الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

الماء قلتين لم يحمل خبثا» (١). وكون الحمل فيه محتملا لان يكون بمعنى الظهور ، فمعنى عدم حمله الخبث عدم إظهاره له المستلزم لوجوده فيه واقعا ، وان لم يظهر حسا ـ فهو حديث عامي (٢) لا يقوم به حجة علينا. نعم هو موافق لمقتضى ما ذهب اليه وعول عليه ، فلذا أطال في الجواب عما عسى يرد عليه بقوله : «فان قيل القلتان. إلخ» واما أخبارنا فالذي فيها انه «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء» (٣). ولا مجال في لفظ التنجيس لذلك المعنى الذي ذكره ، بل هو عبارة عن جعل شي‌ء شيئا آخر نجسا بسبب ملاقاته له برطوبة ، كما هو معلوم بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة لجميع المائعات ونحوها. نعم قد تستلزم الملاقاة التغير ، كما إذا غلبت أوصاف النجاسة أوصاف الماء ، إلا ان هذا الفرد غير مراد هنا ، كما أشعرت به صحيحة زرارة السالفة (٤) الدالة على استثنائه من النجاسة بالملاقاة. ومع الإغماض عن ذلك فالحكم أعم. ولا دليل على التخصيص والتقييد إلا مجرد خيالات لا تعتبر ولا تفيد.

و (اما سادسا) ـ فما ذكره ـ من ان الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران. إلخ ـ فهو مجرد دعوى خالية من الدليل ، وخيال ليس فيه إلا مجرد التسجيل والتطويل ، لان التغير الذي قام الدليل على التنجيس به هو المحسوس ، فان وجد في الماء حكم عليه بالنجاسة ، وإلا فهو على يقين الطهارة وأصالتها ، وسعة الحنيفية وسهولتها.

__________________

(١) أورده في النهاية في مادة (حمل).

(٢) تقدم في التعليقة ٤ في الصحيفة ٢٥٠ ما يفيد في المقام.

(٣) روى صاحب الوسائل هذه الاخبار في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق والنص الوارد فيها «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» ..

(٤) في الصحيفة ٢٩٦.

٣٢١

تتمة مهمة

قد ارتبك بعض متأخري المتأخرين ـ وجملة من المعاصرين والتابعين لهذا الفاضل في هذه المقالة ، والمغترين بما ذكره وقاله ـ في الاخبار التي حملها ذلك الفاضل على الاستحباب والتنزيه ، وهي ما أشرنا إليها في الدليل السادس من كلامه (١) حيث ظهر لهم بعد ما ذكره من التأويل ، فلم يجدوا سبيلا الى الاعتماد عليه والتعويل. فبين من حمل النهي في ظاهر تلك الاخبار على حقيقته من التحريم ، لكن زعم ان ذلك لا يستلزم النجاسة. وبين من قصر القول بنجاسة الماء القليل على النجاسات الواردة في هذه الاخبار. وبين من اعترف بدلالتها على النجاسة ، لكن رجع فيها إلى القاعدة التي مهدها الفاضل المذكور فيما قدمنا من كلامه (٢) وهي اعتبار المقايسة والنسبة ، فاثبت النجاسة مدعيا حصول التغير الخفي على الحس.

ولا يخفى على الفطن المتمسك بذيل الإنصاف ما في هذه التأويلات من التكلف والاعتساف.

(اما الأول) ففيه ما ذكرنا آنفا (٣) في الرد على الوجه الخامس من كلام ذلك الفاضل. على انه لو تم ما ذكره لأمكن التعلق به في جملة من موارد النهي ولو في غير مقام التعارض. ولا أراه يلتزمه.

و (اما الثاني) ففيه (أولا) ـ ان الأحكام المودعة في الاخبار لا يجب ورودها عنهم (عليهم‌السلام) بقواعد كلية وان وردت كذلك في بعض الأحكام ،

__________________

(١) في الصحيفة ٣٠٣.

(٢) في الصحيفة ٣١٦.

(٣) في الصحيفة ٣٠٩.

٣٢٢

كما نبهنا على شطر منها في المقدمة العاشرة (١) بل أكثر ما ترد في ضمن الجزئيات المتفرقة ، فيحكم بكلية الحكم ، لتوافق افراده الواردة عنهم (عليهم‌السلام) في ذلك وهذا هو الأغلب في الأحكام على طريق القواعد النحوية المبنية على تتبع آحاد كلام العرب.

و (ثانيا) ـ ان هذه الأفراد إنما خرجت مخرج التمثيل في الأخبار ، لا انها قضايا واقعة حتى يجب قصر الحكم عليها.

و (ثالثا) ـ ان جملة منها قد تضمنت التعبير بالقذر ، كما في موثقتي عمار ورواية أبي بصير (٢) وفي جملة من الاخبار المتقدمة التعبير بالشي‌ء. وهو دليل على ان المراد جميع النجاسات كما لا يخفى.

و (اما الثالث) ففيه (أولا) ـ ما قدمنا لك بيانه وأوضحنا برهانه (٣) ونزيده هنا ونقول : أي ناظر من ذوي العقول ـ وان لم يكن له رؤية في معقول أو منقول ـ يذهب الى ان الطير الذي في منقاره دم أو الدجاجة التي في رجلها العذرة أو الإصبع فيها قذر. إذا لاقى شي‌ء منها كرا إلا درهما بل نصف كر فإنها تغيره وان خفي على الحس ، بان ينفصل من اجزاء تلك النجاسات بمجرد الملاقاة ما يختلط بذلك الماء ويشيع فيه على وجه يكون المستعمل له مستعملا للنجاسة؟ ما هذا إلا سد للشمس بالراح ، وإخفاء لضوء الصباح بالمصباح.

و (ثانيا) ـ ان اخبار نجاسة الماء القليل ليست مقصورة على هذه الاخبار التي زعم تطرق الاحتمال إليها والتأويل ، وان كان لا اعتماد عليه ولا تعويل ، بل فيها

__________________

(١) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، والصحيح (الحادية عشرة) وقد تقدمت في الصحيفة ١٣٣.

(٢) المتقدمات في الصحيفة ٢٨٢ و ٢٨٤.

(٣) في الصحيفة ٣١٧.

٣٢٣

ـ بحمد الله ـ ما هو ساطع النور في الظهور ، مثل خبر العبدية (١) الدال على ان ما يبل الميل من الخمر ينجس حبا من ماء ، وخبر عمر بن حنظلة (٢) الدال على اهراق الحب لو قطرت فيه قطرة من مسكر. فهل يعقل هنا مجال لاحتمال التغير أو إجراء لما تمحله من المقايسة والتقدير؟ وقد خرجنا الى حد الإسهاب في هذا الباب ، لما رأينا من جملة من الأصحاب في جمودهم على هذه المقالة اغترارا بما ذكره هذا الفاضل من الاستدلال وإطالة.

(المقام الثاني) ـ المشهور ـ بين الأصحاب القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة ـ نجاسته بذلك وردت عليه النجاسة أو ورد عليها.

وذهب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في المسائل الناصرية إلى تخصيص ذلك بورود النجاسة دون العكس ، قال في الكتاب المذكور ـ بعد قول جده الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء ـ ما لفظه : «هذه المسألة لا أعرف فيها لأصحابنا قولا صريحا» ثم نقل عن الشافعي الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه ، واعتبار القلتين في الثاني دون الأول (٣) ، وقال بعده : «ويقوى في نفسي عاجلا ـ الى ان يقع التأمل ـ صحة ما ذهب إليه الشافعي. والوجه فيه انا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة ، لأدى ذلك الى ان الثوب لا يطهر من النجاسة إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدل على ان الماء الوارد

__________________

(١) المتقدم في الصحيفة ٢٨٧.

(٢) المتقدم في الصحيفة ٢٨٨.

(٣) نسب الفرق المذكور إلى الشافعي ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج ١ ص ٢٢٢ وشيخ‌زاده الحنفي في مجمع الانهر ج ١ ص ٦٣ ، وابن قدامة الحنبلي في المغني ج ١ ص ٥٨ ، ويظهر ذلك من الغزالي الشافعي في الوجيز ج ١ ص ٥ ، وابن حجر الشافعي في شرح المنهاج ج ١ ص ٣٨. وقد تقدم في التعليقة ٤ في الصحيفة ٢٥٠ ما يرجع الى القلتين.

٣٢٤

على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة كما يعتبر فيما ترد النجاسة عليه» انتهى. ومرجعه الى ان الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب ، لان النجس لا يطهر غيره. وأجاب عن ذلك في المختلف بالمنع من الملازمة ، قال : «فانا نحكم بتطهير الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحل» وضعفه السيد السند في المدارك تبعا لجده (قدس‌سرهما) بان ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علته التامة ووجوده بدونها ، وهو معلوم البطلان.

(أقول) : ويرد على ما ذكره السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) : (أولا) ـ ما قدمنا تحقيقه (١) من عدم المنافاة بين حصول الطهارة بالماء القليل ونجاسته بتلك الملاقاة ، إذ غاية ما يستفاد من الدليل المانع من التطهير بالنجس هو ما كان نجسا قبل التطهير لا ما كان نجسا بذلك التطهير كما عرفت ثمة.

و (ثانيا) ـ ان مقتضى ما ذكره نجاسة الماء القليل بورود النجاسة عليه ، وحينئذ فلا يجوز التطهير به ، مع انه قد روى محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال : اغسله في المركن مرتين ، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة» (٢). والمركن ـ على ما نص عليه الجوهري ـ الإجانة التي يغسل فيها الثياب. ومن الظاهر البين ان الغسل فيها لا يكاد يتحقق بدون ورود النجاسة على الماء كما لا يخفى.

ويرد على ما ذكره في المدارك في تضعيفه جواب العلامة ان الظاهر ان مراد العلامة (قدس‌سره) ان دليل نجاسة الماء القليل بالملاقاة يقتضي نجاسة الغسالة مطلقا ، سواء كان قبل الانفصال أو بعده ، بل يقتضي عدم صحة التطهير به ، لكن لما قام الدليل على صحة التطهير به وتوقف طهارة المحل على عدم نجاسة

__________________

(١) في الصحيفة ٣٠٥.

(٢) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات.

٣٢٥

الماء ـ بناء على ان النجس لا يطهر غيره ـ اقتصر فيه على موضع الضرورة ومحل الحاجة وهو ما قبل الانفصال لا ما بعده ، فإن الطهارة والنجاسة من الأحكام التعبدية ، فيخص الحكم بالنجاسة حينئذ بما بعد الانفصال اقتصارا على محل الضرورة. وليس ذلك بأبعد مما حكم به شيخنا الشهيد الثاني ـ الذي هو الأصل في الإيراد المذكور ـ من نجاسة البئر ببدن الجنب الخالي من النجاسة لمجرد التعبد ، وان كان الدليل عندنا لا ينهض به ، ولا بأبعد مما حكموا به من طهارة الدلو والرشاء وحافة البئر بعد تمام النزح مع تقاطر ماء النزح على حافة البئر وجوانبها وعود الدلو أخيرا إلى الماء ، وكذلك طهارة آلات الخمر ومزاولة بعد الانقلاب خلا ، بل في الروايات ـ الواردة في تطهير الأواني بصب الماء فيها وإدارته ثم إهراقه ـ ما يعضد ذلك ، فان الماء ـ بصبه في الآنية بمقتضى القول بنجاسة القليل بالملاقاة ـ يجب الحكم بنجاسته ، فتحريكه في الزمان الثاني ليستوعب جوانب الإناء لا يفيد المحل طهارة ، فلا بد ـ للقائل بنجاسة القليل بالملاقاة ونجاسة الغسالة ـ من القول ببقائه على الطهارة حتى ينفصل دفعا للضرورة ، وحينئذ فما أورده ـ من لزوم انفكاك المعلول عن علته التامة ووجوده بدونها ـ يدفع بجواز ان يقال : ان الشارع لم يجعل مجرد ملاقاة النجاسة موجبا للتنجيس مطلقا ، وإلا لما صح التطهير بالماء القليل مطلقا ، لحصول العلة المذكورة ، إلا على القول بعدم انفعال القليل بالملاقاة. وهم لا يقولون به. وحينئذ لا يصير مجرد الملاقاة سببا للنجاسة دفعا للحرج والضرورة ، فيكون ذلك بمنزلة المستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة.

ثم لا يخفى ان هذا كله مبني على تلك المقدمة القائلة : ان النجس لا يطهر غيره. وقد عرفت ما فيها (١) (٢).

__________________

(١) من انه يجب تخصيص ذلك بما إذا كان نجسا قبل التطهير لا حال التطهير كما تقدم بيانه (منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ٣٠٥.

٣٢٦

ثم انه (قدس‌سره) قال في المدارك بعد الكلام المتقدم : «نعم يمكن ان يقال انه لا منافاة بين الحكم بطهارة الثوب المغسول وما يتصل به من البلل ، ونجاسة المنفصل خاصة إذا اقتضته الأدلة. لكن يبقى الكلام في إثبات ذلك» انتهى. والظاهر انه اشارة الى ما ذكرنا. وقال المحدث الأمين (قدس‌سره) في تعليقاته على الكتاب المذكور : «ولعل وجه هذا الاحتمال ان الماء المغسول به لا يحمل النجاسة إلا بنقله لها عن المحل المتنجس ، والنقل إنما يتحقق بالانفصال» انتهى. ولا يخفى بعده (١).

هذا. وظاهر السيد السند (قدس‌سره) في المدارك الميل الى ما ذهب اليه السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) حيث قال ـ بعد الجواب عن أدلة ابن ابي عقيل على عدم انفعال الماء القليل ـ ما صورته : «لكن لا يخفى انه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دليل على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكل ما يرد عليه من النجاسات ، ومن ثم ذهب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في جواب المسائل الناصرية الى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة. وهو متجه» انتهى. واختار ذلك ايضا المحدث الأمين (طاب ثراه) في تعليقاته على الكتاب المذكور.

وفيه (أولا) ـ انه وان كانت جملة من الاخبار الدالة على نجاسة القليل بالملاقاة قد اشتملت على ورود النجاسة على القليل ، كأخبار الركوة والتور ونحوهما ، إلا ان ذلك لا يقتضي قصر النجاسة عليه دون عكسه ، فان الظاهر ان السبب في الانفعال إنما هو ملاقاة النجاسة كيف اتفق ، وقابلية القليل من حيث القلة والمائعية للانفعال أعم من وروده على النجاسة أو ورودها عليه. والحكم بالنجاسة في تلك الأخبار قد

__________________

(١) فإن الأخبار الدالة على نجاسة القليل لا تخصيص في شي‌ء منها بما ذكره ، بل ظاهر بعضها وصريح بعض هو الانفعال بمجرد الملاقاة. ودعوى ذلك في خصوصية ماء الغسالة تحتاج الى دليل (منه رحمه‌الله).

٣٢٧

وقع في جواب الأسئلة المتضمنة لورود النجاسة على الماء. وخصوص السؤال لا يخصص كما تقرر عندهم.

و (ثانيا) ـ ان من فروع هذا القول صحة التطهير بالقليل مع وروده على النجاسة دون العكس فلا يصح التطهير به ، مع ان صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (١) ترده كما عرفت. إلا ان يرتكبوا مخالفة ذلك القائل المذكور هنا.

و (ثالثا) ـ ان جملة من الاخبار ـ الدالة بمفهوم الشرط على النجاسة ـ تدل بإطلاقها على الانفعال بالملاقاة أعم من ورود النجاسة أو عكسه. ومن الظاهر ان جعلهم (عليهم‌السلام) الكر معيارا ومدارا للانفعال وعدمه انه كذلك مطلقا ، والا لوقع التقييد أو الإشارة الى ذلك في بعض تلك الاخبار.

ويمكن ان يقال : ان الأصل في الماء الطهارة بمقتضى القاعدة المنصوصة المتفق عليها ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل قاطع. والمعلوم من الاخبار تحقق الانفعال بورود النجاسة خاصة حملا لمطلق الأخبار على مقيدها. والقول ـ بان خصوص السؤال لا يخصص ـ مدفوع بان مثل خبر العبدية وخبر عمر بن حنظلة وخبر حفص بن غياث المتقدم ذلك كله (٢) قد دل على ذلك ابتداء من غير تقدم سؤال.

واما الفرع المذكور فيجاب عنه بما قدمنا تحقيقه (٣) من عدم المنافاة بين التطهير بالقليل ونجاسته بذلك التطهير. وحينئذ فيقوى القول بالفرق بين ورود النجاسة وعكسه.

ويمكن تأييده أيضا بأخبار ماء الاستنجاء (٤) ، حيث حكم فيها بطهارته ، فإنه يمكن ان يكون ذلك انما هو لورود الماء على النجاسة.

__________________

(١) في الصحيفة ٣٢٥.

(٢) في الصحيفة ٢٨٧ و ٢٨٨.

(٣) في الصحيفة ٣٠٥.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

٣٢٨

إلا انه بعد لا يخلو من شوب الإشكال ، لأن تلك الأخبار المشتملة على الانفعال بورود النجاسة لا صراحة لها بل ولا ظهور في التخصيص بصورة الورود حتى تقيد بها تلك الأخبار المطلقة ، وبدونه يشكل الحكم بالتقييد ، والمسألة لذلك محل تردد.

واما ما ذكره السيد السند (قدس‌سره) ـ من انه ليس في الروايات ما يدل على انفعال القليل بكل ما يرد عليه من النجاسات ، حتى تبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه ـ ففيه انه وان كان جملة من تلك الاخبار قد اشتملت على نجاسات مخصوصة الا ان جملة منها قد اشتملت على ألفاظ تؤذن بالعموم ، كلفظ القذر الوارد في موثقتي عمار ورواية أبي بصير ، ولفظ الشي‌ء في الأخبار الدالة على النجاسة بالمفهوم الشرطي ، وكذا في حسنة شهاب بن عبد ربه ، المتقدم جميع ذلك في أدلة القول بالنجاسة (١) وسيأتي مزيد تحقيق للمقام في مسألة الغسالة ان شاء الله تعالى.

(المقام الثالث) ـ جمهور القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لم يفرقوا في النجاسة الملاقية بين قليلها وكثيرها.

ونقل عن الشيخ (قدس‌سره) في المبسوط القول بعدم نجاسة الماء بما لا يمكن التحرز منه ، مثل رؤوس الابر من الدم وغيره ، فإنه معفو عنه ، لانه لا يمكن التحرز منه.

ونقل عنه في الاستبصار التخصيص بالدم القليل الذي لا يدركه الطرف كرؤوس الابر.

واستدل على ذلك بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ،

__________________

(١) في الصحيفة ٢٨١ و ٢٨٢ و ٢٨٤.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

٣٢٩

هل يصلح الوضوء منه؟ قال : ان لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وان كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه».

وأورد عليه انه ليس في الرواية تصريح بإصابة الدم الماء ، وإنما المتحقق منها اصابة الإناء ، وهو لا يستلزم اصابة الماء ، فيكون باقيا على أصل الطهارة.

وأجيب بأن السائل أجل قدرا من ان يسأل عن مثل ذلك ، بل المراد انما هو السؤال عن الماء. وذكر الإناء إنما هو على حذف مضاف.

وفيه (أولا) ـ ان هذا الاستبعاد إنما نشأ الآن بعد المعرفة بالأحكام وشيوع مثل هذا الحكم بين الأنام ، وإلا فكتاب علي بن جعفر المذكور قد اشتمل على جملة من الأسئلة العارية الآن عن الالتباس. بحيث يعرف أحكامها الآن جهال الناس.

و (ثانيا) ـ ان من المحتمل قريبا ـ بل هو الظاهر من الخبر المذكور ـ انه مع تحقق اصابة الإناء حصل الشك في اصابة الماء أو الظن بذلك ، فحسن السؤال حينئذ عن ذلك. وأجاب (عليه‌السلام) بالبناء على يقين الطهارة إلا ان يعلم ذلك باستبانة الدم في الماء.

نعم لقائل أن يقول : انه من المقرر في كلامهم انه متى اشتمل الكلام على قيد فمورد الإثبات والنفي هو القيد. وحينئذ يكون النفي في قوله : «ان لم يكن شي‌ء يستبين» راجعا إلى الاستبانة التي هي صفة الشي‌ء. والظاهر ان بناء الاستدلال على ذلك.

وأجيب عن ذلك بأنه انما يحسن لو كان في السؤال تصريح بإصابة الدم الماء. وفيه انه متى كان تقدير السؤال هو ان الدم قد أصاب الإناء ولكن أظن أو أشك في إصابته الماء ، فإنه يحسن في الجواب بناء على ذلك التقدير المذكور ان يقال : انه وان أصاب الماء حقيقة فضلا عن ظن ذلك أو الشك فيه إلا ان مجرد اصابة الماء مع عدم ظهوره واستبانته

٣٣٠

غير موجب للنجاسة. واما الجواب ـ بكون (يستبين) خبرا لكان وان اسمها (شي‌ء) ـ فظني بعده ، بل الظاهر ان (كان) هنا تامة. ومع تسليمه فهو إنما يتم على تقدير نقل الخبر كذلك كما هو في التهذيب ، واما على ما هو المحكي عن الكافي من ان لفظ الرواية فيه «ان لم يكن شيئا يستبين في الماء» فلا مجال لهذا الجواب. وبذلك تبقى المسألة في قالب الاشكال.

هذا. وبعض محققي متأخري المتأخرين صار الى العمل بالخبر المذكور. استنادا الى ان ما دل على انفعال القليل بالملاقاة لا يدل على العموم ، إذ الروايات الدالة بمنطوقها على ذلك مختصة بموارد مخصوصة ، والدالة بمفهومها لا عموم لمفهومها ، وإنما يتم ذلك بالإجماع على عدم الفصل بين النجاسات ، وهو غير جار في محل الخلاف ، فلا جرم كان ما نحن فيه داخلا في عموم أدلة الطهارة. وفيه ما عرفته في المقام الأول في الجواب عن الوجه الخامس (١) من كلام الفاضل المتقدم ذكره من ثبوت العموم في المفهوم على وجه معلوم غير موهوم.

واعترض بعض محققي متأخري المتأخرين على الشيخ (قدس‌سره) بان مورد الرواية دم الأنف ، فالتعميم لا يخلو من اشكال. وفيه انه لو خصت الأحكام بخصوص الوقائع المخصوصة ومشخصاتها الخارجية ، لم يكد يتفق وجود حكم كلي في أحكام الفقه إلا القليل. والظاهر ان خصوصية الأنف هنا غير ملحوظة ، فيتعدى الحكم إلى سائر أفراد الدم من باب تنقيح المناط القطعي كما تقدم بيانه في المقدمة الثالثة (٢) فلا اشكال.

نعم تعميم الشيخ الحكم المذكور في المبسوط للدم وغيره لا يخلو من الاشكال لاختصاص مورد الخبر المذكور بالدم ، وظهور التغاير في الأحكام بين افراد النجاسات

__________________

(١) في الصحيفة ٣٠٩.

(٢) في الصحيفة ٥٦ و ٦٤.

٣٣١

في العفو وعدمه وتعدد الغسل وعدمه ونحو ذلك ، فلا يمكن دخول ذلك في تنقيح المناط القطعي. وصار البعض المتقدم ذكره إلى تقوية ما في المبسوط بناء على ما نقلنا عنه. وفيه ما عرفته. وما ذكره الشيخ (قدس‌سره) من عدم إمكان التحرز ممنوع سواء أريد به ما يدل عليه ظاهر اللفظ أو الكناية عن المشقة.

(المقام الرابع) ـ المفهوم من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على كتاب المدارك تخصيص القول بنجاسة القليل بالملاقاة بالماء الساكن دون الجاري لا عن نبع ، حيث قال بعد قول السيد (قدس‌سرهما) في الكتاب المذكور : «أطبق علماؤنا إلا ابن ابي عقيل على ان الماء. إلخ» ـ ما صورته : «قلت : الإطباق ثابت في الماء القليل الساكن دون الجاري لا عن نبع كما سيجي‌ء ان شاء الله تعالى» انتهى. وأشار بقوله : «كما سيجي‌ء» الى ما قدمنا نقله عنه في آخر المسألة الثانية من الفصل الثاني (١).

وقد سبقه الى ذلك ايضا المحقق الشيخ حسن (طاب ثراه) في المعالم كما قدمنا نقله في المسألة المذكورة (٢) حيث قال ثمة : «إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب. الى آخر ما تقدم» ومبنى ما ذكروه على ان المستفاد ـ من أخبار الكر كمية واشتراطا ـ اعتبار الاجتماع في الماء ، وصدق الوحدة على ذلك الماء إنما هو باعتبار ذلك ، فمورد جعل الكر وعدمه مناطا للعصمة عن الانفعال وعدمها إنما هو المجتمع الساكن دون الجاري المذكور. والمسألة محل اشكال كما قدمنا بيانه في المسألة المشار إليها (٣).

(المقام الخامس) ـ صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف

__________________

(١) في الصحيفة ٢٤٠.

(٢) في الصحيفة ٢٣٩.

(٣) في الصحيفة ٢٣٢.

٣٣٢

يعرف بينهم ـ ان مما يطهر القليل النجس إلقاء كر عليه دفعة ، فان كان متغيرا وزال تغيره بذلك وإلا فكر آخر حتى يزول التغير.

وقد وقع الخلاف بينهم في اشتراط الدفعة وعدمه ، واشتراط الامتزاج وعدمه والظاهر ان منشأ ذلك عدم ورود حكم تطهير المياه في النصوص ـ لا بطريق العموم ولا الخصوص ـ سوى ما ورد في ماء الحمام مما لا يحسم مادة الإشكال في المقام. فحينئذ حاول جملة من الأصحاب للحكم بالطهارة هنا وجها يدخل به تحت عموم الاخبار وهو حصول الوحدة بانضمام الماء الطاهر الى الماء النجس ليدخل تحت عموم قوله (عليه‌السلام) (١) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». وقد صرحوا أيضا بأنه كما يطهر بإلقاء الكر يطهر بمطهرات أخر سنشير إليها ان شاء الله تعالى (٢).

وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع :

(الأول) ـ قد اختلفت كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط الامتزاج وعدمه ، واضطربت فتاوى جملة منهم ، فممن صرح بذلك المحقق في المعتبر في مسألة الغديرين ، حيث قال : «الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعها مع الساقية كرا فصاعدا» ثم قال بعد هذا الكلام بلا فصل : «الثالث ـ لو نقص الغدير عن كر فنجس فوصل بغدير فيه كر ففي طهارته تردد. والأشبه بقاؤه على النجاسة ، لأنه ممتاز عن الطاهر» ولا يخفى عليك ما في ظاهر هذا الكلام من التدافع ، الا ان يحمل كلامه الأول على استواء سطحي الغديرين والثاني على اختلافهما كما أشرنا إليه في المسألة الثانية

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق. والنص ـ كما في الوسائل وغيره ـ «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» ..

(٢) في الموضع الثامن من المواضع الآتية.

٣٣٣

من الفصل الثاني. وقال العلامة في التذكرة : «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا ان اعتدل الماء والا في حق السافل ، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة ، ولو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة ، لأن النجس لو غلب الطاهر نجسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على حاله» انتهى. وقال الشهيد في الذكرى : «وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكر مماسة لم يطهر ، للتميز المقتضي لاختصاص كل بحكمه ، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير» انتهى.

ولا يخفى عليك ما في عبائر هؤلاء الأفاضل من المناقشة ، فإنه متى كان الاتصال بين الغديرين بساقية مع تساوي السطوح موجبا للاتحاد في صورة عدم النجاسة ، فلم لا يكون موجبا له ايضا بعد تنجس أحدهما حتى انه يشترط الممازجة؟ إذ من الظاهر ان عروض النجاسة وعدمه لا مدخل له في الاتحاد وعدمه ، فان وصف النجاسة لا يخرج الماء عن حقيقة المائية ، والحكم بالاتحاد إنما ابتنى على ذلك ، وإلا فلو تغير الماء بلون طاهر ثم وصل بماء خال من اللون اقتضى ذلك تعدد الماءين ، ولا أظنهم يلتزمونه وحينئذ فإن كان مجرد الاتصال كافيا فينبغي أن يكون في الموضعين وإلا فلا ، والقائلون بالاكتفاء بمجرد الاتصال وحصول الاتحاد به وان أوجبوا المساواة أو علو الكثير بعد عروض النجاسة كما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الروض ، إلا ان ذلك ليس من حيث عدم الاتحاد بل من حيث انه يشترط في المطهر علوه وامتزاجه ، والا فهو قد صرح بحصول الاتحاد بمجرد المساواة ، واحتمل ايضا فيه الاكتفاء بذلك بناء على حصول الاتحاد به في الصورة المذكورة ، بخلاف كلامهم هنا ، لتصريحهم بامتياز النجس عن الطاهر.

احتج ثاني المحققين وثاني الشهيدين على الاكتفاء بمجرد الاتصال بما يرجع الى وجوه ثلاثة :

٣٣٤

(أحدها) ـ الأصل.

و (ثانيها) ـ عدم تحقق الامتزاج. لأنه ان أريد به امتزاج مجموع الاجزاء بالمجموع لم يتحقق الحكم بالطهارة ، لعدم العلم بذلك بل ربما علم عدمه. وان أريد به البعض لم يكن المطهر للبعض الآخر الامتزاج بل مجرد الاتصال. وحينئذ فيلزم اما القول بعدم طهارته ، وهو باطل قطعا ، للإجماع على انه ليس وراء الامتزاج المذكور شرط آخر لطهر الجميع ، أو القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال ، وحينئذ فيلزم القول به مطلقا (١).

و (ثالثها) ـ ان الاجزاء الملاقية للطاهر تطهر بمجرد الاتصال قطعا فتطهر الأجزاء التي تليها ، لاتصالها بالكثير الطاهر. وكذا القول في بقية الاجزاء.

وأورد على الأول بأن التمسك بالأصل هنا لا معنى له بالكلية. فإن يقين النجاسة ـ الموجب لأصالة بقائها حتى يثبت المزيل ـ معارض ومخرج عن ذلك الأصل

و (على الثاني) انا نختار (أولا) ـ امتزاج المجموع بالمجموع. لكن لا بالمعنى الذي ذكره ، بل بمعنى اختلاطهما على وجه يستهلك الماء النجس ولا يظهر له أثر بالكلية. لكن لا يخفى ان عدم ظهور أثر النجس بالكلية كما يحصل بالاستهلاك والاضمحلال في الماء الطاهر ، كذلك قد يكون سببه تشابه الماءين وان لم يحصل ثمة استهلاك. وحينئذ فالقول به مطلقا مشكل إلا بدعوى الإجماع على الطهارة بذلك. وفيه ما لا يخفى. نعم لو كان سطح الماء أوسع من سطح القليل وألقي عليه. فإنه يحصل العلم بالاستهلاك والمداخلة. وسيأتي ما فيه مزيد بيان لذلك ان شاء الله تعالى.

و (ثانيا) ـ نختار امتزاج البعض وان الباقي يطهر حينئذ. قوله ـ : انه متى كان طهر الباقي بمجرد الاتصال يلزم القول به مطلقا ـ ممنوع. ووجه الفرق ظاهر ،

__________________

(١) إذ الفرق بين الأبعاض غير معقول ، فيكون اعتبار الامتزاج على هذا التقدير مستلزما لعدم اعتباره. وهو فاسد قطعا (منه رحمه‌الله).

٣٣٥

فان الحكم بالطهارة والنجاسة تابع للدلالة الشرعية ، وليس للعقل فيه مدخل بوجه ، ونحن إنما حكمنا بطهارة الأجزاء الباقية بعد الامتزاج لما ذكرتموه من الإجماع على حصول الطهارة للمجموع بذلك ، وهذا لا يستلزم الحكم بطهارة ما لم يحصل فيه امتزاج أصلا بمجرد الاتصال ، لعدم شمول الدليل المذكور له. ولانه ربما كان للممازجة البعض مدخل في التطهير فلا يتم الاكتفاء بمجرد الاتصال.

و (على الثالث) ـ انه موقوف على وجود دليل على ان الماء يطهر نفسه ، والأدلة العامة الدالة على كونه طهورا (١) غاية ما تدل عليه كونه مطهرا في الجملة. وضم الإجماع في تتمة الاستدلال بها لا يتم في مقام النزاع (٢) والخاصة الواردة في جزئيات الأحكام إنما تدل على كونه مطهرا لغيره ، بل ربما دل حديث «انه يطهر ولا يطهر» (٣). بظاهره على عدم وقوع التطهير هنا.

والقول الفصل في المقام ان يقال : لما كان الحكم المذكور غير منصوص فالواجب فيه رعاية الاحتياط الذي به يحصل يقين البراءة ، لما عرفت في المقدمة الرابعة (٤) من ان الاحتياط في مثل هذا الموضع واجب. وهو لا يحصل إلا بالقول بالامتزاج على وجه يستهلك الماء النجس في جنب الماء الطاهر.

ويؤيد ذلك ما قدمنا (٥) من معنى حديث «الماء يطهر ولا يطهر» بحمل كونه لا يقبل التطهير على الممازجة الموجبة لاضمحلاله واستهلاكه.

__________________

(١) المتقدمة في المقالة الثانية في الصحيفة ١٧٢.

(٢) بأن يقال : ان الأدلة المذكورة دلت على كونه مطهرا في الجملة ، والإجماع قائم على عدم الفصل والفرق بين افراد المتنجس (منه قدس‌سره).

(٣) وهو حديث السكوني المروي في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) في الصحيفة ٦٨.

(٥) في الصحيفة ١٧٧.

٣٣٦

ويؤيده أيضا ما حققه المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في كتاب المعالم ، من انه لما دل النص والإجماع على ان وقوع النجاسة في الكثير أو وقوعها عليه لا يمنع من استعماله ولا يؤثر فيه تنجيسا وان كثرت ما لم تتغير بها ، لاستهلاكها فيه واضمحلالها في جنبه ، فيدل بمفهوم الموافقة على ان الماء النجس بهذه المثابة ، فإذا وقع في الماء أو وقع الماء عليه وصار مستهلكا فيه بحيث شاعت اجزاؤه ولم تتميز وجب الحكم بطهارته. نعم فيه ما تقدم من ان العلم بذلك يقينا إنما يحصل فيما لو كان سطح الماء الكثير أوسع من سطح القليل النجس ، أو كان الماء النجس ذا طعم أو لون أو رائحة وانعدمت بوضعه في الماء الكثير.

(الموضع الثاني) ـ انه مع اعتبار الامتزاج وعدم الاكتفاء بمجرد الاتصال. فهل يشترط الدفعة العرفية ، بمعنى وقوع جميع اجزاء الماء الكثير في زمان قصير بحيث يصدق عليه الدفعة عرفا (١) حيث ان اعتبار الدفعة الحقيقية محال ، أم لا يشترط ، بل يكفي وقوعه تدريجا لكن بشرط عدم الانقطاع؟

قد اختلفت عباراتهم أيضا في ذلك ، فممن صرح بالدفعة جمع منهم : المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه وكذا الشهيد ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين. ومنهم من أطلق كالمحقق في المعتبر ، وهو المنقول ايضا عن الشيخ في الخلاف والمبسوط. ومنهم من صرح بالاكتفاء بوقوعه تدريجا كالشهيد في الذكرى

__________________

(١) قال المحقق الشيخ حسن (ره) في كتاب المعالم : «اعلم ان المعتبر في الدفعة ما لا يخرج به الماء عن كونه متساوي السطح ، ومآله الى ان يبقى به صدق الاجتماع والوحدة عرفا ، لما عرفت من ان الموجب لاعتبارها هو التحرز من انفعال بعض اجزاء الماء ، وهو انما يكون بخروجه عن الوحدة المعتبرة» انتهى. ولا يخفى أن إلقاء الماء ـ بحيث لا يخرج عن المساواة ـ متعذر أو متعسر في أكثر الأحيان ، فلعل المراد باشتراط المساواة الاكتفاء هنا بصدق الوحدة العرفية والاجتماع وان اختلفت السطوح في الجملة (منه رحمه‌الله).

٣٣٧

واعترضه المحقق الثاني بأن فيه تسامحا ، لان وصول أول جزء منه الى النجس يقتضي نقصانه عن الكر فلا يطهر ، ولورود النص بالدفعة وتصريح الأصحاب بها. ورده السيد السند في المدارك بأنه غير جيد ، فإنه يكتفى في الطهارة ببلوغ المطهر الكر حال الاتصال إذا لم يتغير بعضه بالنجاسة وان نقص بعد ذلك ، مع ان مجرد الاتصال بالماء النجس لا يقتضي النقصان كما هو واضح. وما ادعاه من ورود النص بالدفعة منظور فيه ، فانا لم نقف عليه في كتب الحديث ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال. وتصريح الأصحاب بالدفعة ليس حجة ، مع ان العلامة في المنتهى والتحرير اكتفى في تطهير الغدير القليل النجس باتصاله بالغدير البالغ كرا. ومقتضى ذلك الاكتفاء في طهارة القليل باتصال الكر به وان لم يلق كله فضلا عن كونه دفعة انتهى. وفيه ان ما ذكره ـ من انه يكتفى في الطهارة ببلوغ الكر حال الاتصال ـ محل نظر ، لما عرفت آنفا من عدم الدليل على ذلك ، إلا ان يكون ذلك إلزاما للمعترض ، حيث انه من القائلين بالاكتفاء بمجرد الاتصال.

وفصل المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المعالم ، فقال : «والتحقيق في ذلك انه لا يخلو ، اما ان يعتبر في عدم انفعال مقدار الكر استواء سطحه أولا ، وعلى الثاني اما ان يشترط في التطهير حصول الامتزاج أولا ، وعلى تقدير عدم الاشتراط اما أن يكون حصول النجاسة عن مجرد الملاقاة أو مع التغير. فههنا صور أربع :

(الاولى) ـ ان يعتبر في عدم انفعال الكر استواء السطح. والمتجه حينئذ اشتراط الدفعة والإلقاء ، لأن وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة ، فتنفعل الأجزاء التي يصيبها الماء النجس ، وينقص الطاهر عن الكر فلا يصلح لإفادة الطهارة ولا فرق في ذلك بين المتغير وغيره ، لاشتراك الكل في التأثير في القليل ، والمفروض صيرورة الاجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.

٣٣٨

(الثانية) ـ ان يهمل اعتبار المساواة ولكن يشترط الامتزاج. والوجه عدم اعتبار الدفعة حينئذ بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه له ، حتى لو فرض حصول ذلك قبل إتمام إلقاء الكر لم يحتج إلى الباقي. ولا يفرق هنا ايضا بين المتغير وغيره ، لكن يعتبر في المتغير مع الممازجة زوال تغيره ، فيجب ان يلقى عليه من مقدار الكر ما يحصل به الأمران ، ولو قدر قوة المتغير بحيث يلزم منه تغير شي‌ء من اجزاء الكر حال وقوعها عليه ، وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك اما بتكثير الاجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.

(الثالثة) ـ ان لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة وتكون نجاسة الماء بمجرد الملاقاة. والمتجه حينئذ الاكتفاء بمجرد الاتصال ، فإذا حصل بأقل مسماه كفى ولم يحتج إلى الزيادة عنه.

(الرابعة) ـ الصورة بحالها ولكن كان الماء متغيرا. والمعتبر حينئذ اندفاع التغير كما في صورة اشتراط الامتزاج ، وحينئذ لو فرض تأثير التغير في بعض الاجزاء تتعين الدفعة أو ما جرى مجراها كما ذكر. وحيث قد تقدم منا الميل الى اعتبار المساواة فاعتبار الدفعة متعين» انتهى كلامه (زيد مقامه).

ويرد على ما ذكره في الصورة الاولى انه قد صرح سابقا بان الذاهبين الى اعتبار المساواة مصرحون بعدم انفعال القليل المتصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى ، كما قدمنا لك عبائر جملة منهم في المسألة الثانية من الفصل الثاني (١) وقال (قدس‌سره) هناك بعد البحث في ذلك : «وقد تحرر من هذا ان عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكر مع تساوي السطوح ، أو باتصاله بمادة هي كر فصاعدا ، ولا يعتبر استواء السطوح في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما تحتها. إلخ» ومفهوم هذا الكلام

__________________

(١) في الصحيفة ٢٢٨.

٣٣٩

ان الشرط في عدم انفعال الكثير الواقف اما تساوي سطوحه أو كون الأعلى منه كرا فصاعدا ، لعدم تقوي الأعلى بالأسفل عندهم ، وحينئذ فالوحدة والاجتماع اللذان هما مدار العصمة عن الانفعال حاصلان على تقدير التساوي والاختلاف على الوجه المذكور ، فلا يتجه اعتبار الدفعة بل يجزي الوقوع تدريجا ، ويرجع الى ما ذكره في الصورة الثانية وبذلك يظهر لك ما في آخر كلامه من قوله : «وحيث قد تقدم منا الميل. إلخ» فإنه قد تقدم منه كما حكينا عنه (١) الميل الى اعتبار المساواة أو علو الكثير لا اعتبار المساواة خاصة كما يوهمه كلامه هنا.

ويرد على ما ذكره في الصورة الثانية انه مع إهمال اعتبار المساواة وان اشترط الامتزاج ، فالاكتفاء بامتزاج البعض ممنوع. لما عرفت آنفا (٢) من عدم النص في تطهير المياه ، والأصل بقاء النجاسة. وغاية ما يمكن التشبث به في هذا الباب الإجماع. وهو إنما يثبت بالإلقاء دفعة على وجه يستلزم دخول جميع الاجزاء بعضها في بعض. وبالجملة فإن وجوب الدفعة كما يترتب على اعتبار المساواة كذلك يترتب على اشتراط الامتزاج ، إذ امتزاج البعض وان أوجب استهلاك النجس ، إلا انه لا دليل على حصول التطهير به. وأيضا فإن القائلين باعتبار الممازجة لم يظهر منهم التصريح بالاكتفاء بممازجة البعض ، بل ربما ظهر من كلامهم اعتبار ورود جميع الكر عليه ، وبذلك يظهر لك ما في تتمة كلامه في الصورة المذكورة.

ويرد على ما ذكره في الصورة الثالثة ان ما ذكر فيها ـ من عدم اشتراط الممازجة وعدم اعتبار المساواة ـ أعم من الاكتفاء بالاتصال مطلقا أو حصول الممازجة في بعض. وعدم اشتراط الدفعة هنا إنما يتم على الأول دون الثاني ، لما عرفت آنفا (٣).

__________________

(١) في الصحيفة ٢٣٩.

(٢ و ٣) في الصحيفة ٣٣٣.

٣٤٠