الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

وصحيحة ضريس (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين والروم أنأكله؟ فقال : ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتى تعلم انه حرام».

وموثقة مسعدة بن صدقة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة».

ورواية عبد الله بن سليمان (٣) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن فقال : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، الى ان قال : قلت : ما تقول في الجبن؟

فقال : سأخبرك عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه». الى غير ذلك من الأخبار (٤).

وظاهر هذه الأخبار بل صريح جملة منها اختصاص الحكم المذكور بما فيه افراد بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة ولم يميز الشارع بينها بعلامة ، واشتبه بعضها ببعض

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب (حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم انه خلطه حرام) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٦١ ـ من أبواب الأطعمة المباحة من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٤) و (منها) ـ رواية أبي الجارود المروية في كتاب المحاسن قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى انه يجعل فيه الميتة؟ فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل. الحديث». (منه رحمة الله عليه).

١٤١

مع كونها غير محصورة ، فالجميع حلال حتى يعرف الحرام بعينه على الخصوص ، فمورد الحكم حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي دون الحكم الشرعي نفسه ، وبهذا التخصيص جزم المحدث الأمين الأسترآبادي.

وظاهر جمع ـ ممن قدمنا نقل الخلاف عنهم (١) في القاعدة المتقدمة ـ اجراء ذلك أيضا في نفس الحكم الشرعي ، ومقتضى ذلك انه لو وجد حيوان مجهول مغاير للأنواع المعلوم حلها وحرمتها من الحيوانات ، فإنه يحكم بحله بناء على عموم القاعدة المذكورة ، وكذا بطهارته بناء على عموم القاعدة المتقدمة ، إلا ان شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد صرح في مثل ذلك بالطهارة والتحريم محتجا بالأصل فيهما ، قال : «اما أصالة الطهارة فظاهر ، واما أصالة التحريم فلأن المحرم غير منحصر ، لكثرته على وجه لا ينضبط» وفيه ما لا يخفى.

وأنت خبير بان مقتضى العمل باخبار التثليث ـ التي تقدمت الإشارة إليها في بحث البراءة الأصلية (٢) ـ التوقف في مثل ذلك ، إذ شمول هذه الاخبار التي ذكرناها لمثل ذلك مما يكاد يقطع بعدمه ، فإنها متشاركة الدلالة ـ تصريحا في بعض وتلويحا في آخر ـ على ان موردها إنما هو موضوع الحكم الشرعي والافراد المعلومة الحكم مع اشتباهها. والله ورسوله وأولياؤه (عليهم‌السلام) أعلم بحقائق الأحكام.

ومنها ـ عدم نقض اليقين بالشك ، والمراد بالشك ما هو أعم من الظن كما سلف في القاعدة المتقدمة (٣) من دلالة حسنة الحلبي وصحيحة زرارة على ذلك.

والأخبار الدالة على هذه القاعدة الشريفة مستفيضة ، ومنها الروايتان المشار إليهما.

__________________

(١) في الموضع الأول في الصحيفة ١٣٤ السطر ١٣.

(٢) في الصحيفة ٤٦ السطر ٨.

(٣) في الصحيفة ١٣٨ السطر ١٧ و ١٩ والصحيفة ١٣٩ السطر ٣.

١٤٢

و (منها) ـ صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت له الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء قلت : فان حرك الى جنبه شي‌ء وهو لا يعلم به؟ قال : لا ، حتى يستيقن انه قد نام حتى يجي‌ء من ذلك أمر بين ، والا فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».

وصحيحة أخرى له ايضا عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «قلت له من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال يركع ركعتين ، الى ان قال : ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات».

والعمل بهذه القاعدة الشريفة بالنسبة إلى الشك في حصول الرافع وعدمه مما لا خلاف فيه ولا شك يعتريه.

إنما الخلاف في شمولها للشك في فردية بعض الأشياء لذلك الرافع ، كما لو حصل الشك في فردية الخارج من غير الموضع الطبيعي للناقض. بمعنى انه هل يكون من جملة نواقض الوضوء أم لا؟ فهل يدخل تحت هذه القاعدة أم لا؟ ومرجعه الى جريانها في نفس أحكامه تعالى واختصاصها بموضوعاتها خاصة.

__________________

(١) رواها الشيخ في التهذيب مضمرة في باب (الأحداث الموجبة للطهارة) من كتاب الطهارة ورواها صاحب الوسائل عنه في باب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء من كتاب الطهارة كذلك.

(٢) المروية في الوسائل بنحو التقطيع في باب ـ ١٠ و ١١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة.

١٤٣

الذي اختاره ـ المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) ـ الثاني ، واليه يميل كلام بعض فضلاء متأخري المتأخرين (١) ، حيث قال (قدس‌سره) بعد إيراد صحيحة زرارة المتقدمة (٢) الواردة في النوم : «الشك في رفع اليقين على أقسام : (الأول) ـ إذا ثبت ان الشي‌ء الفلاني رافع لحكم لكن وقع الشك في وجود الرافع (الثاني) ـ ان الشي‌ء الفلاني رافع للحكم لكن معناه مجمل ، فوقع الشك في كون بعض الأشياء هل هو فرد له أم لا؟ (الثالث) ـ ان معناه معلوم ليس بمجمل لكن وقع الشك في اتصاف بعض الأشياء به وكونه فردا له لعارض ، كتوقفه على اعتبار متعذر أو غير ذلك (الرابع) ـ وقع الشك في كون الشي‌ء الفلاني هل هو رافع للحكم المذكور أم لا؟ والخبر المذكور إنما يدل على النهي عن النقض بالشك ، وإنما يعقل ذلك في الصورة الاولى من تلك الصور الأربع دون غيرها من الصور ، لأن في غيرها من الصور لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا لم يكن النقض بالشك ، بل إنما حصل النقض باليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا ، وباليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه لا بالشك ، فان الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنما حصل النقض حين اليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا للحكم بسببه ، لأن الشي‌ء إنما يستند إلى العلة التامة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض للحكم اليقيني بالشك ، وإنما يكون ذلك في صورة خاصة غيرها ، فلا عموم في الخبر. ومما يؤيد ذلك ان السابق على هذا الكلام في الرواية ـ والذي جعل هذا الكلام دليلا عليه ـ من قبيل الصورة الأولى ، فيمكن حمل المفرد المعرف باللام عليه. إذ لا عموم له بحسب الوضع بل هو موضوع للعهد كما صرح به بعض المحققين من علماء العربية ، وانما دلالته على العموم بسبب أن الإجمال

__________________

(١) هو الفاضل الخراساني في الذخيرة شرح الإرشاد في مبحث الماء المضاف (منه رحمه‌الله).

(٢) في الصحيفة ١٤٣ السطر ١.

١٤٤

في مثل هذا الموضع ينافي الحكمة ، وتخصيصه بالبعض ترجيح من غير مرجح ، وظاهر ان الفساد المذكور إنما يكون حيث ينتفي ما يصلح بسببه الحمل على العهد ، وسبق الكلام في بعض أنواع الماهية سبب ظاهر لصحة الحمل على العهد من غير لزوم فساد. نعم يتجه ثبوت العموم في جميع افراد النوع المعهود. وليس هذا من قبيل تخصيص العام ببنائه على سبب خاص كما لا يخفى» انتهى كلامه زيد إكرامه.

(أقول) : ويمكن تطرق المناقشة الى هذا الكلام ، بان يقال : انه لا يخفى ـ على المتأمل بعين التحقيق والاعتبار فيما أوردناه من الأخبار ـ ان عدم نقض اليقين بالشك قاعدة كلية وضابطة جلية لا اختصاص لها بمادة دون مادة ولا فرد دون فرد ، وهو الذي اتفقت عليه كلمة الأصحاب كما لا يخفى على من تتبع كلماتهم في هذا الباب. والوجه فيه ان لأمي اليقين والشك فيها لام التحلية ، وهي وان كانت لا تفيد العموم بحسب الوضع بناء على ما صرح به جمع من علماء الأصول وان أشعر كلام البعض بخلافه ، لكنهم اتفقوا انها في المقامات الخطابية للعموم ، إذ هو الأوفق بمقتضى الحكمة.

وأما ما ذكره (قدس‌سره) بالنسبة إلى الرواية التي أوردها (١). ـ من ان اللام ثمة إنما تحمل على العموم مع عدم القرينة ، وقرينة العهدية حاصلة بالنسبة إلى الفرد المسؤول عنه.

ففيه (أولا) ـ ان ظاهر قوله (عليه‌السلام) في تلك الرواية : «ولا تنقض اليقين بالشك» إنما هو العموم ، فإنه (عليه‌السلام) استدل ـ على ان الوضوء اليقيني لا ينتقض بحدث النوم ـ بقوله : «لا ، حتى يستيقن انه قد نام ، الى قوله : وإلا فهو على يقين من وضوئه» ثم أردفه بتلك القاعدة تأكيدا للاستدلال وإيذانا بعموم

__________________

(١) المذكورة في الصحيفة ١٤٣ السطر ١.

١٤٥

الحكم في جميع الأحوال ، ولو كان مراده بها إنما هو عدم نقض الوضوء بالنوم على تلك الحال لكان اعادة للأول بعينه ، وهو خارج عن قانون الاستدلال.

و (ثانيا) ـ ما ذكرنا من دلالة غير هذه الرواية صريحا على كون ذلك قاعدة كلية كصحيحة زرارة الأخيرة (١) فإنها ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة واضحة المقالة على المراد غير قابلة للتأويل والإيراد ، وحينئذ فللقائل أن يقول : ان الشك الذي لا ينتقض به اليقين أعم من أن يكون شكا في وجود الناقض أو شكا بأحد المعاني الثلاثة الأخيرة فإنها ترجع بالأخرة إلى الشك في وجود الناقض ، إذ متى شك في كون هذا الفرد من افراد ذلك الكلي المتيقن نقضه ، فقد شك في وجود الكلي في ضمنه. وقوله ـ : «ان الناقض في هذه الصور إنما هو اليقين» ـ ممنوع ، بل الشك الحاصل في ضمن اليقين بوجود ذلك الفرد المشكوك في فرديته أو المشكوك في اتصافه بالعنوان أو في رفعه.

وقوله ـ : «ان الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل» ـ ان أراد به حصوله واقعا فممنوع ولكن لا يترتب عليه حكم ، وان أراد بحسب الوجود فممنوع ، إذ هو لا يحصل إلا في ضمن وجود ما يشك في كونه فردا للناقض أو نحو ذلك من الأقسام الباقية. هذا ما يقتضيه النظر في المقام إلا أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط مما ينبغي المحافظة عليه على كل حال.

ومنها ـ ان كل ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه ويدل على ذلك جملة من الأخبار المتفرقة في جزئيات المسائل.

ففي صحيحة الفضلاء (٢) «أنهم سألوا أبا جعفر (عليه‌السلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون. قال : كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» ،.

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ١٤٣ السطر ٧.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٩ ـ من أبواب الذبائح من كتاب الصيد والذبائح.

١٤٦

وفي رواية سماعة (١) قال : «سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال : لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة».

وفي صحيحة إبراهيم بن ابي محمود (٢) انه قال للرضا (عليه‌السلام) : «الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا ، وأنت تعلم انه يبول ولا يتوضأ ، ما تقول في عمله؟ قال : لا بأس».

ورواية ميسر (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله : آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال : أعد صلاتك ، اما انك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء».

وربما توهم من هذا الخبر الدلالة على خلاف المراد. وليس بذلك. وذلك لان ظاهره ان امره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة إنما هو لوجود عين النجاسة لا لكون الجارية إزالتها عن الثوب ، حتى لو فرض أنها إزالتها عن الثوب ولم يجدها فيه كان يجب عليه غسل الثوب واعادة الصلاة.

ومن ذلك ايضا الحديث الدال على ان الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (٤) الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.

وقد نقل ـ المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية والمحدث

__________________

(١) وهي مضمرته التي رواها صاحب الوسائل في باب ـ ٣٩ ـ من أبواب الذبائح من كتاب الصيد والذبائح.

(٢) المروية في الوافي في باب (التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة عن الخبث من كتاب الطهارة.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ١٨ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

(٤) وهو حديث عبد الأعلى عن ابى عبد الله المروي في الوسائل في باب ـ ٥٦ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

١٤٧

السيد نعمة الله (قدس‌سرهما) عن جملة ممن عاصراهم ـ انهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها عليهم ، ثم يشترونها منهم ، مستندين الى ان الثوب متيقن النجاسة ولا يرتفع حكم يقين النجاسة إلا بيقين الطهارة أو ما قام مقامه من شهادة العدلين أو إخبار ذي اليد. وفيه ـ زيادة على ما تقدم ـ انه لا ريب ان الحكم المذكور مما تعم به البلوى ، فلو كان مضيقا كما زعموا لظهر فيه اثر عنهم (عليهم‌السلام) وقد ذكر غير واحد من محققي أصحابنا النافين للبراءة الأصلية انها في مثل هذا الموضع مما يعتمد عليها في الاستدلال ، وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا آنفا (١) بل الظاهر من أخبارهم (عليهم‌السلام) ما يدل على التوسعة كما عرفت.

ومنها ـ الحكم بطهارة ما اشتبه بنجس وحلية ما اشتبه بمحرم مع عدم الحصر والتمييز ، ونجاسة الجميع أو حرمته إذا كان في محصور. وهذا هو المشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم).

وقيل بإجراء حكم الصورة الاولى في الثانية ، واليه يشير كلام السيد السند في كتاب المدارك بالنسبة إلى النجاسة والطهارة ، صرح بذلك في مسألة الإناءين ومسألة طهارة ما يسجد عليه كما سيأتي كل منهما في محله ان شاء الله تعالى. ولا يخفى ان ذلك لازم له في مسألة الحلال والحرام المشتبه أحدهما بالآخر وان لم نقف له على كلام فيه الا ان المسألتين من باب واحد.

وكذا كلام المحدث الكاشاني بالنسبة إلى الحل والحرمة ، حيث قال في كتاب المفاتيح بأنه إذا اختلط الحلال بالحرام فهو له حلال حتى يعرف الحرام بعينه. ولم يفرق بين المحصور وغيره.

ويرد على الأول منهما انه وان كان ما صرحنا به من القاعدة المذكورة لم يرد

__________________

(١) أشار الى ذلك في الصحيفة ٤٦ السطر ٤.

١٤٨

بها الأخبار على الوجه المدعى ، الا ان المستفاد منها ـ على وجه لا يزاحمه الريب في خصوصيات المسائل التي تصلح للجزئية والاندراج تحت كل من كليتي المحصور وغير المحصور ـ ان الحكم فيها كذلك ، ولا يخفى ان القواعد الكلية كما تكون بورود الحكم كليا وباشتمال القضية على سؤر الكلية ، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات كما في القواعد النحوية ، بل في بعض الاخبار الواردة في هذا المقام تصريح بكلية الحكم ايضا ، ولنشر هنا الى بعض الاخبار إجمالا ، لأن التفصيل في ذلك والأبحاث المتعلقة بما هنالك قد وكلناها الى مواضعها الآتية إن شاء الله تعالى.

فمما يدل على حكم المحصور وانه يحكم بنجاسة الجميع موثقة عمار (١) الواردة في الإناءين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر ، فإنها دلت على وجوب اجتنابهما.

وحسنة صفوان (٢) في الثوبين النجس أحدهما مع اشتباهه بالآخر ، حيث أمر (عليه‌السلام) بالصلاة في كل منهما على حدة.

والاخبار الدالة على غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي (٣).

ومما يدل على حكم غير المحصور ـ وانه يحكم بالطهارة في الجميع ـ ما قدمنا في القاعدة الاولى من موثقة عمار (٤) الدالة على ان كل شي‌ء طاهر حتى يعلم أنه

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق ، وفي باب ـ ٤ ـ من أبواب التيمم ، وفي باب ـ ٦٤ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٦٤ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٧ ـ من أبواب النجاسات والجلود من كتاب الطهارة.

(٤) في الصحيفة ١٣٤ السطر ٨. وقد تقدم الكلام في هذه الموثقة في التعليقة (١) في الصحيفة ٤٢ ويأتي منه (قده) التصريح بما ذكرناه هناك في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.

١٤٩

قذر كما قدمنا تحقيقه وأوسعنا مضيقة ، وهي متضمنة للحكم المذكور بوجه كلي كما أشرنا اليه.

ويرد ايضا عليه وعلى القائل الآخر الأخبار الدالة على حكم اللحم المختلط ذكية بميتته وانه يباع ممن يستحل الميتة كحسنتي الحلبي (١).

ويدل عليه خصوص صحيحة ضريس الكناسي المتقدمة في القاعدة الثانية (٢) وكذا رواية عبد الله بن سليمان المذكورة ثمة (٣). والاولى منهما متضمنة لحكم المحصور وغير المحصور على وجه كلي ونمط جلي ، وهي صريحة الدلالة في الرد على هذين الفاضلين. والثانية قد تضمنت حكم غير المحصور بوجه كلي أيضا.

ويؤيده (٤) بالنسبة إلى المحصور الذي هو محل النزاع ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه «ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال» (٥). وما ذكره جملة من أصحابنا من ان اجتناب الحرام واجب ، ولا يتم هنا إلا باجتناب الجميع. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومنها ـ الشك في شي‌ء بعد الخروج عنه ، لقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٦) : «إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء». وقوله

__________________

(١) المرويتين في الوسائل في باب ـ ٣٥ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) في الصحيفة ١٤١ السطر ١.

(٣) في الصحيفة ١٤١ السطر ٩.

(٤) انما جعلنا هذا الخبر مع صراحته في المدعى من المؤيدات لعدم الوقوف على سنده من كتب أصولنا ، وإنما وقفت عليه في عوالي اللئالي (منه رحمه‌الله).

(٥) رواه المجلسي في البحار في باب ـ ٣٣ ـ من كتاب العلم في الصحيفة (٢٧٢) رقم ٦ من المطبوع بمطبعة الحيدري بطهران.

(٦) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة.

١٥٠

(عليه‌السلام) في موثقة محمد بن مسلم (١) : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو». وقوله (عليه‌السلام) في رواية أبي بصير (٢) : «كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه».

وفي هذه القاعدة الشريفة أبحاث منيفة تأتي ان شاء الله تعالى في أحكام الوضوء.

ومنها ـ رفع الحرج. لقوله سبحانه (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤).

ويدل عليه من الاخبار حسنة عبد الأعلى (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٦) امسح عليه».

وفي رواية أبي بصير (٧) : «في الجنب يدخل يده في التور أو الركوة؟ قال : ان كانت يده قذرة فليهرقه ، وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٨). وفي صحيحة الفضيل (٩)

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة.

(٢) المروية في الوافي في باب (الشك في اجزاء الصلاة) من أبواب الفصل الخامس من كتاب الصلاة.

(٣) سورة الحج آية ٧٨.

(٤) سورة البقرة. آية ١٨٢.

(٥) المروية في الوسائل في باب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة.

(٦) سورة الحج آية ٧٨.

(٧) المروية في الوسائل في باب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(٨) سورة الحج آية ٧٨.

(٩) المروية في الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل من كتاب الطهارة.

١٥١

«في الجنب يغتسل فينضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال؟ لا بأس ، هذا مما قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (١).

ومنها ـ العذر فيما غلب الله عليه ، لحسنة حفص بن البختري عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سمعته يقول في المغمى عليه : ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر».

وبمضمونها في حكم المغمى عليه أخبار عديدة (٣) وفي بعضها «كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر». وزاد في بعض الاخبار المروية في ذلك ايضا من كتاب قرب الاسناد وبصائر الدرجات : «وهذا من الأبواب التي يفتح الله منها الف باب». وفي رواية مرازم في المريض الذي لا يقدر على الصلاة (٤) «كل ما غلب الله عليه فالله اولى بالعذر».

ومنها ـ الترجيح بالمرجحات المنصوصة عند اختلاف الأخبار. وقد تقدم الكلام عليها مفصلا (٥).

ومنها ـ الاحتياط في مواضعه على التفصيل المتقدم (٦).

ومنها ـ معذورية الجاهل على الوجه المتقدم تفصيله (٧).

__________________

(١) سورة الحج. آية ٧٨.

(٢ و ٣) رواها في الوسائل في باب ـ ٣ ـ من أبواب قضاء الصلاة من كتاب الصلاة.

(٤) المروية في الوافي في باب (صلاة المريض والهرم) من أبواب الفصل الخامس من كتاب الصلاة.

(٥) في المقدمة السادسة في الصحيفة ٨٧.

(٦) في المقدمة الرابعة في الصحيفة ٦٥.

(٧) في المقدمة الخامسة في الصحيفة ٧٧.

١٥٢

ومنها ـ العمومات القطعية المقررة عن صاحب الشريعة ، مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) واخبار «لا ضرر ولا ضرار» (٢).

ومنع ـ المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية ـ من الاستدلال بأمثال ذلك ، لظنية الدلالة ، والنهي عن اتباع الظن. وهو مع تسليمه إنما يتم فيما لم تكن دلالته محكمة. وأما ما كان كذلك فلا مانع من الاستدلال به. على انه قد استدل في كتابه المذكور بأمثال ذلك في غير موضع كما لا يخفى على من راجعه.

ومنها «المؤمنون عند شروطهم إلا ما خالف كتاب الله.» (٣) وفي بعضها «الا ما أحل حراما أو حرم حلالا». واخبار «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (٤). «وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام». (٥) «والبينة على المدعي واليمين على المنكر». (٦) إلا ما استثنى مما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى.

ومنها ـ في البيض المجهول ان يؤكل منه ما اختلف طرفاه دون ما استويا ، لصحيحة زرارة وغيرها (٧).

وفي الطير ما دف دون ما صف ، وما كان دفيفه أكثر ، ولو اتي به مذبوحا

__________________

(١) سورة المائدة. آية ٢.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٥ ـ من كتاب الشفعة وفي باب ـ ١٢ ـ من كتاب احياء الموات.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٦ و ١ و ٣ ـ من أبواب الخيار من كتاب التجارة.

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ٦ و ١ و ٣ ـ من أبواب الخيار من كتاب التجارة.

(٥) المروية في الوسائل في باب ـ ٦ و ١ و ٣ ـ من أبواب الخيار من كتاب التجارة.

(٦) المروية في الوسائل في باب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء.

(٧) المروية في الوسائل في باب ـ ١٩ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.

١٥٣

فيؤكل ما كان له قانصة دون ما لم يكن كذلك ، لرواية ابن ابي يعفور وغيرها (١).

وفي السمك يؤكل ما كان له فلس دون ما ليس كذلك (٢) كما استفاضت به الاخبار (٣).

ومنها ـ رفع الخطأ والنسيان وما استكره عليه وما لا يطاق وما لا يعلم وما اضطر اليه والحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة ، لما رواه الصدوق في الفقيه (٤) عن ابي عبد الله (عليه‌السلام).

والرفع في هذا الموضع أعم من أن يكون برفع الإثم والمؤاخذة كما في بعض الأفراد المعدودة ، أو رفع الفعل وانتفاء التكليف به كما في البعض الآخر.

ومنها ـ العمل بالتقية إذا ألجأت الضرورة إليها. والاخبار بذلك أكثر

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ١٧ و ١٨ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) ومن لطيف الحكايات في هذا المقام ما رواه الكشي في كتاب الرجال بسنده عن حريز قال : «دخلت على ابى حنيفة وعنده كتب كادت تحول بيننا وبينه ، فقال لي : هذه الكتب كلها في الطلاق. قال : قلت : نحن نجمع هذا كله في حرف. قال : ما هو؟ قلت : قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ). وساق الخبر ، الى ان قال : فقال لي : لاسئلك عن مسألة لا يكون عندك فيها شي‌ء ، فما تقول في جمل اخرج من البحر؟ قلت : ان شاء فليكن جملا وان شاء فليكن بقرة ، ان كانت عليه فلوس أكلناه والا فلا. الحديث» (منه رحمه‌الله).

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ٨ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٤) في باب (من ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه) من الجزء الأول ، وقد تقدم في التعليقة ١ في الصحيفة ٤٤ والتعليقة ٢ في الصحيفة ٨١ ما يتعلق بالحديث المذكور.

١٥٤

وأشهر من أن يتعرض لنقلها (١) بل ربما كان ذلك من ضروريات المذهب. وفي هذه القاعدة تفصيل حسن سيأتي الكلام عليه ان شاء الله تعالى في أحكام الوضوء.

ومنها ـ العمل بالبراءة الأصلية في الأحكام التي تعم بها البلوى كما تقدمت الإشارة الى ذلك (٢).

والوجه فيه ما ذكره بعض مشايخنا المحدثين من ان المحدث الماهر ـ إذا تتبع الأخبار الواردة حق التتبع في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ، ولم يظفر بذلك الحكم ـ يحصل له الجزم أو الظن المتاخم للعلم بعدم الحكم ، لان جما غفيرا من أصحابهم (عليهم‌السلام) ـ ومنهم : الأربعة آلاف رجل الذين من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) وتلامذته ـ كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان همتهم وهمة الأئمة (عليهم‌السلام) إظهار الدين وترويج الشريعة ، وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون كل ما يسمعونه خوفا من عروض النسيان له ، وكان الأئمة (عليهم‌السلام) يحثونهم على ذلك ، وليس الغرض منه إلا العمل به بعدهم. ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة الأصلية ، إذ لو كان ثمة دليل ـ والحال كذلك ـ لظهر.

وما اعترض به بعض متأخري المتأخرين ـ من ان ذلك لا يخلو من نوع اشكال لتطرق الضياع والتلف إلى جملة من الأصول ـ فالظاهر سقوطه ، لان الظاهر ان التلف إنما عرض لتلك الأصول أخيرا بالاستغناء عنها بهذه الكتب المتداولة ، لكونها أحسن منها ترتيبا وأظهر تبويبا ، وإلا فقد بقي من تلك الأصول إلى عصر السيد رضي الدين ابن طاوس (رضي‌الله‌عنه) جملة وافرة ، وقد نقل منها في مصنفاته كما نبه عليه ، وكذا

__________________

(١) رواها صاحب الوسائل في باب ـ ٢٤ و ٢٥ ـ من أبواب الأمر والنهى من كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وما يلحق به.

(٢) في الصحيفة ٤٦ السطر ٤.

١٥٥

ابن إدريس كما ذكره في مستطرفات السرائر ، وعد من هذا القبيل وجوب القصد إلى السورة ، ووجوب قصد الخروج بالتسليم ، ونجاسة أرض الحمام ، ونجاسة الغسالة.

ومنها ـ البناء في شك الأخيرتين من الرباعية على الأكثر ما لم يكن مبطلا.

وتدل عليه موثقة عمار الساباطي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن شي‌ء من السهو في الصلاة. فقال : ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شي‌ء؟ قلت : بلى. قال : إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت انك نقصت. الحديث».

وفي موثقة إسحاق بن عمار (٢) انه قال : «قال لي أبو الحسن (عليه‌السلام) : إذا شككت فابن على اليقين. قال : قلت : هذا أصل؟ قال : نعم».

وأكثر الأصحاب فهموا من هذا الخبر ان المراد به البناء على الأقل ، فيكون ذلك قاعدة مخالفة لتلك القاعدة ، وقد تكلفوا للجمع بينهما بالتخيير.

والأظهر عندي ـ كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ـ اما حمل اليقين في الخبر المذكور على البناء على الأكثر على ان يكون المراد به يقين البراءة ، إذ به يحصل يقين البراءة على الاحتمالين دون البناء على ما تيقن فعله وهو الأقل ، لوجوب الإعادة مع ظهور التمام للزيادة ، واما حمله على التقية ، لكون ذلك مذهب جمهور الجمهور (٣) مع اعتضاد القاعدة الأولى بالأخبار المستفيضة الصحيحة الصريحة في جزئيات الشكوك.

ومنها ـ الإبهام لما أبهم الله والسكوت عما سكت الله. ويدل عليه ما رواه في كتاب عوالي اللئالي عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يقول : أبهموا ما أبهم الله» (٤).

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة.

(٣) كما يظهر من المغني لابن قدامة ج ٢ ص ١٥. ومن المحلى لابن حزم ج ٤ ص ١٧٠.

(٤) ورواه المجلسي في البحار في باب ـ ٣٣ ـ من أبواب كتاب العلم.

١٥٦

وما رواه الشيخ المفيد (رحمه‌الله) في كتاب المجالس بسنده عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ان الله تعالى حد لكم حدودا فلا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وسن لكم سننا فاتبعوها ، وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها ، وعفى لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها» (١).

وما رواه في الفقيه من خطبة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وقد مر في آخر بحث البراءة الأصلية (٢).

ومنها ـ ثبوت العيب بما زاد أو نقص عن أصل الخلقة.

ويدل عليه ما رواه في الكافي (٣) عن السياري قال : «سأل ابن ابي ليلى محمد ابن مسلم فقال له : أي شي‌ء تروون عن ابي جعفر (عليه‌السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر ، أيكون ذلك عيبا؟ فقال له محمد : اما هذا نصا فلا أعرفه ، لكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب». فقال له ابن ابي ليلى : حسبك».

ومنها ـ ان كل شي‌ء يجتر فسؤره حلال ولعابه حلال. للخبر عنه (صلى الله

__________________

(١) ورواه المجلسي في البحار في باب ـ ٢٢ ـ من كتاب العلم برقم ١١ في الصحيفة ٢٦٣ من الجزء الثاني من المطبوع بمطبعة الحيدرى بطهران.

(٢) في الصحيفة ٥٠ السطر ١٧.

(٣) في باب ـ ٩٥ ـ من كتاب المعيشة. ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ١ ـ من أبواب أحكام العيوب من كتاب التجارة.

١٥٧

عليه وآله) رواه الصدوق (رحمه‌الله) في الفقيه مرسلا (١) ورواه في التهذيب ايضا (٢) عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب عن آبائه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ومنها ـ قبول قول من لا منازع له ، كما لو ادعى مالا ولا منازع له فيه. وقبول قول المرأة لو ادعت الحيض أو الخروج من العدة أو عدم الزوج أو موته.

وهذه القاعدة وان لم ترد الاخبار بها بالعنوان المذكور الا ان اتفاقها فيما وقفنا عليه من جزئيات هذه القاعدة مما يؤذن بكلية الحكم المذكور ، كما هو المفهوم ايضا من كلام الأصحاب ، ومما يوضح ذلك ان الاخبار ـ الواردة في إثبات الدعاوي بالبينة واليمين ـ لا عموم فيها على وجه يشمل مثل هذه المسألة ، إذ موردها إنما هو النزاع بين الخصمين وحصول مدع ومنكر في البين ، كما لا يخفى على من أحاط بها خبرا.

ومما حضرني من الأخبار في بعض جزئيات هذه القاعدة رواية منصور بن حازم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «قلت له : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه الف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا. وقال واحد منهم : هو لي. فلمن هو؟ قال : للذي ادعاه».

وحسنة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «العدة والحيض للنساء إذا ادعت صدقت».

__________________

(١) في باب (المياه وطهرها ونجاستها) من الجزء الأول.

(٢) في باب (المياه وأحكامها) من كتاب الطهارة في الصحيفة ٦٤ ، ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٥ ـ من أبواب الأسئار من كتاب الطهارة.

(٣) المروية في الوسائل في باب ـ ١٧ ـ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء.

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ٤٧ ـ من أبواب الحيض من كتاب الطهارة ، وفي باب ـ ٢٤ ـ من أبواب العدد من كتاب الطلاق.

١٥٨

ورواية ميسر (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد ، فأقول لها : ألك زوج؟ فتقول : لا. فأتزوجها؟ قال : نعم هي المصدقة على نفسها».

وفي رواية أبان بن تغلب الواردة في مثل ذلك (٢) قال (عليه‌السلام) : «ليس هذا عليك ، إنما عليك ان تصدقها في نفسها». ولا يخفى عليك ما في عموم الجواب من الدلالة على قبول قولها فيما يتعلق بها نفسها.

واستشكل صاحب الكفاية في قبول قولها في موت الزوج. وجمع من المعاصرين في قبول قولها بعدم الزوج بعد معلوميته سابقا. وهو ضعيف. والاخبار ترده. ومنها : الخبر المذكور ، ومنها أيضا : صحيحة حماد ورواية أحمد بن محمد بن ابي نصر (٣) نعم ربما ظهر من بعض الاخبار التقييد بكونها غير متهمة ، إلا ان الأظهر حمله على الاستحباب

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٥ ـ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد من كتاب النكاح ، وفي باب ـ ١٠ ـ من أبواب المتعة من كتاب النكاح.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ١٠ ـ من أبواب المتعة من كتاب النكاح.

(٣) وهو ما رواه حماد في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) «في رجل طلق امرأته ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها ، فقال لها : انى أريد مراجعتك فتزوجي زوجا غيري فقالت له : انى قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي. أيصدق قولها ويراجعها وكيف يصنع؟ قال : إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها». ورواية أحمد بن محمد ابن ابى نصر عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «قلت له : الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه ان لها زوجا؟ قال : ما عليه ، أرأيت لو سألها البينة كانت تجد من يشهد ان ليس لها زوج». ولا يخفى عليك ما في الثانية من الصراحة في المراد. والظاهر ان المراد بكونها ثقة في الرواية الأولى أي مما يوثق بأخبارها وتسكن النفس الى كلامها ، وهي التي ربما عبر عنها بالمأمونة ، لا الوثاقة بمعنى العدالة. ومع ذلك فالظاهر حملها على الاستحباب ، لاستفاضة الأخبار بأنها مصدقة على نفسها ، ومنها : الرواية المنقولة في المتن (منه رحمه‌الله).

١٥٩

والأحوطية جمعا بين الأخبار ، لتصريح جملة منها بقبول قولها في مقام التهمة أيضا. والله العالم.

تتمة مهمة

قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) قواعد أخر بنوا عليها الأحكام. مع كون جملة منها مما يخالف ما هو الوارد عنهم (عليهم‌السلام) ، وجملة أخرى مما لم يوجد له مستند في المقام.

فمنها ـ قولهم : انه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. مع انه قد استفاضت النصوص عنهم (عليهم‌السلام) في مواضع ـ منها : في تفسير قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) ـ بما يدفع هذه القاعدة ، حيث قالوا (صلوات الله عليهم) : «ان الله قد فرض عليكم السؤال ولم يفرض علينا الجواب ، بل ذلك إلينا ، ان شئنا أجبنا وان شئنا أمسكنا» (٢). نعم هذه القاعدة إنما تتجه على مذهب العامة ، لعدم التقية في اخبارهم ، وقد تبعهم من أصحابنا من تبعهم فيها غفلة.

(ولو قيل) : انه مع عدم جوابهم (عليهم‌السلام) يلزم الحرج.

(قلنا) : انما يلزم ذلك لو لم يكن ثمة مخرج آخر ، كيف؟ وقد تقرر عنهم (عليهم‌السلام) قاعدة جلية في أمثال ذلك. وهو سلوك جادة الاحتياط ، كما أسلفنا بيانه وأوضحنا برهانه (٣).

ونقل شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح عن شيخه العلامة الشيخ

__________________

(١) سورة النحل. آية ٤٦. سورة الأنبياء. آية ٨.

(٢) روى صاحب الوسائل شطرا من الاخبار المتضمنة لهذا المعنى في باب ـ ٧ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) في المقدمة الرابعة في ضمن التحقيق الواقع في الصحيفة ٦٨.

١٦٠