الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

(المقالة السابعة) ـ قد عرفت (١) ان الجاري مطلقا بناء على المشهور لا ينجس إلا بتغيره ، وحينئذ فطهره ـ على ما صرح به الأصحاب من غير خلاف فيه بينهم ـ بتدافع الماء من المادة وكثرته عليه حتى يستهلكه ويزول التغير ، هذا ان اشترطنا في تطهير الماء الامتزاج كما هو أحد القولين ، وان اكتفي بمجرد الاتصال كما هو القول الآخر اكتفي بمجرد زوال التغير ، لمكان المادة ، وبذلك صرح جمع من متأخري المتأخرين منهم : السيد في المدارك.

ونقل عن بعض الأصحاب انه بناء على القول الأخير يتوقف طهره هنا على التدافع والكثرة ، نظرا الى ان الاتصال المعتبر في التطهير هو الحاصل بطريق العلو أو المساواة وذلك بالنسبة إلى المادة غير متحقق ، لأنها باعتبار خروجها من الأرض لا تكون إلا أسفل منه (٢) وفي التعليل منع ظاهر.

واعلم انا لم نقف في شي‌ء من الاخبار على تطهير الماء النجس سوى ما ورد في البئر وفي باب الحمام.

ويمكن الاستدلال هنا على الطهارة بالوجه المذكور بما رواه ثقة الإسلام في الكافي (٣) عن ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ان ماء الحمام

__________________

(١) في المقالة الرابعة في الصحيفة ١٨٧.

(٢) والظاهر انه الى هذا القول يميل كلام المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في كتاب المعالم ، حيث قال ـ بعد نقل القول المذكور ونقل القول بالاكتفاء بمجرد زوال التغير ـ ما صورته : «والتحقيق انه ان كان للمادة نوع علو على الماء النجس أو مساواة فالمتجه الحكم بالطهارة عند زوال التغير بناء على الاكتفاء بالاتصال ، وإلا فاشتراط التكاثر والتدافع متعين» انتهى. وهو ذلك القول بعينه الا ان فيه استدراكا على ذلك القائل ، حيث ان ظاهر كلامه ان المادة لا تكون إلا أسفل وأوجب التدافع والتكاثر ، مع ان المادة قد تكون أعلى أو مساوية بأن تكون في أرض مرتفعة كما ذكر المحقق المذكور (منه رحمه‌الله).

(٣) في الباب ـ ١٠ ـ من كتاب الطهارة وفي الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

٢٠١

كماء النهر يطهر بعضه بعضا».

هذا على تقدير القول المشهور. واما على ما ذهب إليه العلامة من اشتراط الكرية في عدم الانفعال ، ففيه إشكال ، لأنه متى تغير الجاري على وجه لا يبلغ الباقي كرا فلا يطهر إلا بمطهر من خارج ، لان ما يخرج بالنبع لا يكون إلا قليلا فينفعل بالملاقاة بعد خروجه ، وهكذا فيما يخرج دفعة ثانية وثالثة وهكذا ، فلا يتصور حصول الطهارة به وان استهلك المتغير ، لان الاستهلاك بماء محكوم بنجاسته كما عرفت.

وقد أطلق (قدس‌سره) في كتبه طهارة الجاري المتغير بتكاثر الماء وتدافعه حتى يزول التغير ، وعلله في المنتهى والتذكرة بأن الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه ، والمتغير مستهلك فيه (١) وأنت خبير بما فيه ، قال ـ بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد إيراد ذلك على قوله ـ «ويمكن ان يجعل هذا من جملة الأدلة على بطلان تلك الدعوى» انتهى.

(المقالة الثامنة) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان حكم ماء الحمام كالجاري إذا كان له مادة ، قالوا : والمراد بماء الحمام يعني ما في حياضه الصغار. ثم اختلفوا في اشتراط الكرية في المادة وعدمه ، وحينئذ فالبحث هنا يقع في مواضع ثلاثة :

__________________

(١) ويظهر ـ من كلام العلامة (ره) في حكم تغير البئر ـ انه يرى تعين النزح وان أمكن إزالة التغير بغيره ، وحمله بعضهم على انه ناظر الى اشتراط الكرية في عدم انفعاله بكونه من جملة أنواع الجاري الذي يعتبر فيه الكرية ، فلا تصلح المادة بمجردها للتطهير حيث يزول التغير ، قال في المعالم بعد نقل ذلك : «ولا يذهب عليك ان حكمه ـ بحصول الطهارة بمثل النزح في مطلق الجاري الذي هو العنوان في الاشتراط ـ يباين هذا الحمل وينافيه ، ولو نظر الى ذلك في حكم البئر لكان مورد الشرط اعنى مطلق الجاري أحق بهذا النظر» انتهى (منه رحمه‌الله).

٢٠٢

(الأول) ـ في بيان كونه كالجاري ، والظاهر ان المراد من التشبيه عدم نجاسة ما في حياضه الصغار بالملاقاة عند الاتصال بالمادة.

ويدل على أصل الحكم صحيحة داود بن سرحان (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : ما تقول في ماء الحمام؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاري».

ورواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «قلت : أخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال : ان ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا».

ورواية بكر بن حبيب عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة».

وما رواه في كتاب قرب الاسناد (٤) عن إسماعيل بن جابر عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) قال : ابتدأني فقال : «ماء الحمام لا ينجسه شي‌ء».

وما في كتاب الفقه الرضوي (٥) قال (عليه‌السلام) : «وماء الحمام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادة».

وربما أمكن تطرق الإشكال الى هذا الاستدلال بان ذلك لا يتم إلا بعد معرفة الحيضان التي كانت في زمنهم (عليهم‌السلام) على اي كيفية كانت؟ إذ الظاهر ان الأسئلة كانت عن ماء الحمام المعهود عندهم ، سيما ان أصل الإضافة للعهد ، لكن لا يخفى ان ضم الأخبار المشتملة على اشتراط المادة الى الأخبار الباقية يعطي بظاهره

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٤) في الصحيفة ١٢٨ السطر ٩ من المطبوع بطهران سنة ١٣٧٠ ، وفي الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٥) في الصحيفة ٤ السطر ٣٢.

٢٠٣

ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من ان المراد بماء الحمام ما في حياضه الصغار التي لا تبلغ الكر ، والمادة عبارة عن الحوض الكبير الذي يجري منه الماء الى الحياض الصغار ، ولهذا تضمن الخبر الأخير (١) اشتراط مشابهة الجاري بوجود المادة له ، ورواية بكر بن حبيب (٢) نفي البأس عنه بشرط المادة. والمراد في الخبرين اتصالها به إذ مع عدمه يلحقه حكم القليل حينئذ.

ومما ذكرنا علم الكلام في الموضع الثاني أيضا.

واما الموضع الثالث فالمشهور بين الأصحاب اشتراط الكرية في المادة استنادا إلى انه مع عدم الكرية يدخل تحت القليل فينفعل بالملاقاة.

وذهب المحقق في المعتبر الى عدم اعتبار كثرة المادة وقلتها ، لكن لو تنجس ما في الحياض لم يطهر بمجرد جريانها اليه (٣).

ويدل عليه إطلاق صحيحة داود بن سرحان (٤) فان جعله بمنزلة الجاري كالصريح في عدم اشتراط الكرية ، وإطلاق رواية بكر بن حبيب (٥) فان المادة فيها أعم من كونها كرا أو دونه.

وأجيب عن الاولى بعدم التعرض فيها للمادة ولا للقلة والكثرة. واما الثانية

__________________

(١) وهو حديث الفقه الرضوي المتقدم في الصحيفة ٢٠٣ السطر ١٢.

(٢ و ٥) المتقدمة في الصحيفة ٢٠٣ السطر ٨.

(٣) ظاهر كلام المحقق (ره) ان عدم اعتبار قلة المادة وكثرتها مع اتصالها بالحوض الصغير إنما هو لعدم انفعال المجموع بما يلاقيه من النجاسة ، وانه كالجاري لذلك وان قل الجميع عن الكر. اما لو انفصلت المادة عن الحوض فتنجس ماء الحوض ، لم يطهر بمجرد اجراء تلك المادة إليه بل لا بد من كريتها حينئذ ، ويكون حكم الحمام حينئذ حكم غيره من الماء القليل إذا أريد تطهيره ، فإنه لا بد من إلقاء الكر عليه دفعة على ما في ذلك من التفاصيل الآتية (منه قدس‌سره).

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٢٠٣ السطر ٣.

٢٠٤

فبضعف السند أولا ، وحمل إطلاق المادة فيها على ما هو الغالب من أكثرية المادة كما هو الآن موجود ، أو إرادة الكثرة من لفظ المادة لاشعارها بذلك. ولئن سلمنا العموم في كلا الخبرين فلا ريب ان عموم اشتراط الكرية أقوى دلالة فيجب تخصيص هذا العموم به.

ويرد على ذلك ان عدم التعرض للمادة والقلة والكثرة لا ينفي صحة الاستدلال بالخبر باعتبار عمومه ، وتنزيله منزلة الجاري في الخبر المذكور أخرجه عن حكم القليل ، فلا يلزم من الحكم بانفعال القليل بالملاقاة الحكم بانفعاله ، فإنه كما خرج ماء الاستنجاء وماء المطر عن قاعدة الماء القليل بنص خاص ، فكذا ماء الحمام ينبغي خروجه بمقتضى النص المذكور. نعم يخرج منه القليل الذي لم يتصل بالمادة أصلا بناء على القول بنجاسة القليل بالملاقاة بإجماع القائلين بذلك عليه ، ويبقى غيره داخلا في عموم الخبر.

وبالجملة فهذه الروايات أخص موضوعا من الروايات الدالة على انفعال القليل بالملاقاة ، ومقتضى القاعدة تخصيص تلك بهذه لا العكس.

واما ضعف السند في الرواية الثانية (١) فيدفعه جبر ذلك بعمل الأصحاب كما هو مقرر بينهم ، وكلا الأمرين اصطلاحيان. والحمل على الغالب خلاف الظاهر وخلاف مدلول تلك الصحيحة المذكورة (٢).

والى هذا القول (٣) مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم (٤).

__________________

(١) وهي رواية بكر بن حبيب المتقدمة في الصحيفة ٢٠٣ السطر ٨.

(٢) وهي صحيحة داود بن سرحان المتقدمة في الصحيفة ٢٠٣ السطر ٣.

(٣) وأيد هذا القول بعضهم بالعمومات الدالة على طهارة مطلق الماء ، والعمومات الدالة على طهارة مطلق الماء ما لم يتغير (منه رحمه‌الله).

(٤) منهم : شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين ، فإنه نفى عنه البعد وأيده بنحو ما ذكرنا ، والمحدث الكاشاني في الوافي ، والمحدث الأسترآبادي في تعليقاته على المدارك ، والفاضل الخراساني في الذخيرة والكفاية (منه قدس‌سره).

٢٠٥

وربما بنى ذلك بعضهم على قاعدة الفرق في نجاسة الماء القليل بين ورود النجاسة عليه ووروده على النجاسة ، فحكم هنا بعدم النجاسة من حيث ورود الماء على النجاسة ، وجعل ذلك هو السر في عدم تنجس ماء الحمام بمجرد الملاقاة وفي طهارة ماء الاستنجاء ، قال : «فلا حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المادة بل ولا كرية المجموع من المادة وما في الحوض والماء النازل» ثم اعترض على نفسه بأن النجاسة ههنا واردة على ماء الحوض وأجاب بأن المفروض ورود الماء من المادة على ماء الحوض وتسلطه على ماء الحوض وعلى ما يصيبه من القذر ، فلم تكن النجاسة واردة على ما هو حافظ لطهارة ماء الحوض بل الأمر بالعكس ، ثم قال : «وقد اتضح مما ذكرناه ان على مذهب من يخص تنجيس القليل بصورة ورود النجاسة عليه يتجه القول بعدم اشتراط الكرية في مادة الحمام» انتهى.

و (فيه أولا) ـ انه ان استند في استثناء ماء الحمام من قاعدة تنجس القليل بالملاقاة الى هذه الأخبار فهي لا اشعار فيها بهذا التخصيص ، بل مقتضى ظاهر التشبيه بالجاري هو عدم الانفعال مطلقا ، وكذا ظاهر نفي البأس مع وجود المادة ، وكذا ظاهر قوله في رواية قرب الاسناد (١) : «لا ينجسه شي‌ء». فان ذلك كله يدل بظاهره على عدم انفعاله بالملاقاة كيف كانت.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره إنما يتم لو كان الماء الجاري من المادة إلى الحوض الصغير آتيا عليه من أعلاه. اما لو كان آتيا من أسفله كما هو معمول في كثير من الحياض فلا يتم ما ذكره. مع ان ورود المادة على الحوض الصغير أعم من ان يكون من جهة العلو أو السفل.

و (ثالثا) ـ انه لا يظهر حينئذ للتشبيه بالجاري هنا مزية ، إذ متى كان

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٢٠٣ السطر ١٠.

٢٠٦

حكمه حكم الماء القليل في تنجسه بورود النجاسة عليه دون وروده عليها ـ كما هو مختاره في الماء القليل مطلقا ـ فأي ثمرة لهذا التشبيه؟ فان ما ذكره حكم عام للماء القليل بجميع افراده وهذا أحدها ، بل الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه أعلم ـ من تلك الأخبار المتقدمة (١) ـ الدال بعضها على انه كالجاري مطلقا ، وبعضها انه كماء النهر يطهر بعضه بعضا ، وبعضها انه لا ينجسه شي‌ء مطلقا وان دل دليل من الخارج على تخصيصه بالتغير بالنجاسة ، وبعضها على نفي البأس عنه بشرط المادة ـ ان لماء الحمام خصوصية يمتاز بها عن مطلق الماء القليل ، وليس ذلك إلا باعتبار عدم انفعاله بالملاقاة وان قل ، بخلاف مطلق الماء القليل ، وان خص انفعال مطلق القليل بورود النجاسة عليه دون العكس ، كما اختاره القائل المذكور وفاقا لمن سبقه في ذلك ايضا ، فلا بد هنا من اعتبار عدم الانفعال مطلقا مع القلة ـ ورد على النجاسة أو وردت عليه ـ تحقيقا للخصوصية المميزة المستفادة من تلك الاخبار.

وينبغي التنبيه هنا على أمور :

(الأول) ـ هل يشترط بناء على القول بكرية المادة بلوغ المادة وحدها كرا لتعصم ما في الحياض عن الانفعال بالنجاسة بعد الاتصال ، أو يكفي بلوغ المجموع منها ومما في الحياض كرا مع تواصلهما مطلقا؟

ظاهر أكثر المتأخرين ـ حيث أطلقوا القول بكرية المادة ـ الأول ، مع انهم أطلقوا القول بان الغديرين إذا وصل بينهما بساقية وكان مجموعهما مع الساقية كرا ، لم ينفعلا بملاقاة النجاسة. وذلك يقتضي أن يكون حكم الحمام أغلظ ، مع انه ليس كذلك ، لما عرفت من الأخبار المتقدمة (٢).

__________________

(١ و ٢) في الصحيفة ٢٠٣.

٢٠٧

وربما أجيب بأن إطلاق القول بكرية المادة في الحمام محمول على ما إذا لم يكونا متساويين بناء على الغالب من علو المادة ، فاما مع التساوي فيكفي بلوغ المجموع كرا ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب التصريح بالتفصيل المذكور ، ثم قال : «وهو الأجود» وإطلاق القول في الغديرين محمول على المتساويين.

ورد بأن العلامة أيضا قد صرح في الغديرين المختلفين بتقوي الأسفل بالأعلى.

وأجيب عنه يحمل الاختلاف في الصورة المذكورة على ما إذا كان بطريق الانحدار دون التسنم من ميزاب ونحوه. والغالب في الحمام هو الثاني ، وحينئذ فإطلاق القول في الغديرين محمول اما على التساوي أو على الاختلاف الحاصل بالانحدار ، فإنه متى كان كذلك لم ينفعل شي‌ء منهما. وإطلاق القول في الحمام محمول على الاختلاف الحاصل بالتسنم من ميزاب ونحوه (١).

ولا يخفى ما في هذه التقييدات من التكلف والتمحل ، وكأن محصل الفرق المذكور على هذا التقرير دخول الماء المتساوي السطوح والمختلف على وجه الانحدار في الاخبار الدالة على عدم نجاسة الكر بالملاقاة ، ومرجعه الى حصول الوحدة في الماء على وجه يكون داخلا تحت تلك الاخبار. واما إذا كان متسنما من ميزاب ونحوه فإنه ليس كذلك فلا يدخل تحت تلك الاخبار. فاعتبرت كرية المادة في الحمام لكون إتيانها

__________________

(١) وأجاب بعض متأخري الأصحاب بأن إطلاق الأصحاب اشتراط كرية المادة مبنى على الغالب من كثرة الأخذ من ماء الحوض ، فلو لم تكن المادة وحدها كرا لنقص بالأخذ وانفعل ، والا فالإجماع قائم على انه يكفى بلوغ المجموع كرا وان اختلفت السطوح ولا يخفى ما فيه حق ان صاحب المعالم عده من المجازفات العجيبة. وبعض آخر عد إطلاق اشتراط الكرية في المادة قولا مغايرا للتفصيل باستواء السطوح وعدمه ، ومقتضى ذلك وجود القائل باشتراط كرية المادة وحدها وان استوت السطوح. ولا يخفى ما بين القولين المذكورين من التباعد (منه رحمه‌الله).

٢٠٨

على الحياض على ذلك الوجه المقتضي لعدم اتحادها مع ما في الحياض ، ولا يخفى ما في هذا التقييد من المخالفة لإطلاق النص وإطلاق كلام الأصحاب.

فالتحقيق هو ما قدمنا (١) من عدم اعتبار كرية المادة ، وان هذا الحكم خارج بالنص ، فلا يحتاج الى ارتكاب هذه التمحلات. على انه قد صرح المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) بان المستفاد من روايات باب الكر تقوي كل جزء منه بالباقي ، قال : «وهذا المعنى موجود في الساكن دون غيره. لعدم تقوي الأعلى بالأسفل في غير الساكن ، بل اعتبر الشيخ المحقق ابن العالم الرباني الشهيد الثاني (رحمهما‌الله تعالى) في كتاب المعالم تقارب اجزاء الماء كما تشعر به روايات هذا الباب ليحصل التقوى المذكور ، فان مع تقارب اجزاء الماء النجاسة الواردة عليه تنتشر وتتوزع عليها». انتهى. كلامه (زيد مقامه).

وأجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن الغرض من اشتراط الكرية في المادة وحدها لتطهير الحوض الصغير لا لمجرد عدم انفعالها.

ونقل ـ السيد في المدارك عن جده في فوائد القواعد ـ الثاني ، لعموم قوله (عليه‌السلام) في عدة أخبار صحيحة (٢) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء». قال : «وهو متجه ، وعلى هذا فلا فرق بين ماء الحمام وغيره» انتهى.

أقول : وهذا القول من شيخنا الشهيد الثاني (رحمه‌الله) متجه على ما اختاره مما سيأتي ذكره (٣) من الحكم بالوحدة بمجرد الاتصال ، وان استواء سطح الماء غير معتبر في الكر ، فلو بلغ الماء المتواصل المختلف السطوح كرا لم ينفعل شي‌ء منه بالملاقاة

__________________

(١) في الموضع الثالث في الصحيفة ٢٠٤.

(٢) رواها صاحب الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٣) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.

٢٠٩

سواء في ذلك الأعلى والأسفل. وسيأتي تحقيق القول في ذلك ان شاء الله تعالى.

هذا. وظاهر العلامة في التحرير اعتبار زيادة المادة عن الكر ، حيث قال بعد الكلام في الجاري : «وحكم ماء الحمام حكمه إذا كان له مادة تزيد على الكر» انتهى وهو غريب (١).

(الثاني) ـ لو انفصل ماء المادة عن الحوض وتنجس ماؤه ، فهل يطهر بمجرد اتصال المادة به أم يشترط فيه الامتزاج والغلبة؟ وجهان بل قولان مبنيان على الكلام في تطهير القليل بإلقاء الكر عليه كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى (٢).

واختار العلامة ـ في التذكرة والمنتهى هنا ـ الثاني ، واحتج عليه في المنتهى بان الصادق (عليه‌السلام) حكم بأنه بمنزلة الجاري (٣) ، ولو تنجس الجاري لم يطهر إلا باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله. مع انه (قدس‌سره) في التحرير والمنتهى والنهاية في مسألة الغديرين حكم بطهارة النجس منهما باتصاله بالبالغ كرا ، وهو مناقض لما حكم به في هذه المسألة ، لأن المسألتين من باب واحد. كذا أورده عليه جمع من المتأخرين.

__________________

(١) وقد تلخص مما ذكرنا من البحث ان الأقوال في المادة خمسة : (أحدها) ـ ما هو المشهور من اعتبار الكرية فيها وحدها حملا لها على التسنم كما اعتبروه وحكموا عليه بالإطلاق (الثاني) ـ الاكتفاء ببلوغها مع ما في الحوض كرا ايضا ، وهو قول الشيخ الشهيد الثاني (الثالث) ـ عدم اعتبار الكرية ولو نقصت هي مع ما في الحوض عن الكر ، وهو ظاهر المحقق والمؤيد بظواهر الأخبار (الرابع) ـ هو الثالث بعينه لكنه بشرط ورود الماء على النجاسة ، وهو اختيار المحدث الأمين الأسترآبادي. و (خامسها) ـ ما في التحرير من الزيادة على الكر (منه رحمه‌الله).

(٢) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.

(٣) في صحيحة داود بن سرحان المتقدمة في الصحيفة ٢٠٣ السطر ٣.

٢١٠

ويمكن الجواب عنه (أولا) ـ بأن ظاهر استدلاله ـ في المنتهى بالخبر المذكور على الممازجة في ماء الحمام ـ اختصاص الحكم المذكور بالحمام ، لما ذكره من الخبر ، فكأن حكم الحمام عنده في المسألة المذكورة مستثنى من مواضع تطهير القليل.

و (ثانيا) ـ انك قد عرفت ايضا (١) تقييد إطلاق القول في الغديرين بالحمل على المتساويين أو المختلفين بطريق الانحدار دون التسنم ، فيمكن حمل كلامه هنا في تلك الكتب بالاكتفاء بمجرد الاتصال على ذلك ، بخلاف الحمام ، لما عرفت سابقا (٢) من كون جريان المادة في الأغلب بطريق التسنم ، فلا بد فيه من الممازجة.

واختار جماعة ـ منهم : شيخنا الشهيد الثاني ـ الأول ، بناء على أصله المشار إليه آنفا (٣) ونقل ايضا عن المحقق الشيخ علي (رحمه‌الله) واليه مال في المدارك ايضا ، واستدلوا على ذلك بما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في مسألة تطهير القليل (٤).

ولعل الأظهر هنا الثاني ، لأن يقين النجاسة لا يحكم بارتفاعه إلا بدلالة معتبرة ، والارتفاع بالممازجة مجمع عليه ، مع إشعار جملة من النصوص به كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى (٥) مع تحقيق في المقام يكشف عن هذه المسألة وأمثالها نقاب الإبهام.

(الثالث) ـ هل يشترط في تطهير الحوض زيادة المادة على الكر بمقدار ما تحصل به الممازجة والغلبة (٦) بناء على اشتراط الممازجة ، أو بمقدار الماء المنحدر

__________________

(١ و ٢) في الأمر الأول في الصحيفة ٢٠٧.

(٣) في الصحيفة ٢٠٩ السطر ١٦.

(٤ و ٥) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.

(٦) فلو اتصل بها على وجه لم تحصل الممازجة ونقص الباقي عن كر ، تنجس حينئذ وحينئذ فما لم تحصل الممازجة والحوض باق على النجاسة لا بد من كون الباقي على قدر يعصمه من النجاسة وبالجملة فإنه يشترط الزيادة على الكرية ما دام الحوض باقيا على النجاسة ، فإذا حصلت الممازجة كفى كون الباقي كرا (منه رحمه‌الله).

٢١١

للحوض المتصل به (١) بناء على مجرد الاتصال أم لا؟ قولان.

صرح بالأول المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني ، وعللاه بأنها لو كانت كرا فقط لكان ورود شي‌ء منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرية ، إذ المعتبر كرية المادة بعد الملاقاة ، فتقبل الانفعال حينئذ ، وهو صريح التحرير كما تقدم (٢).

وبالثاني صرح السيد السند في المدارك ، قال (قدس‌سره) : «الظاهر الاكتفاء في تطهير ما في الحياض بكرية المادة ، ولا يشترط زيادتها على الكر ، وبه صرح في المنتهى في مسألة الغديرين ، ويلوح ـ من اشتراطهم في تطهير القليل إلقاء كر عليه دفعة ـ اعتبار زيادة المادة على الكر هنا» انتهى.

وفيه انك قد عرفت سابقا (٣) ـ من مقتضى الجمع بين إطلاقي القول بكرية المادة والقول بالاكتفاء في الغديرين بحصول الكرية من مجموعهما ومن الساقية ـ تقييد المادة بالتسنم ، ومن ثم اعتبر فيها الكرية على حدة ، وتقييد الغديرين بالتساوي أو الاختلاف على جهة الانحدار ، ومن ثم اكتفي بكرية المجموع. وبذلك يظهر لك ما في كلامه من الاستناد الى ما صرح به في المنتهى في مسألة الغديرين.

نعم لقائل أن يقول : ان هذه الزيادة المعتبرة ـ سواء اعتبرت في التطهير بمجرد الاتصال أو المزج ـ لا دليل عليها. قولكم ـ : انها بعد الملاقاة بأول جزء منها ينجس الملاقي مع كون الباقي أقل من كر ـ قلنا نجاسة أول المادة باتصالها بالحوض النجس ليس أولى من طهارة النجس باتصالها به ، فلا بد لترجيح الأول من دليل. على ان

__________________

(١) وذلك لان الاجزاء التي تتصل بالحوض منها تنفصل في الحكم عن المادة لكونها أسفل منها ، فيعتبر في عدم انفعالها بملاقاة ماء الحوض اتصالها بمادة كثيرة عالية (منه قدس‌سره).

(٢) في الصحيفة ٢١٠ السطر ٢.

(٣) في الأمر الأول في الصحيفة ٢٠٧.

٢١٢

التحقيق كما سيأتي ان شاء الله تعالى (١) ان شرط الطهارة في المطهر وعدم النجاسة إنما هو قبل التطهير. واما نجاسته حال التطهير فلا دليل على المنع منها.

والمحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) ـ بناء على ما يختاره من تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة بورود النجاسة على الماء دون العكس ـ صرح هنا بأنه يتجه ان يقال : انه لا حاجة الى كرية المادة بل يكفي جريان الماء الطاهر بقوة بحيث يستهلك الماء فيه ، واستند الى ظواهر جملة من الاخبار ستأتي الإشارة إليها ان شاء الله تعالى.

هذا كله مع علو المادة على الحوض. اما مع المساواة كما يتفق في بعض الحياض من جعل موضع الاتصال أسفل الحوض فلا يشترط الزيادة ، بل يكفي مجرد الاتصال على أحد القولين أو جريانها إليه بقوة الى ان يحصل الامتزاج على القول الآخر.

(الرابع) ـ لو شك في كرية المادة فظاهر كلام جملة من الأصحاب ـ وبه صرح بعضهم ـ انه يبنى على الأصل وهو عدم البلوغ.

واستضعفه بعض محققي متأخري المتأخرين ، واستظهر البناء على طهارتها وعدم الحكم بنجاستها بملاقاة النجاسة.

واحتج بالروايات الدالة على ان «كل ماء طاهر حتى يعلم انه قذر» (٢). وباستصحاب الطهارة الوارد فيه النص بخصوصه كما ورد في تطهير الثياب.

وفيه نظر ، لتطرق القدح الى ما أورده من الأدلة.

(اما الأول) ـ فلما مضى بيانه في المقالة الرابعة (٣).

__________________

(١) في رد الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها المحدث الكاشاني على عدم انفعال الماء القليل بمجرد الملاقاة ، وفي المسألة الرابعة من المقام الأول من تتمة باب المياه.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة وقد تقدم الكلام فيما يرجع الى هذا المضمون في التعليقة ١ في الصحيفة ١٧٧.

(٣) في الصحيفة ١٩٠ السطر ٣.

٢١٣

و (اما الثاني) ـ فلان استصحاب الطهارة الذي ورد به النص في الثوب هو ما إذا كان الثوب متيقن الطهارة وشك في عروض النجاسة له ، كما تضمنته صحيحة زرارة المضمرة (١) وغيرها ، فإنه لا يخرج عن يقين الطهارة إلا بيقين النجاسة. ووجه الفرق بين هذا وبين ما نحن فيه ظاهر ، فإن صحيحة زرارة المذكورة وظاهر غيرها ان الغرض المترتب على التمسك بيقين الطهارة في هذه المواضع هو دفع الشك بعروض النجاسة حتى يحصل اليقين بها ، فالتمسك بيقين الطهارة إنما هو في مقابلة الشك في عروض النجاسة ، وافراد هذه الكليات إنما هي الأمور المقطوع بعدم العلم بملاقاة النجاسة لها. فتستصحب طهارتها الى ان يظهر خلافها. وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ هو مما تحقق ملاقاة النجاسة له لكن حصل الشك في بلوغه القدر العاصم من النجاسة وعدمه ، وليس الشك هنا في ملاقاة النجاسة كما هو مساق تلك الاخبار. ومثل ذلك لو حصل في ثوب دم محكوم بنجاسته شرعا لكن حصل الشك في زيادته على الدرهم وعدمها. فإنه ليس للقائل أن يستند الى هذه الاخبار بان الأصل طهارة الثوب لقوله (عليه‌السلام) : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (٢).

وبالجملة فالمراد بالشك الذي لا يعارض اليقين هو الشك في عروض النجاسة وملاقاة النجس لا الشك في السبب الموجب للتنجيس.

(المقالة التاسعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان ماء المطر في الجملة حال تقاطره كالجاري. ونقل عن ظاهر الشيخ اشتراط

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ١٣٩ السطر ٣ ، وقد تقدم الكلام فيها في التعليقة ١ من نفس الصحيفة ، وقد أسندها هناك الى ابى جعفر (عليه‌السلام).

(٢) تقدم الكلام فيه في التعليقة ١ في الصحيفة ٤٢ وسيأتي منه (قدس‌سره) ـ في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الثانية من مسائل البحث الأول من أبحاث أحكام النجاسات ـ التصريح بما ذكرناه هناك.

٢١٤

الجريان من ميزاب ، وإطلاق تشبيهه بالجاري يقتضي عدم انفعاله بملاقاة النجاسة ، وتطهيره لما يقع عليه من ماء نجس أو أرض أو ثياب أو ظروف أو نحو ذلك.

وتحقيق القول في ذلك يتوقف على النظر في الاخبار الواردة في المقام ، فلنورد ما عثرنا عليه منها ثم نردفه بما يكشف عنه نقاب الإبهام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

فمن الأخبار صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل. لم يضره ذلك».

ورواية محمد بن مروان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لو ان ميزابين سالا أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء فاختلطا ثم أصابك ، ما كان به بأس».

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس به. وسألته عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه. هل يصلي فيه قبل ان يغسله؟ فقال : لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس».

وصحيحة هشام بن سالم (٤) انه «سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب. فقال لا بأس به ، ما اصابه من الماء أكثر منه».

__________________

(١ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

٢١٥

ومرسلة الكاهلي عن رجل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت أمر في الطريق فيسيل علي الميزاب في أوقات أعلم ان الناس يتوضؤون؟ قال : ليس به بأس لا تسأل عنه. قلت : يسيل علي من ماء المطر ارى فيه التغير وارى فيه آثار القذر فتقطر القطرات علي وينتضح علي منه؟ والبيت يتوضأ على سطحه فكيف على ثيابنا؟ قال : ما بذا بأس لا تغسله ، كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر».

ورواية أبي بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الكنيف يكون خارجا فتمطر السماء فتقطر علي القطرة؟ قال : ليس به بأس».

ومرسلة محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا عن ابي الحسن موسى بن جعفر (عليهما‌السلام) (٣) «في طين المطر انه لا بأس به ان يصيب الثوب ثلاثة أيام الا ان يعلم انه قد نجسه شي‌ء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة فاغسله ، وان كان الطريق نظيفا فلا تغسله».

وروى في الفقيه (٤) مرسلا قال : «وسئل (عليه‌السلام) عن طين المطر يصيب الثوب فيه البول والعذرة والدم. فقال طين المطر لا ينجس».

وروى علي بن جعفر في كتاب المسائل والحميري في قرب الاسناد (٥) عنه عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق وفي الباب ـ ٧٥ ـ من أبواب النجاسات.

(٤) في باب «المياه وطهرها ونجاستها» ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٥) في الصحيفة ٨٩ من المطبوع بايران ، وفي الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة من الوسائل.

٢١٦

فيكف فيصيب الثياب ، أيصلى فيها قبل ان تغسل؟ قال : إذا جرى من ماء المطر فلا بأس».

وروى في كتاب المسائل أيضا عن أخيه (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب ، أيصلى فيه قبل ان يغسل؟ قال : إذا جرى به المطر فلا بأس».

وروى في كتاب الفقه الرضوي (٢) قال (عليه‌السلام) : «إذا بقي ماء المطر في الطرقات ثلاثة أيام ، نجس واحتيج الى غسل الثوب منه. وماء المطر في الصحاري لا ينجس. وروي طين المطر في الصحاري يجوز الصلاة فيه طول الشتاء».

هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام.

ويدل على اعتبار الجريان منها صحيحة هشام بن الحكم (٣) ورواية محمد ابن مروان (٤) وصحيحة علي بن جعفر (٥) وروايتاه المنقولتان من كتابه (٦) ولكن اعتبار الجريان من الميزاب انما وقع في الأولتين ، وليس فيهما دلالة على تخصيص الحكم بذلك ، فلا تنهضان حجة للمستدل (٧) ولعل ذكر الميزاب في كلام الشيخ على جهة التمثيل كما احتمله جمع من المحققين.

وأنت خبير بان هذه الأخبار لا تصريح فيها بكون ماء المطر كالجاري مطلقا أو مقيدا بحالة مخصوصة إلا من حيث أجوبة المسائل المسؤول عنها فيها. فان بعضها

__________________

(١) ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) في الصحيفة ٥ السطر ٢٦.

(٣ و ٤ و ٥) المتقدمة في الصحيفة ٢١٥.

(٦) إحداهما في الصحيفة ٢١٦ والأخرى في هذه الصحيفة.

(٧) إذ غاية ما يستفاد منهما هو عدم ضرر ذلك ونفى البأس عنه لو اتفق كذلك ، وهذا لا يدل على انحصار الحكم فيه والاقتصار عليه كما لا يخفى (منه قدس‌سره).

٢١٧

لا ينطبق على تقدير جعله كالماء القليل المنفعل بالملاقاة على المشهور ، وحينئذ فغاية ما يستفاد منها كون ماء المطر قسما ثالثا بين الجاري والراكد ، وله أحكام قد يشارك في بعضها الجاري وفي البعض الآخر الراكد ، فاما مشاركته للجاري ففي صورة الجريان قطعا والكثرة على الظاهر ، كما يدل عليه ما تضمن اشتراط الجريان من الأخبار المتقدمة ، وما تضمن اعتبار الكثرة ، وهو صحيحة هشام (١) ، لجعله (عليه‌السلام) الجريان في تلك الأخبار والكثرة في الخبر المذكور علة لحصول الطهارة (٢) وخصوص

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٢١٥ السطر ١٧.

(٢) وما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ من ان صحة الاستدلال بهذا الخبر مبنية على تعين إرجاع الضمير في قوله (عليه‌السلام) : «ما أصابه» إلى السطح. وهو ممنوع بل يمكن إرجاعه الى الثوب ، فكأنه قال (عليه‌السلام) : «القطرة الواصلة الى الثوب غالب على البول الذي لاقاه» ثم قال : «وايضا ما ذكره من الدليل على تعدية الحكم على تقدير تمامه إنما يصح إذا رجع ضمير (منه) الى مطلق النجاسة. وليس كذلك ، بل الظاهر رجوع الضمير الى البول ، فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة» انتهى ـ مدفوع (أولا) ـ بأن ظاهر الرواية قد تضمن السؤال عن ظهر البيت الذي يبال عليه متى اصابه المطر ، وعما يقطر منه فيصيب الثوب ، والأول منهما هو المقصود بالذات ، لأن الثاني متفرع عليه كما لا يخفى ، فلو جعل ضمير (ما اصابه) راجعا الى الثوب لزم كون التعليل المذكور مخصوصا بالسؤال الثاني ، ولزم عدم الجواب عن السؤال الأول الذي هو المقصود الذاتي ، لأن مرجع ضمير (اصابه) هو مرجع ضمير (به) في (لا بأس به) ومتى جعل مرجع الجميع الى الثوب لزم خلو السؤال الأول من الجواب. و (ثانيا) ـ ان البول إنما هو على ظهر البيت لا في الثوب حتى تكون القطرة الواصلة إليه غالبا على البول الذي لاقاه ، والرواية إنما تضمنت كون القطرة النازلة من السطح النجس بالبول حال المطر هل تنجس الثوب أم لا؟ لا ان الثوب فيه بول ووقع عليه من ماء المطر أكثر منه كما توهمه. وهو غفلة عجيب منه. و (ثالثا) ـ ان ضمير (منه) انما يرجع الى البول ، لكن لما كانت خصوصية البول لا مدخل لها في العلية حكم بالانسحاب الى اى نجاسة كانت كما أوضحناه في المتن (منه رحمه‌الله).

٢١٨

مورد السؤال لا يصلح لتخصيص الجواب إلا إذا كان لخصوصية السؤال مدخل في العلية وشاهد الحال في المقام دال على عدم المدخلية ، ومتى كان التعليل يدل على التعدية الى كل ما توجد فيه العلة وشاهد الحال يدل على عدم المدخلية ، وجب التعدية الى كل ما توجد فيه العلة.

وما قيل ـ في الجواب عن صحيحة علي بن جعفر (١) الدالة على اشتراط الجريان في تطهير البيت الذي يبال على ظهره ، من انه يمكن أن يكون الاشتراط هنا لنفوذ النجاسة في السطح ، وان السؤال لما كان يتضمن الجريان أجاب (عليه‌السلام) على وفق السؤال ، فاشترط الجريان حتى يستولي على النجاسة ، فهو لا يدل على نفي البأس إلا في هذه الحالة ، فمورد السؤال حينئذ مخصص للجواب.

مدفوع (أولا) ـ بأن صحيحة هشام بن سالم (٢) قد تضمنت هذا السؤال بعينه ووقع الجواب فيها بما يدل على الطهارة مع الكثرة دون الجريان ، ومن الظاهر ان الكثرة لا تستلزم الجريان ، إلا أن يراد الجريان ولو بالقوة دون ان يكون بالفعل بخصوصه ، فوجه الاستلزام ظاهر ، ولعله الأظهر.

و (ثانيا) ـ بما تضمنته روايتا علي بن جعفر (٣) المنقولتان من كتابه. فإنه لا مجال فيهما لتخصيص الجواب ، فالظاهر حمل تلك الرواية أيضا عليهما. لكن أصحابنا لاقتصارهم في الاستدلال على ما في الكتب الأربعة لم يتعرضوا لهاتين الروايتين في المقام ولا غيرهما مما خرج عن الكتب المشار إليها ، وما عدا الصورة المذكورة فلا دلالة في شي‌ء من تلك الأجوبة المذكورة على كونه كالجاري. وأقرب ما يتوهم منه الدلالة على كونه كالجاري ـ وان لم يدخل في تلك الصورة ـ مرسلة الكاهلي (٤) لقوله

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٢١٥.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٢١٥.

(٣) المتقدمتان في الصحيفة ٢١٦ و ٢١٧.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٢١٦ السطر ١.

٢١٩

(عليه‌السلام) : «كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر». وتقييد إطلاقها بتلك الاخبار غير بعيد ، فتحمل عليها حمل المطلق على المقيد. واما ما دل على النهي عن غسل الثوب والرجل من اصابة ماء المطر الذي قد صب فيه خمر ـ وانه يصلى فيه (١) وكذلك طهارة ما يقطر من ظهر البيت النجس بالبول والكنيف (٢) ـ فمع احتمال تقييده ايضا كما هو مصرح بالقيد في بعض تلك الأخبار لا دلالة فيه ، لذهاب جملة من الأصحاب الى عدم انفعال القليل بوقوعه على النجاسة ، وتخصيص نجاسته بالملاقاة بورود النجاسة عليه دون العكس. وهو الظاهر من الأخبار كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى (٣).

وتنقيح المقام يتوقف على ذكر فروع :

(الأول) ـ لو وقع المطر على ماء نجس بدون التغير بعد زوال عين النجاسة منه ، فان وقع عليه بطريق الجريان أو الكثرة فالظاهر انه لا إشكال في تطهيره له. نعم يبقى الكلام في الاكتفاء بمجرد الاتصال أو اعتبار التداخل والامتزاج ، فعلى الأول يطهر بمجرد الاتصال ، وعلى الثاني يتوقف على الامتزاج. وسيأتي تحقيق القول في ذلك ان شاء الله تعالى (٤) وان وقع لا بأحد الطريقين المذكورين فالمشهور بين الأصحاب التطهير بناء على حكمهم بكون ماء المطر كالجاري مطلقا. وقد عرفت ما فيه ، فإنه لا دليل على هذا الإطلاق في الأخبار ، وحديث ـ «كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (٥) ـ

__________________

(١) وهي صحيحة علي بن جعفر المتقدمة في الصحيفة ٢١٥.

(٢) وهي صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في الصحيفة ٢١٥. وروايتا ابى بصير وعلي بن جعفر المتقدمتان في الصحيفة ٢١٦.

(٣) في المقام الثاني من الفصل الثالث.

(٤) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.

(٥) المتقدم في الصحيفة ٢١٦ السطر ١.

٢٢٠