الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

وعند من ينفيها بحملها على المعاني اللغوية. واما مع القرينة الدالة على المعنى الشرعي فهي حقيقة شرعية على الأول أيضا ومجاز على الثاني.

هذا. وما اشتهر ـ في كلام جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) من ان الواجب حمل الخطابات الواقعة في الشريعة على الحقيقة الشرعية ان ثبتت ، وإلا فعلى عرفهم (عليهم‌السلام) ان علم ، والا فعلى الحقيقة اللغوية ان وجدت ، وإلا فعلى العرف العام ـ مما لم يعثر له على مستند ولم يقم عليه دليل معتمد ، وإنما المستفاد من أخبارهم كما مر (١) انه مع عدم العلم بما هو المراد من الخطاب الشرعي يجب الفحص والتفتيش ومع العجز عن الظفر بالمراد يجب رعاية الاحتياط والوقوف على سواء ذلك الصراط. على انه لا يخفى ما في بناء الأحكام على العرف العام من العسر والحرج المنفيين بالآية والرواية (٢) فإنه يوجب استعلام ما عليه كافة الناس في أقطار الأرض. واما البناء على العرف الخاص مع تعذر العام كما صار اليه بعضهم ، ففيه انه يوجب الاختلاف في الأحكام الشرعية. والمستفاد من الاخبار ان كل شي‌ء يؤدي الى الاختلاف فيها فلا يجوز البناء عليه. والله العالم.

المقدمة التاسعة

اختلف كلام الأصوليين من أصحابنا (رضوان الله عليهم) وغيرهم في ان صدق المشتق على ذات حقيقة ، هل يشترط فيه بقاء مأخذ الاشتقاق فبعد قيام المبدأ بالذات وانقضائه يكون مجازا ، أم لا يشترط فيكون حقيقة مطلقا؟ على أقوال متعددة وآراء متبددة بعد الاتفاق على انه حين القيام حقيقة وقبله مجاز ، فالضارب ـ لمن هو

__________________

(١) في الصحيفة ٨٢ السطر ٤.

(٢) سيأتي ـ في قاعدة نفى الحرج وهي القاعدة السابعة مما تضمنته المقدمة الحادية عشرة من القواعد ـ بيان ما يدل من الآيات والروايات على نفى العسر والحرج.

١٢١

مشتغل به الآن ـ حقيقة بلا خلاف ، ولمن يريد إيقاعه ـ ولما يقع منه ـ مجاز كذلك ، واما من ضرب وهو الآن غير ضارب فهل هو حقيقة أو مجاز؟ قولان ، إلا انه بسبب الإشكال في تعين محل الخلاف انتشرت الأقوال واتسع المجال.

فقيل بعدم اشتراط بقاء المأخذ مطلقا فيكون حقيقة. وعليه كثير من المعتزلة وأكثر الإمامية بل قيل كلهم.

وقيل بالاشتراط مطلقا فيكون مجازا. ونقل عن أكثر الأشاعرة والفخري في المحصول والبيضاوي في المنهاج ، واليه مال من أصحابنا المحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على شرح المدارك.

وقيل بالتفصيل بأنه ان كان المبدأ مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود فالمشتق مجاز ، وان كان مما لا يمكن بقاؤه كالمصادر السيالة الغير القارة نحو التكلم والاخبار فالمشتق حقيقة وان لم يبق المبدأ.

وقيل بالتوقف في المسألة ، لتصادم الأدلة من الطرفين وتعارض الاحتمالات من الجانبين ، ونقل عن الآمدي والحاجبي.

وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به ، كقولك : زيد مشرك أو قاتل أو متكلم. واما إذا كان محكوما عليه كقوله تعالى : «الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا ... الآية» (١) «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ...» (٢) «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ.» (٣) ونحوه ، فإنه حقيقة مطلقا سواء كان للحال أم لم يكن. وهو المنقول عن شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد.

وقيل : انه إذا كان اتصاف الذات بالمبدإ أكثريا بحيث يكون عدم الاتصاف

__________________

(١) سورة النور. آية ٣.

(٢) سورة المائدة. آية ٣٨.

(٣) سورة التوبة. آية ٥.

١٢٢

بالمبدإ في جنب الاتصاف مضمحلا ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه سواء كان المشتق محكوما عليه أو محكوما به وسواء طرأ الضد أم لا ، فالإطلاق حقيقة ، لأنهم يطلقون المشتقات على المعنى المذكور من دون نصب قرينة ، كالكاتب والخياط والمعلم والمتعلم ونحوها ولو كان المحل متصفا بالضد الوجودي كالنوم ونحوه. صرح به بعض أصحابنا المحققين من متأخري المتأخرين.

وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي ينافي الأول ، إذ لو طرأ من الموجودات ما ينافيه أو يضاده فإنه يكون مجازا اتفاقا. وهو منقول عن الفخري في المحصول ، نقله عنه في كتاب القواعد ، وأنكر شيخنا البهائي (رحمه‌الله) في حواشي الزبدة نسبة هذا القول الى المحصول ، قال : فانا لم نجده فيه» وشيخنا أبو الحسن (رحمه‌الله) نقله في حواشي المدارك عن التبريزي في التنقيح اختصار المحصول ، قال : «وربما كان في المحصول إشعار به ومن ثم نسبه الاستوى في التمهيد والشهيد الثاني في تمهيده اليه». انتهى.

وقيل بتخصيص محل النزاع بما قصد به الحدوث من المشتقات لا الدوام. ونقل ذلك عن المحقق التفتازاني في مقام الجواب عن الاستدلال على عدم الاشتراط بصدق المؤمن على النائم والغافل ، والمفهوم من كلامه ـ على ما نقله عنه بعض الأفاضل ـ تقييد محل النزاع بكل من قصد الحدوث وعدم طرو الضد الوجودي ، حيث قال : «والتحقيق ان النزاع في اسم الفاعل الذي بمعنى الحدوث لا في المؤمن والكافر والنائم واليقظان والحلو والحامض والحر والعبد ونحو ذلك مما يعتبر في بعضه الاتصاف به مع عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتصاف البتة». انتهى.

والظاهر ان السبب ـ في انتشار هذا الخلاف واتساع دائرة هذا الاختلاف ـ هو وجود بعض الموارد مما يقطع بتوقف الصدق فيها حقيقة على وجود المبدأ وما يحذو

١٢٣

حذوه ، كالبارد والحار والهابط والصاعد والساكن والمتحرك والحلو والحامض والأبيض والأسود والمملوك والموجود والنائم واليقظان ، وبعض مما يقطع فيها بالصدق حقيقة مع عدمه ، كالمخبر والمتكلم ونحوهما من المصادر السيالة ، وبعض مما يشكل فيه ذلك مثل المؤمن والكافر ، فإنه لو اعتبر في صدقهما حقيقة وجود المبدأ لم يصدقا على من كان نائما أو غافلا ، للخلو عن التصديق والإنكار الذين هما مناط الايمان والكفر مع ان الاتفاق قائم على الصدق في الحالين المذكورين ، ولو اعتبر العدم ، صدق المؤمن على من كان كافرا الآن لو كان مؤمنا سابقا ، والكافر على من كان بالعكس ، ونحو ذلك من الأمثلة المندرجة تحت تلك الأقسام. ومن أجل ذلك اختلفت أفهامهم وتصادمت أوهامهم وطال نقضهم وإبرامهم ، وزيف كل ما اختاره بأدلة لا تسلم من المناقشة والإيراد ، وأجاب كل منهم عن أدلة الآخر بما لا يكاد يفي بالمراد ، ومن ثم توقف من توقف من أولئك الأقوام وأحجم عن الدخول والاقدام.

والحق ان البناء لما كان على غير أساس كثر الشك فيه والالتباس ، والأدلة العقلية لا تكاد تقف في مقام ، بل لا تزال قابلة للنقض والإبرام ، لاختلاف العقول في الاستعداد قوة وضعفا وصفاء الأذهان والافهام ، كما لا يخفى على من خاض لجج بحور علم المعقول ورأى ثمة تصادم الافهام والعقول.

والأظهر عندي ان بناء الأحكام الشرعية ـ على مثل هذه القواعد الغير المنضبطة والأصول الغير المرتبطة ـ مما لم يقم عليه دليل. بل الدليل على خلافه واضح النهج والسبيل.

(اما أولا) ـ فلدلالة اخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) على وجوب البناء في الأحكام الشرعية على العلم واليقين ومع عدمه فالوقوف على جادة الاحتياط. وقد مر بك شطر منها (١) وقد عرفت ـ من تعدد أقوالهم واختلاف آرائهم في أصل القاعدة

__________________

(١) كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في الصحيفة ٧٣ السطر ٢ وحسنة بريد الكناسي المتقدمة في الصحيفة ٨٢ السطر ١٢ ، وغيرهما مما تعرض له في المقدمة الخامسة.

١٢٤

لاختلاف أفرادها ـ ما يبلغ إلى ثمانية أقوال.

و (أما ثانيا) ـ فلأن من لاحظ ـ اخبار الخلاء تحت الأشجار المثمرة والأخبار الواردة في أحكام الحائض ونحوها ـ لا يخفى عليه مدافعتها لهذه القاعدة.

ومن أراد تحقيق المقام حسبما يرام وظهور ما أجملناه هنا من الكلام فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية ، فإنه قد اشتمل على ذلك وأحاط بما هنالك.

المقدمة العاشرة

في بيان حجية الدليل العقلي وعدمها

قد اشتهر بين أكثر أصحابنا (رضوان الله عليهم) الاعتماد على الأدلة العقلية في الأصول والفروع وترجيحها على الأدلة النقلية ، ولذا تراهم في الأصولين ـ أصول الدين وأصول الفقه ـ متى تعارض الدليل العقلي والسمعي قدموا الأول واعتمدوا عليه وتأولوا الثاني بما يرجع اليه وإلا طرحوه بالكلية ، وفي كتبهم الاستدلالية في الفروع الفقهية أول ما يبدأون في الاستدلال بالدليل العقلي ثم ينقلون الدليل السمعي مؤيدا له ، ومن ثم قدم أكثرهم العمل بالبراءة الأصلية والاستصحاب ونحوهما من الأدلة العقلية على الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الموثقة.

قال المحقق (رضوان الله عليه) ـ في بعض مصنفاته في مسألة جواز ازالة الخبث بالمائع وعدمه ، حيث ان السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) اختار الطهارة من الخبث به ونسب ذلك الى مذهبنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ـ ما صورته : «اما علم الهدى فإنه ذكر في الخلاف انه إنما أضاف ذلك الى المذهب لان من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الأدلة النقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها ، ونحن نعلم انه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة بل ربما كان غير الماء

١٢٥

أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل» ثم قال المحقق (قدس‌سره) بعد كلام في البين : «أما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى».

فانظر الى موافقته لعلم الهدى فيما نقله عنه من أصالة العمل بدليل العقل في الفروع الشرعية وإنما نازعه في هذا الجزئي وحصول الفرق فيه بين الفردين المذكورين. وستأتيك هذه المسألة في مبحث الماء المضاف ان شاء الله تعالى.

وبالجملة ، فكلامهم ـ تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى ـ متفق الدلالة على ما نقلنا.

ولم أر من رد ذلك وطعن فيه سوى المحدث المدقق السيد نعمة الله الجزائري (طيب الله مرقده) في مواضع من مصنفاته : منها ـ كتاب الأنوار النعمانية ، وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته وكثرة اطلاعه على الأخبار وجودة تبحره في العلوم والآثار.

حيث قال فيه ـ ونعم ما قال ، فإنه الحق الذي لا تعتريه غياهب الاشكال ـ : «ان أكثر أصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها ، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء (عليهم‌السلام) حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتى نقل ان عيسى (على نبينا وآله وعليه‌السلام) لما دعا أفلاطون الى التصديق بما جاء به أجاب بأن عيسى رسول الى ضعفة العقول ، واما انا وامثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى إرسال الأنبياء. والحاصل انهم ما اعتمدوا في شي‌ء من أمورهم الا على العقل ، فتابعهم بعض أصحابنا وان لم يعترفوا بالمتابعة ، فقالوا : انه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأولناه بما يرجع الى العقل. ومن هنا تراهم في مسائل الأصول يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها. لوجود ما تخيلوا انه دليل عقلي ، كقولهم بنفي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محله من مقدمات لا تفيد ظنا

١٢٦

فضلا عن العلم ، وسنذكرها ان شاء الله تعالى في أنوار القيامة. مع وجود الدلائل من الكتاب والسنة على ان الإحباط ـ الذي هو الموازنة بين الأعمال وإسقاط المتقابلين وإبقاء الرجحان ـ حق لا شك فيه ولا ريب يعتريه ، ومثل قولهم : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يحصل له الإسهاء من الله تعالى في صلاة قط ، تعويلا على ما قالوه من انه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام ، مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعفاء والمجاهيل (١) على حصول مثل هذا الإسهاء ، وعلل في تلك الروايات بأنه رحمة للأمة. لئلا يعير الناس بعضهم بعضا بالسهو ، وسنحقق هذه المسألة في نور من هذا الكتاب ان شاء الله تعالى ، الى غير ذلك من مسائل الأصول.

واما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية والقول بما أدت اليه الاستحسانات العقلية ، وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون ـ أولا ـ الدلائل العقلية ثم يجعلون دليل النقل مؤيدا لها وعاضدا إياها : فيكون المدار والأصل إنما هو العقل. وهذا منظور فيه ، لأنا نسألهم عن معنى الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الأصولين والفروع ، فنقول : ان أردتم ما كان مقبولا عند عامة العقول ، فلا يثبت ولا يبقى لكم دليل عقلي ، وذلك كما تحققت ان العقول مختلفة في مراتب الإدراك وليس لها حد تقف عنده ، فمن ثم ترى كلا من اللاحقين يتكلم على دلائل السابقين وينقضه ويأتي بدلائل اخرى على ما ذهب اليه ، ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وان كان المطلوب متحدا ، فإن جماعة من المحققين قد اعترفوا بأنه لم يتم دليل من الدلائل على إثبات الواجب. وذلك ان الدلائل التي ذكروها مبنية على إبطال التسلسل ولم يتم برهان على بطلانه ، فإذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت الى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره

__________________

(١) روى صاحب الوافي الأحاديث المذكورة في باب ـ ٢١ ـ من الفصل الخامس من كتاب الصلاة ، وروى حديثا منها في باب ـ ٢٩ ـ من الفصل المذكور.

١٢٧

مما توجهت اليه آحاد المحققين؟ وان كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به واعتقاده ، فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ولا الطعن على من يذهب الى مذهب يخالف ما نحن عليه ، وذلك ان أهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل ، وكانت مقبولة في عقولهم معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل. وكلاهما لا يصلح للمعارضة لما قلتم ، لان دليل النقل يجب تأويله ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره ، لان عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذهبوا الى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق أكثر طوائف المسلمين. وما ذاك إلا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من دلائل العقل» انتهى كلامه زيد في الخلد إكرامه.

أقول : وقد سبقه الى هذه المقالة الإمام الرازي ، حيث قال : «هذه الأشياء المسماة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها ووقف عليها وجب ان يقبلها وان لا ينكرها أصلا ، وحيث نرى ان الذي يسميه أحد الخصمين برهانا فان الخصم الثاني يسمعه ويعرفه ولا يفيد له ظنا ضعيفا ، علمنا ان هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين ، بل هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية والمحبة إليها فتخيل بعضهم كونها برهانا مع ان الأمر في نفسه ليس كذلك. وايضا فالمشبه يحتج على القول بالتشبيه بحجة ويزعم ان تلك الحجة افادته الجزم واليقين ، فاما ان يقال : ان كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة يقينية فحينئذ يلزم صدق النقيضين وهو باطل ، واما ان يقال : إحداهما صحيحة والأخرى فاسدة إلا انه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجة باطلة في نفسها. مع ان الذي تمسك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة ابتداء. فهذا يدل على ان العقل يجزم بصحة الفاسد جزما ابتداء ،

١٢٨

فإذا كان كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات ، وإذا كان كذلك فحينئذ تفسد جميع الدلائل. فإن قالوا : العقل إنما جزم بصحة ذلك الفاسد لشبهة متقدمة ، فنقول : قد حصل في تلك الشبهة المتقدمة مقدمة فاسدة ، فإن كان ذلك لشبهة اخرى لزم التسلسل ، وان كان ابتداء فقد توجه الطعن. وأيضا فإنا نرى الدلائل القوية في بعض المسائل العقلية متعارضة ، مثل مسألة الجوهر الفرد ، فانا نقول : كل متحيز فان يمينه غير يساره ، وكل ما كان كذلك فهو منقسم ، ينتج ان كل متحيز منقسم ، ثم نقول : الآن لم يكن حاضرا بل بعضه ، وإذا كان غير منقسم كان أول عدمه في آن آخر متصل بآن وجوده ، فلزم تتالي الآنات ، ويلزم منه كون الجسم مركبا من اجزاء لا تتجزأ. فهذان الدليلان متعارضان ولا نعلم جوابا شافيا عن أحدهما ، ونعلم أن أحد الكلامين مشتمل على مقدمة باطلة وقد جزم العقل بصحتها ابتداء ، فصار العقل مطعونا فيه» ثم أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام طويل الذيل.

(فان قلت) : فعلى ما ذكر من عدم الاعتماد على الدليل العقلي يلزم ان لا يكون العقل معتبرا بوجه من الوجوه ، مع انه قد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية بالاعتماد على العقل والعمل على ما يرجحه ، وانه حجة من حجج الله سبحانه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١) في غير موضع من الكتاب العزيز اي يعملون بمقتضى عقولهم (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢). (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٣).

__________________

(١) سورة الرعد. آية ٥. سورة النحل. آية ١٣. سورة الروم. آية ٢٤.

(٢) سورة الرعد. آية ٤. سورة الروم. آية ٢١. سورة الزمر. آية ٤٤. سورة الجاثية. آية ١٣.

(٣) سورة آل عمران. آية ١٨٨.

١٢٩

(لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (١). (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢). (لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٣). وذم قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال سبحانه (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٤) (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥). (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٦). (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٧) الى غير ذلك من الآيات الدالة على مدح العمل بمقتضى العقل وذم عكسه. وفي الحديث عن ابي الحسن (عليه‌السلام) حين سئل : فما الحجة على الخلق اليوم قال : «فقال (عليه‌السلام) : العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه» (٨). وفي آخر عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «حجة الله على العباد النبي ، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل» (٩). وفي آخر عن الكاظم (عليه‌السلام) : «يا هشام ان لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، واما الباطنة فالعقول» (١٠).

__________________

(١) سورة طه. آية ٥٧. ١٢٩.

(٢) سورة الزمر آية ١٣.

(٣) سورة الزمر. آية ٢٣.

(٤) سورة يس. آية ٦٩.

(٥) سورة المائدة. آية ١٠٣.

(٦) سورة المائدة. آية ٦٤.

(٧) سورة محمد. آية ٢٧.

(٨) هذا من حديث ابى يعقوب البغدادي عن ابى الحسن (عليه‌السلام) الذي رواه في الكافي في كتاب العقل والجهل ، وهو الحديث ـ ٢٠ ـ منه.

(٩) وهو حديث عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) الذي رواه في الكافي في كتاب العقل والجهل ، وهو الحديث ـ ٢٢ ـ منه.

(١٠) هذا من حديث هشام بن الحكم عن ابى الحسن موسى بن جعفر (عليهما‌السلام) الذي رواه في الكافي في كتاب العقل والجهل ، وهو الحديث ـ ١٢ ـ منه.

١٣٠

(قلت) : لا ريب ان العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه وسراج منير من جهته جل شأنه ، وهو موافق للشرع ، بل هو شرع من داخل كما ان ذلك شرع من خارج ، لكن ما لم تغيره غلبة الأوهام الفاسدة ، وتتصرف فيه العصبية أو حب الجاه أو نحوهما من الأغراض الكاسدة ، وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدا له ، وقد لا يدركها قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي الشرع كاشفا له ومبينا ، وغاية ما تدل عليه هذه الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح الخالي من شوائب الأوهام العاري عن كدورات العصبية ، وانه بهذا المعنى حجة إلهية ، لإدراكه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الأمور التكليفية ، وقبوله لما يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها ، وهو أعم من أن يكون بإدراكه ذلك أولا أو قبوله لها ثانيا كما عرفت.

ولا ريب ان الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها كلها توقيفية تحتاج الى السماع من حافظ الشريعة ، ولهذا قد استفاضت الأخبار ـ كما قد مر بك الإشارة إلى شطر منها في المقدمة الثالثة (١) ـ بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم (عليهم‌السلام) وعلم صادر عنهم (صلوات الله عليهم) ووجوب التوقف والاحتياط مع عدم تيسر طريق العلم ووجوب الرد إليهم في جملة منها ، وما ذاك إلا لقصور العقل المذكور عن الاطلاع على اغوارها واحجامه عن التلجج في لجج بحارها ، بل لو تم للعقل الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ومن ثم تواترت الأخبار ناعية على أصحاب القياس بذلك.

ومن الاخبار المؤكدة لما ذكرنا رواية أبي حمزة عن ابي جعفر (عليه‌السلام)

__________________

(١) في الصحيفة ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ و ٣٠.

١٣١

في حديث طويل ، قال : «ان الله لم يكل امره الى خلقه لا الى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له : قل : كذا وكذا ، فأمرهم بما يحب ونهاهم عما يكره. الحديث» (١).

و (منها) ـ رواية أبي بصير ، قال : «قلت : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنته فننظر فيها. فقال : لا ، اما انك ان أصبت لم تؤجر وان أخطأت كذبت على الله» (٢).

و (منها) ـ حديث يونس عن ابي الحسن (عليه‌السلام) ، قال : «من نظر برأيه هلك ومن ترك أهل بيت نبيه ضل» (٣).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «ان المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذ به» (٤).

وفي آخر لما قال السائل له (عليه‌السلام) : ما رأيك في كذا؟ قال (عليه‌السلام) :

«وأي محل للرأي هنا؟ انا إذا قلنا حدثنا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن جبرائيل عن الله» (٥).

الى غير ذلك من الأخبار ـ المتواترة معنى ـ الدالة على كون الشريعة توقيفية لا مدخل للعقل في استنباط شي‌ء من أحكامها بوجه. نعم عليه القبول والانقياد والتسليم لما يراد. وهو أحد فردي ما دلت عليه تلك الأدلة التي أوردها المعترض ، إلا انه يبقى الكلام بالنسبة الى ما يتوقف على التوقيف.

فنقول : ان كان الدليل العقلي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين ، فلا ريب في صحة العمل به ، والا فان لم يعارضه دليل عقلي

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في باب ـ ٦ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) رواه صاحب الوسائل في باب ـ ٦ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) رواه صاحب الوسائل في باب ـ ٦ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٤) رواه صاحب الوسائل في باب ـ ٦ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٥) روى (صاحب البحار) الأخبار المتضمنة لما اشتمل عليه هذا الخبر في باب ـ ٢٣ ـ من أبواب كتاب العلم في الصحيفة ١٧٢ من الجزء الثاني المطبوع بمطبعة الحيدرى بطهران.

١٣٢

ولا نقلي فكذلك ، وان عارضه دليل عقلي آخر ، فإن تأيد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمؤيد بالدليل النقلي وإلا فإشكال ، وان عارضه دليل نقلي ، فإن تأيد ذلك العقلي ايضا بنقلي كان الترجيح للعقلي إلا ان هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، والا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره وخلافا للأكثر. هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، اما لو أريد به المعنى الأخص وهو الفطري الخالي من شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام وان شذ وجوده بين الأنام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال. والله العالم.

المقدمة الحادية عشرة

في جملة من القواعد الشرعية والضوابط المرعية

التي تبتني عليها جملة من الأحكام الفقهية ، مما يستفاد من الكتاب العزيز والسنة النبوية على الصادع بها أشرف سلام وتحية ، وهي المشار إليها في كلامهم (عليهم‌السلام) بالأصول على ما نقله ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي مما رواه عن هشام بن سالم عن ابي عبد الله : (عليه‌السلام) : قال : «انما علينا ان نلقي إليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا» (١). وروى عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) بلا واسطة : قال : «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع» (٢).

ولا يخفى ما في الخبرين المذكورين من حيث تقديم الظرف المؤذن بحصر ذلك فيهم ، من الدلالة على بطلان الأصول الخارجة من غيرهم ، بمعنى حصر إلقاء الأصول فيهم (عليهم‌السلام) فكأنه قال : تأصيل الأصول الشرعية للاحكام علينا لا عليكم

__________________

(١ و ٢) ورواه صاحب الوسائل في آخر باب ـ ٦ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

١٣٣

وإنما عليكم التفريع عليها ، فكل أصل لم يوجد له مستند ولا دليل من كلامهم (عليهم‌السلام) فهو بمقتضى الخبرين المذكورين مما لا يجوز الاعتماد عليه ولا الركون اليه.

فلنورد ههنا جملة مما جرى في الخاطر الفاتر ، ونذيل ما يحتاج الى البحث والتحقيق بما هو جدير به وحقيق على جهة الإيجاز والاختصار من غير تطويل ولا إكثار ، وان سمحت الأقضية والأقدار بالتوفيق ونامت عيون الدهر الغدار عن التعويق ، ابرزنا لهذه الأصول رسالة شافية وأودعناها ابحاثا بحقها وافية.

فمن تلك الأصول ـ طهارة كل ما لم تعلم نجاسته حتى تعلم النجاسة.

ويدل على ذلك قول الصادق (عليه‌السلام) في موثقة عمار : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر» (١). وقول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فيما رواه في الفقيه (٢) : «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم». ويدل على ذلك أخبار عديدة في جزئيات المسائل ، وأصل الحكم المذكور مما لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه وانما الخلاف في مواضع :

(الأول) ـ في عموم هذا الحكم للجهل بالحكم الشرعي وعدمه ، وتوضيح ذلك انه لا خلاف في العمل بهذا الحكم على عمومه بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة وان كان مع ظن الملاقاة ، بمعنى انه لو شك أو ظن الملاقاة فالواجب البناء على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة ، وكذا لا خلاف في ذلك بالنسبة إلى الشك أو الظن بنجاسة شي‌ء له أفراد متعددة غير محصورة ، بعضها معلوم الطهارة وبعضها معلوم النجاسة وقد اشتبه بعضها ببعض ، كالبول الذي منه طاهر ومنه نجس والدم ونحوهما ، فالجهل هنا ليس

__________________

(١) تقدم الكلام في هذه الموثقة في التعليقة (١) في الصحيفة (٤٢).

(٢) في باب (ما ينجس الثوب والبدن) من الجزء الأول ، ورواه صاحب الوسائل في باب ـ ٣٧ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

١٣٤

في الحكم الشرعي ، إذ هو معلوم في تلك الافراد في حد ذاتها ، وإنما الجهل في موضوعه ومتعلقة وهو ذلك الفرد المشكوك في اندراجه تحت أحد الطرفين. أما بالنسبة إلى الجهل بالحكم الشرعي ـ كالجهل بحكم نطفة الغنم هل هي نجسة أو طاهرة؟ ـ فهل يحكم بطهارتها بالخبر المذكور (١) أم لا؟ قولان ، وبالثاني صرح المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية ، وبالأول صرح جملة من متأخري المتأخرين.

وأنت خبير بان القدر المتيقن فهمه من الخبر المذكور (٢) هو ما وقع الاتفاق عليه ، إذ الظاهر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ ان المراد من هذا الخبر وأمثاله إنما هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك النفسانية بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة ، وبيان سعة الحنيفية السمحة السهلة بالنسبة إلى اشتباه بعض الافراد الغير المحصورة ببعض ، فيحكم بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه ، واما اجراء ذلك في الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من الاشكال المانع من الجرأة على الحكم به في هذا المجال.

وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من ان الجهل بوصول النجاسة يستلزم الجهل بالحكم الشرعي ، قال : «فان المسلم إذا أعار ثوبه الذمي وهو يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ثم رده عليه ، فهو جاهل بان مثل هذا الثوب الذي هو مظنة النجاسة هل هو مما يجب التنزه عنه في الصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطهارة أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي مع انه (عليه‌السلام) قرر في الجواب قاعدة كلية بأنه ما لم تعلم نجاسته فهو طاهر» ـ مردود بان الجهل بالحكم الشرعي في المثال المذكور ونحوه تابع للجهل بوصول النجاسة ، ولما دل الخبر المذكور (٣). وغيره على البناء على أصالة الطهارة وعدم الالتفات الى احتمال ملاقاة النجاسة أو ظنها بإعارة الثوب مثلا. علم منه قطعا جواز الصلاة فيه تحقيقا للتبعية ، ومحل الاشكال والنزاع إنما هو الدلالة على الحكم الشرعي ابتداء كما لا يخفى.

__________________

(١ و ٢ و ٣) وهو موثق عمار المتقدم في الصحيفة ١٣٤ السطر ٨.

١٣٥

(الثاني) ـ ان ظاهر الخبر المذكور (١) انه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتصف بها الا بالنظر الى علم المكلف ، لقوله (عليه‌السلام) : «فإذا علمت فقد قذر» (٢). بمعنى انه ليس التنجيس عبارة عما لاقته عين النجاسة واقعا خاصة بل ما كان كذلك وعلم به المكلف ، وكذلك ثبوت النجاسة لشي‌ء إنما هو عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس وعلم المكلف بذلك ، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا (رضوان الله عليهم) فإنهم حكموا بان النجس إنما هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا وان لم يعلم به المكلف ، وفرعوا عليه بطلان صلاة المصلي في النجاسة جاهلا وان سقط الخطاب عنه ظاهرا كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية.

وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن العترة الأبرار.

(أما أولا) ـ فلأن المعهود من الشارع عدم إناطة الأحكام بالواقع ونفس الأمر ، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق ، وحينئذ فالمكلف إذا صلى في ثوب طاهر في علمه. والطاهر شرعا إنما هو ما لم يعلم المكلف بنجاسته لا ما علم بعدمها ، فما الموجب لبطلان صلاته بعد امتثاله للأمر الذي هو مناط الصحة ومعيارها؟

و (اما ثانيا) ـ فلما أورده شيخنا الشهيد الثاني عليهم في الكتاب المشار اليه حيث قال بعد نقل ذلك عنهم : «ولا يخفى ما فيه من البلوى ، فان ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة ، لكثرة النجاسات في نفس الأمر وان لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وان استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته ان لم يتفضل الله تعالى بجوده». انتهى.

و (اما ثالثا) ـ فلمخالفته ظواهر الأخبار ومنها الخبر المذكور (٣).

__________________

(١) وهو موثق عمار المتقدم في الصحيفة ١٣٤ السطر ٨.

(٢) وهو موثق عمار المتقدم في الصحيفة ١٣٤ السطر ٨.

(٣) وهو موثق عمار المتقدم في الصحيفة ١٣٤ السطر ٨.

١٣٦

و (منها) ـ رواية محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال : لا يؤذنه حتى ينصرف».

ورواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب الاسناد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلي فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال : لا يعلمه. قلت : فإن أعلمه؟ قال : يعيد».

وحينئذ فلو كان الأمر كما يدعونه من كون وصف النجاسة انما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر ، وان صلاة المصلي ـ والحال كذلك ـ باطلة واقعا. فكيف يحسن من الامام (عليه‌السلام) المنع من الإيذان والاخبار بالنجاسة في الصلاة كما في خبر محمد بن مسلم أو قبلها كما في خبر ابن بكير؟ وهل هو بناء على ما ذكروا إلا من قبيل التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه. وسيأتي مزيد تحقيق لهذه المسألة في محلها (٣) ان شاء الله تعالى.

(الثالث) ـ انه لا خلاف في انه مع الحكم بأصالة الطهارة فلا يجوز الخروج عنها إلا بالعلم بالنجاسة ، لكن العلم المذكور هل هو عبارة عن القطع واليقين. أو عبارة عما هو أعم من اليقين والظن مطلقا فيشملهما معا. أو اليقين والظن المستند الى سبب شرعي؟ أقوال ، أولها منقول عن ابن البراج وثانيها عن ابي الصلاح ،

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٤٠ ـ و ـ ٤٧ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

(٢) في الصحيفة ١٠٣ السطر ١١ من المطبوع بالنجف سنة ١٣٦٩ ، وفي الوسائل في باب ـ ٤٧ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة ، إلا ان الرواية فيهما هكذا : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه. إلخ.

(٣) وقد أوردناها في المسألة السابعة من المطلب الرابع في أحكام الوضوء (منه رحمه‌الله).

١٣٧

وثالثها عن العلامة في المنتهى والتذكرة.

احتج الأول بأن الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن فلا يترك لأجله المعلوم.

واحتج الثاني بأن الشرعيات كلها ظنية ، فإن العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل.

ومن هذين الاحتجاجين يعلم وجه القول الثالث.

ويرد على الأول (أولا) ـ ان اشتراط اليقين ان كان مخصوصا بحكم النجاسة دون ما عداها من حكم الطهارة والحلية والحرمة فهو تحكم محض ، وان كان الحكم في الجميع واحدا فيقين الطهارة ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة. وهو أعم من العلم بالعدم. ومثله يقين الحلية.

و (ثانيا) ـ انه قد ورد في الأخبار ـ كما ستأتيك ان شاء الله تعالى (١) ـ ان مما ينتقل به عن يقين الحلية شهادة الشاهدين بالحرمة ، وان العلم المعتبر ثمة يحصل بذلك. ومن الظاهر البين ان الحكم في الجميع من باب واحد.

و (ثالثا) ـ ان الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في انه لو كان الماء مبيعا فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا وأقام شاهدين عدلين بذلك ، فإنه يتسلط على الرد ، وما ذاك إلا لثبوت النجاسة والحكم بها.

ويتوجه على الثاني ان المفهوم من الاخبار انه لا ينتقل عن يقين الطهارة ويقين الحلية إلا بيقين مثله. وان مجرد الظن لا يوجب الخروج عن ذلك.

ومما هو صريح في المقام ما ورد في حسنة الحلبي (٢) من انه «إذا احتلم الرجل

__________________

(١) في الصحيفة ١٤٠ السطر ١٥.

(٢) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) المروية في الوسائل في باب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

١٣٨

فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه ، وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء». والنضح هنا للاستحباب بلا خلاف.

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيته فيه بعد الصلاة؟ قال : تغسله ولا تعيد. قال : قلت : ولم ذاك؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا». الى غير ذلك من الأخبار.

والتحقيق عندي في هذا المقام ـ بما لا يحوم حوله للناظر المنصف نقض ولا إبرام ـ هو ما أوضحناه في جملة من كتبنا ، وملخصه ان كلا من الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة ونحوها أحكام شرعية متلقاة من الشارع يجب الوقوف فيها على الأسباب التي عينها لها وناطها بها ، وليست أمورا عقلية تناط بمجرد الظن العقلي ، وحينئذ فكلما وجد سبب من تلك الأسباب وعلم به المكلف رتب عليه مسببه من الحكم بأحد تلك الأحكام وكما ان من جملة الأسباب المتلقاة من الشارع مشاهدة ملاقاة النجاسة فيحكم بالنجاسة عندها ، كذلك من جملتها اخبار المالك بنجاسة ثوبه وشهادة العدلين بنجاسة شي‌ء ، وكذا يأتي أيضا في ثبوت الطهارة والحلية والحرمة بالنسبة إلى الأسباب التي عينت لها ، وليس ثبوت النجاسة لشي‌ء واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة عين النجاسة له في الواقع ونفس الأمر خاصة ، حتى انه يقال بالنسبة إلى الجاهل بالملاقاة : ان هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب

__________________

(١) رواها الشيخ في التهذيب مضمرة في باب (تطهير البدن والثياب من النجاسات) من كتاب الطهارة ، ورواها صاحب الوسائل عنه كذلك في باب ـ ٧ و ٣٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة بنحو التقطيع ، ورواها الصدوق في العلل في باب (علة غسل المني إذا أصاب الثوب) في الصحيفة ١٢٧ مسندة عن ابى جعفر (عليه‌السلام).

١٣٩

الظاهر ، بل هو نجس بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المذكورة وطاهر بالنسبة إلى الغير العالم بشي‌ء من ذلك ، فان الشارع ـ كما عرفت آنفا (١) ـ لم يجعل الحكم بذلك منوطا بالواقع ، وغاية ما يلزم اتصاف شي‌ء بالطهارة والنجاسة باعتبار شخصين ، ولا ريب فيه ، فان ذلك جار في الحل والحرمة بالنسبة الى من علم بعدم تذكية اللحم الموضوع في أسواق المسلمين ومن لم يعلم ، وحينئذ فلا يقال : ان اخبار العدلين أو المالك لا يفيد إلا الظن ، لاحتمال ان لا يكون كذلك واقعا ، كيف؟ وهما من جملة الأسباب التي رتب الشارع الحكم عليها بالنجاسة.

وبالجملة فحيث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين واخبار المالك في أمثال ذلك فقد حكم بثبوت الحكم بهما ، فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع ، ولا معنى للنجس ونحوه ـ كما عرفت (٢) ـ إلا ذلك ، وان فرض عدم الملاقاة في الواقع فان الشارع لم يلتفت اليه ، ألا ترى انه قد وردت الأخبار بان الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية حتى يعلم النجس والحرام بعينه ، مع ان هذا اليقين ـ كما عرفت (٣) ـ ليس إلا عبارة عن عدم علم المكلف بالنجاسة والحرمة ، وعدم العلم لا يدل على العدم كما لا يخفى.

ومنها ـ حلية ما لم تعلم حرمته

. ويدل عليه من الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان (٤) قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

__________________

(١) في الموضع الثاني المتقدم في الصحيفة ١٣٦.

(٢) في الموضع الثاني المتقدم في الصحيفة ١٣٦.

(٣) في الصحيفة ١٣٨ السطر ٩.

(٤) المروية في الوسائل في باب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة. وفي باب (حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم انه خلطه حرام) من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.

١٤٠