الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة. قلت : فما التغير؟ قال : الصفرة ، فتوضأ منه. الحديث».

ويدل على ذلك ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي (١) حيث قال (عليه‌السلام) : «كل غدير فيه من الماء أكثر من كر لا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات إلا ان تكون فيه الجيف فتغير لونه وطعمه ورائحته ، فإذا غيرته لم يشرب منه ولم يتطهر منه. الحديث».

وهذا الكتاب وان لم يشتهر بين الأصحاب النقل عنه ولا الاعتماد عليه بل ربما طعن بعضهم في ثبوته عنه (عليه‌السلام) الا ان الأظهر كما قدمنا ذكره (٢) هو الاعتماد عليه.

ولعل السر ـ في اشتمال أكثر الاخبار على التغير الطعمي والريحي دون اللوني ـ ان تغير الطعم والريح أسرع من تغير اللون أو لا ينفك تغير اللون من تغيرهما فلا ثمرة في التعرض له حينئذ.

وهل يعتبر التغير الحسي ، فلو كان الماء على صفاته الأصلية وكانت النجاسة مسلوبة الأوصاف لم تؤثر في نجاسة الماء وان كثرت. أو يجب تقدير الأوصاف للنجاسة ، فلو كانت مما يتغير بها الماء على تقدير وجود الأوصاف نجس والا فلا؟ قولان.

المشهور الأول نظرا الى ان التغير حقيقة في الحسي ، لصدق السلب بدونه ، واللفظ إنما يحمل على حقيقته ، واعتبار التقدير يتوقف على دليل ، والأصل عدمه.

ويمكن أن يقال : ان التغير حقيقة في النفس الأمري لا فيما كان محسوسا ظاهرا ، فقد يمنع من ظهوره مانع ، كما اعترفوا به فيما سيأتي مما إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع ، فإنهم قطعوا هناك بوجوب التقدير ،

__________________

(١) في الصحيفة ٥ السطر ١٨. وقد أسقط (قده) منه ما لا يرتبط بمورد البحث.

(٢) في الصحيفة ٢٥ السطر ١٢.

١٨١

استنادا الى ان التغير حصل واقعا وان منع من ظهوره مانع ، والمناط التغير في الواقع لا الحسي ، والفرق بين الموضعين لا يخلو من خفاء.

ويؤيد ذلك ان الظاهر ان الشارع إنما ناط النجاسة بالتغير في هذه الأوصاف لدلالته على غلبة النجاسة وكثرتها على الماء واقعا ، وإلا فالتغير بها من حيث هو لا مدخل له في التنجيس ، فالمنجس حقيقة هو غلبة النجاسة وزيادتها وان كان مظهره التغير المذكور ، وحينئذ فلو كانت هذه النجاسة المسلوبة الأوصاف بلغت في الكثرة إلى حد يقطع بتغير الماء بها لو كانت ذات أوصاف ، فقد حصل موجب التنجيس حقيقة الذي هو غلبة النجاسة وزيادتها على الماء.

وبالجملة فإنا نقول : كما ان الموجب لنجاسة القليل على المشهور مجرد ملاقاة النجاسة وان قلت ، فالمنجس للكثير كثرتها وغلبتها. واناطة ذلك بالتغير في تلك الأوصاف انما هو لكونه مظهرا لها غالبا ، فمع حصولها بدونه تكون موجبة للتنجيس (١).

ويؤيد ذلك ايضا ما صرح به المحقق الثاني من ان عدم التقدير يفضي الى جواز الاستعمال وان زادت النجاسة أضعافا ، وهو كالمعلوم البطلان.

والجواب ـ بأنه مع استهلاك النجاسة الماء لكثرتها يثبت التنجيس قولا واحدا ـ مما يؤيد ما حققناه آنفا من ان الاعتبار بغلبة النجاسة وكثرتها على الماء وان تفاوت ذلك

__________________

(١) وممن جنح الى ما ذكرناه في هذا المقام الفاضل السيد نور الدين بن ابى الحسن في شرح المختصر ، حيث قال ـ بعد نقل كلام أخيه السيد السند في المدارك ـ ما صورته : «ويشكل ذلك إذا فسر التغير بالاستيلاء ولم يكتف بمطلق التغير كما تشعر به عبارة المصنف وهو الأوفق بالحكمة ، إذ الظاهر ان علة النجاسة غلبة النجس على الظاهر حتى صار مقهورا معه فيضعف حكمه ، وصدق التغير عليه بهذا المعنى حاصل على التقديرين ، فكيف يدعى صحة سلبه عنه إذا لم يكن حسيا؟» انتهى كلامه زيد مقامه (منه رحمه‌الله).

١٨٢

شدة وضعفا. وكأن التزام المجيب بالتنجيس في هذه الصورة ودعواه الإجماع دفع للشناعة اللازمة من القول بالطهارة على هذا التقدير ، وإلا فمقتضى ما قرروه يقتضي كون الحكم كليا مع الاستهلاك وعدمه ، وظاهر عبائر جملة منهم العموم. واستدلال المحقق المذكور بذلك مبني على ما قلنا من فهمه العموم من كلامهم. والا لم يتجه دليله. والظاهر ان العلة في دعوى الإجماع المذكور إنما هو ما ذكرنا ، ولهذا ان جملة ممن تعرض للجواب عن هذا الكلام ـ ومنهم : شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ إنما ردوه بأنه مجرد استبعاد بل صرح بعض متأخري المتأخرين بالتزامه مع عدم ثبوت الإجماع على خلافه.

ويؤيد ذلك ايضا (١) ما صرحوا به في المضاف المسلوب الأوصاف إذا وقع في الماء ، من وجوب اعتباره إما بقلة الاجزاء وكثرتها أو بتقديره مخالفا في الأوصاف على اختلاف القولين ، وإذا وجب الاعتبار في المضاف ففي النجاسة أولى.

ونقل عن العلامة في أكثر كتبه القول بالثاني ، وتبعه ابن فهد في موجزه ، ورجحه المحقق الثاني في شرح القواعد ، ونفى عنه البعد شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين.

واحتج عليه في المختلف بان التغير الذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف فإذا فقدت وجب تقديرها. ورد بأنه إعادة للمدعى.

ويمكن الجواب بما قدمنا تحقيقه من ان المدار لما كان على التغير في نفس الأمر

__________________

(١) إنما ذكرنا ذلك على جهة التأييد لكسر سورة الاستبعاد فيما قلناه دون ان يكون دليلا كما ذكره المحقق الثاني (ره) لتطرق القدح اليه بكونه قياسا وان كان قياس أولوية. ومنع بعض المتأخرين الأولوية هنا محض مكابرة ، فإنه إذا وجب التقدير في المضاف ليترتب عليه الاجتناب فيما يشترط بالماء المطلق من الطهارة مثلا فبالطريق الاولى في النجس ليترتب عليه الاجتناب فيما يشترط بالطاهر من طهارة وأكل وشرب ونحوها ، إذ دائرة المنع في النجس أوسع منها في المضاف كما لا يخفى (منه قدس‌سره).

١٨٣

لا الظاهر الحسي ، لأنه ربما منع منه مانع من فقد الأوصاف في النجاسة أو فقد الأوصاف في الماء. وجب تقديره مع وجود المانع المذكور. وبذلك ايضا يظهر وجه الجواب عما أورد على الدليل الذي نقله عنه ابنه فخر المحققين من استدلاله بان الماء مقهور بالنجاسة ، لأنه كلما لم يصر مقهورا لم يتغير بها على تقدير المخالفة ، وينعكس بعكس النقيض الى قولنا : كلما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا. انتهى.

فإنه أورد عليه منع الكلية الأولى ، فإن المخالف بقول بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة على تقدير المخالفة. وعلى ما حققناه يمكن أن يكون مراده انه كلما لم يكن الماء مقهورا في نفس الأمر لم يتغير على تقدير المخالفة ، لا انه كلما لم يكن مقهورا شرعا ليتوجه عليه ان المخالف يقول بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة على تقدير المخالفة. وبذلك يظهر سقوط منع كليته الأولى.

وبالجملة فالمسألة لما ذكرنا لا تخلو من الاشكال ، والاحتياط في التقدير ان لم يكن متعينا كما لا يخفى على الناقد البصير ، إلا ان تتوقف عليه عبادة مشروطة بالطهارة أو بإزالة النجاسة ، فيعود الاشكال بحذافيره.

فوائد

(الاولى) ـ لو اشتمل الماء على صفة تمنع من ظهور التغير فيه ـ كما لو تغير بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة كتغيره بطاهر أحمر ، ثم وقع فيه دم ـ فالذي قطع به متأخر والأصحاب من غير خلاف معروف في الباب هو وجوب تقدير خلو الماء من ذلك الوصف كما عرفت آنفا ، وكأنهم لحظوا ـ في الفرق بين هذا الموضع وبين ما كانت النجاسة مسلوبة الأوصاف ، حيث أوجبوا التقدير هنا دون هناك ـ ان المراد بالتغير هو التغير الحسي كما تقدم. والتغير هنا ظاهر حسا لو خلينا وذات الماء وذات النجاسة ، بخلاف ما هناك ، لكون النجاسة عارية عن الأوصاف. وفيه ان خلو

١٨٤

النجاسة عن الأوصاف لا يخرجها عن تنجيس ما تلاقيه ، والمنجس ليس هو أوصافها وانما المنجس عينها. على ان الخلو عن الأوصاف غالبا انما يكون بعارض من خارج لا من أصل الخلقة ، كما هو المشاهد في جميع المطعومات والمرئيات ، وحينئذ فكما يقدر خلو الماء عن ذلك الوصف الموافق للون النجاسة لكونه عارضا ، ينبغي ان يقدر خلو النجاسة عن هذا العارض الذي أزال وصفها.

(الثانية) ـ هل المعتبر على تقدير القول بالتقدير هو الوصف الأشد للنجاسة كحدة الخل وذكاء المسك وسواد الحبر ، لمناسبة النجاسة تغليظ الحكم. أو الوسط لأنه الأغلب؟ ظاهر العلامة في النهاية والشهيد في الذكرى الأول ، وبعض المتأخرين الثاني ، واستظهره المحقق الثاني ورجحه في المعالم ، واحتمل بعض فضلاء متأخري المتأخرين اعتبار الأقل تغليبا لجانب الطهارة. والظاهر ان الأوسط أوسط. واحتمل المحقق الثاني (قدس‌سره) ايضا اعتبار أوصاف الماء وسطا ، نظرا إلى شدة اختلافها كالعذوبة والملوحة والرقة والغلظة والصفاء والكدرة ، قال : «ولا يبعد اعتبارها ، لان له فيها أثرا بينا في قبول التغير وعدمه» انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : «وهو محتمل حيث لا يكون الماء على الوصف القوي ، إذ لا معنى لتقديره حينئذ بما هو دونه» انتهى. واستشكله ايضا بعضهم بما إذا لم يكن الماء خارجا عن أوصافه الأصلية.

(الثالثة) ـ لو لم يكن الماء على الصفات الأصلية كسائر المياه كالمياه الزاجية والكبريتية وكانت النجاسة على صفاتها ولم تغيره باعتبار ما هو عليه من الصفات ، لكن لو فرض خلوه منها لغيرته ، فهل يجب التقدير هنا أم لا؟ لم أقف لأحد من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على كلام في ذلك. ومقتضى النظر ان الكلام هنا كالكلام فيما لو تغير الماء بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة ، ومقتضى حكمهم بوجوب التقدير ، هناك هو وجوبه هنا أيضا.

١٨٥

إذ لا فرق بين المقامين إلا باعتبار ان خروج الماء عن صفته الأصلية هناك باعتبار وقوع هذا الجسم فيه أخيرا ، وخروجه هنا باعتبار كون الأرض كبريتية أو زاجية فاتفق تكيفه برائحتها ، أو باعتبار موافقة لون ذلك الجسم الطاهر الذي تغير به الماء للون النجاسة في إحدى الصورتين ، ومخالفته لها على وجه يستر رائحتها في الصورة الأخرى. وكل منهما لا يصلح وجها للفرق الموجب لتغاير الحكم ، إلا ان بعض محققي متأخري المتأخرين استظهر ان الكلام هنا كالكلام في النجاسة المسلوبة الأوصاف دليلا وجوابا وظاهره ان النجاسة في هذه الصورة باعتبار ما عليه الماء من الصفات لم تغيره واقعا ، بخلاف الصورة التي تغير فيها بجسم طاهر ، فإنه تغير واقعا وان لم يظهر للحس بسبب الوصف العارضي. ولا يخفى ما فيه ، فان الواقع المعتبر القياس اليه ، ان لوحظ مع قطع النظر عن العارض فالتغير ثابت في الصورتين ، وإلا فلا فيهما. وقد عرفت ان الوجه الفارق لا يوجب تغايرا يترتب عليه ما ذكره (١).

__________________

(١) ثم انى وقفت بعد ذلك على كلام لشيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين يؤيد ما رجحناه ، حيث قال : «وقد يستفاد ـ من قوله (عليه‌السلام) في الحديث الثاني : «كل ما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب». ـ انه لو كان للماء رائحة كالمياه الزاجية والكبريتية مثلا فسترت رائحة الجيفة ، لم ينجس وان كان بحيث لو خلا الماء من تلك الرائحة لظهرت ، لصدق غلبة الماء على ريح الجيفة. والحديث السابع من الفصل الثاني كالصريح في ذلك. لكن الحق صرفهما عن ظاهرهما. وتقدير الماء خاليا من رائحته الأصلية. انتهى» وأشار بالحديث السابع الى حسنة زرارة ، قال : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء تفسخ فيه أو لم يتفسخ الا ان تجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء». وكأن ذلك الفاضل لم يقف ايضا على كلام شيخنا المذكور ، حيث انه ذكر ايضا انه لم يقف على كلام لأحد من الأصحاب في ذلك.

أقول : ومما يؤيد ما ذكرنا ايضا ان الأحكام المودعة في الاخبار إنما تحمل على الافراد الغالبة الشائعة كما صرحوا به ، وحينئذ فالمعتبر في الغلبة وعدمها هو المياه

١٨٦

(الرابعة) ـ لو تغيرت رائحة الماء بمرور رائحة النجاسة القريبة لم ينجس الماء قولا واحدا ، لأن الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثر تنجيسا.

(الخامسة) ـ لو حصل التغير بالمتنجس لا بالنجاسة على وجه لا يسلبه الإطلاق فالأظهر الأشهر عدم التنجيس ، وللشيخ (رحمه‌الله تعالى) خلاف ضعيف يأتي الكلام عليه في بحث المضاف ان شاء الله تعالى.

(المقالة الرابعة) ـ المشهور ـ بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل ادعى في المعتبر عليه الإجماع ـ ان الجاري مطلقا وان نقص عن الكر لا ينجس بمجرد الملاقاة ، وذهب العلامة في جملة من كتبه الى اشتراط الكرية فيه كالراكد ، ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني في الروض الميل اليه ، بل صرح ابنه المحقق الشيخ حسن في المعالم بأنه ذهب إليه في جملة من كتبه ، قال : «إلا أن الذي استقر عليه رأيه بعد ذلك هو المذهب المشهور» (١) ونقل في الروض عن جملة من المتأخرين أيضا موافقة العلامة على هذه المقالة.

احتج القائلون بالأول بأصالة الطهارة ، فإن الأشياء كلها على الطهارة إلا ما نص الشارع على نجاسته ، لأنها مخلوقة لمنافع العباد ، ولا يتم النفع إلا بطهارتها.

وبالأخبار المتقدمة في سابق هذه المقالة (٢) لدلالتها على طهارة كل ماء ما لم يتغير ، خرج عنه القليل الراكد بالدليل ، فيبقى ما عداه داخلا تحت العموم.

__________________

العارية عن هذه العوارض. واما هذه فتحمل على تلك وتقدر فيها الغلبة وعدمها (منه رحمه‌الله).

(١) وممن جنح الى هذا القول من متأخري المتأخرين الشارح الجواد في شرح الجعفرية (منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ١٧٩.

١٨٧

وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه‌السلام) (١) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا ان يتغير ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأن له مادة».

وجه الدلالة أنه علل فيه نفى الانفعال بوجود المادة ، والعلة المنصوصة يتعدى بها الحكم الى كل موضع توجد فيه إذا شهدت الحال بان خصوص متعلقها الأول لا مدخل له فيها. والأمر ههنا كذلك ، فإن خصوصية البئر من ذلك القبيل. وشهادة الحال بذلك ظاهرة لمن أحاط خبرا بأحكام البئر ، وحينئذ ينحصر المقتضي لنفي الانفعال في وجود المادة ، وهي موجودة في مطلق النابع.

وقول الصادق (عليه‌السلام) فيما روي عنه بعدة طرق ، وقد تقدم الإشارة إلى بعضها (٢) : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر».

وحسنة محمد بن ميسر (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان. قال : يضع يده ويتوضأ ويغتسل ، هذا مما قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٤).

ويتوجه على الأول (٥) ان الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان يتوقف الحكم بهما على الدليل الشرعي ، ولا مدخل للدليل العقلي فيهما كما لا مدخل له في غيرهما

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ و ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) في الصحيفة ١٧٧. السطر ٥. ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ ١ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة ،.

(٤) سورة الحج. آية ٧٨.

(٥) وهو أصالة الطهارة.

١٨٨

من أحكام الشرع. وما ذكر هنا في بيانه ضعيف ، لحصول المنافع في النجس بل في عين النجاسة أيضا كما لا يخفى (١).

وعلى الثاني (٢) ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في الكلام في نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، من أن ظاهر هذه الاخبار بواسطة القرائن الحالية والمقالية كون ذلك الماء أكثر من كر بل كرور ، فلا تدل على ما ذكروه ، ولا يحتاج الى تخصيصها بما دل على نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة.

وعلى الثالث (٣) (أولا) ـ ما عرفت في المقدمة الثالثة (٤) من الكلام في حجية منصوص العلة وان الحجة منه هو ما يرجع الى تنقيح المناط القطعي ، وكأنه لهذا قيد المستدل في بيان الاستدلال الحجية بشهادة الحال بان خصوص متعلقها الأول لا مدخل له ، فمرجعها الى تنقيح المناط المذكور. الا ان فيه ان شهادة الحال بذلك في هذا المقام لا تخلو من اشكال ، وبدونه لا يتم الاستدلال.

و (ثانيا) ـ ما ذكره شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين من احتمال ان يكون قوله (عليه‌السلام) : «لان له مادة» تعليلا لترتب ذهاب الريح وطيب الطعم على النزح ، كما يقال : لازم غريمك حتى يعطيك حقك ، لانه يكره ملازمتك. وكما يقال : الزم الحمية حتى يذهب مرضك ، فان الحمية رأس الدواء. قال : ومثل ذلك كثير. ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال.

والظاهر انه لا يخلو من بعد ، فان ذهاب الريح وطيب الطعم بالنزح أمر بديهي محسوس لا يحتاج إلى علة ، فحمل الكلام عليه مما يخرجه عن الفائدة ، ولا يليق

__________________

(١) فإنه قد تكون المصلحة في خلقه دفع الأذى كفضلة الإنسان أو ابتلاء الخلق كخلق المسكرات ونحو ذلك (منه رحمه‌الله).

(٢) وهي الأخبار المتقدمة في الصحيفة ١٧٩.

(٣) وهي صحيحة ابن بزيع المتقدمة في الصحيفة ١٨٨ السطر ١.

(٤) في الصحيفة ٦٠.

١٨٩

حينئذ نسبته بكلام الإمام الذي هو إمام الكلام.

وعلى الرابع (١) ما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة (٢) من ان ظاهر الخبر المذكور ـ وهو القدر المتيقن فهمه منه ـ ان الماء كله طاهر حتى يعلم عروض النجاسة له فافراد هذه الكلية إنما هي المياه الطاهرة شرعا والمقطوع بطهارتها ، فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى تعلم النجاسة. والغرض منها عدم معارضة الشك بعروض النجاسة ليقين الطهارة التي هي عليه شرعا ، لا ان أفرادها ما شك في كونه سببا للنجاسة ، كنقصان الجاري عن الكر ـ مثلا ـ هل يكون موجبا لانفعاله بالملاقاة أم لا؟ فيحكم بطهارته بهذا الخبر. والفرق بين المقامين ظاهر.

ونظيره ما ورد مفسرا في موثقة مسعدة بن صدقة (٣) من قوله (عليه‌السلام) : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة».

وحينئذ فافراد هذه الكلية كما ذكره (عليه‌السلام) هي الأشياء المحكوم بحلها شرعا والمعلوم حليتها قطعا. فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى يظهر دليل الحرمة وان كانت مما حرمه الشارع بالنسبة إلى العالم بذلك ، ولا تخرج عن أصل الحلية المقطوعة بمجرد الشك في حرمتها ، لا ان أفرادها ما شك في حليته كالمتولد من نجس العين وطاهرها مع عدم المماثل مثلا ، فيقال : ان مقتضى هذا الخبر حله ومقتضى قوله (عليه‌السلام) : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (٤) طهارته.

__________________

(١) وهو الحديث المتقدم في الصحيفة ١٨٨ السطر ٩.

(٢) في الصحيفة ١٢٤ السطر ١٣.

(٣) تقدم الكلام فيها في التعليقة (٢) في الصحيفة ١٤١.

(٤) تقدم الكلام فيه في التعليقة ١ في الصحيفة ٤٢.

١٩٠

وبالجملة فمورد الخبرين الأشياء المعلومة الطهارة والنجاسة ، وانه لا يدخل أحد أفراد الأول في الثاني إلا مع العلم واليقين والأشياء المعلومة الحل والحرمة وانه لا يدخل أحد أفراد أولهما في الثاني الا مع العلم ايضا.

وعلى الخامس (١) ان الماء القليل في الخبر المذكور وان شمل بعمومه الجاري والراكد ، إلا ان وصفه بالقلة ان أخذ على ظاهره ـ كما هو ظاهر الاستدلال ـ كان الخبر من أقوى أدلة عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة. وتخصيصه ـ بالجاري خاصة بناء على قيام الدليل على نجاسة القليل بالملاقاة ـ بعيد من سياق اللفظ ، فالأظهر حمل القلة فيه على المعنى العرفي دون الشرعي ، أو حمله على التقية كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى (٢) احتج العلامة (رحمه‌الله) بعموم الأخبار الدالة على اشتراط الكرية في الماء بقولهم (عليهم‌السلام) (٣) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». فان تقييد عدم انفعال الماء ببلوغ الكرية يقتضي انفعال الماء بدونه ، وهو شامل للجاري والراكد.

وتدل على ذلك أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء. يتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من الماء». وهي بظاهرها شاملة لما كان جاريا أو راكدا (٥).

__________________

(١) وهي حسنة محمد بن ميسر المتقدمة في الصحيفة ١٨٨ السطر ١١.

(٢) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد دلالة الأخبار المستدل بها على عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة.

(٣) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة. والنص الوارد : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء».

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ و ٩ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٥) وأجاب المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المعالم عن عموم المفهوم ، قال : «والجواب ـ على تقدير تسليم العموم بحيث يتناول محل النزاع ـ انه مخصوص بصحيح ابن بزيع لدلالته على ان وجود المادة سبب في نفى الانفعال بالملاقاة ، فلو كانت الكرية معتبرة في ذي المادة لكانت هي السبب في عدم الانفعال ، فلا يبقى للتعليل بالمادة معنى» انتهى وفيه ما عرفت من الصحيحة المذكورة آنفا (منه رحمه‌الله).

١٩١

وأجيب بمنع العموم ، لفقد اللفظ الدال عليه. ومع تسليمه فيقال : عامان تعارضا من وجه فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح في جانب الطهارة بالأصل والإجماع وقوة دلالة المنطوق على المفهوم. هكذا أجاب السيد في المدارك.

ولا يخلو من نظر (أما أولا) فلان منع العموم هنا ـ مع تصريحه ـ هو (قدس‌سره) وغيره من محققي الأصحاب بل وغيرهم ـ بان المعرف بلام الجنس في كلام الشارع عند عدم قرينة العهد للعموم قضية للحكمة ـ ليس في محله ، كيف؟ ولو تم المنع المذكور لم يتم له الاستدلال بصحيحة حريز المتقدمة (١) وأمثالها في الطرف الآخر ، لجواز ان يراد بلفظ الماء فيها بعض افراده وهو غير الجاري ، بل قد استدل ـ هو نفسه (قدس‌سره) على مساواة مياه الحياض والأواني لغيرها في عدم انفعال الكر منها ـ بالعمومات الدالة على عدم انفعال الكر بالملاقاة مطلقا ، ردا على ما ذهب اليه المفيد في المقنعة وسلار ، فكيف يمنع العموم هنا؟

وما ذكره المولى الأردبيلي (طاب ثراه) في المقام ـ من ان القول بالمفهوم لا يستلزم القول بعمومه هنا ، لان الخروج من العبث واللغو يحصل بعدم الحكم في بعض المسكوت عنه ، وذلك كاف وفيما نحن فيه يصدق انه إذا لم يكن الماء كرا ينجسه شي‌ء من النجاسات بالملاقاة في الجملة ، وذلك يكون في الراكد ، وكفى ذلك لصحة المفهوم ـ لو تم لبطل الاستدلال بهذا المفهوم على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، مع انه عمدة أدلتهم على ذلك المطلب ، وذلك فان مقتضى منطوق «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء» (٢). عدم تنجيس شي‌ء من النجاسات

__________________

(١) في الصحيفة ١٧٩ السطر ١.

(٢) تقدم الكلام فيه في التعليقة ٣ في الصحيفة ١٩١.

١٩٢

للماء بعد بلوغه كرا ، ومفهومه تنجيس شي‌ء له مع عدم البلوغ ، ويكفي للخروج من العبث واللغو ـ كما ذكره (قدس‌سره) ـ حصول الحكم في بعض المسكوت عنه. وهو تنجيسه بالنجاسة المغيرة للماء ، سيما مع كون (شي‌ء) نكرة في سياق الإثبات ، وهو خلاف ما صرحوا به في المقام من ارادة العموم من لفظ (شي‌ء) كما سيأتيك تحقيقه ان شاء الله تعالى في بيان نجاسة الماء القليل بالملاقاة.

وبالجملة فكما ان لفظ (الماء) في المنطوق للعموم فكذا في المفهوم ، ومثله لفظ (شي‌ء) فيهما ، ودلالته على العموم بتقريب ما ذكرنا آنفا مما لا مجال لإنكاره.

و (اما ثانيا) ـ فلأن ما ذكره ـ من تعارض العمومين بناء على دلالة صحيحة حريز وأمثالها (١) على ان كل ماء طاهر ما لم يتغير ـ محل النظر ، لعدم تسليم العموم من تلك الأخبار كما أشرنا اليه (٢) وسيأتيك ان شاء الله تعالى (٣) ما فيه زيادة تنبيه عليه ، وحينئذ فلا عموم في ذلك الطرف ويبقى عموم المفهوم سالما من المعارض.

ثم انه على تقدير تسليم العموم كما يدعونه فالأظهر تخصيصه بعموم المفهوم المؤيد بمنطوق صحيحة علي بن جعفر المتقدمة (٤) ، وإلا فبالصحيحة المذكورة ان نوقش في تخصيص العام بالمفهوم ، بناء على منع بعض الأصوليين ذلك مطلقا أو إلا ان تكون دلالته أقوى من دلالة العام على الفرد الذي يخصص به. فإنه يخصص به العام حينئذ ، وإلا فلا.

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ١٧٩.

(٢) في الصحيفة ١٨٩ السطر ٣.

(٣) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد دلالة الأخبار المستدل بها على عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة.

(٤) في الصحيفة ١٩١ السطر ١٢.

١٩٣

على ان التحقيق عندي ـ كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى ـ (١) ان دلالة هذه الأخبار على نجاسة القليل بالملاقاة لا تنحصر في مفهوم مخالفتها ، بل المتبادر منها بقرينة المقام ان مقصودهم (عليهم‌السلام) بيان المعيار الفارق بين ما ينجس بملاقاة النجاسة وبين ما لا ينجس ، فههنا في التحقيق دلالتان كما سيتضح لك في محله ان شاء الله تعالى.

و (اما ثالثا) ـ فلان ما ذكره من تعارض العمومين من وجه ، فيه ان الظاهر ان مراده من العمومين عموم المفهوم القائل : ان كل ماء قليل ينجس بالملاقاة وعموم المنطوق الذي نطقت به الروايات الدالة على ان كل ماء لا ينجس ما لم يتغير ، القائل بأن كل ماء لا ينجس بمجرد الملاقاة.

وأنت خبير بأن النسبة بين هذين العمومين هو العموم والخصوص المطلق لا من وجه. وعموم المفهوم أخص مطلقا. ومقتضى القاعدة المقررة تقديم العمل به وتخصيص العام به ، وحينئذ فالدليل عليه لا له.

و (اما رابعا) ـ فلان ترجيحه (قدس‌سره) جانب الطهارة بالإجماع ـ مع ان الإجماع عندهم دليل قطعي فلا يحتاج معه الى الترجيح ـ محل نظر لا يخفى ، فكان الأولى أن يقول : ونقل الإجماع. هذا ما اقتضاه النظر العليل وخطر بالفكر الكليل والاحتياط حيثما توجه أوضح سبيل.

(المقالة الخامسة) ـ اشترط شيخنا الشهيد في الدروس في الجاري دوام النبع ، وتبعه في هذا الشرط الشيخ جمال الدين احمد بن فهد في موجزه.

قال في الدروس : «ولا يشترط فيه الكرية على الأصح. نعم يشترط فيه

__________________

(١) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد الوجه الخامس من الوجوه التي استدل بها المحدث الكاشاني على عدم انفعال الماء القليل بمجرد الملاقاة.

١٩٤

دوام النبع» فعنده الشرط فيه أحد الأمرين : اما الكرية أو دوام النبع.

واختلف كلام من تأخر عنه في فهم معنى هذا الكلام وما المراد منه.

فقيل : ان المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان ككثير من المياه التي تخرج زمن الشتاء وتجف في الصيف ، وهو الذي صرح به شيخنا الشهيد الثاني في كتاب روض الجنان ، ولذلك اعترض عليه وطالبه بالدليل. ولا ريب ان هذا المعنى هو الأربط باللفظ والأقرب إليه ، لكونه المتبادر منه عرفا ، ولكنه مما يقطع بفساده.

(أما أولا) ـ فلانه لا شاهد له في الاخبار ، ولا يساعد عليه الاعتبار ، فهو تخصيص لعموم الأدلة بمجرد التشهي.

و (اما ثانيا) ـ فلان الدوام بالمعنى المذكور ، ان أريد به ما يعم الزمان كله فلا ريب في بطلانه ، إذ لا سبيل الى العلم به ، وان خص ببعضها فهو مجرد تحكم. وبالجملة فالظاهر ان فساده مما لا يخفى على ذلك المحقق النحرير ، فساحة شأنه أجل من ان يجري منه به قلم التحرير.

وقيل : ان المراد بدوام النبع استمراره حال ملاقاة النجاسة ، وهذا هو الذي ذكره المحقق الشيخ علي بعد ان أطال في التشنيع على من فسر تلك العبارة بالمعنى الأول واستحسن هذا المعنى جملة ممن تأخر عنه. وهو وان كان خلاف ظاهر اللفظ إلا انه في حد ذاته مستقيم ، إذ متى كان حال ملاقاة النجاسة غير مستمر النبع كان بمنزلة القليل. وأنت خبير بان مرجعه الى اعتبار المادة ، وحينئذ فلا يزيد على اشتراط الجريان إذ الجاري ـ كما عرفت ـ هو النابع ، فزيادة هذا القيد حينئذ ليس بمحل من الفائدة.

وبعض محققي متأخري المتأخرين وجه كلام المحقق المذكور فقال بعد نقله واستحسانه : «وتقريبه ان عدم الانفعال بالملاقاة في قليل الجاري معلق بوجود المادة كما علمت ، فلا بد في الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها حال ملاقاة النجاسة ،

١٩٥

وربما يتخلف ذلك في بعض افراد النابع كالقليل الذي يخرج بطريق الترشح (١) فان العلم بوجود المادة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل ، لانه يترشح آنا فآنا ، فليس له فيما بين الزمانين مادة ، وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط واللازم من ذلك الحكم بالانفعال بها عملا بعموم ما دل على انفعال القليل ، لسلامته حينئذ عن معارضة وجود المادة ، ولا يخفى ان اشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا ولولاه لكان داخلا في عموم النابع ، لصدق اسمه عليه. وهذا التقريب وان اقتضى تصحيح الاشتراط المذكور في الجملة إلا انه ليس بحاسم لمادة الإشكال ، من حيث ان ما هذا شأنه في عدم العلم بوجود المادة له عند الملاقاة ربما حصل له في بعض الأوقات قوة بحيث يظهر فيه اثر وجود المادة ، واللازم حينئذ عدم انفعاله ، مع ان ظاهر الشرط يقتضي نجاسته. ويمكن ان يقال : ان الشرط منزل على الغالب من عدم العلم بوجود المادة في مثله وقت الملاقاة ، ويكون حكم ذلك الفرض النادر محالا على الاعتبار ، وهو شاهد بمساواته للمستمر» انتهى كلامه زيد مقامه.

وفسر بعض الفضلاء المحدثين من متأخري المتأخرين النابع على وجوه :

(أحدها) ـ ان ينبع الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا ينبع ثانيا إلا بعد إخراج بعض الماء.

و (ثانيها) ـ ان لا ينبغ ثانيا إلا بعد حفر جديد كما هو المشاهد في بعض الأراضي.

و (ثالثها) ـ ان ينبغ الماء ولا يقف الى حد كما في العيون الجارية ، قال : «وشمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري للوجه الثاني غير واضح ، فيبقى تحت

__________________

(١) هذا الكلام مما يدل على كون الماء الخارج بطريق الرشح من جملة النابع كما صرحنا به في المقالة الأولى (منه قدس‌سره).

١٩٦

ما يدل على اعتبار الكرية ، وكأن مراد شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) ما ذكرنا ، وبذلك اندفع عنه ما أورد عليه» انتهى.

(المقالة السادسة) ـ قد عرفت مما تقدم (١) انه لا خلاف ولا إشكال في ان الجاري ينجس مع استيلاء النجاسة وغلبتها على أحد أوصافه الثلاثة ، وحينئذ فإن تغير بعضه اختص بالتنجيس إلا أن يكون الماء ممتدا وينقص ما تحت المتغير عن الكر ويستوعب التغير عمود الماء ـ وهو خط ما بين حافتيه عرضا وعمقا ـ فينجس ما تحت المتغير ايضا ، لتحقق الانفصال.

وناقش بعض محققي متأخري المتأخرين في الحكم بنجاسة ما تحت المتغير في الصورة المذكورة ، حيث قال بعد نقل الحكم المذكور : «وهذا الحكم وان كان مشهورا فيما بين المتأخرين لكن ليس له وجه ظاهر ، إذ يتخيل حينئذ انه ينقطع اتصاله بما فوق فيصير في حكم القليل. وليس بمسلم ، إذ الانقطاع إنما يحصل بانقطاع الماء وعدم جريانه اليه بالاتصال. وفيما نحن فيه ليس كذلك ، إذ الماء يجري الى ما تحت ، غايته في البين ماء نجس. والحاصل ان الأصل الطهارة وعموم دلائل انفعال القليل قد عرفت حاله ، فلا بد في نجاسة هذا الماء من دليل ، ولا دليل عليه إلا ان يتمسك بالشهرة أو عدم القول بالفصل. وفي الكل نظر لكن الاحتياط فيه» انتهى.

وهو غريب ، فإنه ان سلم نجاسة القليل بالملاقاة ـ كما يعطيه صدر كلامه ـ فلا ريب انه يصدق على هذا الماء كونه كذلك. واتصاله بالجاري ـ بواسطة الماء المتغير بالنجاسة على الوجه المذكور ـ ليس باتصال. وان منعها أو منع عموم أدلتها على وجه يشمل موضع البحث فهي مسألة أخرى يأتي تحقيقها ان شاء الله تعالى (٢).

__________________

(١) في المقالة الثالثة في الصحيفة ١٧٨.

(٢) يأتي تحقيق نجاسة القليل بالملاقاة وعدمها في المقام الأول من الفصل

١٩٧

ثم ان للحكم المذكور زيادة على ما ذكرنا صورا تختلف باختلاف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اعتبار استواء السطوح وعدمه كما سيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى (١).

وجملة صور المسألة ان يقال : إذا تغير بعض الجاري فاما ان يكون متساوي السطوح أولا ، وعلى التقديرين اما ان يقطع التغير عمود الماء على ما قدمنا (٢) أو لا وعلى الأول اما ان يبلغ ما ينحدر عن المتغير مقدار الكر أو لا. فهذه صور ست :

(الأولى) ـ كون السطوح متساوية ولا يقطع التغير عمود الماء. ولا إشكال في اختصاص المتغير بالتنجيس إذا بلغ الباقي كرا ، ومع عدمه فيبني على الخلاف المتقدم (٣) من اشتراط كرية الجاري في عدم الانفعال وعدمه.

(الثانية) ـ الصورة بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود الماء وكان المنحدر عن المتغير كرا ، وحينئذ فما فوق المتغير مما يلي المادة ان كان أكثر من كر فالحكم كما في الصورة الأولى ، وإلا بني على الخلاف المتقدم (٤) ايضا.

وربما قيل هنا بعدم انفعاله لو كان قليلا وان اعتبرت الكرية ، معللا بأن جهة المادة في الجاري أعلى سطحا من المتنجس فلا ينفعل به. ورد بأنه ليس بشي‌ء ، لأن الجريان يتحقق مع مساواة السطوح كما يشهد به العيان.

(الثالثة) ـ الصورة الثانية بحالها إلا ان ما ينحدر عن المتغير دون الكر ،

__________________

الثالث ويأتي الكلام في عموم أدلة النجاسة بالملاقاة لموضع البحث وعدمه في المقام الرابع من الفصل الثالث.

(١) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.

(٢) في الصحيفة ١٩٧ السطر ٦.

(٣) في المقالة الرابعة في الصحيفة ١٨٧.

(٤) في المقالة الرابعة في الصحيفة ١٨٧.

١٩٨

ولا ريب في نجاسته مع المتغير ، لقلته وانفصاله ، وحكم ما فوق المتغير كما في سابقتها. واحتمل بعض المحدثين (١) عدم تنجس ما تحت المتغير ، قال : «لانه هارب عن المتغير واستلزام مجرد الاتصال التنجيس غير ثابت» انتهى.

(الرابعة) ـ ان تختلف السطوح ولم تستوعب النجاسة عمود الماء ، وحكمها كما في الصورة الأولى.

(الخامسة) ـ الصورة بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود الماء وكان ما بعد المتغير مما يبلغ الكر ، والكلام في هذه الصورة مبني على الخلاف الآتي بيانه ان شاء الله تعالى (٢) في اشتراط استواء سطوح مقدار الكر من الواقف وعدمه ، فعلى الاشتراط ينجس ما تحت المتغير ايضا ، وعلى تقدير عدمه يختص التنجيس بالمتغير. واما ما فوق المتغير فان كان فوقيته محسوسة فهو طاهر قطعا وان اعتبرنا الكرية في الجاري وكان أقل من كر ، لأنه أعلى من النجس فلا يؤثر فيه ، وان كان انزل فيبني على الخلاف المتقدم (٣).

(السادسة) ـ الصورة بحالها ولكن المنحدر عن المتغير أقل من كر ، ولا ريب في نجاسته. وحكم ما فوق المتغير كما في سابقتها. والاحتمال المتقدم (٤) جار هنا ايضا هذا كله لو كان الماء ممتدا في قناة ونحوها. اما لو كان مجتمعا في مكانه الذي يخرج منه ـ كمياه العيون الغير الممتدة ـ فإنه يختص التنجيس بالموضع المتغير ان كان الباقي كرا والا بني على الخلاف المتقدم (٥) وربما أمكن أيضا فرض الصور الثلاث الأول لو اتسع

__________________

(١) هو المحدث الأمين الأسترآبادي (قده) وسيجي‌ء في كلامه (منه قدس‌سره).

(٢) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.

(٣ و ٥) في المقالة الرابعة في الصحيفة ١٨٧.

(٤) في الصورة الثالثة.

١٩٩

المكان الذي فيه الماء على الينابيع التي تخرج من الأرض.

ثم اعلم انه لا وجه هنا بناء على المشهور لاعتبار استواء السطوح في عدم الانفعال بالملاقاة كما سيأتي في الكثير من الراكد ، لكن يتجه ـ على قول العلامة باعتبار ذلك في كثير الراكد عند ملاقاة النجاسة ، بناء على ما صرح به في التذكرة كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ـ اعتبار ذلك هنا أيضا في مقدار الكر من الجاري ، لقوله بانفعاله بالملاقاة. لكنه (رحمه‌الله) في جملة من كتبه أطلق القول عند تغير البعض من الجاري باختصاص النجاسة بالمتغير دون ما فوقه وما تحته تساوت سطوحه أو اختلفت وهو لا يخلو من تدافع. الا ان يقال : ان إجماله في الكلام هنا احالة على ما علم تفصيله بالتأمل في مقتضى قواعده المقررة في تلك المسألة (١).

واعتذر عنه بعض محققي متأخري المتأخرين بان عدم تعرضه هنا لذلك كأنه يرى للجاري خصوصية عن الواقف في الجملة وان شاركه في انفعال قليله بالملاقاة ، ولعل الخصوصية كون الغالب فيه عدم الاستواء ، فلو اعتبرت المساواة على حد ما ذكره في الواقف ، للزم الحكم بتنجيس الأنهار العظيمة بملاقاة النجاسة أوائلها التي لا تبلغ مقدار الكر ولو بضميمة ما فوقها ، وذلك معلوم الانتفاء.

__________________

(١) قال في القواعد : «ولو تغير بعضه بها نجس دون ما قبله وما بعده». وقال الشيخ علي (ره) في شرحه بعد كلام في المقام : «وإطلاق عبارة المصنف تخرج على مذهب الأصحاب لا على اشتراط الكرية في الجاري ، وهكذا صنع في غير ذلك من مسائل الجاري» انتهى. وقال في التذكرة : «لو تغير الجاري اختص المتغير منه بالتنجيس وكان غيره طاهرا ، ثم قال : الثاني ـ لو كان الجاري أقل من كر نجس بالملاقاة للملاقي وما تحته وفي أحد قولي الشافعي انه لا ينجس إلا بالتغير» انتهى. فانظر الى هذا الاختلاف. ويحتمل ان يكون إطلاقه في جميع هذه الموارد محمولا على الجاري الذي هو كر فصاعدا وان الباقي بعد التغير لو تغير بعضه كر فصاعدا. والله العالم (منه رحمه‌الله).

٢٠٠