الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

سليمان البحراني (قدس‌سرهما) انه كان يقول : «لو ورد علينا في مثل هذه المسألة ألف حديث لما عملنا به ، لانه معارض لما قام عليه الدليل العقلي والنقلي من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة».

وهو ـ كما ترى ـ اجتهاد صرف وتعصب بحت ، فان الدليل النقلي ـ المطابق للدليل العقلي الذي هو عبارة عما دل من الاخبار على وجوب بذل العلم ، كقوله (عليه‌السلام) : «ان الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم» (١). وما اشتهر من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار». الى غير ذلك ـ مخصوص بما رواه ثقة الإسلام في الكافي (٢) بسنده الى عبد الله بن سليمان قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول ، وعنده رجل من أهل البصرة ـ يقال له عثمان الأعمى ـ وهو يقول : ان الحسن البصري يزعم ان الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم أهل النار. فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : فهلك اذن مؤمن آل فرعون ، ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا ، فليذهب الحسن يمينا وشمالا فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا». ونحوه روى في كتاب بصائر الدرجات ولعل الحسن البصري ـ حيث انه من جملة النصاب ورؤوس ذوي الأذناب ـ كان يعرض بهم (عليهم‌السلام) في عدم جوابهم عن بعض الأسئلة كما تدل عليه الاخبار السابقة (٣).

وفي هذين الخبرين دلالة على جواز تأخير البيان مع التقية حتى بالنسبة إلى غيرهم ايضا ، وحينئذ فتلك القاعدة وما يطابقها من الأخبار مخصصة بما ذكرناه من الأخبار.

وكأن شيخنا العلامة المشار اليه قصر النظر على عموم الأخبار المتقدمة من حيث

__________________

(١) تقدم الكلام في هذا الحديث في التعليقة ٣ في الصحيفة ٨١.

(٢) في باب النوادر من كتاب فضل العلم وهو الحديث ١٥ منه.

(٣) المشار إليها في الصحيفة ١٦٠ السطر ٦.

١٦١

دلالتها على عدم وجوب الجواب عليهم (عليهم‌السلام) سواء كان لتقية أم لا ، وبذلك تحصل المنافاة للقاعدة المذكورة (١).

وبما ذكرنا لك من الخبرين المذكورين (٢) تنكشف عن تلك الأخبار غشاوة العموم وتختص بمقام التقية كما لا يخفى.

ومنها ـ حمل اللفظ الوارد في أخبارهم (عليهم‌السلام) على الحقيقة الشرعية ان ثبتت وإلا المعنى العرفي الخاص ، ومع عدمه فالمعنى اللغوي وإلا العرفي العام (٣) وقد عرفت ما فيه في المقدمة الثامنة.

ومنها ـ قولهم : عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي ، وبعبارة أخرى ، عدم وجود الدليل دليل على العدم. وقد عرفت ما فيه في المقدمة الثالثة في مسألة البراءة الأصلية (٤).

__________________

(١) بمعنى انه (ره) فهم من الاخبار الدالة على عدم وجوب الجواب عليهم (عليهم‌السلام) عدم الجواب مطلقا لتقية كان أولا. وبذلك تحصل المنافاة بين تلك الاخبار وبين هذه القاعدة ، فلذا رد تلك الاخبار ولم يعمل بها في مقابلة القاعدة المذكورة ، ولو انه يخصصها بمقام التقية ، بمعنى ان عدم وجوب التعرض عليهم إنما هو من حيث التقية واما مع عدمها فيجب عليهم الجواب ، لظهر وجه الجمع بينها وبين القاعدة المذكورة بتخصيص المنع عن جواز تأخير الجواب عن وقت الحاجة بغير وقت التقية. وكذلك الأخبار ـ التي استند إليها في تأييد القاعدة المذكورة ، من وجوب بذل العلم وعدم جواز كتمانه ـ مخصوصة بغير مقام التقية كما دريته من الخبرين المنقولين. وبالجملة فمن المعلوم ان شرعية التقية مما ينتج جواز تأخير الجواب لهم (عليهم‌السلام) ولغيرهم وبذلك يرتفع الاشكال. ولكن الظاهر انه لم يخطر ذلك لشيخنا المشار اليه بالبال (منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ١٦١ السطر ٨ و ١٣.

(٣) تعرض له في الصحيفة ١٢١ السطر ٣.

(٤) تعرض له في الوجه الثاني من وجوه دفع البراءة في الشبهة التحريمية في الصحيفة ٤٥ السطر ٣.

١٦٢

ومنها ـ قولهم : الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من طرح أحدهما. وقد تقدم ما فيه في المقدمة السادسة (١).

ومنها ـ انه إذا تعارضت الاخبار في وجوب فعل واستحبابه أو تحريم شي‌ء وكراهته ، يرجحون جانب الاستحباب أو الكراهة بالبراءة الأصلية. وفيه ما تقدم في المقدمة الرابعة (٢).

ومنها ـ ما صار اليه جمع من متأخري المتأخرين من حمل أوامر السنة ونواهيها على الاستحباب والكراهة ما لم تقم قرينة الوجوب أو التحريم (٣) وقد عرفت ما فيه في المقدمة السابعة.

ومنها ـ ما صاروا إليه أيضا من انه متى ورد الحكم في خبر ضعيف باصطلاحهم المتأخر ، حملوه على الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه. وفيه ان ضعف السند ليس من القرائن الموجبة للحمل على المجاز.

ومنها ـ قولهم : انه إذا تعلق الطلب بالماهية الكلية يتحقق الامتثال بفرد منها لأن الأصل عدم تعلق الطلب بقيد زائد. وفيه ما افاده بعض مشايخنا المحدثين من ان بعض الماهيات الكلية تحتها افراد تصلح عند العقلاء لان يتعلق غرض ببعضها دون بعض ، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء ومسح مخرج الغائط بالأحجار ويستهجن عندهم الاقدام على فرد من إفرادها من غير سؤال. وهذا نوع من الإجمال منشأه نفس المعنى لا اللفظ.

ومنها ـ انهم جعلوا من جملة وجوه الجمع بين الأخبار بل أظهرها حمل الأمر

__________________

(١) في الصحيفة ٨٩ سطر ١٣.

(٢) في الصحيفة ٦٩ السطر ١٦.

(٣) تعرض له في الصحيفة ١١٥ السطر ٧.

١٦٣

على الاستحباب والنهي على الكراهة. وقد عرفت ما فيه في الموضع السادس (١) من الأبحاث المتعلقة باخبار التعارض من المقدمة السادسة.

ومنها ـ قولهم : انه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق. وقد عرفت ما فيه في المقدمة التاسعة (٢).

ومنها ـ ما ذهب اليه جمع من ان كل عقد اشتمل على شرط فاسد فإنه يبطل به أصل العقد ، لان المقصود بالعقد هو المجموع. وأصل العقد مجردا عن الشرط غير مقصود فيكون باطلا ، لان العقود تابعة للقصود ، فما كان مقصودا غير صحيح وما كان صحيحا غير مقصود. وذهب جمع الى بطلان الشرط خاصة.

والأخبار فيها ما يدل على الثاني وفيها ما يدل على الأول ، فالواجب حينئذ هو الوقوف على الدليل ـ كيف كان ـ ان وجد ، وإلا فالاحتياط.

ومما يدل على الثاني صحيحتا محمد بن قيس المتضمنة إحداهما (٣) اشتراط المرأة في عقد النكاح ان بيدها الجماع والطلاق. والأخرى (٤) اشتراط أن يجي‌ء الزوج بالصداق إلى أجل مسمى ، وإلا فليس له عليها سبيل. وقد حكم (عليه‌السلام) فيهما بصحة العقد وأبطل الشرط.

ومرسلة جميل بن دراج (٥) «في الرجل يشتري الجارية ويشترط لأهلها ان لا يبيع ولا يهب ولا يورث؟ قال (عليه‌السلام) : يفي بذلك إذا شرط لهم إلا الميراث».

__________________

(١) في الصحيفة ١٠٨ السطر ٢٠.

(٢) في الصحيفة ١٢١.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٩ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح.

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ١٠ ـ من أبواب المهور من كتاب النكاح.

(٥) المروية في الوسائل في باب ـ ١٥ ـ من أبواب بيع الحيوان من كتاب التجارة.

١٦٤

وحسنة الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) الواردة في بريرة وانها كانت مملوكة لقوم فباعوها على عائشة واشترطوا ان لهم ولاءها ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الولاء لمن أعتق» (٢).

وبذلك يظهر لك ما في كلام السيد السند صاحب المدارك (قدس‌سره) في شرح المختصر في مسألة ما لو شرط في عقد النكاح ما يخالف المشروع ، حيث اختار العمل بالقاعدة المتقدم نقلها (٣) للعلة التي تقدم ذكرها (٤) وقال ـ بعد نقل صحيحتي محمد بن قيس المشار إليهما (٥) وكلام في المقام ـ ما صورته : «لكن مرجع الروايتين إلى رواية واحدة وهو خبر محمد بن قيس. وفي صلاحيته بمجرده لإثبات الحكم نظر ، ولو ثبت العمل به لوجب قصر الحكم بالصحة على مورد الرواية ، والحكم في غيره بالبطلان ، لما ذكر من الدليل» انتهى. فان فيه ـ كما عرفت ـ ان الحكم بالصحة ليس مقصورا على صحيحتي محمد بن قيس (٦) اللتين قد تمحل بإرجاعهما الى خبر واحد. بل غيرهما من الأخبار ايضا دال عليه كما دريت.

ومما يدل على الأول مرسلة مروان بن مسلم عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٣٧ ـ من أبواب كتاب العتق.

(٢) ومن ذلك ما رواه الكليني عن الوشاء عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «سمعته يقول : لو ان رجلا تزوج امرأة وجعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف ، كان المهر جائزا والذي جعله لأبيها فاسدا». قال السيد السند في شرح المختصر بعد ذكر هذا الخبر : ويستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد. انتهى وفيه رد على ما ذكره في الموضع المشار إليه في الأصل ومؤيد لما قلناه (منه رحمه‌الله).

(٣) وهي قاعدة فساد أصل العقد بفساد الشرط.

(٤) في الصحيفة ١٦٤ السطر ٦.

(٥) في الصحيفة ١٦٤ السطر ١١.

(٦) في الصحيفة ١٦٤ السطر ١١.

١٦٥

(عليه‌السلام) (١) قال : «قلت : ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها؟ قال : فقال : ولى الأمر من ليس أهله وخالف السنة ولم يجز النكاح». ولا تخلو من إجمال في الدلالة كما سيأتي التنبيه عليه في محله ان شاء الله تعالى.

ومنها ـ ما ذهب إليه جملة منهم من أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده الخاص. وقد مرت الإشارة الى ما فيه في المقدمة الثالثة (٢) ومثله القول في مقدمة الواجب (٣) الى غير ذلك من القواعد التي تضمنها كتاب القواعد لشيخنا الشهيد وكتاب تمهيد القواعد لشيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقديهما) وما ذكرناه من القسمين انما هو أنموذج يتذكر به اللبيب ويحذو حذوه الموفق المصيب ، ولئلا يجمد على مجرد التقليد لظاهر المشهورات وان زخرف بضم الإجماع في العبارات ، وإلا فالقواعد من الجانبين أكثر من ان يأتي عليها قلم الإحصاء في البين.

__________________

(١) رواها صاحب الوافي في باب (الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز) من الجزء الثاني عشر.

(٢) في الصحيفة ٥٩ السطر ١٦.

(٣) ومما يدخل في حيز هذا الباب ما ذكره جملة منهم من التوقف في الحكم ولفتوى على وجود القائل وان وجد النص الدال على ذلك. وفيه ما أورده بعض مشايخنا المحدثين من أنه (أولا) يلزم التسلسل. و (ثانيا) انه يكون قول المعصوم أقل درجة من قول سائر المجتهدين.

و (أقول) : لا يخفى على من تأمل كلام المتأخرين انتشار أقوالهم في المسائل الشرعية مع ان كلام المتقدمين سيما على عصر الشيخ أقل قليل في الفتاوى ، حيث انه لم تعرف لهم كتب فتاوى يعمل عليها ويستند إليها ، وفتاوى الشيخ ومن عاصره لم تبلغ في الكثرة والانتشار الى ما صاروا إليه في هذه الأعصار ، فقد خالفوا قاعدتهم من حيث لا يشعرون (منه رحمه‌الله).

١٦٦

المقدمة الثانية عشرة

في الإشارة إلى نبذة من الكلام في أحوال المجتهدين من أصحابنا والأخباريين. وبها تختتم ما أردنا إيراده من المقدمات وقصدنا إحرازه من المتممات ، تيمنا بهذا العدد الشريف وتبركا بهذا العقد المنيف ، اعلم انه قد كثرت الأسئلة من جملة من الطلبة عن الفرق بين المجتهد والاخباري وأكثر المسئولون من وجوه الفروق ، حتى أنهاها ـ شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني (نور الله مرقده) في كتاب منية الممارسين في أجوبة مسائل الشيخ ياسين ـ إلى ثلاثة وأربعين.

وقد كنت في أول الأمر ممن ينتصر لمذهب الأخباريين ، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين ، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافعية والاخبار الكافية تدل على ذلك وتؤيد ما هنالك.

إلا ان الذي ظهر لي ـ بعد إعطاء التأمل حقه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام ـ هو إغماض النظر عن هذا الباب وإرخاء الستر دونه والحجاب ، وان كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام.

(أما أولا) ـ فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبين كما قد طعن به كل من علماء الطرفين على الآخر ، بل ربما انجر الى القدح في الدين سيما من الخصوم المعاندين ، كما شنع به عليهم الشيعة من انقسام مذهبهم الى المذاهب الأربعة ، بل شنع به كل منهم على الآخر ايضا.

(واما ثانيا) ـ فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جله بل كله عند التأمل لا يثمر فرقا في المقام ، فان من أظهر ما اعتمدوه فرقا في المقام هو كون الأدلة عند

١٦٧

المجتهدين أربعة : (الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل) الذي هو عبارة عن البراءة الأصلية والاستصحاب. واما عند الأخباريين فالأولان خاصة. وفي هذا الفرق نظر ظاهر ، فإن الإجماع وان ذكره المجتهدون في الكتب الأصولية وعدوه في جملة الأدلة وربما استسلفوه في الكتب الاستدلالية ، إلا أنك تراهم في مقام التحقيق في الكتب الاستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود مدلوله حتى يضمحل أثره بالكلية ، كما لا يخفى على من تصفح الكتب الاستدلالية كالمعتبر والمسالك والمدارك ونحوها ، وقد تقدم لك في المقدمة الثالثة (١) نبذة من الإشارة الى ذلك. واما دليل العقل فالخلاف في حجيته بين المجتهدين موجود في غير موضع ، والمحققون منهم على منعه. وقد فصل المحقق ـ في أول كتاب المعتبر والمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم وغيرهما في غيرهما ـ الكلام في البراءة الأصلية والاستصحاب على وجه يدفع تمسك الخصم به في هذا الباب ، فليراجع ذلك من أحب الوقوف عليه. وقد حققنا ذلك في كتاب الدرر النجفية ، وتقدم لك في هذا الكتاب (٢) إشارة الى ذلك.

ومن الفروق التي ذكروها ان الأشياء عند الأخباريين على التثليث : (حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك) واما عند المجتهدين فليس إلا الأولان خاصة. وفي هذا الوجه ايضا نظر ، فان الشيخ في العدة وقبله شيخه المفيد قد ذهبا الى القول بالتثليث كما نقلوه عن الأخباريين مع انهما من أساطين المجتهدين ، وكلام الصدوق (قدس‌سره) ـ في كتاب الاعتقادات صريحا وفي كتاب من لا يحضره الفقيه ظاهرا ـ مما ينادي بالقول بالتثنية كما عليه المجتهدون ، قال في كتاب الاعتقادات : «باب الاعتقاد

__________________

(١) في المقام الثاني منها الواقع في الصحيفة ٣٥.

(٢) في المطلب الأول من المقام الثالث من المقدمة الثالثة الواقع في الصحيفة ٤١ والمطلب الثاني منه الواقع في الصحيفة ٥١.

١٦٨

في الحظر والإباحة ، قال الشيخ (رضي‌الله‌عنه) : اعتقادنا في ذلك ان الأشياء كلها مطلقة حتى يرد في شي‌ء منها نهي» انتهى. فالأشياء عنده اما حلال أو حرام كما هو عند المجتهدين مع انه رئيس الأخباريين.

ومنها ـ انهم ذكروا ان الاستدلال بالكتاب والسنة خاصة مخصوص بالأخباريين ، مع ان الخلاف بين الأخباريين واقع فيه ، فمنهم المحدث الأسترآبادي الذي هو المجدد لمذهب الأخباريين في الزمان الأخير. فإنه قد صرح في كتاب الفوائد المدنية بعدم جواز العمل بشي‌ء منه إلا ما ورد تفسيره عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) واقتصر آخرون على العمل بمحكماته ، وتعدى آخرون حتى كادوا ان يشاركوا الأئمة (عليهم‌السلام) في تأويل متشابهاته كما تقدمت الإشارة اليه (١).

و (اما ثالثا) ـ فلأن العصر الأول كان مملوءا من المحدثين والمجتهدين ، مع انه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف ، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف ، وان ناقش بعضهم بعضا في جزئيات المسائل واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل.

وحينئذ فالأولى والأليق ـ بذوي الايمان ، والأحرى والأنسب في هذا الشأن ـ هو أن يقال : ان عمل علماء الفرقة المحقة ـ والشريعة الحقة أيدهم الله تعالى بالنصر والتمكين ورفع درجاتهم في أعلى عليين سلفا وخلفا ـ إنما هو على مذهب أئمتهم (صلوات الله عليهم) وطريقهم الذي أوضحوه لديهم ، فان جلالة شأنهم ـ وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على مر الأيام والدهور ـ يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة القويمة والطريقة المستقيمة ، ولكن ربما حاد بعضهم ـ أخباريا كان أو مجتهدا ـ عن الطريق غفلة أو توهما أو لقصور اطلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو

__________________

(١) في المقام الأول من المقدمة الثالثة في الصحيفة ٢٧.

١٦٩

لا يوجب تشنيعا ولا قدحا. وجميع تلك المسائل ـ التي جعلوها مناط الفرق ـ من هذا القبيل كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل ، فانا نرى كلا من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل بل ربما خالف أحدهم نفسه ، مع انه لا يوجب تشنيعا ولا قدحا. وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق (رحمه‌الله تعالى) الى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا إخباري ، مع انه لم يقدح ذلك في علمه وفضله.

ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الاعتساف إلا من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته المرضية ، فإنه قد جرد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك اي إسهاب ، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب. وهو وان أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب ، إلا انها لا تخرج عما ذكرنا من سائر الاختلافات ودخولها فيما ذكرنا من التوجيهات. وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد ان لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد ، فإنهم (رضوان الله عليهم) لم يألوا جهدا في إقامة الدين واحياء سنة المرسلين ، ولا سيما آية الله (العلامة) الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة ، فإنه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين ـ من الحجج القاطعة والبراهين ، حتى آمن بسببه الجم الغفير ، ودخل في هذا الدين الكبير والصغير والشريف والحقير ، وصنف من الكتب المشتملة على غوامض التحقيقات ودقائق التدقيقات ، حتى ان من تأخر عنه لم يلتقط إلا من درر نثاره ولم يغترف إلا من زاخر بحاره ـ قد صار له ـ من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ـ ما يستحق به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل ، لا الذم والنسبة إلى تخريب الدين كما اجترأ به قلمه عليه (قدس‌سره) وعلى غيره من المجتهدين.

ولنشرع الآن في المقصود متوكلين على الملك المعبود ومفيض الخير والجود ، فنقول وبه سبحانه الثقة لإدراك كل مأمول :

١٧٠

كتاب الطهارة وفيه أبواب أربعة

الباب الأول في المياه

وينقسم الماء الى مطلق ومضاف. والأول منهما الى جار وراكد. والجاري إلى ماء بئر وغيره. والراكد الى كر وأقل منه. والأقل إلى ماء سؤر وغيره.

وحيث جرت عادة فقهائنا (نور الله تعالى مراقدهم) بأفراد البحث لكل من هذه الأقسام لاختلافها بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة في الأحكام ، كان الواجب بسط الكلام هنا في فصول ستة وختام.

الفصل الأول

في الماء المطلق الجاري ، والقول فيه ينتظم في مقالات :

(المقالة الاولى) ـ المراد بالجاري هو النابع وان لم يتعد محله. والنبع ـ على ما في كتب اللغة ـ عبارة عن خروج الماء من العين ، قال في الصحاح : «نبع الماء ينبع نبوعا : خرج ، والينبوع عين الماء ، ومنه : قوله تعالى (حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (١) والجمع ينابيع» انتهى. وقال في القاموس : «نبع الماء ينبع ـ مثلثة ـ نبعا ونبوعا : خرج من العين ، والينبوع العين» وقال في مادة عين : «العين : الباصرة ، الى ان قال : وينبوع الماء» انتهى. وعلى هذا فالعين انما هو اسم للينبوع الذي يخرج منه الماء وان اشتهر إطلاقها على مجمع الماء ، وحينئذ فما

__________________

(١) سورة الإسراء. آية ٩٣.

١٧١

يوجد ـ في بعض البلدان كبلادنا البحرين حرسها الله من طوارق الملوين ، من الآبار التي يخرج ماؤها بطريق الترشح من الأرض ـ لا تدخل في الجاري ، ولعلها مما تدخل تحت الثمد بالثاء المثلثة ثم الميم ثم الدال المهملة ، وهو ـ على ما صرح به في القاموس ـ الماء القليل لا مادة له ، إذ الظاهر ان المراد بالمادة هو الينبوع الذي يخرج منه الماء بقوة وثوران دون ما يخرج بطريق الترشح من جميع سطح الأرض ، ولهذا ان الوالد (عطر الله مرقده) كان يطهر ـ تلك الآبار المشار إليها حيث كانت في قريته متى تنجست ـ بإلقاء الكر عليها دون مجرد النزح منها ، إلا ان تطهيره لها بإلقاء الكر عليها كان بجعل الكر في ظروف متعددة. وفيه عندي إشكال سيأتي التنبيه عليه في الكلام على تطهير الماء القليل ان شاء الله تعالى.

(المقالة الثانية) الثلج والبرد أو كان ماء بحر أو نحوه ـ طاهر في نفسه مطهر لغيره إجماعا ، فتوى ودليلا ، آية ورواية.

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) وقوله عز شأنه : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).) (٢).

وقد أورد على الاستدلال بهذه الآيات سؤالات : (أحدها) ـ ان أقصى ما تدل عليه طهورية ماء السماء لا مطلق الماء ، فالدليل أخص من الدعوى.

(ثانيها) ـ ان (ماء) في الآيتين نكرة في سياق الإثبات ، وهي لا تفيد العموم كما صرحوا به في الأصول.

(ثالثها) ـ ان (طهورا) هنا لا يجوز ان يكون على بابه من المبالغة في أمثاله لأن المبالغة في (فعول) إنما هي بزيادة المعنى المصدري وشدته فيه ، كأكول وضروب ،

__________________

(١) سورة الفرقان. آية ٥١.

(٢) سورة الأنفال. آية ١٢.

١٧٢

وكون الماء مطهرا لغيره أمر خارج عن أصل الطهارة التي هي المعنى المصدري ، فكيف تراد منه؟ بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.

والجواب عن الأول ـ ان المستفاد من الآيات القرآنية ان الماء أصله كله من السماء ، وبذلك صرح شيخنا الصدوق في أول كتاب من لا يحضره الفقيه ، وما ذكره المتخرصون ـ من ان مواد المياه ليست إلا الأبخرة المحتبسة ، وان حصل لها الغزارة والنزارة بكثرة مياه الأمطار والثلوج وقلتها ـ فكلام عار عن التحصيل ، فضلا عن مخالفته لصريح التنزيل ، وما ورد عن معادن التأويل.

ومن الآيات الدالة على ما قلنا قوله سبحانه : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» (١)

وروى الثقة الجليل علي ابن إبراهيم القمي في تفسير هذه الآية عن الباقر (عليه‌السلام) قال : «هي الأنهار والعيون والآبار».

وقوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ...» (٢).

وقوله تعالى : «(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) الى قوله (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ)(٣).

فهذه الآيات دالة على ان أصل ماء الأرض كله من السماء.

والجواب عن الثاني ـ انه وان كان كذلك مع عدم قرينة تفيد العموم إلا ان قرينة المقام في هذه الآيات التي نقلناها تفيد العموم ، فان الظاهر ان هذه الآيات كلها واردة في معرض التفضل وإظهار الامتنان وبيان الانعام ، وحينئذ فلو كان هناك

__________________

(١) سورة المؤمنون. آية ١٩.

(٢) سورة الزمر. آية ٢٣.

(٣) سورة النحل. آية ١١ و ١٢.

١٧٣

فرد آخر لذكره (عز شأنه) سيما مع ما يدل عليه قوله سبحانه : «وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» (١) من التهديد بأنه ان أذهب ذلك الماء النازل من السماء لم يبق لنا غيره. وبما ذكرنا صرح جمع من الأصوليين ، حيث قالوا بأن النكرة في سياق الإثبات إذا كانت للامتنان عمت ، وفرعوا عليه قوله سبحانه : «فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ» (٢).

والجواب عن الثالث ان الطهور في اللغة لمعان :

(أحدها) ـ انه وصف بمعنى طاهر ، ومنه انقدحت الشبهة على المعترض المذكور.

و (ثانيها) ـ ما هو مشهور بين أهل اللغة ـ على ما نقله جمع من الخاصة والعامة ـ من انه اسم لما يتطهر به ، كالسحور والوقود والغسول ونحوها. وحمله في تلك الآيات على هذا المعنى ممكن ، وان احتاج وصف الماء به الى نوع تجريد ، لأن أسماء الآلة كأسماء الزمان والمكان لا يوصف بها مثل المشتقات ، وحينئذ فلا اثر لذلك الإيراد.

و (ثالثها) ـ بمعنى الطاهر المطهر كما هو المدعى ، وبذلك صرح الفاضل الفيومي في كتاب المصباح المنير ، حيث قال : «وطهور قيل مبالغة وانه بمعنى طاهر ، والأكثر انه لوصف زائد ، قال ابن فارس : قال ثعلب : الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. وقال الأزهري أيضا : الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر ، قال : وفعول في كلام العرب لمعان : (منها) ـ فعول لما يفعل به ، مثل الطهور لما يتطهر به ، والوضوء لما يتوضأ به ، والفطور لما يفطر عليه والغسول لما يغتسل به ويغسل به الشي‌ء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «هو الطهور ماؤه» (٣). أي هو الطاهر المطهر

__________________

(١) سورة المؤمنون. آية ١٩.

(٢) سورة الرحمن. آية ٦٩.

(٣) هذا من حديث روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ماء البحر بالنص

١٧٤

قاله ابن الأثير ، قال : وما لم يكن مطهرا فليس بطهور. وقال الزمخشري : الطهور البليغ في الطهارة. وقال بعض العلماء : ويفهم من قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) انه طاهر في نفسه مطهر لغيره ، لان قوله : (ماء) يفهم منه انه طاهر ، لانه ذكر في معرض الامتنان. ولا يكون ذلك إلا بما ينتفع به ، فيكون طاهرا في نفسه. وقوله : (طهورا) يفهم منه صفة زائدة على الطهارة وهي الطهورية (فإن قيل) : قد ورد طهور بمعنى طاهر كما في قوله : «ريقهن طهور» (فالجواب) ان وروده كذلك غير مطرد بل هو سماعي ، وهو في البيت مبالغة في الوصف أو واقع موقع طاهر لإقامة الوزن ، ولو كان طهور بمعنى طاهر مطلقا لقيل : ثوب طهور وخشب طهور ونحو ذلك. وهو ممتنع» انتهى كلام صاحب المصباح.

والى ذلك ايضا يشير كلام الشيخ في التهذيب حيث قال : «الطهور هو المطهر في لغة العرب ، ثم قال : وليس لأحد أن يقول : ان الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا ، لأن هذا خلاف على أهل اللغة ، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل : هذا ماء طهور. وهذا ماء مطهر. ثم قال ما ملخصه : انه لو قيل : ان الطهور لا يكون بمعنى المطهر ، لان اسم الفاعل منه غير متعد ، وكل فعول ورد في كلام العرب متعديا لم يكن إلا وفاعله متعد. قيل له : انه لا خلاف بين أهل النحو ان فعولا موضوع للمبالغة وتكرر الصفة. وعدم حصول المبالغة على ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها بوجه آخر. والمراد هنا باعتبار كونه مطهرا» انتهى.

__________________

الآتي : «هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته».

كما في الجزء الأول من المنتقى لابن تيمية في الصحيفة ٤ ، وكما في الجزء الثالث من تيسير الوصول للشيبانى في الصحيفة ٥٤ وغيرهما.

ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة عن المحقق في المعتبر.

(١) سورة الفرقان. آية ٥١.

١٧٥

واعترضه جمع من متأخري المتأخرين ـ منهم : المحققان المدققان الشيخ حسن في المعالم والسيد السند في المدارك ـ بما حاصله : ان الطهور لم يرد في اللغة بمعنى المطهر ، بل هو اما صفة كقولك : ماء طهور اي طاهر ، أو اسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به. والشيخ قد استدل على كونه بمعنى المطهر بأنه لا خلاف بين أهل النحو. واللغة لا تثبت بالاستدلال.

وفيه ان الشيخ (رحمه‌الله) لم يستدل على كون طهور بمعنى مطهر ، وانما نقل ذلك عن العرب وأسنده إليهم ، ثم استشعر اعتراضا قد أورد في البين وأجاب عنه بما ذكر. وكلامه من قبيل ما يقال : انه تعليل بعد الورود ، وبيان ذلك ان أبا حنيفة قد خالف في المسألة وقال : ان طهورا بمعنى طاهر ، وأنكر كونه بذلك المعنى ، وأورد على من ادعى انه كذلك هذا السؤال الذي ذكره الشيخ (رحمه‌الله تعالى) وأجاب عنه. والسؤال المذكور وجوابه مذكوران في كتب الشافعية كينابيع الاسفرايني وغيره ، فإنهم نقلوا عن أبي حنيفة ذلك وأجابوا عنه بما ذكر. وبذلك ظهر ان الشيخ لم يكن غرضه الاحتجاج على ذلك وانما استند في ثبوته الى ما نقله عن العرب ، وغرضه من ذلك الكلام الآخر انما هو دفع السؤال وبيان حكمة الواضع وتصحيح لغرضه لا الاحتجاج على ذلك المطلب وإثباته.

والعجب من إنكار جملة من فضلاء متأخري المتأخرين ـ كهذين الفاضلين وغيرهما ـ ورود طهور بمعنى الطاهر المطهر لغة. وكلام صاحب المصباح ـ كما عرفت ـ على غاية من الصراحة والإيضاح ، وقد نقله عن جملة من أئمة اللغة ، بل ظاهر كلامه انه قول الأكثر ، وان المعنى الوصفي للفظ الطهور إنما هو عبارة عن هذا المعنى. واما كونه بمعنى طاهر فظاهر آخر كلامه ـ كما عرفت ـ انه غير مطرد بل موقوف على السماع كما في البيت الذي أورده. وعبارة القاموس أيضا دالة على ذلك ، حيث قال : «الطهور

١٧٦

المصدر واسم ما يتطهر به والطاهر المطهر» انتهى. ونقل بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) ان الشافعية نقلت ذلك عن أهل اللغة ، ونقل هو (قدس‌سره) عن الترمذي ـ وهو من أئمة اللغة ـ انه قال : «الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر غيره» انتهى. ونقله المحقق في المعتبر عن بعض أهل اللغة أيضا.

ومن الاخبار الدالة على ذلك

ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر» (١). وفي هذا الحديث الشريف بحث نفيس حررناه في كتاب الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وقد تقدم جملة من الكلام فيه في صدر المقدمة الحادية عشرة (٢).

وصحيحة داود بن فرقد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا ، فانظروا كيف تكونون؟».

ورواية السكوني عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الماء يطهر ولا يطهر».

وهذا الحديث بناء على القول بنجاسة القليل بالملاقاة لا يخلو من اشكال ، فإن

__________________

(١) رواه الكليني في الكافي في باب ـ ١ ـ من كتاب الطهارة ، والشيخ في التهذيب في باب (المياه وأحكامها) في الصحيفة ٦١ بالنص المذكور في الكتاب ، ورواه الصدوق في الفقيه في باب (المياه وطهرها ونجاستها) من الجزء الأول بالنص الآتي : «كل ماء طاهر إلا ما علمت انه قذر».

(٢) في الصحيفة ١٣٤.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

١٧٧

قليل الماء إذا تنجس كان طهره بالكثير من الجاري أو الراكد.

وأجيب بأن المراد يطهر غيره ولا يطهره غيره.

ويرد عليه أيضا بأنه على إطلاقه غير مستقيم ، لانتقاضه بالبئر ، فان تطهيرها بالنزح ، والماء النجس يطهر باستحالته ملحا ، والماء القليل إذا كان نجسا وتمم كرا بمضاف لم يسلبه الإطلاق ، فإنه في جميع هذه الصور قد طهر الماء غيره.

وأجيب عن ذلك (اما عن الأول) فبانا لا نسلم ان مطهر البئر حقيقة هو النزح بل هو في الحقيقة الماء النابع منها شيئا فشيئا بعد إخراج الماء المنزوح. ولا يخلو من ضعف. بل التحقيق الجواب بعدم نجاسة البئر بالملاقاة ، وحينئذ فأصل الاعتراض بالبئر ساقط.

و (اما عن الثاني) فبان الماء قد عدم بالكلية فلم يبق هناك ماء مطهر بغيره. ومثله ايضا الماء النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم واستحال بولا ، فإنه يخرج عن الحقيقة الأولى الى حقيقة أخرى.

و (اما عن الثالث) فبعد تسليم ذلك يمكن ان يقال : المطهر هنا هو مجموع الماء البالغ كرا لا المضاف وحده.

ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن الماء متى تنجس فطهره بممازجة الكثير له على وجه يستهلك النجس فيه ، وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا ، لاضمحلال النجس حينئذ ، وحينئذ يصدق ان الماء لا يطهر. وفي الحديث حينئذ دلالة على اعتبار الممازجة في المطهر دون مجرد الاتصال كما هو أحد القولين ، ولعل هذا المعنى أقرب من الأول ، لسلامته من التكلفات.

(المقالة الثالثة) ـ لا خلاف ولا إشكال في أن الماء الجاري بل كل ماء ينجس باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه الثلاثة أعني اللون أو الطعم أو الريح.

١٧٨

وتدل عليه الأخبار المستفيضة كصحيحة حريز عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ منه واشرب ، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب».

وصحيحة زرارة (٢) : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء إلا ان تجي‌ء ريح تغلب على ريح الماء».

ورواية عبد الله بن سنان (٣) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غدير أتوه وفيه جيفة. فقال : ان كان الماء قاهرا ولا توجد فيه الريح فتوضأ».

وصحيحة أبي خالد القماط (٤) انه سمع أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول «في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه ، وان لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب منه وتوضأ».

ورواية العلاء بن الفضيل (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحياض يبال فيها؟ قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول».

ورواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) انه «سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال : ان تغير الماء فلا تتوضأ منه ، وان لم تغيره أبوالها فتوضأ منه. وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه».

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة بالنص الآتي : قال : وقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء ـ تفسخ فيه أو لم يتفسخ ـ إلا ان تجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء».

(٣ و ٤ و ٥ و ٦) المروية في الوسائل في باب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

١٧٩

واستدل جمع من متأخري المتأخرين على الحكم المذكور بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‌ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» (١). بل ادعى السيد السند في المدارك انه من الأخبار المستفيضة.

والعجب منه (قدس‌سره) انه ـ بعد ذلك في بحث نجاسة البئر بالملاقاة ، حيث أنكر ورود نجاسة الماء بتغير لونه في أخبارنا ـ طعن في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل والحق كونه كذلك (٢) فانا لم نقف عليه في شي‌ء من كتب أخبارنا بعد الفحص التام ، وبذلك صرح ايضا جمع ممن تقدمنا.

وممن صرح بكونه عاميا شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الحبل المتين ، ذكر ذلك أيضا في مقام إنكار ورود التغير اللوني في أخبارنا ، والظاهر انه اقتفى في هذه المقالة أثر السيد المذكور.

والعجب منهما (قدس‌سرهما) في ذلك ورواية العلاء بن الفضيل المتقدمة (٣) تنادي بالدلالة عليه.

ومثلها صحيحة شهاب بن عبد ربه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) المروية في كتاب البصائر (٤) حيث قال في آخرها : «وجئت تسأل عن الماء الراكد ، فما.

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في باب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة عن المعتبر والسرائر.

(٢) الذي عثرنا عليه في روايات العامة بهذا المضمون هي النصوص الآتية : «الماء لا ينجسه شي‌ء إلا ما غلب عليه طعمه أو ريحه».

كما في الجزء الأول من سنن البيهقي في الصحيفة ٢٥٩. «ان الماء طاهر الا ان تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها».

كما في الصحيفة ٢٦٠ منه. «الماء لا ينجس الا ما غير ريحه أو طعمه».

كما في الصحيفة ٢٦٠ منه ايضاو قد رواها عن النبي (ص) مسندة. «الماء طهور الا ما غلب على ريحه أو طعمه».

كما في كنز العمال ج ٥ ص ٩٤.

(٣) في الصحيفة ١٧٩ السطر ١٢.

(٤) ج ٥. باب (ان الأئمة يعرفون الإضمار) وفي الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

١٨٠