجاسة فالواجب أن يزال التغير أولا ، إلا أن يحصل زواله بالإلقاء دفعة بحيث لا يتغير شي‌ء من ماء الكر ، أو يزاد في مقدار الماء المطهر على وجه يسلم مقدار الكر عن التغير. وعبائر جملة من الأصحاب وان دلت بإطلاقها في صورة التغير على انه يجب إلقاء كر يزيل تغيره وان تغير بعض الكر في ابتداء الوصول ، إلا ان الظاهر انه ليس بمراد لهم.

(الموضع الرابع) ـ انه قد ذكر جملة من الأصحاب انه متى كان الماء القليل متغيرا فطهره بإلقاء كر عليه ، فان زال به التغير والا فكر آخر وهكذا ، وقيده جملة من المتأخرين بأن إلقاء الكر الآخر ـ مع عدم زوال التغير بالكر السابق ـ إنما هو على تقدير ان لا يتميز كر طاهر غير متغير عن الماء المتغير ، والا فيكفي حينئذ في تطهير النجس المتصل به التموج حتى يزول التغير كما تقدم في تغير بعض الكثير. ولا يخفى ما فيه على إطلاقه من الإشكال ، لأنه متى فرض ان القليل قد تغير بعضه ، وانه بإلقاء الكر عليه دفعة فالقدر الذي وقع على ذلك البعض المتغير قد تغير ايضا ، والواقع على غير المتغير حينئذ أقل من كر ، فإنه يلزم ان ينجس الواقع على غير المتغير في أول آن الملاقاة بوقوعه على النجس وان بلغ معه بعد الوقوع كرا. واعتبار الدفعة الواحدة الموجبة لاتحاد الماءين مقيدة بعدم تغير شي‌ء من الكر الملقى كما عرفت آنفا. نعم لو قلنا بالاكتفاء بمجرد الاتصال أو الامتزاج في الجملة ، وكان وقوع الكر المذكور في غير الناحية التي فيها التغير ، اتجه ان يكون ما وقع عليه الكر أو اتصل به طاهرا البتة ، وتختص النجاسة بالمتغير ، فيصير من قبيل مسألة الكثير المتغير بعضه. ولعل

٣٤١

الى ذلك لحظ السيد السند في المدارك ، حيث انه قيد وجوب إلقاء الكر مرة أخرى بتغير الكر الأول أو بعضه بالنجاسة ، وخص الطهارة بالتموج والامتزاج بما إذا بقي الكر الملقى على حاله ، ولم يكتف بحصول كر في الجملة ولو من الماء السابق واللاحق ، كما يعطيه ظاهر الكلام الذي نقلناه (١).

(الموضع الخامس) ـ انه على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال ـ كما هو أحد القولين المتقدمين ـ هل يكفي الاتصال كيف كان أم لا بد من المساواة أو علو المطهر؟

قد عرفت مما تقدم في الفصل الثاني (٢) وقوع الخلاف في اشتراط المساواة والاختلاف في مقدار الكر ، وان جملة من الأصحاب ـ كشيخنا الشهيد الثاني وغيره ـ قائلون بعدم انفعاله وان اختلفت سطوحه كيف كان ، وان جملة منهم ـ كالشهيد والشيخ علي والعلامة في أحد قوليه ـ يقيدون ذلك بالمساواة أو علو الكثير. هذا قبل عروض النجاسة. اما لو عرضت للقيل ثم وصل بالكثير ، فظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ الذي هو أحد القائلين بالاتحاد مع اختلاف السطوح في الشق الأول ـ عدم القول بالاتحاد هنا. بل يشترط المساواة أو علو الكثير ، وحينئذ فظاهرهم الاتفاق هنا على علو المطهر أو مساواته.

(الموضع السادس) ـ لو كان الماء القليل النجس في كوز ونحوه ، توقف طهره على دخول المطهر اليه وممازجته له على القول بالممازجة. ولو كان الإناء مملوء فالظاهر عدم طهارته ، لعدم إمكان التداخل. إلا ان يكون للمطهر قوة وانصباب بحيث يدافع ما في الكوز. ومما يعلم به عدم الممازجة بقاء ماء الكوز على وصفه المباين ان كان كذلك ، كعذوبته مع ملوحة المطهر ، وحرارته مع برودة المطهر ، أو بالعكس فيهما ، ويكفي مجرد اتصال المطهر به على القول الآخر على الوجه المذكور.

__________________

(١) في الصحيفة ٣٣٨.

(٢) في المسألة الثانية في الصحيفة ٢٢٨.

٣٤٢

(الموضع السابع) ـ لو فرق ماء الكر في ظروف عديدة وألقي ماء كل منها على حياله على الماء النجس مع اتصال الانصباب الى الفراغ ، فالظاهر انه لا يفيد طهارة.

(أما أولا) ـ فلأن المفهوم من الأخبار وكلام الأصحاب اختصاص اسم الكر بالماء المجتمع ، بل قد عرفت آنفا (١) من كلام المحققين الشيخ حسن في المعالم والمحدث الأمين (قدس‌سرهما) المناقشة في ثبوت صدق الكرية مع اختلاف السطوح ، لكون المفهوم عندهما من الأخبار اعتبار تساوي اجزاء الماء في صدق الكر عليه ، فكيف مع تفرقة في ظروف عديدة؟

و (اما ثانيا) ـ فلأن الدفعة العرفية ـ التي هي عبارة عن الوقوع في أقرب زمان ـ انما تحصل مع الاجتماع لا مع التفرق.

و (اما ثالثا) ـ فلأن الشارع قد جعل الكر معيارا لعدم الانفعال بالملاقاة ، ولا ريب ان هذا الماء بتفريقه قابل للانفعال ، لقلة كل ظرف منه. فلا تصدق عليه الكرية ، ومتى لم تصدق عليه لم يحصل به التطهير.

و (اما رابعا) ـ فلأنه بوصول أول كل ماء من مياه تلك الظروف الى الماء النجس ، يجب الحكم بنجاسته ، لكونه ماء قليلا لاقى نجاسة ، فلو اجتمعت منه كرور ـ والحال هذه ـ كان حكمها كذلك. والعجب من جمع ممن رأيناهم ـ من فضلاء بلادنا البحرين ـ انهم يحكمون بالتطهير بذلك بل يفعلونه. وقد حضرت ذلك غير مرة وكنت يومئذ قبل ابان الخوض في تحقيق هذه المسائل والبحث عن هذه الدلائل. ولم أعلم ما الوجه فيه عندهم.

(الموضع الثامن) ـ انه كما ان من الطرق لتطهير القليل ما ذكرنا من ورود الكر عليه أو اتصاله به على التفصيل المتقدم ، كذلك :

__________________

(١) في المسألة الثانية في الصحيفة ٢٢٨.

٣٤٣

(منها) ـ وقوعه في الكر ايضا. وحينئذ فإن كان القليل متغيرا اشترط في طهره امتزاجه بما وقع عليه ليرفع التغير ، فان ارتفع بذلك وإلا جرى فيه ما ذكرنا في الموضع الرابع. وان لم يكن متغيرا بني على الخلاف في اعتبار الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال على الوجه المتقدم من اعتبار المساواة أو علو المطهر.

و (منها) ـ وقوع ماء المطر عليه ، وقد تقدم الكلام فيه في الفرع الأول من فروع المقالة التاسعة من الفصل الأول (١).

و (منها) ـ اتصاله بالنابع لكن مع علو النابع أو مساواته. وفي حكمه الجاري عن مادة كثيرة. والكلام في اشتراط الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال على ما تقدم (٢) ويبنى الكلام أيضا في النابع على الخلاف في اشتراط الكرية وعدمه كما تقدم (٣).

(الموضع التاسع) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تطهير القليل النجس بإتمامه كرا.

فالمنقول عن الشيخ في الخلاف وابن الجنيد ـ واليه ذهب أكثر المتأخرين ـ القول بالبقاء على النجاسة.

ونقل عن المرتضى في المسائل الرسية القول بالطهارة. واقتفاه في ذلك ابن إدريس ، ويحيى بن سعيد صاحب الجامع وابن حمزة والمحقق الشيخ علي. وهم بين مصرح بعدم الفرق بين إتمامه بطاهر أو نجس ، وبين مقيد له بالطاهر ، وبين

__________________

(١) في الصحيفة ٢٢٠.

(٢) في الصحيفة ٣٣٣.

(٣) في الصحيفة ١٨٧.

٣٤٤

مطلق يتناول بظاهره الأمرين (١).

احتج الأولون بأنه ماء محكوم بنجاسته شرعا ، فتوقف الحكم بارتفاعها على الدليل. وليس فليس ، لما سيظهر بعد إبطال أدلة الخصم.

(لا يقال) : ان هذا تمسك بالاستصحاب ، وأنتم قد نفيتم التمسك به آنفا (٢).

(لأنا نقول) : ان الاستصحاب في مثل هذه الصورة ليس من القسم المتنازع فيه ، بل من قبيل ما يدخل تحت عموم الدليل أو إطلاقه ، لأن ما دل على نجاسة القليل بالملاقاة لا تقييد فيه بوقت دون آخر ولا بحالة دون اخرى ، ولان من جملة أدلة نجاسة الماء القليل الأخبار الدالة على النهي عن الوضوء والشرب منه متى لاقته نجاسة ، والنهي عندهم للتكرار والدوام ، ولأن الأخبار ـ الدالة على عدم الخروج عن يقين الطهارة أو النجاسة إلا بيقين مثله ـ شاملة لمحل النزاع.

وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من منع هذه الأدلة هنا من غير ان يبين وجهه بتفصيل ولا إجمال ـ لا اعرف له وجها إلا مجرد حب المناقشة في أمثال هذا المجال.

احتج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ـ على ما نقل عنه ـ بوجهين :

(أحدهما) ـ ان بلوغ قدر الكر موجب لاستهلاكه للنجاسة ، فيستوي وقوعها قبل البلوغ وبعده.

و (ثانيهما) ـ ان الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ولم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرية أو بعده؟ وما ذاك إلا لتساوي الحالين ،

__________________

(١) ممن صرح بالأول ابن إدريس على ما نقل عنه ، وممن صرح بالثاني ابن حمزة على ما نقل عنه ، والباقون أطلقوا (منه رحمه‌الله).

(٢) في المطلب الثاني في الصحيفة ٥١.

٣٤٥

إذ لو اختص الحكم ببعدية الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه ، لانه كما يحتمل تأخره عن البلوغ يحتمل تقدمه عليه.

واحتج ابن إدريس بالإجماع ، وبقوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (١).

وهو عام. وزعم ان هذه الرواية مجمع عليها عند المخالف والمؤالف وبالعمومات الدالة على طهارة الماء وجواز استعماله كقوله سبحانه : «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...» (٢) وقوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (٣)

وقوله (عليه‌السلام) لأبي ذر : «إذا وجدت الماء فأمسه جسدك» (٤).

وقوله (عليه‌السلام) : «اما انا فلا أزيد على ان احثو على رأسي ثلاث حثيات. فإذا انى قد طهرت» (٥).

__________________

(١) تقدم الكلام في هذا الحديث في التعليقة ١ في الصحيفة ٢٤٦.

(٢) سورة الأنفال. الآية ١٢.

(٣) سورة المائدة. الآية ١٠.

(٤) هذا من حديث رواه أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٤٦ ، وأبو داود في السنن ج ١ ص ٩١ ، وروى الترمذي في جامعه ج ١ ص ١٩٣ القطعة الأخيرة منه المتعلقة بالتيمم والغسل. وروى ابن العربي في شرحه على جامع الترمذي الحديث بتمامه. ورواه أيضا البيهقي في السنن ج ١ ص ١٧٩. والحديث ١٢ من الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الجنابة من الوسائل يوافق ما رواه هؤلاء إلا انه خال من الذيل المذكور.

(٥) هذا الحديث رواه الشوكانى في نيل الأوطار عن احمد ج ١ ص ٢١٥ هكذا. «اما انا فاحثى على رأسي ثلاث حثيات ثم أفيض فإذا انا قد طهرت». ثم قال : وقال الحافظ قوله : «فإذا انا قد طهرت» لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف. ولكنه وقع من حديث أم سلمة ، قال لها : «انما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك فإذا أنت قد طهرت». وأصله في صحيح مسلم. انتهى ما في نيل الأوطار. وروى البخاري في صحيحة ج ١ (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) قوله (ص) : «اما انا فأفيض على رأسي ثلاثا». وأشار بيديه كلتيهما. وهكذا رواه مسلم في صحيحة ج ١ ص ١٣٦ والنسائي في السنن ج ١ ص ٤٩. وابن ماجة في السنن ج ١ ص ٢٠٣.

٣٤٦

وأجيب عن ذلك ، اما عن أول دليلي المرتضى (رضي‌الله‌عنه) فبأنه محض قياس لا يعمل به ، إذ استهلاك النجاسة الذي دل النص عليه إنما هو بعد البلوغ ، فالحلق استهلاك النجاسة الواقعة قبل البلوغ بذلك قياس محض. على ان الفارق موجود ، وهو ان الماء بعد البلوغ له قوة في قهر النجاسة إذا وردت عليه بخلافه قبل ، لانقهاره بالنجاسة فلا يصير قاهرا لها.

واما عن ثانيهما فبأن الحكم بالطهارة في صورة دعوى الإجماع إنما هو بناء على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة. والنجاسة هنا غير معلومة ، لاحتمال تأخرها عن البلوغ ، إذ عدم العلم بتقدم الوقوع وتأخره يقتضي الشك في التقدم الذي هو سبب النجاسة ، فلا جرم تكون النجاسة مشكوكا فيها.

واما عن أدلة ابن إدريس فبما ذكره المحقق في المعتبر ، حيث قال ـ ونعم ما قال ـ وتنازعني نفسي إلا ان أذكره بتمامه ، فإنه جيد رشيق ، وبالإثبات ـ وان طال به زمام الكلام ـ حقيق واي حقيق ، قال (قدس‌سره) بعد نقل الأدلة المذكورة : «فالجواب دفع الخبر ، فانا لم نروه مسندا ، والذي رواه مرسلا المرتضى (رضي‌الله‌عنه) والشيخ أبو جعفر (رحمه‌الله) وآحاد ممن جاء بعده. والخبر المرسل لا يعمل به. وكتب الحديث عن الأئمة (عليهم‌السلام) خالية منه أصلا. واما المخالفون فلم اعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حي ، وهو زيدي منقطع المذهب وما رأيت أعجب ممن يدعي إجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلا نادرا ، فاذن الرواية ساقطة. واما أصحابنا فرووا عن الأئمة (عليهم‌السلام) «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (١). وهذا صريح في ان بلوغه كرا هو المانع لتأثره بالنجاسة. ولا

__________________

وأبو داود في السنن ج ١ ص ٦٢ ، وابن حجر في مجمع الزوائد ج ١ ص ٢٧١ ، ورواه ايضا ابن ماجة في السنن ج ١ ص ٢٠٣ هكذا «اما انا فاحثو على رأسي ثلاثا».

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٤٧

يلزم من كونه لا ينجسه شي‌ء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه ومنجسا قبله. والشيخ (رحمه‌الله) قال بقولهم (عليهم‌السلام) ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ ، وانما رأينا ما ذكرناه ، وهو قول الصادق (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (١). ولعل غلط من غلط في هذه المسألة لتوهمه ان معنى اللفظين واحد. واما الآيات والخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر الى جواب ، لأننا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق ، بل بحثنا في هذا النجس إذا بلغ كرا يطهر ، فان ثبتت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال وغيره. وان لم تثبت طهارته فالإجماع على المنع منه ، فلا تعلق له اذن فيما ذكره. وهل يستجيز محصل ان يقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «احثوا على رأسي ثلاث حثيات مما يجتمع من غسالة البول والدم وميلغة الكلب» واحتج ايضا لذلك بالإجماع ، وهو أضعف من الأول لأنا لم نقف على هذا في شي‌ء من كتب الأصحاب ، ولو وجد كان نادرا ، بل ذكره المرتضى (رحمه‌الله) في مسائل منفردة وبعده اثنان أو ثلاثة ممن تابعه. ودعوى مثل هذا إجماعا غلط ، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم دخول الامام فيهم ، فكيف بدعوى الثلاثة والأربعة» انتهى كلامه (زيد مقامه) ومن المستطرف قوله : «وهل يستجيز محصل. إلخ».

الفصل الرابع

في حكم البئر ، وفيه أبحاث :

(البحث الأول) ـ قد عرف شيخنا الشهيد ـ في شرح الإرشاد ـ البئر بأنها مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعداها غالبا ولا يخرج عن مسماها عرفا. واعترضه المحقق

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٤٨

الشيخ علي بان القيد الأخير موجب لإجمال التعريف ، لان العرف الواقع في العبارة لا يظهر اي عرف هو؟ أهو عرف زمانه أم عرف غيره؟ وعلى الثاني فيراد العام أو الأعم منه ومن الخاص؟ مع انه يشكل ارادة عرف غيره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلا لزم تغير الحكم بتغير التسمية ، فيثبت في العين حكم البئر لو سميت باسمه. وبطلانه ظاهر والذي يقتضيه النظر ان ما يثبت إطلاق البئر عليه في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو زمن أحد الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) كالتي في العراق والحجاز فثبوت الأحكام له واضح ، وما وقع فيه الشك فالأصل عدم تعلق أحكام البئر به ، وان كان العمل بالاحتياط اولى. انتهى. وأجاب السيد السند في المدارك بأنه قد ثبت في الأصول ان الواجب حمل الخطاب على الحقيقة الشرعية ان ثبتت ، وإلا فعلى عرف زمانهم (عليهم‌السلام) خاصة ان علم ، وإلا فعلى الحقيقة اللغوية إن ثبتت ، وإلا فعلى العرف العام ، إذ الأصل عدم تقدم وضع سابق عليه وعدم النقل عنه. ولما لم يثبت في هذه المسألة شي‌ء من الحقائق الثلاث المتقدمة ، وجب الحمل على الحقيقة العرفية العامة في غير ما علم إطلاق ذلك اللفظ عليه في عرفهم (عليهم‌السلام) ومنه يعلم عدم تعلق الأحكام بالآبار الغير النابعة كما في بلاد الشام ، والجارية تحت الأرض كما في المشهد الغروي على ساكنه السلام ، وعدم تغير الحكم بتغير التسمية. انتهى. وفيه ما عرفته في المقدمة الثامنة (١) من عدم الدليل على هذا التفصيل الذي ذكره والقاعدة التي بنوا عليها ، مع ان ما ذكره ـ من ان مع عدم ثبوت شي‌ء من الحقائق الثلاث يجب الحمل على العرف العام ـ مما لا دليل عليه ايضا. والتمسك بأصالة عدم تقدم وضع سابق عليه وعدم النقل بمحل من الضعف. على انه لا يخفى ما في بناء الأحكام على العرف العام من العسر والحرج المنفيين بالآية والرواية كما قدمنا ثمة (٢).

__________________

(١ و ٢) في الصحيفة ١٢١.

٣٤٩

أقول : والتحقيق ان القدر المعلوم ـ من الاخبار وكلام الأصحاب ـ هو ان ما علم تسميته بئرا في زمنهم (عليهم‌السلام) فلا ريب في إجراء أحكام البئر عليه ، وما لم يعلم فإنه لا بد فيه من النبع ، كما دل عليه بعض صحاح الاخبار من ان له مادة. يعني الينبوع الذي يخرج منه الماء بقوة. فعلى هذا لو كان مما يخرج رشحا فإنه يكون من قبيل الماء المحقون في بلوغ الكرية وعدمه ، وقيل انه يسمى بالثمد. كما تقدمت الإشارة إليه في أول الباب. ولا بد فيه ايضا من التسمية بئرا ، لأن الأحكام في الاخبار إنما علقت على صدق هذا العنوان. وبذلك يظهر صحة ما ذكره شيخنا الشهيد (قدس‌سره) والله العالم.

(البحث الثاني) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ في نجاسة البئر بالملاقاة وعدمها بعد الاتفاق على نجاستها بالتغير ـ على أقوال :

أشهرها ـ على ما نقله جمع من المتأخرين ـ القول بالنجاسة.

وقيل بالطهارة واستحباب النزح ، ونقل عن الحسن بن ابي عقيل ، ونسب ايضا الى الشيخ (١) في بعض أقواله ، وأسنده جمع ايضا الى شيخه الحسين بن عبد الله الغضائري ، واليه ذهب العلامة في أكثر كتبه وشيخه مفيد الدين بن جهم.

وقيل بالطهارة مع وجوب النزح ، ذهب إليه العلامة في المنتهى. ونقل ايضا عن الشيخ في التهذيب. وفيه إشكال ، فإن كلام التهذيب هنا لا يخلو من تشويش واضطراب ، ولهذا نسب اليه بعضهم القول بالنجاسة.

وفصل بعض ببلوغ الكر وعدمه ، فينجس على الثاني دون الأول ونسب الى الشيخ ابي محمد الحسن بن محمد البصروي من المتقدمين. والزم بعضهم (٢) العلامة بذلك ، حيث انه

__________________

(١) أنكر بعضهم نسبة هذا القول الى الشيخ (ره) لعدم وجوده في كتبه المعروفة اللهم إلا ان يكون في بعض أجوبة المسائل المنسوبة إليه (منه رحمه‌الله).

(٢) هو السيد السند في المدارك (منه رحمه‌الله).

٣٥٠

قائل باشتراط الكرية في الجاري ، والبئر من أنواعه. وأنت خبير بما فيه (١) وانه لو ترتب حكم البئر على الجاري لورد الإلزام على القول المشهور ايضا كما لا يخفى.

ونقل الشهيد في الذكرى عن الجعفي انه يعتبر فيه ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتى لا ينجس.

وقد تلخص من ذلك ان الأقوال في المسألة خمسة.

والظاهر من الاخبار هو القول بالطهارة واستحباب النزح. ولنا عليه وجوه من الأدلة :

(أحدها) ـ أصالة الطهارة عموما وخصوصا.

و (ثانيها) ـ عموم الآيات كقوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (٢) ونحوها. والماء كله من السماء بنص القرآن والأخبار كما تقدم بيانه في صدر الفصل الأول (٣) فيجب الحكم بطهارته حتى يقوم دليل النجاسة.

و (ثالثها) ـ الأخبار الصريحة الصحيحة كما سيأتيك ذكرها.

و (رابعها) ـ اختلاف الأخبار في مقادير النزح في النجاسة الواحدة ، مع صحتها وصراحتها على وجه لا يقبل الحمل ولا الترجيح كما سيأتيك ان شاء الله تعالى والعمل ببعض دون بعض ترجيح بلا مرجح ، فيلزم إطراحها رأسا ، للزوم التناقض وانسداد باب الحمل والترجيح.

__________________

(١) للإنفاق على عدم نجاسة الجاري بالملاقاة ، والبئر بعض أفراد الجاري أيضا ، وحينئذ فالوجه ان يقال : ان البئر قد خرجت من أحكام الجاري وان كانت بعض افراده واختصت بأحكام على حدة ، ولهذا أفردت بالبحث في الكتب الفقهية ، فلا ملازمة بينهما (منه قدس‌سره).

(٢) سورة الفرقان. الآية ٥١.

(٣) في الصحيفة ١٧٣ السطر ٣.

٣٥١

و (خامسها) ـ رجحان أخبار الطهارة ـ لو ثبت التعارض ـ بموافقة القرآن كما عرفت (١) ، ومخالفة العامة ، فإن جمهورهم ـ كما نقله العلامة في المنتهى ـ على القول بالنجاسة ، ونقل بعض أفاضل المحدثين ان علماء الحنفية ـ الذين هم العمدة عند سلاطين العامة قديما وحديثا كما تشهد به كتب التواريخ والسير ـ بالغوا في الحكم بانفعال البئر بملاقاة النجاسة ، وزادوا على كثير من المقدرات الواردة في صحاح أخبارنا (٢)

__________________

(١) من الوجه الثاني المتقدم في.

(٢) قال شيخ الإسلام في الهداية ج ١ ص ١١ : «إذا وقعت في البئر نجاسة نزحت ونزح جميع ما فيها من الماء طهارة لها بإجماع السلف. ومسائل الآبار مبنية على الآثار دون القياس. ولا يفسد ماء البئر خرء الحمام والعصفور والبعرة والبعرتان من الإبل والغنم. وينزح ماء البئر كله لبول الشاة عند أبي حنيفة وابى يوسف وينزح ما بين عشرين دلوا الى ثلاثين لموت الفأرة والعصفور والصعوة وسام أبرص. وينزح ما بين أربعين دلوا الى ستين لموت الحمامة والدجاجة والسنور. وينزح جميع ما فيها من الماء لموت الشاة والكلب والآدمي. وينزح جميع ما فيها لموت الحيوان إذا انتفخ أو تفسخ سواء كان الحيوان كبيرا أو صغيرا» انتهى. وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ٧٤ الخنزير ينجس البئر وان خرج حيا ، لانه نجس العين ، والكلب لا ينجس البئر بوقوعه فيه. والمروي عن أبي حنيفة في الكلب والسنور إذا وقعا في الماء القليل ثم خرجا يعجن به. والآدمي إذا لم تكن على بدنه نجاسة حقيقية ولا حكمية وقد استنجى فلا ينزح شي‌ء ، والمروي عن أبي حنيفة ينزح عشرون دلوا. وإذا كانت عليه نجاسة حقيقية أو لم يكن مستنجيا ينزح جميع الماء. وإذا كانت على بدنه نجاسة حكمية بأن كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء فمن لم يجعل هذا الماء مستعملا أو جعله مستعملا وانه طاهر وكان غير المستعمل أكثر من المستعمل لا ينزح من البئر شي‌ء ، ومن يجعله مستعملا وانه نجس ينزح البئر كله. وفصل أبو حنيفة في الآدمي الواقع في البئر ، ان كان محدثا ينزح أربعون ، وان كان جنبا ينزح كله ، وان كان كافرا نزح كله إلا إذا تيقنت طهارته بان اغتسل ووقع من ساعته فلا ينزح شي‌ء. وفي ص ٧٥ عند أبي حنيفة ينزح للإبل والبقر عشرون دلوا وعند ابى يوسف ينزح كله. والمروي عن أبي حنيفة في الحلمة ونحوها عشرة دلاء والفأرة ونحوها عشرون ، والحمام ونحوه ثلاثون ، والدجاج ونحوه أربعون ، والآدمي ونحوه البئر كله. وإذا تعدد الحيوان الواقع في البئر ، فالى الأربع ينزح عشرون ، ومن الخمس الى التسع ينزح أربعون ، وللعشرة ينزح كله. وعند محمد في الفأرتين ينزح عشرون ، وفي الثلاث أربعون. وفي ص ٧٦ في البول والدم والخمر ينزح كله ، والعذرة وخرء الدجاج الرخو ينزح كله قليلا أو كثيرا رطبا أو يابسا. واما الصلب كبعر الإبل والغنم ، في القياس ـ ينجس الماء قل أو كثر ، وفي الاستحسان ـ القليل لا ينجس والكثير ينجس ، سواء كان رطبا أو يابسا منكسرا أو صحيحا. والصحيح ان الكثير ما استكثره الناظر. وفي ص ٧٧ إذا ماتت فأرة في حب فيه ماء وصب الماء في بئر ، فعند ابى يوسف ينزح المصبوب وعشرون دلوا ، وعند محمد ان كان المصبوب عشرين دلوا نزح هذا المقدار وان كان أقل نزح عشرون. انتهى.

٣٥٢

وحينئذ فيتعين حمل ما ثبت دلالته على النجاسة على التقية.

(سادسها) ـ انه مع العمل بأخبار الطهارة يمكن حمل أخبار النجاسة على التقية أو الاستحباب. واما مع العمل بأخبار النجاسة فلا محمل لاخبار الطهارة ، مع صحتها وصراحتها واستفاضتها كما ستطلع عليه ، بل يلزم طرحها. والعمل بالدليلين مهما أمكن أولى من طرح أحدهما كما قرروه في غير موضع ، بل هو من القواعد المسلمة بينهم.

إذا عرفت ذلك فمن الأخبار الدالة على ما اخترناه صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع عن الرضا (عليه‌السلام) (١) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا ان يتغير».

وصحيحته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه. فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه. لأن له مادة».

ولا يخفى ما هما عليه من الصراحة بعد صحة السند ، وبيان ذلك من وجوه : (أحدها) ـ وصفه بالسعة المفسرة بعدم إفساد شي‌ء له إلا في مادة التغير خاصة. والإفساد وان كان كناية عن عدم جواز استعماله ، وهو كاف في المطلوب ، إلا

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ و ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٥٣

ان الظاهر ان المراد به هنا النجاسة بقرائن المقام التي من جملتها الاستثناء.

و (ثانيها) ـ التعليل بكون البئر له مادة.

و (ثالثها) ـ الحصر في التغير.

و (رابعها) ـ الدلالة على الاكتفاء في طهارته مع التغير بنزح ما يزيله ، أعم من أن يزيد مقدر تلك النجاسة على ذلك أو مما يجب له نزح الجميع. ولو لا انه طاهر لوجب استيفاء المقدر ونزح الجميع في الموضعين.

و (منها) ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها؟ قال : لا بأس».

وما أجيب به عنه ـ من حمل العذرة على عذرة غير الإنسان ، وان وصول الزنبيل الى الماء لا يستلزم وصول العذرة ، وان المراد نفي البأس بعد نزح المقدر ـ لا يخفى ما فيه من التكلف والبعد.

(اما الأول) فلان العذرة ـ على ما صرح به بعض الأصحاب ، ونقله عن أهل اللغة ـ مخصوصة بغائط الإنسان. ومع تسليم عدم الاختصاص فالأظهر إرادته هنا بقرينة المقابلة بذكر السرقين بعدها.

و (اما الثاني) فإنه بعيد ، بل يستحيل بحسب العادة وقوع الزنبيل في الماء وعدم اتصال الماء بما فيه ، بل لا معنى للسؤال عند التأمل بالكلية ، لأن الظاهر ان مراد السائل إنما هو السؤال عن وصول العذرة أو السرقين الى الماء ، وانه هل ينجس بذلك أم لا؟ لا وصول الزنبيل خاصة مع عدم تعدي ما فيه الى الماء ، فإنه في قوة السؤال عن وصول زنبيل خال كما لا يخفى.

و (اما الثالث) فهو من قبيل الألغاز المنافي للحكمة.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٥٤

و (منها) ـ صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سمعته يقول : لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا ان ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر». وما أجاب به عنه في المعتبر فضعيف غير معتبر ، فلا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج عليه.

و (منها) ـ صحيحته الأخرى عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «في الفأرة تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها ويصلي وهو لا يعلم ، أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال : لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه».

والجواب ـ باحتمال حمل عدم الإعادة وعدم غسل الثوب على عدم العلم بتقدم النجاسة ، لاحتمال وقوعها بعد ـ منظور فيه بعطف «يتوضأ الرجل» على قوله : «تقع» بالفاء الدالة على تأخر الوضوء عن الوقوع ، وان كان إنما حصل العلم بالوقوع أخيرا. وهو ظاهر.

و (منها) ـ صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٣) «في البئر تقع فيها الميتة؟ فقال : ان كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا». والجواب عنها ـ بأنه لا دلالة لها على انه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح شي‌ء ـ لا يخفى ضعفه (٤) فإنه لو لم يكن المراد ذلك لكان حكم المفهوم مسكوتا عنه بالكلية ، وكيف قنع السائل بفهم حكم المنطوق خاصة ولم يفحص عن حكم المفهوم مع انه أحد شقي السؤال؟ وكيف رضى الإمام (عليه‌السلام) بعدم افادته ذلك مع غفلة السائل عنه ودعاء الحاجة إليه.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) فان مقتضى مفهوم الشرط هنا انه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح لها العشرون ، وهو أعم من أن لا ينزح لها شي‌ء بالمرة أو ينزح لها أقل ، وذلك الأقل غير متيقن (منه رحمه‌الله).

٣٥٥

و (منها) ـ موثقة أبان بن عثمان أو صحيحته عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سئل عن الفأرة تقع في البئر لا يعلم بها إلا بعد ما يتوضأ منها ، إيعاد الوضوء؟ فقال : لا». والاحتمال المتقدم في صحيحة معاوية بن عمار الأخيرة هنا ممكن.

و (منها) ـ موثقة أبي أسامة وابي يوسف يعقوب بن عثيم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء. قلنا : فما تقول في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا؟ فقال : لا بأس به».

والاحتمال المذكور آنفا هنا بعيد عن ظاهر اللفظ ، إذ لا تصريح في الرواية بعدم العلم بالنجاسة حال الوضوء ، وإنما الظاهر من سياق الخبر انه لما أخبر (عليه‌السلام) بنزح هذا المقدار لموت هذه الأشياء المذكورة ، سألوا عن الوضوء والصلاة ونحوهما قبل نزح المقدر ، فأجاب (عليه‌السلام) بنفي البأس.

و (منها) ـ موثقة أبي بصير (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : بئر يستقى منها ويتوضأ به وغسل منه الثياب وعجن به ثم علم انه كان فيها ميت؟ قال : لا بأس ولا يغسل الثوب ولا تعاد منه الصلاة». وجريان الاحتمال المتقدم هنا أبعد.

و (منها) ـ رواية محمد بن ابي القاسم عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٤) : «في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال : ليس يكره من قرب ولا من بعد ، يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغير الماء» (٥).

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٤ و ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ، واسم الراوي في كتب الحديث والرجال (محمد بن القاسم).

(٥) قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : «انه لا دلالة في هذا الخبر على نجاسة البئر بالملاقاة ، لجواز ان يكون جعله (عليه‌السلام) مناط النجاسة التغير ، بناء على ان المتعارف انه لا يحصل العلم بوصول ماء البالوعة إلى البئر ما لم يتغير» أقول : يمكن في الاستدلال دلالة الرواية بإطلاقها على جواز الوضوء والغسل منها ما لم تتغير ، أعم من ان يكون التغير مستندا الى الكنيف أو غيره ، وتقييد التغير بالاستناد الى الكنيف بقرينة السؤال فيه انهم كثيرا ما يجيبون بالعموم في أمثال ذلك ، كما لا يخفى على من مارس الاخبار وجاس خلال تلك الديار (منه قدس‌سره).

٣٥٦

و (منها) ـ ما رواه في الفقيه (١) مرسلا عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «كانت في المدينة بئر وسط مزبلة ، فكانت الريح تهب فتلقي فيها القذر ، وكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتوضأ منها». وهو ظاهر الدلالة. الى غير ذلك من الاخبار الدالة بظاهرها على ذلك.

احتج القائلون بالنجاسة بوجوه : (أحدها) ـ الاخبار ، ومنها ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (٢) قال : «كتبت الى رجل اسأله ان يسأل أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليه‌السلام) بخطه في كتابي : ينزح منها دلاء».

وصحيحة علي بن يقطين عن ابي الحسن موسى (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن البئر تقع فيها الحمامة والدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرة. فقال : يجزيك ان تنزح منها دلاء ، فان ذلك يطهرها ان شاء الله تعالى».

وصحيحة عبد الله ابن ابي يعفور وعنبسة بن مصعب عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا أتيت البئر وأنت جنب ، ولا تجد دلوا ولا شيئا تغرف به

__________________

(١) في باب (المياه وطهرها ونجاستها) وفي الوسائل في الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٥٧

فتيمم بالصعيد ، فان رب الماء رب الصعيد ، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم». فان الإفساد كناية عن النجاسة كما اعترفوا به في أخبار الطهارة. والتيمم لا يسوغ مع وجود الماء الطاهر.

وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم وابي بصير (١) قالوا : «قلنا له : بئر يتوضأ منها يجري البول قريبا منها ، أينجسها؟ قالوا : فقال : ان كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها وكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك شي‌ء وان كان أقل من ذلك نجسها ، وان كانت البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها ، وما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ منه».

و (ثانيها) ـ انه لو كان طاهرا بعد ملاقاة النجاسة لما ساغ التيمم ، لكن التالي باطل فالمقدم مثله. اما الملازمة فظاهرة (٢) واما بطلان التالي فلما مر في صحيحة ابن ابي يعفور. ولانه لو لم يجز التيمم للزم ، اما جواز استعمال الماء قبل النزح. وهو خلاف مدلول الأخبار المستفيضة ، أو ترك الصلاة. وهو خلاف الإجماع.

و (ثالثها) ـ استفاضة الأخبار بالأمر بالنزح للنجاسات. وعمل الطائفة بها قديما وحديثا. والجواب عن هذه الأدلة ، اما عن الأخبار (فأولا) ـ بالإجمال بما عرفت آنفا (٣) من ان اخبار الطهارة معتضدة بموافقة الأصل وظاهر القرآن ومخالفة العامة. وقد عرفت في المقدمة السادسة (٤) ان الأخيرين من المرجحات المنصوصة في مقام

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) لان جواز التيمم مشروط بفقدان الماء الطاهر (منه رحمه‌الله).

(٣) في الصحيفة ٣٥٢.

(٤) في الصحيفة ١٠٩.

٣٥٨

التعارض ، وانه مع العمل بأخبار النجاسة فلا محمل لاخبار الطهارة بخلاف العكس ، فيتعين العمل بأخبار الطهارة والتأويل في اخبار النجاسة.

و (ثانيا) ـ بالتفصيل ، فاما الخبر الأول فالظاهر حمل الطهارة فيه على المعنى اللغوي ، والحل بمعنى تساوي الطرفين ، فإنه قبل ازالة المقدر مكروه ، فإذا نزح أبيح استعماله بلا كراهة. ويؤيد ذلك انه في الكافي بعد نقل هذه الرواية أردفها بما قدمنا نقله في اخبار الطهارة (١) بالسند المذكور ، فقال : وبهذا الاسناد قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء الا ان يتغير». فرواية الراوي بعينه لهذين الحكمين مما يبعد اختلاف الحكمين فيهما ، وإلا لفحص وسأل عن ذلك ، سيما مع صراحة الرواية الثانية في الطهارة. ويعضد ذلك ان الراوي بعينه قد روى ما يدل على الطهارة بوجه أصرح ، كما تقدم من روايته الأخرى ، فيتعين التأويل في هذه الرواية جمعا بينهما. على ان ما يتمسك به الخصم من اللفظين المذكورين إنما هو في كلام السائل. وهو ليس حجة. ودعوى ـ الاستدلال بتقرير الامام (عليه‌السلام) وإلا لزم الإغراء بالجهل ـ لا تخلو من مناقشة (٢).

ومثل ذلك في الخبر الثاني ، ويؤيده انه قال : «يجزيك ان تنزح منها دلاء». وهو جمع أقله الثلاثة ، مع ان من جملة تلك النجاسات الكلب والهرة. والفتوى عندهم في ذلك بأربعين دلوا.

واما الخبر الثالث فيجاب عنه بأن الإفساد أعم من النجاسة ، فلعله هنا باعتبار تغير الماء واختلاطه بالحمأة والطين. وما يقال ـ من ان الإفساد في أخبار الطهارة في صحيحة ابن بزيع (٣) قد حملتموه على عدم الانتفاع بالكلية بل على النجاسة ، فكذا

__________________

(١) في الصحيفة ٣٥٣.

(٢) فإنه كثيرا ما يسكت (عليه‌السلام) عن خطأ السائل ويجيبه بما هو الواقع (منه رحمه‌الله).

(٣) في الصحيفة ٣٥٣.

٣٥٩

ينبغي هنا ـ فجوابه ان وجه الفرق بين المقامين ظاهر ، فإن القرائن على ما هو المراد ثمة قائمة كما عرفت ، بخلاف ما هنا. ولأن الإفساد ثمة نكرة وقع في سياق النفي فيعم (١). واما الأمر بالتيمم في هذه الرواية فيمكن أن يكون هذا من جملة الأعذار المسوغة للتيمم ، فان إعذاره لا تنحصر في عدم وجود الماء ، بل من جملتها ما يؤدي الى مشقة استعماله أو تحصيله أو تضرر الغير باستعماله. وهذه الوجوه كلها ممكنة الاحتمال في المقام ولعل الأخير أقرب ، لقوله : «فتفسد على القوم ماءهم» فإن الإضافة تؤذن باختصاص البئر بالغير. ولعله إنما كان يبيح منها الاغتراف دون النزول فيها. ومما يدل على مشروعية التيمم في مثل ذلك رواية الحسين بن ابي العلاء (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو. قال : ليس عليه ان ينزل الركية ، ان رب الماء هو رب الأرض ، فليتيمم». حيث جوز التيمم للرجل مع انه ليس في الخبر انه جنب أو نجس بالكلية. ومن ذلك يعلم الجواب عن الدليل الثاني.

واما الخبر الرابع فالجواب عنه (أولا) ـ ان القائلين بالتنجيس متفقون على عدم حصول التنجيس بمجرد التقارب بين البئر والبالوعة ولو كان كثيرا ، فلا بد من تأويل هذا الخبر عندهم.

و (ثانيا) ـ انه يقصر عن معارضة الأخبار المتقدمة المعتضدة بالأصل ومطابقة ظاهر القرآن ومخالفة جمهور العامة كما عرفت ، فيتعين التأويل فيه بحمل النجاسة على مجرد

__________________

(١) فيتناول الإفساد بالنجاسة ان لم يكن مرادا بخصوصه بقرينة المقام ، وعلى التقديرين يكون معينا بدون التغير ، وهو المدعى. واما النهي عنه في هذا الخبر فإنما يصلح دليلا لو كان المقتضي للإفساد حينئذ منحصرا في النجاسة. ولا انحصار بعد ما ذكرنا من الوجوه المحتملة في المقام (منه رحمه‌الله).

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم.

٣٦٠