الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

قد عرفت ما فيه (١) ، ومع عدم تقييده بما ذكرنا فقد أورد ايضا على الاستدلال به ان ماء المطر في الصورة المفروضة لا يمكن ان يرى جميع الماء النجس ، لامتناع التداخل ، ومع إمكانه أيضا فالظاهر ان عند التقاطر ـ كما هو مذهبهم ـ لا يمكن ان يصل الى جميع اجزاء الماء. ويمكن الجواب بأن الرواية لما دلت على طهارة ماء المطر المقتضي لطهارة الموضع الذي يصل اليه ، فاللازم طهارة ما عداه ، إذ لو لم يطهر بذلك للزم عدم طهارة ذلك الموضع بالكلية ، أو عود النجاسة الى ما وصل اليه المطر بالمجاورة ، وكلاهما خلاف ظاهر النص.

ولقد بالغ بعض المتأخرين (٢) فحكم بتطهير القطرة الواحدة من المطر إذا وقعت على الماء النجس ، قال في الروض بعد نقله : «وليس ببعيد ولكن العمل على خلافه» انتهى.

واعترض هذا القول المحقق الشيخ حسن في المعالم بأنه غلط. قال : «لأن المقتضي لذلك اما كونه في حكم الجاري أو النظر الى ظاهر الآية ، حيث دلت على كونه مطهرا بقول مطلق ، وكلاهما فاسد (اما الأول) ـ فانا وان تنزلنا الى القول بثبوت أحكام الجاري له مطلقا ، إلا انك قد علمت ان المقتضي لطهارة الماء بمجرد الاتصال ـ على القول به ـ هو كون الجزء الملاقي للكثير يطهر بملاقاته له ، عملا بعموم ما دل على كون الماء مطهرا ، وبعد الحكم بطهارته يتصل بالجزء الثاني ـ وهو متقو بالكثير الذي منه طهره ـ فيطهر الجزء الثاني ، وهكذا. ولا يذهب عليك ان هذا التوجيه

__________________

(١) في الصحيفة ٢١٩ السطر ١٨.

(٢) هو السيد حسن بن السيد جعفر المعاصر لشيخنا الشهيد الثاني ، قال في الروض : وكان بعض من عاصرناه من السادة الفضلاء يكتفى في تطهير الماء النجس بوقوع قطرة واحدة عليه ، الى آخر ما نقلناه في المتن (منه رحمه‌الله).

٢٢١

لا يتوجه هنا ، إذ أقصى ما يقال في القطرة الواقعة أنها تطهر ما تلاقيه. ولا ريب ان الانقطاع لا ينفك عن ملاقيها ، وهي بعده في حكم القليل كما علمت ، فليس للجزء الذي طهر بها مقو حينئذ ليستعين به على تطهير ما يليه ، بل هو معها حين الانقطاع ماء قليل ، فيعود بها الى الانفعال بملاقاة النجاسة. و (اما الثاني) ـ فقد مر الكلام فيه وبينا انه ليس له عموم» انتهى.

ويرد عليه ان اتصال هذه الاجزاء بعضها ببعض إنما يكون في زمان واحد ، لا ان الجزء الأول يتصل بالثاني في زمان ثم الثاني بالثالث في زمان آخر وهكذا ، فان باتصال الجزء الأول من النجس بالجاري أو الكثير صدق اتصال الاجزاء كملا بعضها ببعض ، فمتى سلم ان ماء المطر ولو قطرة حكمه حكم الجاري مطلقا وانه يطهر الجزء الملاقي له حال وقوعه عليه ، فلا ريب في إجراء التقريب المذكور في الجاري فيه حينئذ. وصدق الانقطاع عليه في الآن الثاني غير ضائر ، لحصول الطهارة في الآن الأول بالتقريب المذكور.

(الثاني) ـ إذا وقع على أرض متنجسة ونحوها واستوعب موضع النجاسة وأزال العين ـ ان كانت ـ فعلى المشهور لا ريب في حصول التطهير به ، وعلى اعتبار الجريان فالظاهر انه لا يناط هنا بحصوله ، لان الشيخ القائل بذلك صرح ـ كما نقل عنه ـ بالاكتفاء في تطهير الأرض بالماء القليل ، الا ان مقتضى صحيحة هشام (١) اعتبار كثرة ماء المطر في مثل الصورة المذكورة. وقد عرفت (٢) انه لا مدخل لخصوصية السؤال في التعليل المذكور.

وبذلك صرح المحقق الشيخ حسن في المعالم ، قال : «ولا بد من كون الماء الواقع أكثر من النجاسة ، لجعله في الحديث علة لحصول الطهارة. وكون مورد السؤال

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٢١٥ السطر ١٧.

(٢) في الصحيفة ٢١٨ السطر ٦.

٢٢٢

فيه السطح لا يقتضي اختصاص الحكم به ، لان التعليل يدل على التعدية الى كل ما توجد فيه العلة ، إذ الحال شاهدة بعدم مدخلية الخصوصية فيها ، وقد بينا وجوب التعدية حينئذ» انتهى.

واعترضه في الذخيرة بان صحة الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكره مبنية على تعين إرجاع الضمير في قوله (عليه‌السلام) : «ما أصابه» إلى السطح. وهو ممنوع ، بل يمكن إرجاعه الى الثوب ، فكأنه (عليه‌السلام) قال : «القطرة الواصلة الى الثوب غالب على البول الذي لاقاه» وايضا ما ذكره من الدليل على تعدية الحكم ـ على تقدير تمامه ـ إنما يصح إذا رجع ضمير (منه) الى مطلق النجاسة. وليس كذلك ، بل الظاهر رجوع الضمير الى البول ، فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة. انتهى.

ولا يخفى ما في كلامه (قدس‌سره) من التكلف التام والبعد عن ظاهر الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

(أما أولا) ـ فلان المقصود بالذات من السؤال هو ظهر البيت وتطهير المطر له ، والسؤال عما يقطر على الثوب إنما هو فرع على الأول ، فالأنسب كون الجواب وما علل به راجعا إلى الأول.

و (اما ثانيا) ـ فلانه على تقدير رجوع الضمير الى الثوب فالتقريب الذي ذكره ذلك المحقق حاصل به ، بكون المعنى حينئذ ما أصاب الثوب من ماء المطر الملاقي للبول أكثر من البول ، بمعنى ان المتقاطر على الثوب مجتمع من الماء والبول ولكن الماء أكثر ، فبسبب الكثرة صار قاهرا للبول وغالبا عليه. ومنه يظهر ان مناط التطهير هو الكثرة الموجبة للقهر والغلبة.

و (اما ثالثا) ـ فلان ما ذكره ـ من ان تعدية الحكم مع رجوع ضمير (منه) الى النجاسة دون البول ومعه لا يصح ـ ففيه ان ضمير (منه) إنما يرجع في الخبر الى البول

٢٢٣

لكن لما كان خصوصية البول لا مدخل له في العلية حكم بالانسحاب الى اي نجاسة كانت كما ذكره المحقق المذكور وقد قدمنا التنبيه عليه (١).

وربما استدل على حصول التطهير في الفرع المذكور بمرسلة الكاهلي (٢) لقوله (عليه‌السلام) : «كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر». وفيه ما عرفت آنفا (٣) وبمرسلة محمد بن إسماعيل (٤) الواردة في طين المطر ، لتصريحها بنفي البأس عن اصابته الثوب ثلاثة أيام إلا ان يعلم انه قد نجسه شي‌ء بعد المطر ، وهو دال على حصر البأس فيما إذا نجسه شي‌ء بعد المطر ، فما عداه لا بأس به ، وهو شامل لما إذا كانت الأرض نجسة قبل المطر. فيستفاد منه تطهير المطر الأرض حينئذ. وفي الدلالة تأمل.

(الثالث) ـ الظاهر انه لا خلاف في ان ما يبقى من ماء المطر بعد انقطاع المطر حكمه حكم القليل وان كان جاريا. وحكمه مع اختلاف سطوح واستوائها كحكمه كما سيأتي ان شاء الله تعالى (٥).

(الرابع) ـ هل يتقوى الماء الطاهر القليل بماء المطر حال تقاطره ويعصمه من الانفعال بالملاقاة؟ لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر كالجاري مطلقا واما على اعتبار الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما. ورجح بعض متأخري المتأخرين التقوى مع عدم الجريان والكثرة لا من حيث ان ماء المطر كالجاري مطلقا بل من حيث عدم العموم في أدلة انفعال القليل بالملاقاة على وجه يشمل الفرع المذكور.

(الخامس) ـ صرح العلامة (قدس‌سره) في جملة من كتبه بان ماء المطر كالجاري ،

__________________

(١) في الصحيفة ٢١٨ السطر ٦.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٢١٦ السطر ١.

(٣) في الصحيفة ٢١٩ السطر ١٨.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٢١٦.

(٥) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.

٢٢٤

مع انه شرط في الجاري الكرية ، فيلزمه اشتراطها هنا ايضا. واعتذر عنه بأن مراده أنه كالجاري إذا كان كرا. وأورد عليه ان سؤال الفرق متجه ، فلم اشترط الكرية في الجاري دونه. وأجيب بأن الفرق ظاهر ، فإن أدلة انفعال القليل بالملاقاة لا معارض لها على وجه يصلح للمعارضة من اخبار الجاري بخلاف اخبار ماء المطر ، فإنها صريحة في المعارضة ، وهي أخص من تلك الأخبار ، فوجب تقييدها بها ، ومن ثم اشترطت الكرية ثمة دون ما نحن فيه.

وبعض محققي متأخري المتأخرين صرح بان الظاهر من كلام العلامة (رحمه‌الله) اشتراط الكرية في ماء المطر. ولم نقف على ما يقتضي ذلك في كلامه ، بل صريح كلامه في التذكرة يقتضي عدم الاشتراط ، حيث قال : «لو انقطع تقاطر المطر وفيه نجاسة عينية اعتبرت الكرية ، ولا تعتبر حال التقاطر ، ولو استحالت عينها قبل انقطاعه ثم انقطع كان طاهرا وان قصر عن كر» انتهى.

(السادس) ـ استشكل بعض فضلاء متأخري المتأخرين في روايتي الميزابين (١) بان ميزاب البول ان سلم عدم تغييره ميزاب الماء فلا أقل من عدم استهلاكه بميزاب الماء ، فكيف يحكم بطهارة الماء المختلط منهما؟ ثم احتمل حمل الاختلاط على ترشح ميزاب البول الى ميزاب الماء ، فإذا أصاب الثوب لم يكن به بأس ، إذ الماء لم ينجس بذلك ، والترشح من البول لم يعلم اصابته. وايضا قد استهلك في الماء الطاهر فصار طاهرا. ثم استبعده واحتمل القول بان البول يطهر باختلاط ماء المطر وان لم يستهلك ، ثم قال : «وفيه أيضا إشكال» ثم احتمل ايضا رد الروايتين لعدم صحة سندهما.

أقول : لا يخفى ان ما ذكره من الاشكال وان كان في بادئ النظر ظاهر

__________________

(١) وهما صحيحة هشام بن الحكم ورواية محمد بن مروان المتقدمتان في الصحيفة ٢١٥.

٢٢٥

الاحتمال إلا انه ـ بالتأمل في قرائن الأحوال التي كثيرا ما يبتني عليها الاستدلال ـ لا تطرق له في هذا المجال ، فان الظاهر من سيلان ماء المطر من الميزاب كون ذلك عن قوة وكثرة ، ومن سيلان البول الذي هو غالبا إنما يقع ببول شخص كون ذلك قليلا مستهلكا في ماء المطر مع اختلاطه به ، والحمل على بول يقاوم المطر في القوة والكثرة ـ أو يكون أقل منه على وجه لا يستهلكه المطر ـ نادر بل مجرد فرض غير واقع. والأحكام الشرعية إنما تبنى على ما هو المتكرر المتعارف دون الفروض الشاذة النادرة.

الفصل الثاني

في الراكد البالغ كرا فما زاد. وتحقيق القول فيه يقتضي بسطه في مسائل :

(المسألة الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (قدس الله تعالى أرواحهم) ان ما بلغ الكر من الراكد لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة كما تقدم (١) وصريح الشيخ المفيد في المقنعة ـ وهو المنقول عن سلار ـ اختصاص الحكم المذكور بغير الحياض والأواني. والشيخ رضوان الله عليه ـ في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة المتضمنة للحكم المذكور ـ طوى البحث عن التعرض له فضلا عن الاستدلال عليه ، وحمله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين على انه إنما فهم من عبارة المفيد (قدس‌سره) ان مراده إذا نقصت عن كر كما هو الأغلب ، قال : «وهو الظاهر ، لكن المتأخرين فهموا ـ من عبارة المقنعة وكلام سلار ـ أن الأواني والحياض ملحقان مطلقا بالماء القليل كما حكاه العلامة في المختلف» انتهى.

أقول : لا يخفى بعد ما استظهره (قدس‌سره) كما يظهر ذلك لمن لاحظ عبارة المقنعة ، حيث انه إنما ذكر التفصيل بالكرية وعدمها في ماء الغدران والقلبان ، سيما

__________________

(١) في المقالة الثالثة في الصحيفة ١٧٨.

٢٢٦

وقد قرن الحياض والأواني في تلك العبارة بالبئر ، مع ان مذهبه فيها النجاسة وان بلغت كرا ، إلا انه ربما ظهر ذلك من كلام الشيخ أخيرا عند شرح قوله في المقنعة : «والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة ، لم يتوضأ منها ووجب اهراقها» فقال الشيخ (رحمه‌الله) : «يدل على ذلك ما قدمنا ذكره من ان الماء متى نقص عن الكر فإنه ينجس بما يحله من النجاسات ، وإذا ثبت نجاسته فلا يجوز استعماله بلا خلاف» فإنه يدل بظاهره على انه فهم من عبارة المقنعة في الموضعين التخصيص بما نقص عن الكر ، ولعله فهم ذلك من خارج ، وإلا ففهم هذا المعنى من العبارة الاولى في غاية البعد ، لما عرفت. والظاهر ان هذا الكلام هو الحامل لشيخنا المشار اليه على الحمل الذي قدمنا نقله عنه إلا انه لم يشر اليه.

هذا. وظاهر عبارة النهاية أيضا موافقة الشيخ المفيد في الأواني. حيث قال : «والماء الراكد على ثلاثة أقسام : مياه الغدران والقلبان والمصانع. ومياه الأواني المحصورة ، ومياه الآبار. فاما مياه الغدران والقلبان ، فان كان مقدارها الكر فإنه لا ينجسها شي‌ء إلا ما غير لونها أو طعمها أو ريحها ، وان كان مقدارها أقل من الكر فإنه ينجسها كل ما يقع فيها من النجاسة. واما مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شي‌ء من النجاسة أفسدها ولم يجز استعمالها» انتهى ملخصا. ثم ذكر بعد ذلك أحكام البئر.

وأنت خبير بان التفصيل بالكرية وعدمها ـ في القسم الأول وطي الكشح عنه في الثاني ـ ظاهر في الحكم بالنجاسة في الثاني مطلقا ، ولم يتعرض الأصحاب لنقل ذلك عنه في أقوال المسألة.

وحكى جملة من الأصحاب عن الشيخ المفيد وسلار في الاحتجاج على ذلك التمسك بعموم النهي عن استعمال مياه الأواني مع ملاقاة النجاسة. وردوه بان العموم ـ على تقدير ثبوته ـ مخصوص بصورة القلة ، جمعا بين الأخبار والعمومات وان تعارضت من الطرفين ،

٢٢٧

إلا ان الترجيح في تخصيص هذا بذاك (أولا) ـ بقوة دلالة تلك الأخبار الدالة على عدم انفعال مقدار الكر. و (ثانيا) ـ باحتمال البناء في هذا العموم على ما هو الغالب من عدم بلوغ ماء الأواني كرا. ومع ذلك فالحجة المذكورة لا تشمل الحياض ، فتبقى خالية من الدليل.

وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور ، إلا انه روى أبو بصير في الموثق ، قال : «سألته عن كر من ماء ـ مررت به وانا في سفر ـ قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان. قال : لا تتوضأ منه ولا تشرب» (١).

والظاهر حمله على تغير موضع البول فينقص الباقي عن الكر فينجس. وربما حمل على الكراهة. والظاهر بعده.

ثم ان جملة من الأصحاب (٢) ادعوا الإجماع على ان الكثير الواقف لا ينجس بملاقاة النجاسة ، فإن أرادوا بالواقف هو الساكن ، ففيه ما عرفت من خلاف هؤلاء الفضلاء ، وان أريد ما هو أعم منه ومن الجاري لا عن نبع ، ففيه ـ زيادة على ما ذكر ـ ما سيأتي ان شاء الله تعالى في الجاري لا عن نبع (٣) من ذهاب جمع من الأصحاب الى عدم تقوي الأعلى بالأسفل ، حتى أورد عليهم لزوم نجاسة النهر العظيم بملاقاة النجاسة إذا لم يكن فوقها ما يبلغ الكر ، ولهذا ذهب بعض المحدثين من متأخري المتأخرين (٤) الى ان هذا الفرد من الماء يوافق الجاري في بعض الأحكام والراكد في بعض كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى (٥).

(المسألة الثانية) ـ هل يشترط في عدم انفعال الكر بالملاقاة مساواة سطحه الظاهر أم لا؟ قد اضطرب كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام ، لعدم

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) منهم : السيد السند صاحب المدارك في الكتاب المذكور (منه رحمه‌الله).

(٣) في المسألة الثانية من هذا الفصل.

(٤) هو المحدث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره (منه رحمه‌الله).

(٥) في المسألة الثانية من هذا الفصل.

٢٢٨

النصوص الصريحة في ذلك عنهم (عليهم‌السلام).

وبالثاني صرح شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الروض وسبطه السيد السند في المدارك ، قال في الروض بعد كلام في المقام : «وتحرير المقام ان النصوص الدالة على اعتبار الكثرة ـ مثل قوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (١). وكلام أكثر الأصحاب ـ ليس فيه تقييد الكر المجتمع بكون سطوحه مستوية ، بل هو أعم منه ومن المختلفة كيف اتفق» ثم قال بعد كلام طويناه على غره : «والذي يظهر لي في المسألة ـ ودل عليه إطلاق النص ـ ان الماء متى كان قدر كر متصلا ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير ، سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها. الى آخر ما ذكره».

وما نقله (قدس‌سره) عن كلام أكثر الأصحاب فهو ظاهر كلام العلامة في جملة من كتبه ، حيث صرح ـ في مسألة الغديرين الموصل بينهما بساقية ـ بالاتحاد واعتبار الكرية فيهما مع الساقية ، وهو أعم من المستوي والمختلف ، وكذا أطلق القول في الواقف المتصل بالجاري وحكم باتحادهما من غير تقييد ، إلا انه في التذكرة قيده ، حيث قال في مسألة الغديرين : «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا ان اعتدل الماء وإلا في حق السافل ، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة» انتهى.

والمحقق في المعتبر صرح في مسألة الغديرين بما نقلناه عن العلامة (٢) إلا انه قال بعد ذلك بلا فصل : «لو نقص الغدير عن كر فنجس فوصل بغدير فيه كر ، ففي طهارته

__________________

(١) تقدم الكلام فيه في التعليقة ٣ في الصحيفة ١٩١.

(٢) حيث قال : «الفرع الثاني ، الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعهما مع الساقية كرا فصاعدا ، ثم قال : (الثالث) ـ لو نقص الغدير عن كر. الى آخر ما هو منقول في الأصل» (منه قدس‌سره).

٢٢٩

تردد ، والأشبه بقاؤه على النجاسة ، لأنه ممتاز عن الطاهر» انتهى. وهو بظاهره مدافع لما ذكره أولا ، الا ان يحمل كلامه الأول على استواء سطحي الغديرين والثاني على اختلافهما (١).

والشهيد في الدروس قال : «لو كان الجاري لا عن مادة ولاقته النجاسة ، لم ينجس ما فوقها مطلقا ، ولا ما تحتها ان كان جميعه كرا فصاعدا إلا مع التغير» فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع ملاقاة النجاسة إذا كان مجموع الماء يبلغ كرا ولم يشترط استواء السطوح ، ثم قال بعد ذلك بقليل : «لو اتصل الواقف بالجاري اتحدا مع مساواة سطحهما أو كون الجاري أعلى لا بالعكس» فاعتبر في صدق الاتحاد مساواة السطحين أو علو الكثير.

وقال في الذكرى ـ بعد حكمه بأن اتصال القليل النجس بالكثير مماسة لا يطهره (٢) ـ ما صورته : «ولو كانت الملاقاة ـ يعني ملاقاة النجاسة للقليل ـ بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير».

وفي البيان : «لو اتصل الواقف القليل بالجاري واتحد سطحهما أو كان الجاري

__________________

(١) العلامة في المنتهى والتحرير ـ بعد ان صرح في الغديرين بما نقلناه عنه من الاتحاد ـ ذكر انه لو نقص الغدير عن كر فوصل بغدير يبلغ الكر طهر به. وفي التذكرة ـ بعد ان صرح بما نقلناه عنه في المتن ـ ذكر هذا الفرع الثاني واختار البقاء على النجاسة مع مجرد الاتصال واشترط في الطهارة الممازجة. واما المحقق في المعتبر ، فإنه ـ كما نقلنا عنه ـ اختار في الفرع الأول الاتحاد ، وفي الفرع الثاني العدم ، فانقدح الاختلاف بين كلاميه الا ان يحمل على ما ذكرنا في الأصل (منه رحمه‌الله).

(٢) حيث قال : «وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكر مماسة لم يطهر للتمييز المقتضى لاختصاص كل بحكمه ، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال. الى آخر ما هو مذكور في المتن» ولا يخفى عليك ما في هذه الفتاوي من الاضطراب والمخالفة بعضها لبعض (منه رحمه‌الله).

٢٣٠

أعلى اتحدا ، ولو كان الواقف أعلى فلا».

وقال ـ المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف : «لو اتصل الواقف القليل بالجاري لم ينجس بالملاقاة» ـ ما لفظه : «يشترط في هذا الحكم علو الجاري أو مساواة السطوح أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل ، لانتفاء تقويه به بدون ذلك» انتهى. وهو صريح في تقييده إطلاقات العلامة في الوحدة في المسألة بالمساواة أو علو الكثير.

وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم بعد تقدم كلام في المسألة : «هذا ، وليس اعتبار المساواة في الجملة بالبعيد ، لان ظاهر أكثر الأخبار ـ المتضمنة لحكم الكر اشتراطا وكمية ـ اعتبار الاجتماع في الماء وصدق الوحدة والكثرة عليه. وفي تحقق ذلك ـ مع عدم المساواة في كثير من الصور ـ نظر. والتمسك ـ في عدم اعتبارها بعموم ما دل على عدم انفعال مقدار الكر بملاقاة النجاسة ـ مدخول ، لانه من باب المفرد المحلى ، وقد بينا في المباحث الأصولية أن عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حد صيغ العموم ، وانما هو باعتبار منافاة عدم إرادته للحكمة ، فيصان كلام الحكيم عنه. وظاهر ان منافاة الحكمة إنما يتصور حيث ينتفي احتمال العهد ، ولا ريب ان تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية عهد ظاهر. وهو في محل النزاع واقع إذ النص يتضمن السؤال عن الماء المجتمع ، وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه. نعم يتجه ثبوت العموم في ذلك المعهود بأقل ما يندفع به محذور منافاة الحكمة. وربما يتوهم ان هذا من قبيل تخصيص العام بناء على سبب خاص. وهو مرغوب عنه في الأصول. وبما حققناه يعلم انه لا عموم في أمثال موضع النزاع على وجه يتطرق اليه التخصيص» انتهى.

واعترض عليه بان الظاهر في أمثال هذه المواضع التي في مقام تعيين القوانين وتبيين الأحكام هو العموم ، وقد اعترف به ايضا من حيث منافاة عدم إرادته الحكمة

٢٣١

وما ذكره ـ من احتمال العهد باعتبار تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية ـ لا وجه له ، لأن السؤال إنما هو موجود في بعض الروايات ، وكثير من الروايات لا سؤال فيها ، وبعض ما فيه سؤال أيضا لا ظهور له في ان السؤال عن الماء المجتمع الذي لا اختلاف في سطوحه. سلمنا عدم الظهور في العموم. فلا شك في عدم ظهوره في عدمه ايضا ، وعند الشك يبقى الحكم على أصل الطهارة واستصحابها.

أقول : والحكم في المسألة لا يخلو من اشكال ، ينشأ من ان المستفاد من اخبار الكر تقارب اجزاء الماء بعضها من بعض.

كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة إسماعيل بن جابر (١) حين سأله عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء فقال : «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته».

ونحوها من الاخبار الدالة على التقدير بالمساحة.

وصحيحة صفوان (٢) المتضمنة السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، حيث سأل (عليه‌السلام) فقال : «وكم قدر الماء؟ قال : قلت : الى نصف الساق والى الركبة وأقل. قال : توضأ».

ويؤيده ايضا ان الكر ـ الذي وقع تحديد الماء الذي لا ينفعل به ـ عبارة في الأصل عن مكيال مخصوص يكال به الطعام ، جعلوه (عليهم‌السلام) معيارا لما لا ينفعل من الماء بالملاقاة.

ويؤيده ايضا ان مع تقارب اجزاء الماء تتوزع النجاسة عليه وتنتشر فتضعف بذلك ، وانه بتقارب اجزائه يتقوى بعضها ببعض.

ويؤيده ايضا ان ذلك متفق عليه ومعلوم قطعا من الاخبار ، وما عداه في محل الشك. لعدم ظهور الدليل عليه من الاخبار ، وذهاب بعض الأصحاب إليه.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

٢٣٢

والتمسك بأصالة الطهارة هنا ضعيف ، لما حققناه سابقا (١) من ان أفراد الكلية القائلة : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر». إنما هي الأشياء المقطوع بطهارتها شرعا والمعلومة كذلك بالنسبة إلى الأشياء المقطوع بنجاستها شرعا والمعلومة كذلك ، فإنه لا يحكم بخروج بعض أفراد الأول إلى الثاني إلا بعلم ويقين. والغرض منه ـ كما عرفت ـ هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك ، وعدم معارضتها للعلم واليقين الثابت أولا وان الماء من افراده ما هو طاهر يقينا وهو ظاهر ، ومنه ما هو نجس يقينا وهو القليل المعلوم ملاقاة النجاسة له ، فالكلية المذكورة قد أفادت انه لا يخرج عن الحكم الأول الى الثاني إلا بعلم ويقين. وهذا الماء المختلف السطوح ـ إذا كان قدر كر ولاقت النجاسة بعض اجزائه ـ ليس بمقطوع على طهارته ولا على نجاسته بل هو مشكوك فيه.

وبالجملة فالشك المنفي في مقابلة يقين الطهارة هو ما كان شكا في عروض النجاسة لا شكا في سببية النجاسة.

والتمسك بالاستصحاب إنما هو فيما إذا دل الدليل على الحكم مطلقا كما هو التحقيق في المسألة. وهو في موضع البحث ممنوع ، لما عرفت. ودلالته عليه قبل عروض النجاسة لا تقتضي انسحاب ذلك الى ما بعده إلا بدليل آخر ، لتغاير الحالين.

وينشأ من إطلاق الاخبار بان بلوغ الماء كرا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة. والاخبار الدالة على التحديد بالمساحة وان أفهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه إلا انه ، ان أخذ الاجتماع فيها على الهيئة التي دلت عليها فلا قائل به إجماعا ، وان أخذ الاجتماع الذي هو عبارة عن مجرد تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا. مع معارضته بظهور احتمال محض التقدير كما تضمنته أخبار التقدير بالوزن. وباقي الوجوه المذكورة وان تضمنت نوع مناسبة لذلك إلا ان الظاهر انها لا تصلح لتأسيس حكم شرعي.

__________________

(١) في الصحيفة ١٩٠ السطر ٢.

٢٣٣

فمجال التوقف في الحكم المذكور لما ذكرنا بين الظهور ، والاحتياط لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فعلى تقدير عدم اشتراط المساواة والاكتفاء بمجرد الاتصال فهل يكفي الاتصال مطلقا وان كان بالتسنم من ميزاب ونحوه ، أو يشترط في الاختلاف التخصيص بالانحدار لا التسنم؟

ظاهر السيد السند في المدارك الأول ، ونقله ايضا عن جده (قدس‌سرهما) في فوائد القواعد (١) وتبعه بعض فضلاء متأخري المتأخرين ، وإطلاق عبائر جملة من لم يشترط التساوي ربما يشمله. لكن قد عرفت ـ فيما تقدم في المقالة الثامنة (٢) في حكم ماء الحمام ـ انهم جمعوا ـ بين إطلاق القول بكرية المادة وإطلاق القول في الغديرين ـ بحمل الإطلاق الأول على ما إذا كان اتصال الماء بطريق التسنم والثاني على ما إذا كان الغديران متساويين أو مختلفين بطريق الانحدار. وهو كما ترى يؤذن بكون الاتصال بطريق التسنم ينافي الوحدة كما حققناه ثمة. والجواب ـ بان اعتبار الكرية في المادة لا لأجل عدم انفعال الحوض الصغير بالملاقاة ، بل ليكون حكم المادة حكم الماء الجاري أو لتطهير الحوض الصغير بعد نجاسته بإجراء المادة اليه واستيلائها عليه ـ مردود بما وقع التصريح به من اشتراط الزيادة على الكرية في تطهير الحياض كما تقدم بيانه (٣) مع

__________________

(١) قال (قدس‌سره) ـ بعد نقله عن المعتبر والمنتهى إطلاق الحكم في الغديرين ـ كما قدمنا نقله عنهما ـ المقتضى لعدم الفرق بين متساوي السطوح ومختلفها ـ ما لفظه : «وينبغي القطع بذلك إذا كان جريان الماء في أرض منحدرة ، لاندراجه تحت عموم قوله (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» فإنه شامل لمتساوى السطوح ومختلفها ، وانما يحصل التردد فيما إذا كان الأعلى متسنما على الأسفل بميزاب ونحوه ، لعدم صدق الوحدة عرفا. ولا يبعد التقوى في ذلك ايضا كما اختاره جدي (قدس‌سره) في فوائد القواعد عملا بالعموم. انتهى. (منه رحمه‌الله).

(٢) في الأمر الأول في الصحيفة ٢٠٧.

(٣) في الأمر الثالث في الصحيفة ٢١١.

٢٣٤

اتفاقهم أولا على اشتراط الكرية في المادة ، ومن الظاهر حينئذ ان هذا الاشتراط الأول إنما هو لعصمة الحياض الصغار عن الانفعال بالملاقاة (١).

ثم انه على تقدير جواز الاختلاف فلا إشكال في تقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر لو اختلفت السطوح كما صرحوا به ، إذ مقتضى الوحدة ذلك.

وعلى تقدير اشتراط التساوي فقد صرح جملة من القائلين به بأنه لو اتصل القليل بالكثير وكان الكثير أعلى فإن الأسفل يتقوى به دون العكس ، كما سلف في كلام المحقق الشيخ علي (٢) والشهيد في الذكرى والدروس والبيان (٣) وكذلك كلام العلامة في التذكرة (٤) وظاهر كلام المحقق ايضا كما حكيناه (٥).

وعلل المحقق الشيخ علي عدم تقوي الأعلى بالأسفل بأنهما لو اتحدا في الحكم للزم تنجيس كل أعلى متصل بأسفل مع القلة. وهو معلوم البطلان. وحيث لم ينجس بنجاسته لم يطهر بطهارته.

وأجاب في المدارك بان الحكم ـ بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ المجموع منه ومن الأسفل الكر ـ انما كان لاندراجه تحت عموم الخبر ، وليس في هذا ما يستلزم نجاسة الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه. مع ان الإجماع منعقد على ان النجاسة

__________________

(١) وملخص ما ذكروه ان عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكر مع تساوى سطح الماء بحيث تصدق عليه الوحدة عرفا ، أو باتصاله بمادة هي كر فصاعدا بشرط علوها ، قالوا : ولا يعتبر استواء السطوح في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما تحتها لصدق المادة الكثيرة مع الاختلاف. نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادة بعينها (منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ٢٣١.

(٣) في الصحيفة ٢٣٠.

(٤ و ٥) المتقدم في الصحيفة ٢٢٩.

٢٣٥

لا تسرى إلى الأعلى مطلقا. ثم ألزمهم أن ينجس كل ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وان كان نهرا عظيما. وهو معلوم البطلان.

أقول : الظاهر ان مقصود المستدل أن تقوي الأعلى بالأسفل لا دليل عليه إلا الاندراج تحت روايات الكر. والاندراج ليس بمسلم ، وإلا لزم تنجس الأعلى بنجاسة الأسفل (١) وحينئذ ففيه دلالة على ان حكمه بتقوي الأسفل بالأعلى ليس مبنيا على الاندراج المذكور. وبذلك يتضح ان الجواب المذكور غير متوجه. إلا انه قد أورد على ما ذكروه من تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس (٢) بأنه ان كان مبنيا على الاندراج تحت العموم ، فالمستفاد من روايات الكر تساوي اجزائه في حكمي الطهارة والنجاسة ، فاجزاؤه متقوية بعضها ببعض (٣) وان كان مبنيا على إطلاق المادة في باب البئر ، وكذا المادة الواردة في حياض الحمام ، وانها يحصل بها التقوى وان كانت أقل من كر ، فكذلك الأعلى ههنا ، فإنه مادة لما سفل عنه ، فيتقوى الأسفل به دون العكس ، ففيه (أولا) ـ انه لا حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المجموع. و (ثانيا) ـ انه مناف لما مر من اعتبارهم الكرية في مادة الحياض. وان كان مبنيا على تقوي اجزاء الماء الساكن بعضها ببعض ، فيلزمه ـ من باب مفهوم الموافقة ـ تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس ، فيتوجه عليه ان العلة في تقوي اجزاء الساكن بعضها ببعض هو توزع النجاسة وانتشارها على اجزائه لسكونها وتقاربها ، فتكون النجاسة مضمحلة فيه. والنجاسة

__________________

(١) لأن الأعلى والأسفل متى كانا واحدا المقتضى دخولهما تحت عموم روايات الكر فلو نقصا جميعا عن الكر لزم تنجس الأعلى بنجاسة الأسفل تحقيقا للوحدة ، كما ان الماء القليل المجتمع إذا لاقته نجاسة نجس جميعه ، وهو باطل قطعا ، والا لتعذر التطهير بالصب من الأواني القلية الماء كالإبريق ونحوه (منه رحمه‌الله).

(٢) هذا الإيراد للمحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على المدارك (منه قدس‌سره).

(٣) فلا ينجس بعض منه دون بعض (منه رحمه‌الله).

٢٣٦

الواقعة في الصورة المفروضة لم تتوزع على المجموع كما في الساكن ، فلا يتم كون تقوي الأسفل بالأعلى من باب الموافقة. وان كان مبنيا على وجه آخر فلا بد من إيراده لننظر في صحته وفساده.

أقول : بل الظاهر انه مبني على ما ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم (١) من ان الوجه فيه ان المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادة له ، ولا ريب ان تأثير المادة إنما هو باعتبار إفادتها الاتصال بالكثرة ، وليس الزائد منها على الكر بمعتبر في نظر الشارع ، فيرجع حاصل المقتضي الى كونه متصلا بالكر على جهة جريانه اليه واستيلائه عليه ، وهذا المعنى بعينه موجود فيما نحن فيه ، فيجب ان يحصل مقتضاه. ويؤيد ذلك حكم ماء الحمام ، فانا لا نعلم من الأصحاب مخالفا في عدم انفعاله بالملاقاة مع بلوغ المادة كرا ، والاخبار الواردة فيه شاهدة بذلك ايضا ، وليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل في ذلك. انتهى.

وأنت خبير بما فيه (اما أولا) ـ فلان ما ذكره ـ من ان المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادة له ـ إشارة إلى التعليل الذي تضمنته صحيحة محمد ابن إسماعيل بن بزيع (٢) ولا يخفى ما فيه كما تقدم التنبيه عليه في المقالة الرابعة من الفصل الأول (٣).

__________________

(١) قال (قدس‌سره) في الكتاب المذكور ـ بعد الكلام في الاستدلال على اعتبار المساواة بما قدمنا نقله عنه في متن الكتاب ـ : «فان قلت هذا الاعتبار يقتضي انفعال غير المستوي مطلقا ، مع ان الذاهبين الى اعتبار المساواة مصرحون بعدم انفعال القليل المتصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى ـ وقد سبق نقله عن البيان والذكرى ـ فما الوجه في ذلك؟ وكيف حكموا بالاتحاد مع علو الكثير ونفوه في عكسه؟ والمقتضى للنفي على ما ذكرت موجود فيهما قلت : لعل الوجه» ثم ساق الكلام كما نقلناه في متن الكتاب (منه رحمه‌الله).

(٢) المتقدمة في الصحيفة ١٨٨.

(٣) في الصحيفة ١٨٩ السطر ٧.

٢٣٧

و (اما ثانيا) ـ فلان قوله : «ليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل» إنما يتم على القول المشهور من اشتراط الكرية في المادة. واما على القول بعدم الاشتراط كما هو الظاهر من الاخبار على ما حققناه سابقا (١) يكون الحكم مقصورا حينئذ على موضع النص.

و (اما ثالثا) ـ فلأن العلامة مع اشتراطه في المنتهى والتذكرة وغيرهما كرية المادة توقف في الكتابين المذكورين في إلحاق الحوض الصغير ذي المادة في غير الحمام به ، وبذلك يظهر ان ما ذكره أولئك الفضلاء من الفرق (٢) لا يخلو من المناقشة.

ثم لا يخفى عليك ايضا انه بعد تسليم عموم انفعال القليل بالملاقاة واشتراط التساوي في اجزاء الكر فإخراج هذا الفرد من البين تحكم محض. وتعليل صاحب المعالم قد عرفت ما فيه. اللهم إلا ان يخص منع تقوي الأعلى بالأسفل بما إذا كان الأعلى متسنما على الأسفل بميزاب ونحوه ، فان ثبوت الاتحاد وشمول العموم في المسألة لمثل ذلك في غاية البعد.

واما الإلزام الذي ذكره في المدارك ـ بنجاسة كل ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وان كان نهرا عظيما (٣) وهو معلوم البطلان ـ فيمكن

__________________

(١) في الموضع الثالث في الصحيفة ٢٠٤.

(٢) بين الأعلى والأسفل فيتقوى الأسفل بالأعلى دون العكس (منه رحمه‌الله).

(٣) لأن الأعلى متى كان أقل من كر لم يفد ما تحته تقوية فينجس الموضع ، وما تحته ايضا لكونه أسفل لا يفيده تقوية ، لعدم تقوى الأعلى بالأسفل كما هو مفروض. ويلزم أيضا نجاسة ما تحته ، لعدم تقوية ما سفل عنه ، فينجس ما سفل بالسراية شيئا فشيئا ، لعدم تقوى شي‌ء من تلك الأجزاء المتنجسة بالسراية بما انحدر عنه ، فلو لم يتقو الأعلى بالأسفل لزم نجاسة جميع ما جاور النجاسة لا المنتهى السفلى وان كان نهرا عظيما ، مع حكمهم بعدم النجاسة (منه رحمه‌الله).

٢٣٨

الجواب عنه بما ذكره في المعالم من التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجردها قال : «لعدم الدليل عليه ، إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب ، وليس مجرد الاتصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر الشارع ، والا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل ، لصدق الاتصال حينئذ ، وهو منفي قطعا ، وإذا لم يكن الاتصال بمجرده موجبا لسريان الانفعال فلا بد في الحكم بنجاسة البعيد من دليل. نعم جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل اليه ، فإذا استوعب الاجزاء المتجددة ينجسها وان كثرت. ولا بعد في ذلك ، فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل ، فكما انه ينجس بملاقاة النجاسة له وان قلت وكان مجموعه في نهاية الكثرة فكذا هذه» انتهى. وأورد عليه (١) انه ـ بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مع الاجتماع والتقارب ـ لا شك انه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور ، لأن النجاسة ملاقية لبعضه وذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه وهكذا ، فينجس الجميع إذ الظاهر ان القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرقون بين النجاسة والمتنجس. وما ذكره من ان مجرد الاتصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل ، ففيه انه مخصص عن العموم بالإجماع ، فإلحاق ما عداه به مما لا دليل عليه بل قياس لا نقول به. على ان الفارق ايضا موجود كما ذكره بعض من عدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى.

وأنت خبير بان المفهوم من كلام المجيب المذكور اختصاص كل جزء من اجزاء الماء الجاري لا عن نبع بحكم نفسه ، وانه في حكم المياه القليلة المنفصل بعضها عن بعض لهرب السابق عن اللاحق ، كما ينادي به قوله : «فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل» وحينئذ فلا تقوي بين اجزائه ولا سراية ، ومجرد الاتصال لا يوجب

__________________

(١) المورد هو الفاضل الخوانساري (رحمه‌الله) في شرح الدروس (منه رحمه‌الله).

٢٣٩

السراية ، وإلا لسرت النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، لحصول الاتصال. ودعوى الإجماع على التخصيص مجازفة في أمثال هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع موارد الإجماعات. وعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى كما ذكره المورد مؤيد لما ذكرنا من كون كل سابق بالنسبة الى لاحقه بمنزلة المنفصل عنه ، ومن هنا ذهب المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) الى ان الماء الجاري لا عن مادة غير ملحق بالراكد مطلقا كما ذكره جمع من الأصحاب ، بل يلحق في بعض أحكامه بالجاري وفي بعض آخر بالراكد ، قال (قدس‌سره) بعد كلام في المقام ، وملخصه تقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا وعدم السراية أصلا ، لعدم الدلالة عليها كما سبق نقلا عن المحقق المذكور : «وعلى هذا الاحتمال حكم الجاري لا عن نبع حكم الجاري عن نبع في تقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا. وحكم الماء الساكن القليل في نجاسة أول جزء منه بملاقاة النجاسة وان كان المجموع كرا فصاعدا. ومما يؤيد الاحتمال الذي ذكرناه ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) : «ماء الحمام بمنزلة الجاري» (١). وما روي عنهم (عليهم‌السلام) ايضا : «ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» (٢). وجه التأييد عدم تقييد الجاري والنهر بالنابع ، وعدم تقييد ماء الحمام بكرية مادته أو كرية المجموع. ومما يؤيده أيضا إطلاق المادة الواردة في ماء البئر والواردة في ماء الحمام. والله اعلم» انتهى. وللمناقشة في بعض ما ذكره (قدس‌سره) مجال.

هذا. وينبغي ان يعلم ان الحكم بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر وعدم انفعال الماء بعروض النجاسة ـ سواء عرضت للأعلى أو الأسفل ـ إنما هو فيما إذا كان عروض النجاسة بعد الاتصال. اما قبله فالظاهر انه لا شك في النجاسة إذا كان ما لاقته أقل

__________________

(١ و ٢) المتقدم في الصحيفة ٢٠٣ السطر ٤.

٢٤٠