الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

من كر عند من يقول بنجاسة القليل بالملاقاة ، فالماء القليل الواقف المتصل بالكثير أو الجاري إن عرضت له النجاسة قبل الاتصال تنجس بها ، ويطهر بالاتصال بالكثير على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال وإلا فبالممازجة ، وبعد الاتصال لا ينجس. وهكذا ماء المطر الجاري في الطرق بالقياس الى حال التقاطر وبعده. ومثل ذلك عندهم ايضا ما لو صب الماء من آنية حتى اتصل بالكثير أو الجاري ، فإنه إن عرضت له النجاسة بعد الاتصال لم تؤثر فيه ، وان عرضت له قبل الاتصال ينجس الماء والإناء ولا يطهر بمجرد اتصاله بعد ذلك. ويأتي على مذهب من منع تقوي الأعلى بالأسفل ثبوت النجاسة في الحالين.

وقال في كتاب الروض : «وعلى ما يظهر من إطلاق النص والفتوى يلزم طهارة الماء النجس عند صب بعضه في الكثير بحيث يطهر الإناء المماس للماء النجس وما فيه من الماء عند وصول أوله إلى الكثير. وهو بعيد بل هو على طرف النقيض لتفصيل المتأخرين. والمسألة من المشكلات ، ولم نقف فيها على ما يزيل عنها الالتباس. والله اعلم» انتهى.

والعجب منه (قدس‌سره) انه ـ قبل هذا الكلام بعد نقل جملة من كلمات القوم ـ قال : «والذي يظهر لي في المسألة ودل عليه إطلاق النص ان الماء متى كان قدر كر متصلا ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها ، وان كان أقل من كر نجس الماء بالملاقاة مع تساوي سطوحه والا الأسفل خاصة. ثم ان اتصل بالكثير بعد الحكم بنجاسته اعتبر في الحكم بطهره مساواة سطوحه لسطوح الكثير أو علو الكثير عليه ، فلو كان النجس أعلى لم يطهر. والفرق بين الموضعين ان المتنجس يشترط ورود المطهر عليه ولا يكفي وروده على المطهر خلافا للمرتضى (رحمه‌الله) فإذا كان سطحه أعلى من سطح الكثير لم يكن

٢٤١

الكثير واردا عليه» انتهى. ولا يخفى ما بينهما من التدافع.

(المسألة الثالثة) ـ إذا تغير بعض الكثير فلا يخلو اما ان يكون الباقي كرا أم لا ، وعلى كلا التقديرين اما ان يكون ساكنا أو جاريا ، فههنا صور أربع :

(الاولى) ـ ان يكون الباقي كرا والماء ساكنا ، ولا خلاف هنا في اختصاص النجاسة بالموضع المتغير وطهارة الباقي.

(الثانية) ـ كون الباقي أقل من كر مع كون الماء ساكنا ، ولا خلاف في نجاسته عند من قال بنجاسة القليل بالملاقاة.

(الثالثة) ـ كون الباقي كرا والماء جاريا ، فلا يخلوا اما ان تقطع النجاسة عمود الماء أم لا ، وعلى التقديرين فاما ان يكون الأعلى كرا أم لا ، وعلى التقادير الأربعة فاما ان يكون الأسفل عن النجاسة كرا أيضا أم لا.

وتفصيل ذلك. ان قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل كرا ، فلا اشكال ولا خلاف في اختصاص التنجيس بالمتغير حال الملاقاة. الا انه يأتي على ما ذكره المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا نقله عنه (١) نجاسة ما سفل عن النجاسة بعد مرور ذلك الماء على الاجزاء السافلة.

وان قطعت النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر ، فظاهر كلامهم انه لا خلاف في نجاسة الأسفل عند من قال بالنجاسة بمجرد الملاقاة ، لكونه أقل من كر ، ويظهر من كلام المحدث الأمين (قدس‌سره) العدم ، لعدم استواء سطح الماء ، فاجزاؤه في حكم الماء المنفصل بعضه عن بعض ، لهرب السابق عن اللاحق ، إلا بعد السيلان على الاجزاء السافلة كما ذكروه. واما الأعلى فظاهر كلامهم الاتفاق على عدم نجاسته ، لعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى.

__________________

(١) في الصحيفة ٢٣٩.

٢٤٢

ومن هذا الكلام يعلم حكم صورتي ما لو قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل أقل من كر وبالعكس.

وان لم تقطع النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل يبلغ الكر ، فلا اشكال ولا خلاف في اختصاص التنجيس بالمتغير إلا بعد سيلان ذلك الماء على الاجزاء السافلة بناء على ما ذكره ذلك المحقق المشار اليه.

وان كان كذلك (١) وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر لكن المجموع يبلغ الكر ، فعلى تقدير القول بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر لا إشكال في الطهارة ، وعلى تقدير القول بتقوي الأسفل بالأعلى دون العكس يلزم نجاسة الأسفل ، لأن الأعلى لقلته لا يقوي ما سفل عنه فيلزم نجاسته لقلته ، وبذلك صرح في المعالم (٢).

وان كان كذلك ايضا وكان الأعلى قدر كر والأسفل أقل من كر ، فلا خلاف في تقوي الأسفل به وطهارة الجميع واختصاص التنجيس بموضع التغير.

وبالعكس فالحكم كذلك أيضا ، لأن الأعلى لا تسري إليه النجاسة إجماعا ، والأسفل قد عصم نفسه عن الانفعال بالكرية ، فيختص التنجيس بموضع التغير.

(الرابعة) ـ كون الباقي بعد التغير أقل من كر والماء جاريا وحكمها يعلم بالتأمل في تلك الشقوق ، الا انه يظهر من كلام المحدث الأمين (قدس‌سره) كما

__________________

(١) اى لم تقطع النجاسة عمود الماء (منه رحمه‌الله).

(٢) قال (قدس‌سره) ـ بعد ان صرح بان القليل المتصل بمادة هي كر فصاعدا في حكم الكر المتساوي السطوح ، وانه لا يعتبر استواء في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما تحتها ـ ما لفظه : «نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادة بعينها ، فلو لاقتها نجاسة وهي غير مستوية ، نجس موضع الملاقاة ، ويلزم منه نجاسة ما تحتها ايضا ما لم يكن فيه كر مجتمع» ثم أشار الى الإشكال المورد في المقام وأجاب عنه بما قدمنا نقله عنه (منه رحمه‌الله).

٢٤٣

قدمنا نقله (١) اختصاص التنجيس بموضع النجاسة ، لمنعه السراية وحكمه بتقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا فيختص التنجيس بموضع التغير.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في كتاب الروض قد أورد ههنا تناقضا على من منع من تقوي الأعلى بالأسفل بأنهم قد حكموا ـ في صورة ما إذا تغير بعض الجاري لا عن نبع بالنجاسة ـ بعدم نجاسة الأعلى مطلقا وعدم نجاسة الأسفل إذا بلغ الباقي كرا الا ان تستوعب النجاسة عمود الماء فيشترط كرية الأسفل ، وهذا القول يستلزم تقوي الأعلى بالأسفل وإلا لزم نجاسة الأسفل مطلقا إلا إذا كان الأعلى كرا ولم يستوعب التغير عمود الماء ، لان الجزء الأعلى الملاقي للنجاسة على هذا يصير نجسا والفرض انه لا يتقوى بما تحته فينجس حينئذ وينجس ما تحته لذلك ايضا وهكذا.

ووجه الجواب عن ذلك ما قدمنا نقله عن المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ويمكن الجواب ايضا باحتمال قصر الحكم المذكور على الواقف المتصل بالكثير أو الجاري دون الجاري نفسه ، فكأنهم يشترطون في التقوى وحدة الماءين في العرف أو يكون القوي أعلى ، فالماء الجاري في العرف عندهم ماء واحد وان كان بعضه أعلى وبعضه أسفل. واما الماء الواقف المتصل بالكثير أو الجاري فمتى كان أسفل ينتفي فيه الأمران فلا يتقوى بهما.

ويمكن الجواب بما أشرنا إليه آنفا من تخصيص الحكم المذكور بما إذا لم تكن اجزاؤه منحدرة بل يكون العلو بطريق التسنم كالميزاب ونحوه.

(المسألة الرابعة) ـ طريق تطهير الماء المذكور إذا تغير بالنجاسة ان يقال : لا يخلو اما ان يتغير جميعه أو بعضه ، وعلى الثاني فاما ان يبقى قدر الكر أم لا ، فههنا أقسام ثلاثة :

__________________

(١) في الصحيفة ٢٤٠.

٢٤٤

(الأول) ـ ان يتغير بعضه مع كون الباقي كرا ، والظاهر انه لا خلاف في طهارته بتموجه بعضه في بعض مع زوال التغير بذلك أو قبله. هذا على القول باشتراط الامتزاج. واما على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال فيكفي مجرد زوال التغير.

(الثاني والثالث) ـ ان يكون الباقي أقل من كر أو يتغير الجميع ، وقد ذكر جملة من الأصحاب ان تطهيره بإلقاء كر عليه دفعة ، فان زال التغير وإلا فكر آخر وهكذا حتى يزول التغير ، وانه لا يطهر بزوال التغير من قبل نفسه ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع أجسام طاهرة تزيل عنه التغير. وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع :

(الأول) ـ ان ما ذكروه من إلقاء كر فكر حتى يزول التغير إنما يلزم لو لم يزل التغير اما من قبل نفسه أو بعلاج أو بماء قليل وإلا أجزأ كر واحد ، وكذا إنما يلزم لو تغير الكر الملقى على وجه لم يبق من المجموع قدر كر وإلا كان حكمه ما تقدم في القسم الأول.

(الثاني) ـ انه لا يختص التطهير بما ذكروه ، بل يطهر بالمطر ايضا على التفصيل المتقدم ، وبالجاري عن نبع أولا عن نبع مع كريته ، لكن مع زوال التغير بكل من هذه الأشياء أو قبله ، واشتراط علو الجاري مطلقا أو مساواته أو نبع الماء من تحته بقوة وفوران بحيث يستهلك الماء النجس لا بمثل الترشح. واعتبار علو الجاري هنا أو مساواته متفق عليه حتى من القائلين بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر ، لأنهم يخصون ذلك ـ كما عرفت مما قدمنا نقله عن شيخنا الشهيد الثاني (١) ـ بملاقاة النجاسة بعد الاتصال ، ووجه الفرق بين المقامين قد تقدم في كلامه. لكن ينقدح على الفرق المذكور الاشكال بتساوي السطوح ، إذ لا يتحقق فيه ورود الطاهر حينئذ

__________________

(١) في الصحيفة ٢٤١.

٢٤٥

مع اتفاقهم على القول بالطهارة كما عرفت. وأجاب في الروض بأن جماعة من الأصحاب منهم : المصنف (رحمه‌الله) في التذكرة والشهيد في الذكرى شرطوا في طهر المتنجس في هذه الحالة امتزاج الطاهر به ولم يكتفوا بمجرد المماسة ، وهذا الشرط في الحقيقة يرجع الى علو الجاري ، إذ لا يتحقق الامتزاج بدونه ، وحينئذ يتحقق الشرط وهو ورود الطاهر على النجس ويزول الاشكال ، وهذا الشرط حسن في موضعه. انتهى.

ولا يخفى عليك ان التزامه اشتراط الامتزاج في الصورة المذكورة لضرورة دفع الاشكال وإلا فهو خلاف مقتضى مذهبه كما سيأتي من الاكتفاء بمجرد الاتصال ، ويشير الى ذلك قوله أخيرا : «وهذا الشرط حسن في موضعه».

(الثالث) ـ ما ذكروا من اعتبار الدفعة في الكر الملقى هو أحد القولين في المسألة ، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في الكلام في بيان تطهير الماء القليل ان شاء الله تعالى.

(الرابع) ـ ما ذكروا ـ من عدم طهره بمجرد زوال التغير من قبل نفسه الى آخر ما تقدم ـ هو أشهر القولين في المسألة وأظهرهما.

وقيل بطهره بمجرد ذلك ، وهو منقول عن الفاضل يحيى بن سعيد في الجامع ، واحتمله العلامة في النهاية.

وصرح جمع من الأصحاب بأن القول بطهارة المتغير بزوال التغير لازم لكل من قال بالطهارة بالإتمام.

وتنظر فيه بعض أفاضل متأخري المتأخرين بما حاصله : ان القول بالطهارة بالإتمام ، إما لخبر «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (١). اي يطهره ، أو لغيره

__________________

(١) هذا مرسل السيد والشيخ (قدس‌سرهما) وسيأتي التعرض منه (قده) له في تطهير القليل النجس بإتمامه كرا. وقال ابن الأثير في النهاية في مادة كر : في حديث ابن سيرين «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر». وفي رواية «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا».

٢٤٦

من الوجوه المذكورة في أدلتهم. فإن كان المستند غير الخبر المذكور فوجه عدم اللزوم ظاهر ، وان كان الخبر المذكور فكذلك أيضا ، لأنه وان دل بعمومه على ان الماء إذا بلغ كرا لم يظهر فيه خبث ، الا ان ذلك العموم مخصوص نصا وإجماعا بالخبث الذي لا يكون مغيرا للماء ، والا لكان منجسا للماء البتة ، فإذا ثبتت النجاسة بالتغير كان حكمها مستصحبا الى ان يعلم المزيل كما ذكره القائلون بعدم الطهارة بالإتمام ، ولو قيل : ان القدر الثابت من المخصص هو التخصيص بالمتغير ما دام متغيرا ، واما ما بعد زوال التغير فهو داخل في العموم. لقيل : ان هذا بعينه يرد على من تمسك بالرواية المشهورة (١) وهي «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». كما لا يخفى (٢).

حجة القول المشهور ان النجاسة وزوالها حكمان شرعيان متوقفان على النص من الشارع ، فكما حكم بالنجاسة بالتغير لثبوت ذلك عنه. فلا يحكم بالطهارة بالزوال الا مع ثبوت ذلك عنه ايضا ، والا فيكون حكم النجاسة مستصحبا الى ان تحصل الطهارة بما جعله مطهرا. وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه بل مرجعه هنا الى العمل بعموم الدليل.

أقول : وتحقيق القول في الاستصحاب وجملة اقسامه قد تقدم في المقدمة الثالثة (٣).

__________________

وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة (٥١٩) الكر بالضم مكيال لأهل العراق ، ومنه : حديث ابن سيرين «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا».

(١) تقدم الكلام فيها في التعليقة ٣ في الصحيفة ١٩١.

(٢) وذلك لأنها مخصوصة بغير المتغير نصا وإجماعا ، فالكر المتغير كلا أو بعضا نجس ، وبعد زوال التغير بمقتضى الإيراد المذكور يندرج في العموم ، مع انهم لا يقولون به بل يستصحبون حكم النجاسة الى ان تحصل الطهارة بأحد المطهرات الشرعية (منه رحمه‌الله).

(٣) في الصحيفة ٥١.

٢٤٧

وظاهر كلام المستدل هنا ان الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث المذكور هناك الذي هو عبارة عن إطلاق النص ، دون القسم الرابع الذي هو محل النزاع ، وهذا الموضع أحد المواضع التي أشرنا هناك الى الشك والتردد في اندراجها تحت القسم الثالث أو الرابع من تلك الأقسام.

وتحقيق القول في ذلك ان يقال : إذا تعلق حكم بذات لأجل صفة ـ كالماء المتغير بالنجاسة والماء المسخن بالشمس والحائض أي ذات دم الحيض ـ فهل يحكم ـ بمجرد زوال التغير وزوال السخونة وانقطاع الدم ـ بخلاف الأحكام السابقة ، أو يحكم بإجراء الأحكام السابقة إلى ظهور نص جديد؟ إشكال ، ينشأ من ان الحكم في هذه النصوص ـ الواردة في هذه الأفراد المعدودة ونحوها ـ محتمل لقصره على زمان وجود الوصف ، بناء على ان التعليق على الوصف مشعر بالعلية. وان المحكوم عليه هو العنوان لا الفرد وقد انتفى ، وبانتفائه ينتفي الحكم ـ ومحتمل للإطلاق ، بناء على ان المحكوم عليه انما هو الفرد لا العنوان ، والعنوان إنما جعل آلة لملاحظة الفرد ، فمورد الحكم حقيقة هو الفرد. فعلى الاحتمال الأول يكون من القسم الرابع ، فان تغير الماء هنا بالنجاسة نظير فقد الماء في مسألة المتيمم الداخل في الصلاة ثم يجد الماء ، وكما ان وجود الماء هناك حالة أخرى مغايرة للأولى ، فتعلق النص بالأولى لا يوجب استصحابه في الثانية لمكان المخالفة ، فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها النص المتعلق بالأولى. وعلى الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث وهو الذي ذكره السيد (قدس‌سره) في المدارك ، واليه جنح ايضا المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على المدارك. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

(المسألة الخامسة) ـ لو جمد الكثير ثم أصابته نجاسة بعد الجمود فالظاهر ـ كما استظهره بعض المحققين ـ النجاسة في خصوص موضع الملاقاة كسائر الجامدات ،

٢٤٨

لخروجه بالجمود عن اسم الماء عرفا ولغة ، ويطهر بإلقاء النجاسة وما يكتنفها ان كان لها عين والا فالموضع الملاقي لها ، ويطهر ايضا باتصال الكثير به بعد زوال العين.

ونقل عن العلامة في المنتهى انه قال : «لو لاقت النجاسة ما زاد على الكر من الماء الجامد فالأقرب عدم التنجيس ما لم تغيره» واحتج لذلك بان الجمود لم يخرجه عن حقيقته بل هو مؤكد لثبوتها ، فان الآثار الصادرة عن الحقيقة كلما قويت كانت آكد في ثبوتها ، والبرودة من معلولات طبيعة الماء وهي تقتضي الجمود ، وإذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (١). وفيه ما عرفت من ان الجمود يخرجه عن الاسم الذي هو المدار في الحفظ عن انفعال القليل لغة وعرفا فيزول بزواله. ولعله (قدس‌سره) قاس ذلك على مثل الدبس والدهن ونحوهما ، فإنها بالجمود لا تخرج عن الحقيقة ، إلا انه قياس مع الفارق ، فان الظاهر في الماء الجامد ان أحدا لا يطلق عليه اسم الماء ، والموجود في الأخبار إطلاق اسم الثلج عليه. وبالجملة فإنه لا ريب في ضعفه. واستشكل الحكم في التحرير ، ونقل عنه في النهاية القول بالمشهور.

(المسألة السادسة) ـ في القدر الذي لا ينفعل بالملاقاة من الراكد ، وتنقيح الكلام فيه يستدعي بسطه في مواضع :

(الموضع الأول) ـ اعلم انه قد ورد بتقدير ما لا ينفعل من الماء روايات بغير لفظ الكر لا يخلو ظاهر تقديراتها من تدافع.

(فمنها) ـ رواية عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شي‌ء ، والقلتان جرتان».

و (منها) ـ رواية عبد الله بن المغيرة أيضا عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

٢٤٩

السلام) (١) قال : «الكر من الماء نحو حبي هذا. وأشار الى حب من تلك الحباب التي تكون بالمدينة».

و (منها) ـ رواية زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له : راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة؟ قال : إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها ، وان كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ، وكذا الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء».

هذه جملة ما وقفت عليه من ذلك ، وهي مشتملة على التحديد بالقلتين تارة وبكونه نحو ذلك الحب المشار إليه أخرى ، وبكونه قدر راوية أو حب أو قربة أو شبه ذلك ، فلا بد من بيان انطباق مصاديق هذه الألفاظ على ما يصدق عليه الكر الذي بنى عليه الأصحاب وجعلوه المعيار في هذا الباب ، ليزول التنافي من البين وتجتمع الأدلة من الطرفين. ويكون ذلك ضابطا كليا وقانونا جليا :

فنقول : اما الرواية الأولى فحملها الشيخ (رحمه‌الله) في الاستبصار (٣) ـ بعد الطعن فيها أولا بالإرسال ـ على التقية ، قال : «لانه مذهب كثير من العامة» ثم قال : «ويحتمل ان يكون مقدار القلتين مقدار الكر ، لان ذلك ليس بمنكر لأن القلة هي الجرة الكبيرة في اللغة» انتهى.

أقول : ويؤيد الحمل على التقية ان المدار عندهم على القلتين كما ان المدار عندنا على الكر ، كما ورد في الخبر المتفق على صحته عندهم (٤) : «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٣) في الصحيفة ٧ من طبع النجف.

(٤) قال ابن تيمية في الجزء الأول من المنتقى في الصحيفة ٢٤ بعد ان ذكر هذا

٢٥٠

وحمل أيضا في الاستبصار الرواية الثانية على ان الحب لا يمتنع ان يسع من الماء مقدار الكر ، وعلى ذلك حمل الجرة والراوية والحب والقربة.

وجملة متأخري الأصحاب (رضوان الله عليهم) أعرضوا عن النظر في هذه الاخبار وأطبقوا على اخبار الكر ، والظاهر ان ذلك اما بناء على ما اعتمدوه من الاصطلاح في تقسيم الحديث ، وان هذه الروايات ضعيفة الأسانيد ، فلا تبلغ قوة المعارضة لتلك الأخبار الصحيحة أو الضعيفة المجبورة عندهم بعمل الطائفة ، أو انها عندهم غير منافية بناء ما ذكره الشيخ (قدس‌سره).

__________________

الحديث : رواه الخمسة. وهم باصطلاحه ـ كما ذكر ذلك في أول الكتاب ـ : احمد بن حنبل في مسنده وأبو عيسى الترمذي في جامعه. وأبو عبد الرحمن النسائي في كتاب السنن. وأبو داود السجستاني في كتاب السنن. وابن ماجة القزويني في كتاب السنن. الا ان النص الذي ذكره : «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وقال : وفي لفظ ابن ماجة ورواية لأحمد «لم ينجسه شي‌ء». وفي كنز العمال في الجزء الخامس في الصحيفة ٩٥ «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث». وروى البيهقي في الجزء الأول من سننه في الصحيفة ٢٦٠ و ٢٦١ الحديث بالنص المتقدم وفي الصحيفة ٢٦١ منه ايضا بالنص المذكور في الكتاب. وفي مصابيح السنة للغوى في الجزء الأول في الصحيفة ٣٣ «إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا».

وقد ورد الكر أيضا في رواياتهم ، ويحكى عن بعضهم انه هو المعيار في هذا الباب ، قال الجصاص في أحكام القرآن في الجزء الثالث في الصحيفة ٤١٩ في قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» بعد ان نقل المذاهب في الماء الكثير : «وقال مسروق والنخعي وابن سيرين : إذا كان الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». وقال ابن الأثير في النهاية في مادة كر : في حديث ابن سيرين «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر». وفي رواية «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا». وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة ٥١٩ في مادة كر : الكر بالضم مكيال لأهل العراق ومنه : حديث ابن سيرين «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا». وفي رواية «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر» ..

٢٥١

هذا. والذي وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك ، اما بالنسبة إلى القلتين فقال في كتاب المصباح المنير : «والقلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة شبه الحب ، قال الأزهري : ورأيت القلة من قلال هجر والأحساء تسع مل‌ء مزادة ، والمزادة شطر الراوية ، وكأنها سميت قلة لأن الرجل القوي يقلها اى يحملها. وعن ابن جريح قال : أخبرني من رأى قلال هجر : ان القلة تسع فرقا ، قال عبد الرزاق : والفرق يسع أربعة أصواع بصاع النبي (ص) ، الى ان قال : ويجوز ان يعتبر قلال هجر البحرين ، فان ذلك أقرب عرف لهم ، ويقال : كل قلة تسع قربتين» انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين «القلة بضم القاف وتشديد اللام إناء للعرب كالجرة الكبيرة تسع قربتين أو أكثر ، ومنه قلال هجر ، وهي شبه الحباب» وقال في القاموس : «القلة الحب العظيم أو الجرة العظيمة» انتهى. وقال المحقق في المعتبر : «ان أبا علي ابن الجنيد قال في المختصر : الكر قلتان مبلغ وزنه الف ومائتا رطل ، وقال ابن دريد : القلة في الحديث من قلال هجر وهي عظيمة ، وزعموا أن الواحدة تسع خمس قرب» انتهى. ونقل العلامة في المنتهى ايضا عن ابن دريد انه قال : «القلة من هجر عظيمة تسع خمس قرب» انتهى.

وأنت خبير بان المستفاد من كلام هؤلاء ان القلة والجرة والحب متقاربة المقادير وان كلا منها مما يختلف صغرا وكبرا ، وان القلة منها : ما تسع قربتين ومنها : ما تسع خمس قرب ، فلا بعد حينئذ في حمل تلك الظروف المروية في الاخبار على ما يسع الكر.

واما الحب فقال في المصباح : «والحب بالضم الخابية فارسي معرب» وقال في المجمع : «والحب بالضم الجرة الضخمة» وقال في القاموس : «والحب الجرة أو الضخمة منها».

وأنت خبير بان تفسير الحب بالخابية التي تختلف إفرادها صغرا وكبرا ، وتفسير

٢٥٢

القلة به ـ وهي كما عرفت سابقا ـ يعطي ايضا انه مما يختلف مقاديره ، فلا يمتنع ان يكون ذلك الحب المشار اليه من الحباب الكبار التي تسع كرا من ماء.

ويؤيد ذلك صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن حب ماء فيه الف رطل وقع فيه أوقية بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال : لا يصلح». وحينئذ فلا بعد في الحمل على ذلك ، ومثل ذلك الجرة والقربة ، فإنها مما يتفاوت أفرادها أيضا صغرا وكبرا.

واما الرواية فهي في الأصل تقال على الدابة التي يستقى عليها الماء ثم استعملت في المزادة كما يعطيه كلام صاحب المغرب ، أو انها حقيقة فيهما كما يفهم من غيره ، وعلى أيهما فالمراد به في الحديث المزادة ، قال في القاموس : «ولا تكون إلا من جلدين تفأم بثالث بينهما لتتسع» انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين : «المزادة الراوية ، وسميت ذلك لأنها يزاد فيها جلد آخر من غيرها ، ولهذا أنها أكبر من القربة» انتهى. ومتى كان كذلك فبلوغها الكر لا خفاء فيه. ومع المناقشة في ذلك فالحمل على التقية التي هي الأصل في اختلاف الاخبار عندنا ـ كما تقدم بيانه واشتد بنيانه في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ـ وان لم يكن بمضمونها قائل من العامة كما علمته مبرهنا. واخبار الكر معتضدة بعمل الطائفة عليها قديما وحديثا فهي مجمع عليها ، ومخالفة للعامة قطعا (٢) فيتعين القول بها. والله سبحانه وأولياؤه اعلم.

(الموضع الثاني) ـ للأصحاب (رضوان الله عليهم) في معرفة الكر طريقان ، وبكل منهما وردت الاخبار ، وان كان على وجه يحتاج الى التطبيق بينها في ذلك المضمار.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) تقدم في التعليقة ٤ في الصحيفة ٢٥٠ ما يوضح ذلك.

٢٥٣

(الطريق الأول) ـ معرفة ذلك بالوزن وهو الف ومائتا رطل ، ولا خلاف بينهم في هذا المقدار.

وعليه تدل صحيحة محمد بن ابي عمير عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «الكر من الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ألف ومائتا رطل».

وانما اختلفوا في المراد من الرطل في هذا الخبر ، هل هو الرطل العراقي أو المدني؟ فالمشهور حمله على الأول ، وهو مائة وثلاثون درهما على المشهور ، وقيل انه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، ذكره العلامة في نصاب الغلات من التحرير والمنتهى (٢) والظاهر انه غفلة. وقيل بحمله على الثاني وهو مائة وخمسة وتسعون درهما ، وبه قال للمرتضى في المصباح والصدوق في الفقيه.

واستدل على الأول بوجوه : (أحدها) ـ عموم قوله (عليه‌السلام) : «كل ماء طاهر حتى يعلم انه قذر» (٣). والعلم لا يتحقق مع الاحتمال.

و (ثانيها) ـ ان الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل.

و (ثالثها) ـ ان ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة (٤).

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) ما ذهب اليه (قدس‌سره) في ذلك منقول عن العامة ومخالف لما صرح به في باقي كتبه ، قال بعض المتأخرين : «والظاهر ان هذا سهو منه ، وكأنه كان (ره) عند وصوله الى هذا الموضع ناظرا في كتبهم وتبعهم فيه ذاهلا عن مخالفة نفسه في المواضع الأخر ومخالفة الأخبار وأقوال سائر الأصحاب» انتهى. وهو في محله (منه رحمه‌الله).

(٣) المروي في الوسائل في الباب ـ ١ و ٤ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٤) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الباب ـ ٩ و ١٠ ـ ورواية المجالس المروية في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة من الوسائل ، وسيأتي منه (قده) ذكرهما في الطريق الثاني.

٢٥٤

و (رابعها) ـ ما فيه من الجمع بين الرواية المذكورة (١) وبين صحيحة محمد ابن مسلم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «والكر ستمائة رطل». بحملها على أرطال مكة ، إذ لم يذهب أحد إلى حملها على الأرطال العراقية أو المدنية ، والرطل المكي رطلان بالعراقي.

و (خامسها) ان الأصل طهارة الماء خرج ما نقص عن الأرطال العراقية بالإجماع ، فيبقى الباقي.

ويرد على الأول ما تقدم في المقدمة الحادية عشرة (٣) في معنى الحديث المذكور ومرت إليه الإشارة أيضا في المقالة الرابعة من الفصل الأول (٤) ونزيده هنا بيانا وتأكيدا فنقول : ان الجهل هنا ـ الذي هو عبارة عن عدم العلم بالقذارة الموجب للتمسك بأصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة ـ اما ان يكون متعلقا بإصابة النجاسة للماء ، بمعنى ان المكلف يجهل إصابة النجاسة للماء ولا يعلمها ، واما ان يكون متعلقا بالنجاسة ، بمعنى انه يجهل كون هذا الشي‌ء موجبا للتنجيس ، واما يجهل الحكم بالتنجيس بان يعلم ملاقاة النجاسة لكن يشك في تأثيرها كموضع البحث. ومقتضى الدليل العقلي ـ الدال على امتناع تكليف الغافل عن الخطاب بلزوم تكليف ما لا يطاق ، والنقلي الدال على ذلك كنفي الحرج ـ انما يقوم على العذر بالنسبة إلى القسم الأول دون الأخيرين. واخبار معذورية الجاهل خاصها وعامها إنما تدل على الأول وهو الجاهل المحض ، دون العالم بالنجاسات وإفرادها وما يترتب على الملاقاة من الحكم ، فربما علم بالملاقاة لكن

__________________

(١) وهي صحيحة محمد بن ابى عمير المتقدمة في الصحيفة ٢٥٤.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٣) في الموضع الأول في الصحيفة ١٣٤.

(٤) في الصحيفة ١٩٠.

٢٥٥

جهل الحكم بالتنجيس في بعض الموارد ، للشك في بعض الشروط كموضع البحث ، أو للشك في بعض الأشياء بكونها موجبة للتنجيس كنطفة غير الإنسان مثلا ، بل دلت الاخبار على ان الحكم في الفردين الأخيرين وجوب الفحص والسؤال ، ومع العجز فالوقوف على جادة الاحتياط.

كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج «في رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزى كل واحد منهما الصيد. قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط» (١).

ومثلها حسنة بريد الكناسي الواردة فيمن علمت ان عليها العدة ولم تدر كم هي؟

حيث قال (عليه‌السلام) : «إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة ، فتسأل حتى تعلم» (٢).

وبالجملة فمورد الخبر المذكور هو العالم بموجبات تنجيس الماء وشرائطه ، فإنه متى جهل إصابة النجاسة حكم بالطهارة الى ان يعلم الإصابة ، وما عدا هذا الفرد ففرضه التوقف في الحكم والاحتياط في العمل.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا ، فإن الوجه في أصالة البراءة التي اعتمدوا عليها هو ما قدمنا من الدليل العقلي والنقلي. ولزوم الحرج وتكليف الغافل في صورة بلغنا فيها حكم شرعي ولكن اشتبه علينا المراد منه هل هو الزائد أو الناقص؟ ممنوع ، لما عرفت من الروايتين المتقدمتين.

وأورد على الثالث انه وان ناسب رواية الأشبار الثلاثة (٣) لكن المشهور

__________________

(١) تقدم الكلام فيها في التعليقة ٢ في الصحيفة ٧٣.

(٢) تقدم الكلام فيها في التعليقة ٤ في الصحيفة ٨٢ والتعليقة ١ في الصحيفة ٨٣.

(٣) تقدم بيانها في التعليقة ٤ في الصحيفة ٢٥٤.

٢٥٦

على تقدير المساحة ـ إنما هو العمل على رواية أبي بصير (١) البالغ تكسير ما اشتملت عليه الى اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر ، وليس تباعد المدني عنها أبعد من تباعد العراقي.

وعلى الرابع ايضا ما ذكره الشهيد الثاني (رحمه‌الله) من انه يجوز ان يحمل الستمائة على الأرطال المدنية ليوافق قول القميين برواية الأشبار الثلاثة (٢) بناء على ان الالف والمائتين العراقية توافق رواية الأشبار بزيادة النصف كما ذكره جماعة : منهم ـ الشهيد في الذكرى. ومن ثم عدل بعض متأخري المتأخرين عن كيفية الاستدلال بالرواية إلى نحو آخر ، فقال : «لو لم يحمل على العراقي لم يمكن الجمع بين روايات الأرطال ، بخلاف ما لو حمل عليه ، فإنها تجتمع على ذلك».

ويرد على الخامس أيضا (أولا) ـ ان الأصل المذكور اما عبارة عن الدليل ، وليس إلا الخبر المتقدم في الوجه الأول وأمثاله. وقد عرفت ما فيه. واما عبارة عن الحالة السابقة أو الحالة الراجحة التي إذا خلي الشي‌ء ونفسه ، وكل منهما قد اخرج عنه معلومية ملاقاة النجاسة ، فاستصحابها في موضع النزاع فرع صحة الاستدلال بالاستصحاب في مثل ذلك ، وقد حققنا لك في المقدمة الثالثة (٣) بطلانه وهدمنا أركانه ، فإنه بتجدد الحالة الثانية أعني ملاقاة النجاسة هنا لا يمكن الجزم بالبقاء على الحكم الأول.

و (ثانيا) ـ ايضا ان المستفاد ـ من قوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء

__________________

(١) الآتي ذكرها في الصحيفة ٢٦١.

(٢) وسيأتي بيانها في الصحيفة ٢٦٢.

(٣) في الصحيفة ٥١.

٢٥٧

كرا لم ينجسه شي‌ء» (١). وأمثاله ـ ان حصول الكرية موجب لعدم الانفعال وانتفاءها موجب للانفعال ، فإذا حصل الشك في الكرية كان حكمها في الانفعال وعدمه مشكوكا فيه ، وتعيين أحدهما يحتاج الى دليل (فان قيل) : الدليل هو العمومات الدالة على طهارة الماء (قلنا) : العمومات على تقدير تسليمها مخصوصة بالخبر المذكور ، والشك إنما حصل في كون محل النزاع فردا للمخصص أم لا ، فتعيين أحدهما يحتاج الى دليل.

احتج الآخرون بان الحمل على المدني يقتضي الاحتياط ، حيث ان الأقل مندرج تحته. وبأنه (عليه‌السلام) كان من أهل المدينة ، فالظاهر انه (عليه‌السلام) أجاب بما هو المعهود عنده.

وأجيب عن الأول بأن الاحتياط ليس بدليل شرعي. مع انه معارض بمثله ، فان المكلف مع تمكنه من الطهارة المائية لا يسوغ له العدول إلى الترابية ، ولا يحكم بنجاسة الماء إلا بدليل شرعي ، فإذا لم يقم على النجاسة فيما نحن فيه دليل كان الاحتياط في استعمال الماء لا في تركه. وعن الثاني بأن المهم في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ، وذلك إنما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه ، ولم يعلم ان السائل كان مدنيا ، وغالب الرواة عنه (عليه‌السلام) كانوا من أهل العراق ، فلعل السائل كان منهم حملا على الغالب.

(قلت) : ويؤيد بأن المرسل وهو ابن ابي عمير كان عراقيا ، وبجوابه (عليه‌السلام) ـ لمحمد بن مسلم الذي هو من الطائف توابع مكة ـ بستمائة رطل المتعين أو الظاهر حملها على الأرطال المكية. لما تقدم ، وبقوله (عليه‌السلام) في حديث الكلبي النسابة (٢) لما سأله عن الشن الذي ينبذ فيه التمر للشرب والوضوء : «وكم كان يسع

__________________

(١) تقدم الكلام فيه في التعليقة ٣ في الصحيفة ١٩١.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل من كتاب الطهارة.

٢٥٨

من الماء؟ فقال ما بين الأربعين إلى الثمانين الى ما فوق ذلك. فقلت : بأي الأرطال؟ قال : أرطال مكيال العراق».

وأجاب المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ عن المعارضة الموردة على الجواب الأول ـ بأن الأخبار الدالة على اعتبار الكرية اقتضت كونها شرطا لعدم انفعال الماء بالملاقاة ، فما لم يدل دليل شرعي على حصول الشرط يجب الحكم بالانفعال ، ثم قال : «وبهذا يظهر ضعف احتجاجهم بالأصل على الوجه الذي قرروه ، لان اعتبار الشرط مخرج عن حكم الأصل».

وفيه نظر ، لان كون الكرية شرطا لعدم الانفعال لا يقتضي الحكم بالانفعال في صورة عدم العلم بالشرط ، إذ عند عدم الشرط في الواقع ينتفي المشروط لا عند عدم العلم به. على انه معارض بأن الأخبار المذكورة كما تدل على كون الكرية شرطا لعدم الانفعال كذلك تدل على كون القلة شرطا للانفعال ، فما لم يدل دليل على حصول الشرط يجب الحكم بعدم الانفعال.

والظاهر ان ابتناء ما ذكره في المعالم على ما اشتهر بينهم ، وبه صرح والده (قدس‌سرهما) في تمهيد القواعد في مبحث تعارض الأصلين ، حيث قال : «إذا وقع في الماء نجاسة وشك في بلوغه الكرية فهل يحكم بنجاسته أو طهارته؟ فيه وجهان (أحدهما) ـ الحكم بنجاسته ، وهو المرجح ، لأن الأصل عدم بلوغه الكرية. و (الثاني) ـ انه طاهر ، لأن الأصل في الماء الطهارة. ويضعف بأن ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل لأن ملاقاتها سبب في تنجيس ما تلاقيه» ثم ذكر ما يدل على ان هذا هو القول الشائع بين الفقهاء. انتهى. وفيه ـ بمعونة ما قررناه سابقا ـ توجه المنع الى قوله : «بأن ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل» فإن مجرد ملاقاة النجاسة لا يوجب التنجيس كما ذكره ، بل مع القلة. وهي غير متحققة.

٢٥٩

والتحقيق ـ في هذا المقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم‌السلام) ـ ان يقال : ان مقتضى الأخبار الواردة في الكر ـ القائلة بأنه إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء ، الدالة بمنطوقها على انه مع العلم ببلوغ الكرية لا ينجسه شي‌ء ، وبمفهومها الذي هو حجة صريحة صحيحة على انه مع العلم بعدم بلوغه كرا ينجس بالملاقاة ـ تعليق الحكم بنجاسة ذلك الماء على العلم بعدم بلوغه كرا ، وتعليق الحكم بطهارته على العلم ببلوغه كرا (١) ومقتضى هذين التعليقين ـ ومقتضى الأخبار الدالة على وجوب التوقف في كل ما لم يعلم حكمه على التعيين ـ هو وجوب التوقف عن الحكمين والوقوف على جادة الاحتياط في العمل. قولهم ـ : الاحتياط ليس بدليل شرعي ـ على إطلاقه ممنوع ، لما عرفت في المقدمة الرابعة من ان الاحتياط في مثل هذه الصورة من الأدلة الشرعية كما صرحت به الاخبار ، ومنها : الخبران المتقدمان (٢) والمعارضة التي ذكرها المجيب مندفعة بأنه قد ظهرت الدلالة على وجوب الاحتياط ، وانه دليل شرعي على وجوب الاجتناب عن هذا الماء ، فالاحتياط الذي ذكره المعارض غير متجه. وان أردت مزيد إيضاح للفرق بين الاحتياط الواجب الذي هو أحد الأدلة الشرعية والمستحب الذي توهموا حمل ذلك الفرد الآخر عليه ، فارجع الى ما حققناه في المقدمة المذكورة. على ان قول القائل : الأصل عدم بلوغ الكرية لا ينطبق على شي‌ء من معاني الأصل التي صرحوا بها كما تقدم في المقدمة الثالثة في بحث

__________________

(١) ووجه أخذ العلم من جانب المنطوق والمفهوم ما تقدم لك بيانه في المقدمة الحادية عشرة من ان مناط الحكم بالطهارة والنجاسة هو علم المكلف بذلك لا مجرد كونه كذلك واقعا كما تقدم بيانه ثمة مبرهنا مشروحا (منه رحمه‌الله).

(٢) وهما صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة بريد الكناسي المتقدمتان في الصحيفة ٢٥٦.

٢٦٠