الحدائق الناضرة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٦

الى الأخبار المشتملة على الإرجاء والتخيير الخالية عن طرق الترجيح. واما الاخبار المشتملة عليها ـ كمقبولة عمر بن حنظلة (١) ومرفوعة زرارة (٢) المجعول فيهما الإرجاء والتخيير بعد تعذر الترجيح بتلك الطرق ـ فيشكل بان الظاهر أن الترجيح بتلك الطرق إنما يصار اليه عند تعذر الوصول إليهم (عليهم‌السلام) فكيف يحمل الإرجاء في هذه الحال على إمكان الوصول؟ إلا ان يحمل على ذوي الأطراف البعيدة المستلزم الوصول فيها المشقة فيعمل على تلك المرجحات ، ومع عدم إمكان الترجيح بها يقف عن الحكم والعمل حتى يصل للإمام (عليه‌السلام) ، وربما يفهم ذلك من مرفوعة زرارة (٣) ، لأمره (عليه‌السلام) له بذلك. فإنه دال بإطلاقه على ما هنالك.

(ومنها) ـ حمل اخبار التخيير على العبادات المحضة كالصلاة ، وحمل أخبار الإرجاء على غيرها من حقوق الآدميين من دين أو ميراث على جماعة مخصوصين أو فرج أو زكاة أو خمس ، فيجب التوقف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. ذهب اليه المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في كتاب الفوائد المدنية ، والظاهر ان وجهه اشتمال مقبولة عمر بن حنظلة (٤) الدالة على الإرجاء على كون متعلق الاختلاف حقوق الناس. وفيه ان تقييد إطلاق جملة الأخبار الواردة بذلك لا يخلو من إشكال ، فإنها ليست نصا في التخصيص بل ولا ظاهرة فيه حتى يمكن ارتكاب التخصيص بها.

و (منها) ـ حمل خبر الإرجاء على ما لم يضطر الى العمل بأحدهما. والتخيير على حال الاضطرار والحاجة الى العمل بأحدهما. ذهب اليه الفاضل ابن ابي جمهور

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٩٣ السطر ـ ٥.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٩٣ السطر ـ ٥.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

١٠١

في كتاب عوالي اللئالي ، وظاهره حمل كل من خبري الإرجاء والتخيير على العمل خاصة أعم من أن يكون في زمن الغيبة أو عدم إمكان الوصول أولا. وهذا الإطلاق مشكل ، لان الظاهر انه مع الحضور وإمكان الوصول لا يسوغ التخيير بل يجب الإرجاء حتى يسأل.

و (منها) ـ حمل الإرجاء على الاستحباب ، والتخيير على الجواز. نقله المحدث السيد نعمة الله عن شيخه المجلسي (قدس‌سرهما) (١) وظني بعده.

و (منها) ـ ما يفهم من خبر الميثمي المتقدم نقله عن كتاب عيون الاخبار (٢) من تخصيص التخيير في العمل بما كان النهي فيه نهي اعافة لا نهي تحريم ثم كان الخبر الآخر خلافه فإنه رخصة ، والإرجاء والتوقف على غير ذلك. والظاهر انه لا يطرد كليا ، لما عرفت من عموم خبري (٣) عمر بن حنظلة وزرارة ونحوهما من الأخبار.

و (منها) ـ حمل الإرجاء على النهي عن الترجيح والعمل بالرأي ، وحمل التخيير على الأخذ من باب التسليم والرد إليهم (عليهم‌السلام) لا إلى الرأي والترجيح بما يوافق الهوى كما هو قول أبي حنيفة وأضرابه. وهذا الوجه نقله بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) احتمالا ايضا. والظاهر بعده.

و (منها) ـ حمل خبر الإرجاء على حكم غير المتناقضين وحمل خبر التخيير على المتناقضين. نقله بعض شراح الأصول عن بعض الأفاضل. وفيه ان موثقة سماعة المتقدمة (٤) عن الكافي موردها في المتناقضين مع انه حكم فيها بالإرجاء ، وحكم

__________________

(١) الذي وقفت عليه ـ من كلام شيخنا المجلسي في كتاب البحار ـ انه ذكر هذا الوجه احتمالا لا اختيارا كما يشعر به كلام السيد المذكور ، وقد استظهر في كتاب البحار الوجه المنقول عن الاحتجاج ، ولعل السيد (قدس‌سره) سمع ذلك منه مشافهة (منه قدس‌سره).

(٢) في الصحيفة ٩٤ السطر ٣.

(٣) المتقدمين في الصحيفة ٩١ والصحيفة ٩٣ السطر ـ ٥.

(٤) في الصحيفة ٩٣ السطر ١٦.

١٠٢

في الرواية المرسلة التي بعدها (١) بالتخيير ، والمورد واحد ، وروايته المنقولة عن الاحتجاج (٢) ايضا موردها المتناقضان مع انه حكم فيها بالإرجاء.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه يمكن ترجيح الوجه الأول بقوله (عليه‌السلام) في حديث الميثمي (٣) : «فردوا علمه إلينا ولا تقولوا فيه بآرائكم». فإن ظاهره المنع عن الإفتاء والحكم خاصة ، ولا ينافيه التخيير في الفعل تسليما لهم (عليهم‌السلام) وعليه يدل ظاهر رواية الحرث بن المغيرة (٤) فإن ظاهرها انه متى كان نقلة الحديث كلهم ثقات فموسع عليك في العمل بقول كل منهم حتى ترى القائم فترد اليه الحكم والفتوى في ذلك ، وإلا فلا معنى للسعة المذكورة سيما لو كان الفرض إلجاء الحاجة الى العمل بأحدهما بل هو ضيق ، ومثلها موثقة سماعة (٥) فإن ظاهر قوله : «فهو في سعة حتى يلقاه». مفرعا على الإرجاء المشعر ذلك باختلاف متعلقيهما أن السعة إنما هي باعتبار التخيير بين الفعل وعدمه والإرجاء باعتبار الحكم خاصة. إلا ان هذه الرواية محتملة لاحتمال آخر ايضا.

وعندي ان مرجع كل من الوجه الأول والثاني عند التأمل والتحقيق بالنظر الدقيق إلى أمر واحد. وذلك فان حمل الإرجاء على الفتوى والتخيير على العمل (٦) ـ

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٩٤ السطر ١.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٩٢ السطر ٩.

(٣) المتقدم في الصحيفة ٩٤ السطر ٣.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٩٦ السطر ٥.

(٥) المتقدمة في الصحيفة ٩٣ السطر ١٦.

(٦) إذ الفرض ان الخبرين متناقضان ، أحدهما يأمر والآخر ينهى ، ومتعلق الأمر والنهى شي‌ء واحد ، فارجاء العمل بكل منهما مما لا سبيل اليه كما تقتضيه قضية التناقض بل لا بد من وقوع أحدهما فلا يمكن حينئذ تعلق الإرجاء بالنسبة إلى العمل بهما معا. واما الاحتمال المذكور في موثقة سماعة فهو ان الإرجاء بترك الفعل لا بترك الخبرين معا بناء

١٠٣

كما هو الوجه الأول ـ لا يكون إلا مع غيبة الإمام (عليه‌السلام) أو عدم إمكان الوصول إليه ، إذ الظاهر انه متى أمكن الوصول اليه واستعلام الحكم منه فإنه يتحتم الإرجاء في الفتوى والعمل تحصيلا للحكم بطريق العلم واليقين كما هو الطريق الواضح المستبين ، اما مع عدم إمكان الترجيح بما تقدمهما من الطرق أو مع الإمكان على التفصيل المتقدم آنفا (١) والى ذلك يشير خبر سماعة المنقول عن الاحتجاج (٢) وحمل الإرجاء على زمن وجود الامام (عليه‌السلام) وإمكان الرد اليه والتخيير على ما عدا ذلك ـ كما هو الوجه الثاني ـ مراد به الإرجاء في الفتوى والفعل لما عرفت ، والتخيير على الوجه المذكور (٣) مراد به التخيير في الفعل خاصة ، إذ لا مجال لاعتبار التخيير في الحكم الشرعي والفتوى به ، لاستفاضة الآيات والأخبار بالمنع من الحكم والفتوى بغير علم ، وان الحكم الشرعي في كل مسألة واحد يصيبه من يصيبه ويخطيه من يخطيه لا تعدد فيه ، وهذا مما ينافي التخيير في الفتوى ، وحينئذ فيرجع الى التخيير في الفعل

__________________

على ان المستفاد من بعض الاخبار ـ كما تقدم ـ انه متى تردد الفعل بين الوجوب والتحريم فالاحتياط في الترك وان كان الواجب واقعا هو الفعل ، ورواية سماعة الأولى ظاهرة في هذا المعنى (منه رحمه‌الله).

(١) وهو قوله في صدر الموضع الثالث : ولعله محمول. إلخ ، فإنه يدل على انه مع إمكان الوصول يجب التوقف في الفتوى والعمل ان أمكن التأخير ، والا فلو لم يمكن بان ألجأت الضرورة إلى العمل بأحدهما من غير احتمال للتأخير إلى مراجعته (عليه‌السلام) فإنه يسوغ الترجيح بتلك المرجحات المنصوصة (منه رحمه‌الله).

(٢) حيث نهى (عليه‌السلام) عن العمل بواحد منهما حتى يلقى صاحبه يعني الإمام (عليه‌السلام) فلما قال له السائل : لا بد من العمل بأحدهما. أمره بما فيه خلاف العامة مع استفاضة الأخبار بالعرض على مذهب العامة أولا قبل الإرجاء ، فإنه ظاهر في انه مع إمكان الرجوع أولا إليه (عليه‌السلام) لا مرجح بمخالفة مذهب العامة ولا غيره ، ويؤيده انه لعل الحكم هو العمل بما عليه العامة يومئذ (منه رحمه‌الله).

(٣) مع عدم إمكان الوصول اما لغيبة أو لمانع من الوصول اليه «منه رحمه‌الله».

١٠٤

خاصة ، وبذلك يجتمع الوجهان المذكوران على أحسن التئام وانتظام وان غفلت عنه جملة مشايخنا العظام ، ولعل هذا الوجه حينئذ هو أقرب الوجوه المذكورة (١).

وكيف كان فتعدد هذه الاحتمالات مما يدخل الحكم المذكور في حيز المتشابهات التي يجب الوقوف فيها على جادة الاحتياط ، فإنه أحد مواضعه كما قدمنا تحقيقه وأوضحنا طريقه (٢).

(الرابع) ـ يستفاد من الروايات الأخيرة (٣) ان من جملة الطرق المرجحة عند التعارض الأخذ بالأخير ، ولم أقف على من عد ذلك في طرق الترجيحات فضلا عمن عمل عليه غير الصدوق (طاب ثراه) في الفقيه في باب (الرجل يوصي

__________________

(١) ويؤيد ما ذكرنا في هذا المقام ما وقفت عليه في كلام بعض الاعلام من متأخري مشايخنا الكرام ، حيث قال ـ بعد تقديم كلام يتعلق بالبحث المذكور ـ ما لفظه : «وبالجملة فإنه ربما كان في الجمع بين الإرجاء والتوسعة ـ كما في موثقة سماعة ، وبينها وبين الرد كما في رواية الحرث ، مفرعا أحدهما على الآخر ومعقبا به حتى كأنه تفصيل وبيان لإجماله ـ اشعار باختلاف متعلقهما ، كما يومي اليه أيضا قوله في خبر ابن الجهم : «إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت». من ان متعلق التوسعة العمل بأيهما على وجه الإباحة والمردود هو العلم ، إذ مع العلم لا توسعة ، لوجوب العمل بالمعلوم ، وفيه مع الإيماء الى ذلك بيان ان التوسعة معلقة على عدم العلم مطلقا كما أشير إليه بقوله (عليه‌السلام) : «الناس في سعة ما لم يعلموا». وانه لا فرق بين عدمه لخلو الذهن من الطرفين والنسبة ، أو الشك في النسبة سواء كان منشأه فقد الدليل أو تعارض الدليلين». انتهى كلامه زيد مقامه ، وهو جيد رشيق (منه رحمه‌الله).

(٢) الظاهر ان مراده ما تقدم في المقدمة الرابعة في الصحيفة ٧٠.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٩٦ السطر ٨ و ١١ و ١٥. وهي : ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن ابى عبد الله وخبر المعلى بن خنيس ومرسل الكافي.

١٠٥

للرجلين) (١) حيث نقل خبرين مختلفين ثم قال : «ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق (عليه‌السلام) ، وذلك لان الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس» انتهى.

أقول : والعمل بهذا الوجه بالنسبة إلى زمانهم (عليهم‌السلام) لا اشكال فيه. وذلك لان الظاهر ان الاختلاف المذكور ناشى‌ء عن التقية لقصد الدفع عن الشيعة ، كما يشير اليه قوله (عليه‌السلام) في الخبر الثاني من الاخبار المشار إليها (٢) : «إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم». وحينئذ فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير انه ، لو كانت التقية في الأول من الخبرين فالثاني رافع لها فيجب الأخذ به ، وان كانت التقية في الثاني وجب الأخذ به لذلك. واما بالنسبة إلى مثل زماننا هذا فالظاهر انه لا يتجه العمل بذلك على الإطلاق ، لجواز ان يحصل العلم بأن الثاني إنما ورد على سبيل التقية والحال ان المكلف ليس في تقية ، فإنه يتحتم عليه العمل بالأول ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقية بل صار احتمالها قائما بالنسبة إليهما ، فالواجب حينئذ هو التخيير أو الوقوف بناء على ظواهر الأخبار ، أو الاحتياط كما ذكرناه (٣).

(الخامس) ـ المستفاد ـ من كلام ثقة الإسلام وعلم الاعلام (قدس‌سره) في ديباجة كتاب الكافي ـ ان مذهبه فيما اختلفت فيه الاخبار هو القول بالتخيير. ولم أعثر على من نقل ذلك مذهبا له مع ان عبارته (طاب ثراه) ظاهرة الدلالة طافحة المقالة ، وشراح كلامه قد زيفوا عبارته وأغفلوا مقالته.

قال (قدس‌سره) (٤) : فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ انه لا يسع أحدا تمييز شي‌ء

__________________

(١) من الجزء الرابع ، وعنوانه (الرجلان يوصى إليهما فينفرد كل منهما بنصف التركة).

(٢) وهو خبر المعلى بن خنيس المتقدم في الصحيفة ٩٦ السطر ١١.

(٣) في الصحيفة ١٠٥ السطر ٣.

(٤) في الصحيفة ٨ السطر ١٦ من النسخة المطبوعة بمطبعة الحيدرى بطهران سنة ١٣٧٥.

١٠٦

مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم‌السلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله (عليه‌السلام) : «اعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه». وقوله (عليه‌السلام) : «دعوا ما وافق القوم ، فان الرشد في خلافهم». وقوله (عليه‌السلام) : «خذوا بالمجمع عليه ، فان المجمع عليه لا ريب فيه». ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله الى العالم ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : «بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم». انتهى.

وقوله (قدس‌سره) : «ونحن لا نعرف. إلخ» الظاهر ان معناه انا لا نعرف من كل من الضوابط الثلاث إلا الأقل.

ويمكن توجيهه بان يقال : اما الكتاب العزيز فلاستفاضة الأخبار ـ كما قدمنا لك شطرا منها (١) ـ بأنه لا يعلمه على التحقيق سواهم (عليهم‌السلام) ، وقد علمت مما حققناه سابقا ان القدر الذي يمكن الاستناد اليه من الكتاب العزيز في الأحكام الشرعية أقل قليل.

واما مذهب العامة فلا يخفى ـ على الواقف على كتب السير والآثار والمتتبع للقصص والاخبار ، وبه صرح أيضا جملة من علمائنا الأبرار بل وعلماؤهم في ذلك المضمار ـ ما عليه مذاهب العامة في الصدر السابق من الكثرة والانتشار ، واستقرار مذهبهم على هذه الأربعة إنما وقع في حدود سنة خمس وستين وستمائة ، كما نقله المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية عن بعض علماء العامة ، على ان المستفاد من الأخبار كما قدمنا تحقيقه في المقدمة الأولى وقوع التقية وان لم يكن على وفق شي‌ء من أقوالهم.

__________________

(١) في المقام الأول من المقدمة الثالثة.

١٠٧

واما المجمع عليه ، فان أريد في الفتوى فهو ظاهر التعسر ، لان كتب المتقدمين كلها مقصورة على نقل الاخبار كما لا يخفى على من راجع الموجود منها الآن ، ككتاب قرب الاسناد وكتاب علي بن جعفر ومحاسن البرقي وبصائر الدرجات ونحوها ولتفرق الأصحاب وانزوائهم في زاوية التقية في أكثر البلدان ، وان أريد في الرواية بمعنى ان يكون مجمعا عليه في الأصول المكتوبة عنهم ، ففيه انها قد اشتملت على الأخبار المتخالفة والأحاديث المتضادة فهي مشتركة في الوصف المذكور ، وحينئذ فمتى لم تعلم هذه الأمور على الحقيقة فالمعتمد عليها ربما يقع في المخالفة من حيث لا يشعر وتزل قدمه من حيث لا يبصر ، فلا شي‌ء أسلم من الأخذ بما وسعوا فيه من باب التسليم لهم دون الجزم والحكم بكون ذلك هو الحكم الواقعي ، فإن فيه تحرزا عن القول على الله (سبحانه) بغير علم ، وتخلصا من التهجم على الأحكام بغير بصيرة وفهم.

وما ذكره بعض مشايخنا المعاصرين (نور الله تعالى مراقدهم) (١) ـ من انه ليس الأمر كذلك ، قال : «فان الحق لا يشتبه بالباطل ، والمطوق ليس كالعاطل ، والشمس لا تستر بالنقاب ، والشراب لا يلتبس بالسراب ، وما ورد من التقية لا يكاد يخفى» انتهى ـ فعبارات قشرية وتسجيعات من التحقيق عرية ، كما لا يخفى على من عض على العلم بالأخبار بضرس قاطع ، واعطى التأمل حقه فيما أودعناه في هذه المواضع ، كيف؟ وهو (قدس‌سره) في جملة مصنفاته وفتاويه يدور مدار الاحتياط خوفا من الوقوع في شبهات الاحتياط ، قائلا في بعض مصنفاته : «ان مناط أكثر الأحكام لا يخلو من شوب وريب وتردد ، لكثرة الاختلافات في تعارض الأدلة وتدافع الأمارات ، فلا ينبغي ترك الاحتياط للمجتهد فضلا عمن دونه» انتهى.

(السادس) ـ قد اشتهر ـ بين أكثر أصحابنا سيما المتأخرين ـ عدا الاستحباب

__________________

(١) هو شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني (قدس‌سره) في بعض مصنفاته (منه رحمه‌الله).

١٠٨

والكراهة من جملة وجوه الجمع بين الأخبار ، بل الاقتصار عليهما في الجمع دون تلك القواعد المنصوصة والضوابط المخصوصة ، كما لا يخفى على من لاحظ كتب المتأخرين ومتأخريهم ، حتى تحذلق بعض متأخري المتأخرين ـ كما نقله بعض مشايخنا المعاصرين ـ فقال : «إذا أمكن التوفيق بين الأخبار بحمل بعضها على المجاز كحمل النهي على الكراهة والأمر على الاستحباب وغير ذلك من ضروب التأويلات ، فهو أولى من حمل بعضها على التقية وان اتفق المخالفون على موافقته» ولعمري انه محض اجتهاد في مقابلة النصوص وجرأة على رد كلام أهل الخصوص ، وقد قدمنا لك في المقدمة السابقة (١) ما فيه مزيد تحقيق للمقام ودفع لهذه الأوهام.

(السابع) ـ الذي ظهر لي من الأخبار ـ مما تقدم نقله وغيره ، وعليه اعتمد وبه أعمل ـ انه متى تعارض الخبران على وجه لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر.

فالواجب ـ أولا ـ العرض على الكتاب العزيز. وذلك لاستفاضة الأخبار بالعرض عليه وان لم يكن في مقام اختلاف الأخبار ، وان ما خالفه فهو زخرف (٢) ولعدم جواز مخالفة أحكامهم (عليهم‌السلام) للكتاب العزيز ، لانه آيتهم وحجتهم واخبارهم تابعة له ومقتبسة منه ، وأما ما ورد مخصصا أو مقيدا له فليس من المخالفة في شي‌ء كما قدمنا بيانه وأوضحنا برهانه (٣). والمراد العرض على محكماته ونصوصه بعد معرفة الناسخ منها من المنسوخ. واما غيرها فيشترط ورود التفسير له عن أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وإلا فالتوقف عن الترجيح بهذه القاعدة.

ثم الترجيح بالعرض على مذهب القوم والأخذ بخلافهم ، لاستفاضة

__________________

(١) الظاهر ان مراده ما تقدم في المقدمة الرابعة في الصحيفة ٧٠ وفي النسختين الخطبتين اللتين وقفنا عليهما (الاولى) بدل (السابقة) ويحتمل ان يكون من غلط النساخ.

(٢) روى صاحب الوسائل هذه الاخبار في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٣) في الصحيفة ٨٩ السطر ٧.

١٠٩

الأخبار بالأخذ بخلافهم وان لم يكن في مقام التعارض ايضا (١) كما تدل عليه جملة من الأخبار.

(منها) ـ رواية علي بن أسباط المروية في التهذيب (٢) وعيون الأخبار (٣) ، وفيها ما يدل على «انهم متى أفتوا بشي‌ء فالحق في خلافه» وفي صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع عن الرضا (عليه‌السلام) : «إذا رأيت الناس يقبلون على شي‌ء فاجتنبه». وفي صحيحة أبي بصير المروية في رسالة الراوندي المتقدم ذكرها (٤) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «ما أنتم والله على شي‌ء مما هم فيه ولا هم على شي‌ء مما أنتم فيه ، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شي‌ء» (٥). وفي بعض الأخبار : «والله لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة». وحينئذ ففي مقام التعارض بطريق اولى.

ثم مع عدم إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمجمع عليه ، ومما يدل على الأخذ به ما تقدم نقله عن ثقة الإسلام (٦) من الخبر المرسل الذي أشار إليه بقوله : «وقوله (عليه‌السلام) : خذوا بالمجمع عليه ، فان المجمع عليه لا ريب فيه» ، الا ان في تيسر هذا الإجماع لنا في هذه الأزمان نوع اشكال كما عرفت آنفا.

وكيف كان فهذه القواعد الثلاث لا يمكن الاختلاف فيها بعد إعطاء التأمل حقه في الأخبار في مقام الاختلاف. وإعطاء النظر حقه من التحقيق والإنصاف ،

ومع عدم إمكان الترجيح بالقواعد الثلاث فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط ،

__________________

(١) روى صاحب الوسائل هذه الاخبار في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٢) في باب (الزيادات في القضايا والأحكام) من كتاب القضاء.

(٣) في باب ـ ٢٨ ـ الصحيفة ١٥٢ ، وفي الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٤) في الصحيفة ٩٤ السطر ١٨.

(٥) رواها صاحب الوسائل في باب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.

(٦) في الصحيفة ١٠٧ السطر ٤.

١١٠

وان كان ما اختاره شيخنا ثقة الإسلام من التخيير لا يخلو من قوة ، الا ان اخبار الاحتياط عموما وخصوصا أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة.

واما الترجيح بالأوثقية والأعدلية فالظاهر انه لا ثمرة له بعد الحكم بصحة أخبارنا التي عليها مدار ديننا وشريعتنا كما قدمنا بيانه (١) ولعل ما ورد ـ في مقبولة عمر بن حنظلة (٢) من الترجيح بذلك ـ محمول على الحكم والفتوى كما هو موردها ، ومثلها رواية داود بن الحصين (٣). واما مرفوعة زرارة (٤) فلما عرفت من الكلام فيها لا تبلغ حجة ، أو يقال باختصاص ذلك بزمانهم (عليهم‌السلام) قبل وقوع التنقية في الاخبار وتخليصها من شوب الاكدار ، والله سبحانه ورسوله وأولياؤه أعلم.

(الثامن) ـ انه قد وقع التعبير عن المجمع عليه في مقبولة عمر بن حنظلة (٥) بالمشهور ، وهو لا يخلو من نوع تدافع. ويمكن الجواب عن ذلك اما بتجوز إطلاق المجمع عليه على المشهور ، أو بان يقال : يمكن ان يكون الراوي لما هو خلاف المجمع عليه قد روى ما هو مجمع عليه أيضا فأحد الخبرين مجمع عليه بلا اشكال والآخر الذي تفرد بروايته شاذ غير مجمع عليه ، وحينئذ فيصير التجوز في جانب الشهرة ، واما بحمل الشاذ المخالف على ما وافق روايات العامة واخبارهم وان رواه أصحابنا ، بمعنى وجوب طرح الخبر الموافق لهم إذا عارضه خبر مشهور معروف بين الأصحاب ، وذلك لا ريب فيه كما تدل عليه الاخبار الدالة على حكم الترجيح بين الاخبار.

__________________

(١) في المقدمة الاولى والثانية.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٩٢ السطر ٤.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٩٣ السطر ٥.

(٥) المتقدمة في الصحيفة ٩١.

١١١

المقدمة السابعة

في ان مدلول الأمر والنهي حقيقة هو الوجوب والتحريم

وقد طال التشاجر بين علماء الأصول في هذه المقالة ، وتعددت الأقوال فيها وزيف كل منهم ما أورده الآخر من الاستدلال وقاله ، مع ان الكتاب العزيز واخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) مملوة من الدلالة على ذلك ، وهي أولى بالاتباع والاعتماد وأظهر في الدلالة على المراد.

فمنها قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...» (١) وليس الطاعة إلا الانقياد لما يقوله الآمر من الأمر والنهي كما صرح به أرباب اللغة. وترك الطاعة عصيان ، لنص أهل اللغة على ذلك ، والعصيان حرام ، لقوله سبحانه : «وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ...» (٢).

و (منها) ـ قوله تعالى : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» (٣) والتقريب ما تقدم.

و (منها) ـ قوله تعالى : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٤).

و (منها) ـ قوله تعالى : «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...» (٥).

__________________

(١) سورة النساء. آية ٦٣.

(٢) سورة الجن. آية ٢٥.

(٣) سورة النساء. آية ٨٣.

(٤) سورة النور. آية ٦٤.

(٥) سورة الحشر. آية ٨.

١١٢

ومن الاخبار الدالة على ذلك ما استفاض من وجوب طاعة الأئمة (عليهم‌السلام) وان طاعتهم كطاعة الله ورسوله ، وقد عقد له في الكافي (١) بابا عنونه بباب (فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام).

ومن اخباره : حسنة الحسين بن ابي العلاء قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ قال : نعم هم الذين قال الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.) (٢). الحديث».

وصحيحة الكناني قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «نحن قوم فرض الله طاعتنا. الحديث».

ورواية الحسين بن المختار عن ابي جعفر (عليه‌السلام) : «في قول الله تعالى ((وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)) (٣) قال : الطاعة للإمام» (٤). الى غير ذلك من الاخبار المذكورة في ذلك الباب وغيره.

ومن الاخبار الدالة على أصل المدعى صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٥) قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي وكم هي؟ فقال : ان الله عزوجل يقول : «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ...» (٦). فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا : قلنا : انما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ). ولم يقل : افعلوا. فكيف أوجب

__________________

(١) في كتاب الحجة.

(٢) سورة النساء. آية ٦٣.

(٣) سورة النساء. آية ٥٨.

(٤) الموجود في الكافي هكذا : الطاعة المفروضة ، وليس فيه ذكر للإمام.

(٥) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٢ ـ من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.

(٦) سورة النساء. آية ١٠٢.

١١٣

ذلك كما وجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه‌السلام) : أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.) (١) ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض؟. الحديث» وجه الدلالة ان زرارة ومحمد بن مسلم علقا استفادة الوجوب على صيغة افعل مجردة ، وسألا عن وجوب القصر مع عدم الصيغة المذكورة ، وهما من أهل اللسان وخواص الأئمة (عليهم‌السلام) والامام قررهما على ذلك.

و (منها) ـ صحيحة عمر بن يزيد (٢) قال : «اشتريت إبلا وانا بالمدينة مقيم فأعجبتني إعجابا شديدا ، فدخلت على ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) فذكرتها ، فقال : مالك وللإبل؟ أما علمت أنها كثيرة المصائب؟ قال : فمن إعجابي بها أكريتها وبعثتها مع غلمان لي إلى الكوفة فسقطت كلها ، قال : فدخلت عليه فأخبرته. فقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣).

و (منها) ـ ما ورد في رسالة الصادق (عليه‌السلام) الى أصحابه المروية في كتاب روضة الكافي (٤) حيث قال فيها : «اعلموا ان ما أمر الله ان تجتنبوه فقد حرمة ، الى ان قال في أثنائها أيضا : واعلموا انه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهي عما نهى عنه ، فمن اتبع امره فقد أطاعه ومن لم ينته عما نهى عنه فقد عصاه ، فان مات على معصيته أكبه الله على وجهه في النار».

و (منها) ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٥) : قال : «العمرة

__________________

(١) سورة البقرة. آية ١٥٤.

(٢) المروية في الوسائل في باب ـ ٢٤ ـ من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره من كتاب الحج.

(٣) سورة النور. آية ٦٤.

(٤) في أول الكتاب.

(٥) المروية في الوسائل في باب ـ ١ ـ من أبواب العمرة من كتاب الحج.

١١٤

واجبة على الخلق بمنزلة الحج ، لان الله تعالى يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ). الحديث».

و (منها) ـ قول الصادق (عليه‌السلام) لهشام بن الحكم لما سأله «ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ فاعتذر له هشام بأني أجلك وأستحييك. فقال الصادق (عليه‌السلام) : إذا أمرتكم بشي‌ء فافعلوا». رواه في الكافي في أول باب الاضطرار إلى الحجة ، وهو ظاهر كالصريح في وجوب امتثال أوامرهم (عليه‌السلام).

وذهب جمع ـ من المتأخرين ومتأخريهم منهم : الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني بل ربما كان أولهم فيما أعلم ـ إلى منع دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والتحريم في كلام الأئمة (عليهم‌السلام) وان كانت كذلك في كلام الله تعالى وكلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مستندين إلى كثرة ورود الأوامر والنواهي عنهم (عليهم‌السلام) للاستحباب والكراهة وشيوعها في ذلك ، قال في كتاب المعالم : «فائدة ، يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم‌السلام) ان استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم (عليهم‌السلام)». وبمثل هذه المقالة صرح السيد السند في مواضع من المدارك ، ونسج على منوالهما جمع ممن تأخر عنهما (١).

وعندي فيه نظر من وجوه : (أحدها) ـ ان تلك الأوامر والنواهي هي في الحقيقة أوامر الله سبحانه ورسوله ، ولا فرق بين صدورها من الله تعالى ورسوله ولا منهم ، لكونهم (عليهم‌السلام) حملة ونقلة ، لقولهم (صلوات الله عليهم) :

__________________

(١) منهم الفاضل ملا محمد باقر الخراساني صاحب الكفاية والذخيرة ، ومنهم المحقق الخوانساري شارح الدروس ، ومنهم شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني طيب الله مراقدهم (منه قدس‌سره).

١١٥

«إنا إذا حدثنا حدثنا عن الله ورسوله ولا نقول من أنفسنا» (١). وحينئذ فكما ان هذا القائل يسلم أن أوامر الله سبحانه ورسوله ونواهيهما ـ الصادرة عنهما لا بواسطة ـ واجبة الاتباع ، فيجب عليه القول بذلك فيما كان بواسطتهم (عليه‌السلام) ، وهل يجوز أو يتوهم نقلهم (عليهم‌السلام) ذلك اللفظ عن معناه الحقيقي الذي هو الوجوب أو التحريم واستعماله في معنى مجازي من غير نصب قرينة وتنبيه على ذلك؟ وهل هو إلا من قبيل التعمية والألغاز؟ وشفقتهم على شيعتهم ـ وحرصهم على هدايتهم بل علو شأنهم وعصمتهم تمنع من ذلك.

و (ثانيها) ـ ان ما استند اليه هذا القائل ـ من كثرة ورود الأوامر والنواهي في أخبارهم للاستحباب والكراهة ـ مردود بأنه ان كان دلالة تلك الأوامر والنواهي باعتبار قرائن قد اشتملت عليها تلك الأخبار حتى دلت بسببها على الاستحباب والكراهة فهو لا يقتضي حمل ما لا قرينة فيه على ذلك ، وهل هو إلا قياس مع وجود الفارق؟ وإلا فهو عين المتنازع فلا يتم الاستدلال وهذا بحمد الله سبحانه واضح المجال لمن عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

و (ثالثها) ـ ان ما قدمنا من الآيات والأخبار ـ الدالة على فرض طاعتهم ووجوب متابعتهم ـ عامة شاملة لجميع الأوامر والنواهي إلا ما دلت القرائن على خروجه ، فحينئذ لو حمل الأمر والنهي الوارد في كلامهم بدون القرينة الصارفة على الاستحباب والكراهة المؤذن بجواز الترك في الأول والفعل في الثاني ، لم يحصل العلم بطاعتهم ولا اليقين بمتابعتهم ، وكان المرتكب لذلك في معرض الخوف والخطر والتعرض لحر سقر ، لاحتمال كون ما أمروا به إنما هو على وجه الوجوب والحتم وما نهوا عنه إنما هو على جهة التحريم والزجر ، بل هو ظاهر تلك الأوامر والنواهي بالنظر الى ما قلنا إلا مع الصارف ، بخلاف ما إذا حملا على الوجوب والتحريم فان

__________________

(١) روى المجلسي في البحار الروايات المتضمنة لهذا المعنى في باب ـ ٣٣ ـ من كتاب العلم في الصحيفة ١٧٢ من الجزء الثاني المطبوع بمطبعة الحيدرى بطهران.

١١٦

المكلف حينئذ متيقن البراءة والخروج من العهدة.

(ولو قيل) بان الحمل على الاستحباب والكراهة معتضد بالبراءة الأصلية ، إذ الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل قاطع على ما يوجب اشتغالها.

(قلنا) فيه (أولا) ـ ما عرفت في مسألة البراءة الأصلية من عدم قيام الدليل عليها بل قيامه على خلافها.

و (ثانيا) ـ انه بعد ورود الأمر والنهي مطلقا لا مجال للتمسك بها ، إذ المراد بها ، اما أصالة البراءة قبل تعلق التكاليف ، وحينئذ فبعد التكليف لا مجال لاعتبارها ، واما أصالة البراءة لعدم الاطلاع على الدليل ، والحال ان الدليل في الجملة موجود. نعم يبقى الشك في الدليل وتردده بين الوجوب والاستحباب ، والتحريم والكراهة ، هذا أمر آخر ، فالخروج عن قضية البراءة الأصلية معلوم. وبالجملة فأصالة البراءة عبارة عن خلو الذمة من تعلق التكليف مطلقا إيجابيا أو ندبيا ، وهو هنا ممتنع بعد وجود الدليل.

و (رابعها) ـ انه لا أقل ان يكون الحكم ـ بالنظر الى ما ذكرنا من الآيات والروايات ـ من المتشابهات التي استفاضت الاخبار بالوقوف فيها على ساحل الاحتياط : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن تجنب الشبهات نجا من الهلكات» (١). ومن الظاهر البين ان الاحتياط في جانب الوجوب والتحريم.

هذا وما اعتضد به ـ شيخنا أبو الحسن (قدس‌سره) في كتاب العشرة الكاملة حيث اقتفى اثر أولئك القوم في هذه المقالة ، من ان الصدوق (رحمه‌الله) في كتاب من لا يحضره الفقيه قد حمل كثيرا من الأوامر على الندب وجما غفيرا من النواهي على الكراهة والتنزيه ـ ففيه انه ان كان ذلك كذلك فيمكن حمله على ظهور قرائن

__________________

(١) هذا من مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة في الصحيفة ٩١ الا ان المتقدم هناك هكذا : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات».

١١٧

المجاز له ، إذ هي بالنسبة إلى مثله من أرباب الصدر الأول غير عزيزة ، ويمكن ايضا ان يكون ذلك في مقام الجمع بين الاخبار بان يكون في الاخبار المعارضة ما يدل على نفي الوجوب في الأول والجواز في الثاني مع قوته ورجحانه ، وهذا من جملة القرائن الموجبة للخروج عن ذينك المعنيين الحقيقيين.

المقدمة الثامنة

اختلف الأصوليون في ثبوت الحقائق الشرعية

وتحقيق المقام ـ من غير اطالة بإبرام النقض ولا نقض الإبرام ـ هو ان اللفظ ان استعمل فيما وضع له فهو حقيقة والا فهو مجاز ، والواضع ان كان هو الشارع اي الله سبحانه أو الرسول فحقيقة شرعية ، وان كان غيره فلغوية أو عرفية خاصة أو عامة.

ولا نزاع في ان الألفاظ المتداولة في لسان أهل الشرع المستعملة في خلاف معانيها اللغوية قد صارت حقائق في تلك المعاني عندهم ، كاستعمال الصلاة الموضوعة لغة للدعاء في ذات الأركان الخمسة ونحوها.

إنما النزاع في ان هذا الاستعمال هل هو بطريق النقل عن الشارع فتكون حقائق شرعية ، أو بطريق المجاز بمعنى ان الشارع إنما استعملها في تلك المعاني مجازا بمعونة القرينة ولكن غلب في ألسنة أهل الشرع استعمالها كذلك حتى أفادت من غير قرينة فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية؟

فقيل بالأول بل هو المشهور بينهم محتجين بوجوه : (أظهرها) ـ القطع بتبادر هذه المعاني من تلك الألفاظ إلى الفهم عند إطلاقها ، وهو علامة الحقيقة.

وذهب بعض الى الثاني ، طاعنا في الحجة المذكورة ومحتجا بما هو مذكور في مطولات الأصول مما لا يرجع عند التحقيق إلى ثمرة ولا محصول.

١١٨

وتوقف ثالث ، قائلا ان الحق انه لم يعلم من حال الشارع غير أصل الاستعمال. واما طريقه فغير معلوم ، لأن أدلة الطرفين في غاية الضعف ، وتبادر هذه المعاني لنا غير مفيد ، إذ يحتمل ان يكون ذلك لأجل الاشتهار عندنا.

هذا. والأظهر عندي هو القول الأول وعليه من بين تلك الأقوال المعول ، ولنا عليه دليل التبادر الذي هو عندهم امارة الحقيقة ومعيارها وعليه في جميع الأحوال مدارها. وما قيل ـ في الجواب عن ذلك ، من ان التبادر المذكور عند سماع هذه الألفاظ ، ان كان بالنظر الى إطلاق الشارع فهو ممنوع بل هو أول المسألة ، وان كان بالنظر الى إطلاق المتشرعة فهو غير مفيد قطعا ، لان اللازم حينئذ كونها حقائق عرفية لا شرعية ـ مردود بان من صفا ذهنه من شوب الشبهة والعناد وكان له انس بكلام الشارع ولو في أكثر المواد ، يعلم قطعا ان الصدر الأول ـ من الصحابة والتابعين وجملة السلف المتقدمين ـ كانوا متى حكى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الله سبحانه وصف أحد بالايمان أو الكفر أو الشرك أو حصل منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الأمر بصلاة أو زكاة أو حج أو طهارة أو المنع عن النجاسة أو نحو ذلك ، يفهمون بمجرد إطلاق هذه الألفاظ المعنى الشرعي منها متى تقدم لهم العلم بالوضع ، ومن أنكر ذلك نسأل الله سبحانه ان يصلح وجدانه ويثبت جنانه.

ومن الأخبار الدالة على ذلك موثقة سماعة (١) قال : «سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن؟ فقال : نعم. قول الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا.) (٢). الحديث».

إلا ان الظاهر ان الخلاف في هذه المسألة قليل الجدوى ، لاتفاقهم على ان

__________________

(١) المروية في الوسائل في باب ـ ٥ ـ من أبواب الركوع من كتاب الصلاة.

(٢) سورة الحج. آية ٧٨.

١١٩

استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني الشرعية في كلام الأئمة (عليهم‌السلام) حقيقة وان كانت عرفية خاصة لا شرعية ، وهو كاف في صحة الاستدلال بها والاعتماد عليها ، وإنما يظهر الخلاف فيما وقع منها في كلام الشارع من القرآن العزيز أو السنة النبوية ، واستقلال القرآن ـ سيما على ما فصلناه آنفا (١) والسنة النبوية من غير جهة نقل الأئمة (عليهم‌السلام) ـ مما لا يكاد يتحقق في الأحكام ، كما لا يخفى على من سرح بريد النظر في المقام. وبهذا يظهر لك ما في إيراد شيخنا ابي الحسن (قدس‌سره) ـ في بعض مؤلفاته على شيخنا البهائي وصاحب المعالم ، حيث انه قائل بثبوت الحقيقة الشرعية وهما مانعان منه ـ بالأخبار الدالة على الطهارة والنجاسة والحل والتحريم والوجوب والاستحباب مع خلوها من القرائن ، حيث قال بعد تقديم الكلام في ذلك : «على انا نقول : لو تم ما ذكروه من التشكيك الركيك للزم ان كل ما ادعينا انه حقيقة شرعية فهو مجاز لا يصار اليه إلا بقرينة ، وحينئذ ينسد باب الاحتجاج بأكثر الأخبار المشتملة على هذه الألفاظ العارية عن القرائن المعينة للمراد ، وهم لا يلتزمونه ، بل هذان الشيخان وغيرهما قد أكثروا من الاحتجاج بأمثال هذه الأخبار على مطالبهم غافلين عما يرد عليهم ، وتراهم أكثروا من الاحتجاج على النجاسة والطهارة والحل والتحريم والوجوب والاستحباب بهذه الألفاظ ، فهم يأتون في ذلك على المثل السائر : «الشعير يؤكل ويذم» انتهى. فان فيه كما عرفت انه لا خلاف في ان استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشرعية في كلام الأئمة (عليهم‌السلام) حقائق يجب الاعتماد عليها والاستناد إليها وان كانت عرفية خاصة ، وإنما محل الخلاف ومظهره وقوعها في كلام الشارع ، اما مجردة عن القرينة فعند من يقول بثبوت الحقائق الشرعية بحملها على ذلك

__________________

(١) الظاهر انه يريد المقام الأول من المقدمة الثالثة.

١٢٠