الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

وبالجملة فبعد ثبوت الحكم بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة ، وانطباق جملة أخبار المسألة بعضها على بعض على ذلك ، فهذا الخبر لا ينهض بالمعارضة ولا ينوء بالمناقضة.

واما عن الحديث الثاني (١) فإنا لم نعثر عليه مسندا ولا مرسلا في شي‌ء من كتب الأخبار التي عليها المدار ، وقد صرح بذلك أيضا جملة ممن تقدم من مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) بل صرح جملة منهم بكونه عاميا (٢) وما هذا حاله فلا يصح الاستناد اليه فضلا عن معارضة الاخبار به. على انا نقول : انه لو ثبت صحته لكان حمله على التقية متعينا ، لما عرفت آنفا (٣).

هذا. وممن اختار ـ القول بعدم انفعال القليل بمجرد الملاقاة ـ المحدث الكاشاني ، وقد بالغ في اعلائه وتشييده ، وتكلف جمع الاخبار عليه وتأييده ، وأكثر من الطعن في أدلة القول الآخر ، حتى اغتر به بعض من لم يعض على المسألة بضرس قاطع ممن تأخر ، ولأجل ذلك كتبنا في المسألة المذكورة رسالة تشفي العليل وتبرد الغليل ، موسومة بقاطعة القال والقيل في نجاسة الماء القليل ، قد نقلنا فيها جميع كلامه وما أطال به من نقضه وإبرامه ، واردفناه بما يكشف عنه نقاب إبهامه ويقشع غياهب ظلامه.

ولنذكر هنا جملة أدلته على سبيل الاختصار ، وأجوبته عما يرد عليه من أدلة القول المقابل له في هذا المضمار ، ونبين ما فيه من القصور عن درجة الاعتبار.

(أحدها) ـ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حديث السكوني عن ابي عبد الله

__________________

سلمنا كونها معلومة لكن متن الخبر مضطرب ، فقد روي قلتين أو ثلاث أو أربعين قلة ، وروى إذا بلغ كوزين. الى آخر ما ذكره في تفنيد الاستدلال بهذا الحديث.

(١) وهو حديث «خلق الله الماء. إلخ» المتقدم في الصحيفة ٢٩٨.

(٢) تقدم في التعليقة ٢ في الصحيفة ١٨٠ ما يفيد في المقام.

(٣) في الصحيفة ٢٩٤ ولا يخفى انه (قده) لم يحب عن رواية أبي مريم المشار إليها في ص ٢٩٨.

٣٠١

(عليه‌السلام) : «الماء يطهر ولا يطهر» (١). حيث قال بعد نقله : «إنما لا يطهر لأنه إن غلب على النجاسة حتى استهلكت فيه طهرها ولم ينجس حتى يحتاج الى التطهير ، وان غلبت عليه النجاسة حتى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ولم يقبل التطهير إلا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء».

و (ثانيها) ـ الأخبار المتقدمة (٢) وعد منها حديث «خلق الله الماء طهورا.» (٣). مدعيا استفاضته عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

و (ثالثها) ـ انه لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته نقصانه عن الكر وبلوغه اليه. لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه ، مع انه جائز بالاتفاق ، وذلك لان كل جزء من اجزاء الماء الوارد على المحل النجس ، إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة خارجا عن الطهورية في أول آنات اللقاء ، وما لم يلاقه لا يعقل ان يكون مطهرا والفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ـ مع انه مخالف للنصوص ـ لا يجدي. إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولزوم تنجسه ، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكر لا يقوى على ان يعصمه بالاتصال عن الانفعال ، فلو كانت الملاقاة مناط التنجيس لزم تنجس القدر الملاقي لا محالة ، فلا يحصل التطهير أصلا. واما ما تكلفه بعضهم ـ من ارتكاب القول بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محل النجاسة ـ فمن أبعد التكلفات. ومن ذا الذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها وطهارته حال ملاقاته لها بل طهوريته؟ نعم يمكن لأحد ان يتكلف هناك بالفرق بين ملاقاة الماء لعين النجاسة وبين ملاقاته للمتنجس ، وتخصيص الانفعال بالأول. والتزام وجوب تعدد الغسل في جميع النجاسات كما ورد في بعضها. الا ان هذا محاكمة من غير

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) في الصحيفة ٢٩٠ التي استدل بها للقول بعدم الانفعال بالملاقاة.

(٣) تقدم الكلام فيه في التعليقة ٢ في الصحيفة ٢٩٨.

٣٠٢

تراضي الخصمين ، فإن القائلين بانفعال القليل لا يقولون به ، والقائلون بعدم الانفعال لا يحتاجون اليه ، وان أمكن الاستدلال عليه بما ورد في إزالة البول من الأمر بغسله مرتين إذا غسل في إجانة كما يأتي.

و (رابعها) ـ ان اشتراط الكر مثار الوسواس ، ولأجله شق الأمر على الناس ، يعرفه من يجربه ويتأمله ، ومما لا شك فيه ان ذلك لو كان شرطا لكان أولى المواضع بتعذر الطهارة مكة والمدينة المشرفتين ، إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة ، ومن أول عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخر عصر الصحابة لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء من النجاسات ، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات بل الكفار ، كما هو معلوم لمن تتبع.

و (خامسها) ـ ان ما يدل على المشهور إنما يدل بالمفهوم ، والمفهوم لا يعارض المنطوق (١) ولا الظاهر النص. مع ان أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون الكر بملاقاة شي‌ء ما لا كل نجاسة ، فيحمل على المستولية جمعا ، فيكون المراد لم يستول عليه شي‌ء حتى ينجس اي لم تظهر فيه النجاسة ، فيكون تحديدا للقدر الذي لا يتغير بها في الأغلب.

و (سادسها) ـ حمل تلك الأخبار الدالة على النهي عن الشرب والوضوء مما لاقته النجاسة على التنزه والاستحباب ، حيث قال في كتاب الوافي : «باب ما يستحب التنزه عنه في رفع الحدث والشرب وما لا بأس به» ثم أورد فيه الأخبار التي قدمناها مما دل على النهي عن الوضوء من الأواني التي وقع فيها قطرة من بول أو دم والأواني المأمور بإهراقها لوقوع نحو ذلك فيها.

__________________

(١) قوله هنا ـ : والمفهوم لا يعارض المنطوق. الى آخر العبارة ـ من كلام صاحب المفاتيح فيه ، وباقي ما نقلناه عنه كله من كتاب الوافي لكن على الاختصار والتقديم والتأخير (منه قدس‌سره).

٣٠٣

و (سابعها) ـ الاختلاف في تقدير الكر ، قال : «والاختلاف في تقدير الكر يؤيد ما قلناه من انه تخمين ومقايسة بين قدري الماء والنجاسة ، إذ لو كان امرا مضبوطا وحدّا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا ، وقد وقع الاختلاف فيهما جميعا».

و (ثامنها) ـ ما ذكره في تأويل الروايات الدالة على اشتراط الكرية. بجملها على انها مناط ومعيار للمقدار الذي لا يتغير من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات حيث قال في كتاب الوافي : «باب قدر الماء الذي لا يتغير بما يعتاد وروده من النجاسات» ثم أورد أخبار الكر.

هذا خلاصة ما اعتمد عليه في كتاب الوافي والمفاتيح من الاستدلال. ودفع ما يقابله من الأقوال. وللنظر فيه مجال وأي مجال.

(اما الأول) (١) فلأن ما ذكره في معنى الخبر لا يتحتم الحمل عليه ليكون دليلا يجب المصير إليه ، فإنه من المحتمل قريبا ما صرحنا به في آخر المقالة الأولى (٢) من الفصل الأول من ان معنى قوله (عليه‌السلام) : «الماء لا يطهر» انه متى تنجس ولو بالملاقاة فطهره إنما يكون بممازجة الكثير له على وجه يستهلك الماء النجس كما هو أحد القولين في المسألة كما تقدم. وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا ، لاضمحلال الماء النجس حينئذ. وعلى هذا ففي الخبر دلالة على اعتبار الممازجة دون مجرد الملاقاة كما هو القول الآخر. ويمكن ايضا الحمل على المعنى الأول الذي قدمنا ذكره ثمة (٣).

__________________

(١) المتقدم في الصحيفة ٣٠١ السطر ١٧.

(٢) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة ، والصحيح (الثانية) وذلك في الصحيفة ١٧٨.

(٣) في الصحيفة ١٧٨ السطر ٢.

٣٠٤

و (اما الثاني) (١) فقد عرفت ما فيه مما قدمناه (٢) والعجب منه (قدس‌سره) في دعوى استفاضة حديث «خلق الله الماء طهورا.» مع ما عرفت من انه لم يثبت من طرقنا لا مسندا ولا مرسلا ، وكأنه اغتر بكلام صاحب المدارك هنا ، حيث انه صرح باستفاضته أيضا في مقالة تنجس الماء بتغير أحد أوصافه الثلاثة ، حيث قال بعد الحكم المذكور : «والأصل فيه الأخبار المستفيضة كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : خلق الله الماء طهورا. إلخ» إلا ان فيه انه وان وصفه هنا بذلك لكنه ـ بعد ذلك في مقالة نجاسة البئر بالملاقاة ، حيث أنكر ورود نجاسة الماء بالتغير اللوني ـ طعن في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل ، كما قدمنا الإشارة إليه عن جملة من الأصحاب (٣).

و (اما الثالث) (٤) ففيه انه لا منافاة بين تنجسه وحصول التطهير به في حال واحد ، ولا استبعاد في ذلك إذا اقتضته الأدلة الشرعية.

وتحقيق ذلك ان أقصى ما يستفاد من الاخبار هو عدم جواز التطهير بما تنجس قبل ارادة التطهير به لا بما تنجس بسبب التطهير به. وبهذه المقالة صرح جمع من فحول المحققين منهم : المولى الأردبيلي والمحقق الخوانساري وشيخنا صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل والفاضل المتأخر الخراساني ، ومنهم : والدي (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم) واستبعاد ذلك مدفوع بوجود النظير ، فإنهم صرحوا بوجود طهارة أحجار الاستنجاء وان النجس منها لا يطهر ، مع انها حين الاستعمال تنجس بمجرد ملاقاة النجاسة ، ولا يكون ذلك مانعا من حصول التطهير بها. وايضا خروج الماء المستعمل في الطهارة الكبرى عن الطهورية ـ على تقدير القول به ـ إنما هو بسبب

__________________

(١ و ٤) المتقدم في الصحيفة ٣٠٢.

(٢) في الصحيفة ٢٩٣ السطر ١٨.

(٣) في الصحيفة ١٨٠ وقد تقدم في التعليقة ٢ من هذه الصحيفة ما يفيد في المقام.

٣٠٥

استعماله وملاقاته لبدن الجنب وقت الغسل ، مع ان ذلك لا يمنع من حصول التطهير بهذا المستعمل.

وبالجملة فأقصى ما يستفاد من الدليل ـ بالنسبة إلى اشتراط الطهارة في الماء الذي تزال به النجاسة ـ هو طهارته قبل ملاقاة النجاسة. واما طهارته حال الملاقاة فلا دليل عليه. وعدم الدليل على ذلك دليل على العدم ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم الا بعد البرهان كما تمسك به هذا القائل في جملة من المواضع ، وحينئذ فهو حال الملاقاة يفيد التطهير وان تنجس بذلك ، فقوله حينئذ : «إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة خارجا عن الطهورية» في محل المنع.

ومن أقوى الشبه في المقام ـ كما تمسك به بعض الاعلام بعد وقوعه في شبك الإلزام ـ انه لو وضع شي‌ء نجس في ماء قليل على هذا القول ، فبعد طهارة المحل حال الملاقاة وانتقال النجاسة إلى الماء إما ان ينجس ذلك الشي‌ء بالماء أم لا. لا سبيل الى الثاني لأن الماء قد صار نجسا بملاقاة النجاسة له أولا ، فتتعدى نجاسته الى ذلك الشي‌ء ويعود الاشكال بحذافيره.

والى ذلك أيضا أشار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) ، حيث انه ممن اختار تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة بورود النجاسة دون العكس ، كما هو مذهب المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ، فعنده ان تطهير النجاسة بالقليل مخصوص بورود الماء على النجاسة دون العكس ، فإنه يصير الماء نجسا ولا يطهر به المحل ، ولهذا قال ـ بعد نقل القول بالتطهير بالقليل في صورة ورود النجاسة على الماء مع نجاسة الغسالة ـ ما صورته : «قلت : في هذا القول التزام تنجس الماء بالمحل وتطهير المحل به. والتزامه مشكل. وايضا فيه التزام عدم تنجس المحل بالماء النجس. وهو بعيد غاية البعد» انتهى. وفيه ان ما استبعده من ذلك مردود بأنه بعد قيام الدليل على نجاسة القليل

٣٠٦

بالملاقاة ـ مطلقا أو في صورة ورود النجاسة على الماء ـ فلا مجال لهذا الاستبعاد ، إذ الطهارة والنجاسة ونحوهما أحكام تعبدية لا مسرح فيها للاستبعادات العقلية.

(ولو قيل) : مقتضى القاعدة الكلية ـ القائلة بأن كل ماء قليل أو مائع لاقى نجاسة فهو نجس ـ ينافي ما ذكرتم.

(قلنا) : لا عام إلا وقد خص ، فان اللبن في ضرع الميتة طاهر عند جملة من الأصحاب ، وعليه تدل صحاح الأخبار ، وكذا الانفحة من الميتة ، والصيد المجروح لو وجد في ماء قليل ، وما لا يدركه الطرف من الدم عند الشيخ ، وماء الاستنجاء بالإجماع والاخبار ، وغسالة النجاسة عند من قال بطهارتها. ووجود النظير يدفع الاستبعاد.

ويمكن الجواب ايضا باختيار طهارة ماء الغسالة كما هو اختيار جمع منهم : الشهيد في الذكرى ، وهو ظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر ، وبه صرح المحدث الأمين الأسترآبادي ، وسيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون الحكم بطهارته مستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة وتطهيره ، كما استثني كذلك ماء الاستنجاء ، وما لا يدركه الطرف من الدم على قول الشيخ. ويمكن الجواب ايضا بالفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ، كما سيأتي تحقيقه في هذا الفصل (١) ان شاء الله تعالى.

و (اما الرابع) (٢) ففيه انه ايضا قد اشترط الكر كما سيأتيك بيانه (٣) وان كان الفرق بين الاشتراطين ان الأصحاب جعلوا اشتراطه معيار الطهارة والنجاسة ، وهو قد جعل اشتراطه معيار معرفة التغير بالنجاسات المعتادة وعدمه مع عدم ظهورها

__________________

(١) في المقام الثاني.

(٢) المتقدم في الصحيفة ٣٠٣.

(٣) في الجواب عن الوجه الثامن.

٣٠٧

حسا ، ثم زاد على كلام الأصحاب باشتراطه المقايسة والنسبة في ذلك المقام ، حيث ألجأته إليها ضرورة الإلزام ، كما سيأتي توضيحه وينكشف صريحه (١).

مع انه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأبرار بأصالة الطهارة ووجوب العمل على اليقين ، فما لم يعلم ويتيقن وقوع النجاسة في الماء ـ على وجه يظهر أثرها ويقطع بغلبة أجزاء تلك النجاسة على الماء إذا منع من ظهورها مانع ـ لا يحكم بالتغير في ذلك الماء ، فبمجرد الاخبار بولوغ كلب من إناء ـ مع عدم العلم بقدر ماء ذلك الإناء وعدم العلم بكثرة الولوغ وقلته ـ لا يحكم بوقوع التغير في ذلك الماء بلعاب الكلب ، وقس عليه غيره من النجاسات. وهو قد حكم بالتغير في أمثال ذلك كما سيأتيك بيانه (٢).

واما قوله : «ومما لا شك فيه ان ذلك لو كان شرطا لكان اولى المواضع. إلخ» فإنه مجرد دعوى عارية عن الدليل ، ومحض استبعاد ليس له محصل عند ذوي التحصيل ، إذ عدم كثرة المياه الجارية والراكدة في تلك الأماكن ـ على القول بنجاسة القليل بالملاقاة ـ لا يستلزم حصول وقائع في الطهارات ، ولا السؤال عن حفظ المياه من النجاسات. ولا أمثالها من هذه التسجيلات ، لانه مع معلومية الحكم عندهم بنجاسة الماء القليل بالملاقاة يتحرزون عن تطرق النجاسة إليه بكل وجه وبعد العلم بحصول النجاسة فيه يجتنبونه ، بل ربما يهريقونه وما الذي يترتب على ذلك من الوقائع المستحقة للنقل؟ ومن الذي اشترط انه لا بد في كل حكم شرعي من واقعة في عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تدل عليه؟ حتى يشترط هنا. على انه لو نقلت هناك واقعة تدل على النجاسة لارتكب التأويل فيها كما ارتكبه في تلك الأخبار الصريحة المتعددة ، إذ غاية ما يراد ان يعبر به عن النجاسة أو يكنى به عنها هو التصريح بإراقة الماء الدال على عدم الانتفاع به بوجه. وقد مرت لك أخبار مستفيضة بهذا المضمون قد أخرجها

__________________

(١ و ٢) في الجواب عن الوجه الثامن.

٣٠٨

عن صريحها وارتكب فيها جادة التأويل ، فلو ورد هنا شي‌ء عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لجعله من ذلك القبيل. وما الإشكال في حفظ المياه حتى يحتاج إلى السؤال عنه؟ وهل تعاطي الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات لاوانيهم يكون موجبا للنجاسة بالملاقاة من غير علم بوصول النجاسة ، واين أصالة الطهارة؟ واين الحنيفية السمحة ودين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو أوسع ما بين السماء والأرض؟ ما هذه إلا احتمالات باردة وتعسفات زائدة. ولقد روي انه «دخل أعرابي المسجد فما لبث ان بال في ناحية المسجد ، فكأنهم عجلوا عليه ، فنهاهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه ، ثم قال : علموا ويسروا ولا تعسروا» (١). وأمثال ذلك ـ مما يدل على سعة الحنيفية السمحة السهلة ـ كثير.

و (اما الخامس) (٢) ففيه (أولا) ـ ان الدليل ليس مقصورا على تلك

__________________

(١) هذه القصة قد وردت من طرق العامة كما في البخاري ج ١ ص ٤٥ وسنن النسائي ج ١ ص ٦٣ وصحيح مسلم ج ١ ص ١٢٥ وسنن ابى داود ج ١ ص ١٠٣ وجامع الترمذي مع شرحه لابن العربي ج ١ ص ٢٤٣ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ١٨٩ ومسند احمد ج ٢ ص ٢٣٩ و ٢٨٢ و ٥٠٣ وج ٣ ص ١١٠ و ١١٤ و ١٦٧ و ١٩١ و ٢٢٦ ومجمع الزوائد لابن حجر ج ١ ص ٢٨٦. الا ان هذا النص اعنى قوله (ص) : «علموا ويسروا ولا تعسروا» قد ورد في عمدة القارئ شرح البخاري للعيني ج ١ ص ٨٨٤ ، وفي غيره من كتب الحديث قد ورد هذا المضمون بالتعبير الآتي : «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وفي بعضها لم يرد هذا المضمون أصلا. وقد ورد فيها التعبير بالدلو والذنوب والسجل وفي بعضها التعبير بالماء من دون ذكر الكمية. والذنوب ـ كما في القاموس ـ بالفتح : الدلو أو التي فيها ماء أو الملأى أو دون الملأى. والسجل ـ كما فيه ايضا ـ : الدلو العظيمة مملوءة مذكر ، ومل‌ء الدلو. هذا. ويأتي منه (قده) التعرض لهذا الحديث في المقام الرابع من المسألة الثالثة من مسائل تطهير الماء وازالة النجاسة به.

(٢) المتقدم في الصحيفة ٣٠٣.

٣٠٩

المفهومات ، بل هو منطوق جملة من الأخبار التي قدمناها (١) كالأخبار الدالة على النهي عن استعمال تلك المياه القليلة بعد وقوع شي‌ء فيها. والنهي حقيقة في التحريم كما تقدم تحقيقه (٢) والأمر بإراقتها وغسل الأواني منها ، فإنه لا يخفى ـ على الناظر في الاخبار والمعتبر لها حق الاعتبار ـ ان الحكم بالنجاسة في جل المواضع إنما استفيد من المنع من استعمال ذلك الملاقي لها أو الحكم بغسله أو نحو ذلك ، كما صرح به السيد السند في المدارك في الاستدلال على نجاسة البول بعد إيراد الروايات الدالة على الأمر بغسل الثوب منه ، حيث قال : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له ، بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها» انتهى. بل ربما ورد التصريح بالنجاسة في بعض الموارد فتأولوه بالحمل على المعنى اللغوي وناقشوا فيه بذلك ، بخلاف ورود الأوامر بالغسل والإراقة والنواهي عن الاستعمال ، فإنها أصرح في الدلالة على ذلك.

و (ثانيا) ـ ان دلالة مفهوم الشرط ـ بعد ما عرفت من دلالة الأخبار عليه كما قدمناها في المقدمة الثالثة (٣) ـ مما لا ريب في صحة الاعتماد عليها والاستناد في الأحكام الشرعية إليها. والمناقشة إنما تتطرق إليها مع ظهور فائدة غير مجرد التعليق على الشرط والانتفاء بانتفائه. وههنا ليس كذلك اتفاقا.

و (ثالثا) ـ ان قوله : «فإن أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون الكر بملاقاة شي‌ء. إلخ» فيه انه قد أجيب عن ذلك بان لفظ (شي‌ء) نكرة وقعت في سياق النفي فيستفاد منها العموم. ومقتضى التقييد بالشرط ان حكم المسكوت مخالف للمذكور ، ويكفي للمخالفة تنجسه ببعض ما لم ينجس به الكر وان لم ينجس ببعض

__________________

(١) للقول المشهور في الصحيفة ٢٨١.

(٢) في المقدمة السابعة في الصحيفة ١١٢.

(٣) في المطلب الثالث في الصحيفة ٥٧.

٣١٠

آخر ، ويضم الى ذلك الإجماع على عدم الفصل في النجاسات الا فيما استثني فيعم حينئذ.

والتحقيق عندي في الجواب ان المقصود بالإفادة بمثل هذا الكلام أمران : (أحدهما) ـ عموم المنطوق و (الثاني) ـ عموم المفهوم. والرواة قد فهموا حكم المفهوم من ذلك كذلك ، ولذلك سكتوا عن الاستفسار ، وإلا فمثل هؤلاء الأجلاء كزرارة ومحمد بن مسلم واضرابهما من فضلاء الرواة ومحققيهم كيف يسكتون ويرضون بفهم بعض المقصود مع توفر حاجة الأمة الى ذلك؟ ولا سيما زرارة الذي من عادته تنقيح الأسئلة والفحص عن جملة فروع المسألة ، ويقنعون باستفادة انه إذا نقص عن كر نجسه شي‌ء ما.

ويرشدك الى ما ذكرنا جوابه (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم الاولى من تلك الروايات المتقدمة (١) لما سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. قال : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء». فإنه من الظاهر البين ان السائل أراد السؤال عن حال هذا الماء بعد وقوع هذه الأشياء أو أحدها فيه ، وانه هل ينجس بمجرد ملاقاتها أم لا؟ فأجابه (عليه‌السلام) بوجه عام وقاعدة كلية في كل ماء وكل نجاسة وهو التحديد ببلوغ الكرية وعدمه ، وانه لا ينجس مع الأول وينجس مع الثاني. ولو لم يفهم السائل عموم المفهوم من جوابه (عليه‌السلام) بذلك ، وانه إذا نقص عن الكرية ينجس بملاقاة تلك النجاسات المسؤول عن ملاقاتها ، لاستفسر منه البتة ، لأنه أحد طرفي الترديد في جوابه (عليه‌السلام) إذ حاصل جوابه انه «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء ، وإذا لم يبلغ نجسه شي‌ء» فلو لم يفهم السائل عموم لفظ (شي‌ء) الذي في جانب المفهوم على وجه يشمل النجاسات المسؤول عنها وغيرها بقرينة المقام ، ولا سيما السؤال هنا عن وقوع تلك الأشياء المخصوصة ،

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق والنص الوارد (كان) لا (بلغ).

٣١١

لراجع في السؤال عن تنجسه بتلك الأشياء المخصوصة ، إذ بناء على ما يقولونه من عدم العموم لم يحصل الجواب عن السؤال ، ومع غفلة السائل كيف يرضى الامام (عليه‌السلام) بعدم افادته ذلك مع انه مناط السؤال والبلوى به عام في جميع الأحوال؟

وبالجملة فالمتسارع الى الفهم السليم ـ والمنساق الى الذوق المستقيم من حاق اللفظ في أمثال هذه المقامات ـ هو العموم ، وهو عند التأمل والإنصاف أمر ظاهر معلوم ، وما يتمسك به من ان (شيئا) نكرة في سياق الإثبات فلا يعم ـ مع تسليمه ـ فقد خرجوا عنه في مواضع لاقتضاء المقام العموم فيها ، كما صرحوا به في المعرف بلام التحلية إذا استعمل في المقامات الخطابية. وقد تقدم تحقيقه في المقالة الاولى (١) من الفصل الأول.

و (رابعا) ـ ان ما ذكره ـ من الحمل على المستولية جمعا ـ فيه انه لم يبق على هذا فرق بين الكر وغيره ، لان الكر أيضا انما ينجس بالتغير خاصة ، فأين المخالفة بين المفهوم والمنطوق التي لا خلاف في ثبوتها؟ بل لا بد من الحمل على التنجس بمجرد الملاقاة كما ذكرنا تحقيقا لذلك.

و (اما السادس) (٢) ففيه (أولا) ـ ان الواجب حمل النهي عن الاستعمال في تلك الأخبار المذكورة على حقيقته من التحريم ، كما هو المشهور بين محققي علماء الأصول ، والمؤيد بالآيات واخبار آل الرسول ، كما قدمنا لك بيانه وشددنا أركانه (٣).

و (ثانيا) ـ ان من جملة تلك الأحاديث التي أوردها في ذلك الباب الأحاديث الدالة على اهراق مياه الأواني عند ملاقاة شي‌ء من القذر لها ، وليس ذلك عند التأمل والإنصاف الا لنجاستها وعدم الانتفاع بها بالمرة ، إذ استحباب التنزه عنه

__________________

(١) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ ، والصحيح (الثانية) ـ وذلك في الصحيفة ١٧٢.

(٢) المتقدم في الصحيفة ٣٠٣.

(٣) في المقدمة السابعة في الصحيفة ١١٢ ،.

٣١٢

في الطهارة والشرب لا يستلزم الإهراق ، كيف؟ ووجوه الانتفاعات به كثيرة بل ربما تلجئ إليه الضرورة سيما في الاسفار ونحوها ، بل ذلك داخل في الإسراف المنهي عنه كما صرحت به بعض الروايات.

و (ثالثا) ـ ان موثقة سماعة (١) ـ المروية أيضا بطريق آخر موثق عن عمار الساباطي ـ قد دلت على الأمر بالتيمم بعد الأمر بالإهراق. وكيف يسوغ التيمم مع طهارة ذلك الماء وطهوريته؟ ولو قيل : انه يجوز ان يكون الأمر بالإهراق كناية عن عدم الاستعمال لا ان المراد الإهراق بالفعل.

قلنا : مع تسليمه فذلك كاف لنا في الاستدلال ، لان ما يكنى عن المنع عن استعماله بإهراقه ـ بمعنى ان وجوده كعدمه على حال ـ فهو لا شك مقطوع بنجاسته كما أشار إليه في المعتبر ، حيث قال : «وقد يكنى عن النجاسة بالإراقة تفخيما للمنع» و (رابعا) ـ ان الحمل على الاستحباب والتنزيه وان تم له بالنسبة إلى الوضوء.

لما دلت عليه بعض الأخبار من خارج بأن ماء الوضوء ينبغي ان يكون له مزية ما على مياه سائر الاستعمالات ، فلا ينبغي ان يكون بالآجن ولا بالمشمس ولا بما لاقى سؤر المتهم بالنجاسة ، فلا يتم له ذلك في الشرب.

(أما أولا) ـ فلعدم قيام دليل من الخارج على ان ماء الشرب ينبغي ان يكون ذا مزية ، وانه يكره الشرب من بعض المياه لخلوها من المزية حسبما ورد في الوضوء ، ولم يدع أحد ذلك بالكلية ، حتى يتم له هنا حمل المنع عن الشرب على التنزيه والاستحباب.

و (اما ثانيا) ـ فبان من جملة المواضع ـ التي صرحت الأخبار بكراهة الوضوء

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٢٨٢.

٣١٣

من ذلك الماء الخالي من المزية ـ سؤر الحائض ، مع انها صرحت بجواز الشرب منه ، فلو كان ما يدعيه من الخصوصية والمزية مشتركة بين ماء الوضوء وماء الشرب ، لورد النهي عنه أيضا في مقام النهي عن الآخر.

فمن تلك الأخبار رواية عنبسة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضأ منه».

ومثلها موثقة الحسين بن ابي العلاء (٢) ورواية أبي هلال (٣) وغيرهما.

وحينئذ فالحق الحقيق بالاتباع هو ان النهي عن الوضوء والشرب معا في تلك الاخبار ليس إلا لنجاسة الماء.

و (اما السابع) (٤) ففيه (أولا) ـ انه اي مسألة من مسائل الفقه واي حكم من أحكام الفروع لم تختلف فيه الاخبار؟ حتى يستبعد اختلافها في هذا المكان بخصوصه ويكون ذلك موجبا لما قاله ومؤيدا لما زعمه.

و (ثانيا) ـ ان الواجب في كل موضع اختلفت فيه الاخبار ـ على وجه لا يمكن إرجاع بعضها الى بعض من هذا الموضع وغيره ـ الرجوع الى الضوابط المقررة والقواعد المعتبرة. ومجرد خروجها عنهم (عليهم‌السلام) مختلفة لا يدل على ما توهمه من التخمين والمقايسة ، وإلا لجرى في غير هذا الموضع ايضا ، وهو لا يلتزمه.

و (ثالثا) ـ انه مع تسليم صحة ما ذكره فالإيراد لا يختص بنا ، بل يرد عليه ايضا ، حيث انه قائل في التحقيق بمضمون تلك الاخبار منطوقا ومفهوما كما تقدمت الإشارة اليه (٥) وسيأتي تحقيقه ، لأنا نقول : ان التحديد بالكر معيار لعدم

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسآر.

(٤) المتقدم في الصحيفة ٣٠٤.

(٥) في الجواب عن الوجه الرابع ويأتي تحقيقه في الجواب عن الوجه الثامن.

٣١٤

الانفعال بالملاقاة لهذا المقدار وانفعال ما دونه. وهو يقول : ان التحديد المذكور معيار للقدر الذي لا يتغير بالنجاسات المعتادة.

ويؤيد ما قلناه ما كتبه بعض تلامذته الناسجين على منواله على حاشية كتاب الوافي على آخر الباب الثالث من أول كتاب الطهارة ، حيث قال : «لما دلت هذه الأبواب الثلاثة على ان الماء ما لم ينفعل لم ينجس ، علم ان النجاسة دائرة مع الانفعال وعدمه. ولكن لما كان الانفعال في بعض الأوقات خفيا ـ لتوافقهما لونا وطعما وريحا ، أو لورود النجاسة على الماء قبل ان يتعفن ، كتفسخ الفأرة في الماء أول مرة لا يوجد لها ريحها أو طعمها أو لونها مع انه اختلطت أجزاء النجاسة باجزاء الماء. أو لورودها عليه قليلا قليلا ، كولوغ الكلب وغيره في الحوض مرة بعد مرة ، فإنه لا يدرك شي‌ء من أثرها مع ان لعاب الكلب اختلط باجزاء الماء ، فتحصل الحيرة والاشتباه ، ـ بينوا (عليهم‌السلام) انه إذا كان الأمر كذلك ، ان كان الماء أقل من كر ينفعل اي يختلط وينجس ، وإذا كان أكثر منه لا ينفعل ولا ينجس ، كما إذا كان الحوض في طريق ونحن نعلم ان الكلاب تشرب منه والنساء والصبيان يباشرونه بنجاستهم العينية ، فلاحظنا ان كان أقل من كر يحترز عنه وان كان أكثر منه نستعمله ، فكل ماء امره كذلك يحتاج إلى مادة تحفظه من الانفعال ، والمادة التي تحفظه اما ستمائة رطل مكي ، أو ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته ، اعني عرضه وطوله ، وهذه الرواية أجود ما ورد في تقدير الكر ، لان غيرها لا يخلو من اضطراب أو طعن في سنده أو متنه» انتهى. فانظر الى ما ذكره من اعتباره الكر في بنائه عليه ، واعتماده على تلك الرواية من بين رواياته لصحتها عنده.

و (اما الثامن) (١) ففيه دلالة على ما قدمنا لك من قوله باعتبار الكر والبناء

__________________

(١) المتقدم في الصحيفة ٣٠٤.

٣١٥

عليه ، وحمله مفهومات تلك الأخبار ـ الدالة على النجاسة فيما نقص عن ذلك المقدار ـ على انها قد تغيرت بالنجاسة وان لم يظهر ذلك للحس.

وقد مهد في كلامه في أول الكتاب المذكور قاعدة لذلك ، فقال ثمة : «وعلى هذا فنسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء كنسبة مقدار أقل من تلك النجاسة إلى مقدار أقل من ذلك الماء ومقدار أكثر منها الى مقدار أكثر منه ، فكلما غلب الماء على النجاسة فهو مطهر لها بالاستحالة ، وكلما غلبت النجاسة عليه لغلبة أحد أوصافها فهو منفعل عنها خارج عن الطهورية بها» انتهى. وحينئذ فيصير معنى قوله (عليه‌السلام) (١) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». أي لم يغيره شي‌ء من النجاسات المعتادة ، لأن الماء عنده لا ينجس إلا بالتغير. فنجاسته في الحديث بمعنى تغيره بها ، ومفهومه حينئذ انه إذا لم يبلغ كرا غيره شي‌ء من تلك النجاسات المعتادة.

وقال أيضا في الباب الثاني ـ بعد ان أورد في صدره صحيحة صفوان المتضمنة للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، وقد تقدمت (٢) ـ ما صورته : «لما كانت الحياض التي بين الحرمين الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان ، اقتصر (عليه‌السلام) على السؤال عن مقدار الماء في عمقها ولم يسأل عن الطول والعرض ، وإنما سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء الى تلك النجاسات المذكورة حتى يتبين انفعاله منها وعدمه فان نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير والتغيير كنسبة ضعفه الى ضعفه مثلا ، وعلى هذا القياس. (فان قيل) : تغير أوصاف الماء أمر محسوس لا حاجة فيه الى الاستدلال عليه بنسبة قدره الى قدر النجاسة (قلنا) : ربما يشتبه التغير مع ان الماء قد تتغير أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل الاشتباه. يؤيد ما قلناه ما في النهاية

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق. والنص في كتب الحديث «إذا كان الماء قدر كرم لم ينجسه شي‌ء».

(٢) في الصحيفة ٢٩٦.

٣١٦

الأثيرية (١). قال : وفي حديث الطهارة «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا». اي لم يظهره ولم يغلب الخبث عليه من قولهم : فلان يحمل غضبه اي يظهره. وقيل : معنى لم يحمل خبثا انه يدفعه عن نفسه ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه» انتهى كلامه (فان قيل) : القلتان يحمل الخبث إذا كثر الخبث وغلب عليه (قلنا) : أريد به انه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتاد ورودها عليه ، وذلك لان الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيرا مؤثرا أم لا ، فبين انه ان كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسات. وبما ذكرناه يتبين معنى الأخبار الآتية ومفهوماتها» انتهى كلامه (زيد إكرامه) وأشار بالأخبار الآتية إلى الروايات الدالة على التحديد بالكر ، وما تدل عليه بمفهوماتها من النجاسة بمجرد الملاقاة كما ادعاه الأصحاب (رضوان الله عليهم) منها.

وأنت خبير بما في جميع هذا الكلام من التكلف الذي لا يخفى على ذوي الأفهام بل عدم الاستقامة والانتظام.

(أما أولا) ـ فلان (شيئا) الواقع في لفظ تلك الروايات نكرة في سياق النفي ، ولا خلاف في إفادتها العموم ، وتخصيصها بالمعتاد من النجاسات كما ادعاه يحتاج الى دليل معلوم ، وليس فليس. نعم قام الدليل على النجاسة المغيرة فيكون مخصوصا بغيرها لقوله (عليه‌السلام) في صحيح زرارة (٢) : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء إلا ان تجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء».

وما ادعاه ـ من ان نجاسة الماء هو تغيره بالنجاسة. فمعنى لم ينجسه شي‌ء أي لم

__________________

(١) في مادة (حمل).

(٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق. ونصه كما تقدم في الصحيفة ٢٩٦.

٣١٧

يغيره شي‌ء بالنجاسة ، فالنكرة لا يمكن أخذها على عمومها ، للقطع بالتغير ببعض افراد النجاسات ، فلا بد من التخصيص بالمعتاد حينئذ ـ ففيه ان تلك الدعوى غير مسلمة عند الخصم ، إذ هي أول المسألة. وأيضا فهي غير ظاهرة من اللفظ ، بل الظاهر منه هو ما يدعيه الخصم ، إذ المتبادر من قول القائل : نجس هذا هذا. يعني جعله نجسا أعم من ان يكون بمجرد الملاقاة كسائر المائعات أو بالتغير كما يدعيه هنا ، فلا تقوم تلك الدعوى حجة على الخصم. على ان المتبادر فيما نحن فيه هو المعنى الأول بقرينة صحيح زرارة المذكور ، وقوله فيه : «لم ينجسه شي‌ء إلا ان تجي‌ء له ريح. إلخ» أي لم يجعله نجسا بمجرد الملاقاة إلا ان يتغير في ريحه ، فالتنجيس في الأخبار بمعنى الانفعال بمجرد الملاقاة لا بمعنى التغير بالنجاسة كما تمحله.

و (اما ثانيا) ـ فلان مقتضى ما ذكره ـ من ان الشارع إنما جعل الكر معيارا لما لم يتغير بالنجاسات المعتادة ، كما هو منطوق ذلك اللفظ عنده ، اللازم منه بمقتضى مفهومه ان ما نقص عن الكر يتغير بها ـ انه لو وقعت نجاسة من تلك النجاسات المعتادة في قدر كر من ماء إلا درهما ، فإنه يحكم بتغيره بها وان لم يظهر أثرها فيه ، ولو تمم بدرهم ووقع قدرها من تلك النجاسات بعينها في كر تام ، لم يحكم بتغيره (١) وهو من البعد على حال لا يحتاج الى البيان ، ومن البطلان بمقام يستغني عن اقامة البرهان.

و (اما ثالثا) ـ فلان ما ذكره في بيان صحيحة صفوان (٢) ـ من انه (عليه‌السلام)

__________________

(١) ومن هنا يعلم ان الماء في تلك الأخبار التي استند إليها الخصم مراد به الكثير خاصة ، لأنه إذا كان شي‌ء من تلك النجاسات المعتادة تغير ما دون الكر بهذا المقدار اليسير الذي فرضناه فما بالك بمثل الجيف ونحوها؟ وجوابهم (عليهم‌السلام) ـ بالترديد بين التغير وعدمه مع معلومية ذلك عندهم ـ دليل على ان الماء أكثر من كر وان تنزلنا ، لأن الأقل منه معلوم التغير بما هو أدون من تلك النجاسات بمراتب فكيف بهذه النجاسات؟ فلا معنى للترديد بالنسبة إليه ، فتأمل وأنصف (منه قدس‌سره).

(٢) المتقدم في الصحيفة ٣١٦.

٣١٨

إنما سأل عن عمق الماء ليعلم نسبة الماء الى تلك النجاسات المذكورة ـ إنما هو من قبيل المعميات والألغاز ، كما لا يخفى على من أنصف وجانب التعسفات ، إذ مقتضى المقايسة التي التجأ إليها ـ وعول في المقام عليها ـ هو معلومية كل من الماء والنجاسة ليمكن نسبة كل منهما الى الآخر ، وهب ان الماء هنا بسؤاله (عليه‌السلام) صار معلوما ، فمن اين حصل العلم بالنجاسة الحاصلة من ورود تلك السباع والكلاب وأمثالها على وجه تكون مغيرة للماء مع عدم ظهوره حسا؟ فان ذلك يتفاوت بتفاوت افراد الواردة وافراد ورودها قلة وكثرة فيهما ، وليس ذلك امرا مضبوطا ولا حدا معلوما حتى يصح ابتناء الأحكام الشرعية عليه وجعله قاعدة ممهدة لذلك. والعادة التي ادعاها (طاب ثراه) وعنون بها الباب قصارى معرفتها والاعتماد عليها ـ ان سلمنا ذلك ـ في مثل مياه البيوت ونحوها مما يمكن ملاحظتها واستعلامها. واما في مثل مياه الطرق والصحاري ومنها ما تضمنه الخبر ، فغير ممكن (١) على انا نقول من أين يلزم في كل نجاسة لاقت الماء ان يكون لها عين بحيث ينفصل منها اجزاء تداخل الماء؟ حتى يحصل لذلك قانون كلي وضابط جلي وهو التحديد بالكرية في تلك الاخبار. وعلى تقدير احتمال مداخلة أجزاء النجاسة في الماء مع عدم ظهورها حسا ، فما الدليل على الحكم بالنجاسة بهذه المقايسة والنسبة؟ وكيف يتيسر لنا العلم بذلك؟ اللهم الا ان نعمد الى كل نوع من أنواع النجاسة فنضعه في فرد من افراد المياه بشرط معلومية كل منهما كيلا أو وزنا أو تخمينا ، ونعتبر تغيره وعدمه ، ثم نقيس عليه بعد ذلك ما قل أو كثر. فلينظر المنصف الى ذلك فأي حرج أعظم منه؟ مع ادعائه سابقا لزوم الحرج في اشتراط

__________________

(١) فان من الظاهر ـ كما عرفت ـ ان كون تلك الحياض موردا للسباع والكلاب أعم من ان يكون تلك الكلاب مائة أو عشرة أو أقل أو أكثر تردها كل يوم مرة أو مرارا وليس هناك عدد معلوم ولا عادة معلومة حتى تتيسر المقايسة عليها والنسبة إليها (منه قدس‌سره).

٣١٩

الكرية وانه مثار الوسواس ، وهو بخروجه عنه ـ كما ترى ـ قد وقع في شباك الالتباس ومع هذا فأين أصالة الطهارة التي هي قاعدة كلية في الأخبار وكلام الأصحاب؟ حتى انه بما ذكره من الاحتمال يحتاج الى ما ذكره من الاختبار.

و (اما رابعا) ـ فلان ما ذكره من قوله : «قلنا ربما يشتبه التغير. إلخ» وتأييده ذلك بما نقله عن النهاية الأثيرية ، حاصله ان التغير قد يحصل في الماء واقعا ، لوقوع النجاسة فيه مع عدم ظهورها في جانب كثرة الماء ، وقد لا يحصل بالكلية ، فاعتبار تلك النسبة والمقايسة لأجل استعلام ذلك الحصول الواقعي الغير الظاهر حسا.

وفيه حينئذ (أولا) ـ ان الحكم بأصالة الطهارة ـ كما هو أحد القواعد الكلية المتفق على ثبوتها نصا وفتوى ـ يوجب استصحابها والبقاء عليها حتى تعلم النجاسة ، ومجرد الشك واحتمال التغير واقعا غير كاف في الخروج عن مقتضى الأصل المذكور.

و (ثانيا) ـ ان المعتبر من التغير ـ في تلك الأخبار الدالة على نجاسة الماء بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ـ هو التغير الحسي كما صرح به جمهور الأصحاب ، ولم ينقل الخلاف في ذلك كما عرفته آنفا (١) إلا عن العلامة ، حيث اعتبر التقدير فيما إذا اتفق الماء والنجاسة في الصفات ، وانما يعتبر التقدير فيما إذا تغير الماء بجسم طاهر من لون النجاسة ، وعلى تقدير وجوب التقدير في هذه المادة اليسيرة النادرة الاتفاق كما لا يخفى ، فهل يوجب ذلك إخراج تلك الأخبار المستفيضة المتواترة عن ظواهرها وحملها على هذا الفرد الشاذ القليل الوقوع ، ويكون التحديد بالكر إنما هو لأجل ما إذا تغير الماء بجسم طاهر موافق للنجاسة المعتادة؟ ما هذا إلا تمحل بارد وخيال كأسد.

و (اما خامسا) ـ فما استند اليه من حديث النهاية ـ وهو قوله : «إذا بلغ

__________________

(١) في الصحيفة ١٨١.

٣٢٠