النظام العائلي

الدكتور زهير الاعرجي

النظام العائلي

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٤

القسم الاول

النظام العائلي في النظرية الرأسمالية

العائلة في النظرية التوفيقية * نقد النظرية التوفيقية * العائلة في نظرية الصراع الاجتماعي * نقد نظرية الصراع * الشكل العائلي الرأسمالي * معنى التغير في المؤسسة العائلية الرأسمالية * العائلة الرأسمالية الامريكية * الزواج والطلاق في المجتمع الرأسمالي * مشكلة الاسقاط المتعمد ( الاجهاض ) * هفوات النظام العائلي الرأسمالي.

٢١
٢٢

العائلة في النظرية التوفيقية

تجزم النظرية التوفيقية بان الحياة الانسانية حياة حيوانية ، وان البشر ليسوا حيوانات من الناحية البيولوجية فحسب ، بل انهم حيوانات اجتماعية ايضاً (١) ؛ ولذلك ، فلابد للمؤسسة العائلية من القيام بدور فعال في حفظ المجتمع الانساني ؛ لان اي محاولة لفهم الدور الانساني للمؤسسة العائلية يجب ان يأخذ بعين الاعتبار الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها العائلة لخدمة النظام الاجتماعي على صعيد تنظيم الحياة الخاصة بين الرجل والمرأة ، ورفد المجتمع بالافراد المنتجين ، واحياء الحياة الاجتماعية ، وحماية الافراد المنتمين للعائلة الواحدة ورعايتهم من الناحية العاطفية والاقتصادية.

فجميع المجتمعات الانسانية ـ حسب النظرية التوفيقية ـ لا تسمح للافراد بانشاء علاقات خاصة بين الرجال والنساء ، دون ضوابط عرفية متفق عليها. بل القاعدة ، ان المجتمع الانساني لا ينظر للسلوك الجنسي باعتباره مسألة خاصة بالفرد ، وانما يسلط عيناً فاحصة على هذه الممارسات الغريزية بين الجنسين ويرصدها رصداً تاماً. فالنظام الاجتماعي اذن ، يقدم اطاراً اسرياً ينظم بموجبه العلاقة الجنسية بين الذكر والانثى ، ويحدد من خلاله نوعية الافراد المتزاوجين من حيث العمر والدخل والكفاءة ، ويضع الشروط المناسبة لذلك.

__________________

١ ـ ( روبرت ميرتون ) : النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٦٨ م.

٢٣

وترى النظرية التوفيقية بان المجتمع لا يستطيع ان يقوم بمهامه الحيوية ، ما لم ينشئ نظاماً خاصاً لتعويض الخسائر الاجتماعية التي تحصل نتيجة موت الافراد ، ولولا النظام العائلي لانقرضت البشرية والحياة الانسانية على وجه هذا الكوكب. فالعائلة ترفد المجتمع بالافراد المنتجين جيلاً بعد جيل ، حيث تقدم هذه العائلة المستقرة ، المتكونة من أب وأم ، للنظام الاجتماعي أفضل الخدمات الاجتماعية وأهمها ، وهي سد الادوار الشاغرة التي يتركها الافراد حين مغادرتهم الحياة الدنيا خلال الموت.

وعلى هذا الاساس تقوم العائلة بحماية أفرادها ورعايتهم بتقديم شتى الاعمال الخدمية لهم كالملجأ والمطعم ، والدفء والحنان ، والعناية الشخصية والعاطفية. فهي توفر لهم الاجواء التي تسد حاجاتهم الاساسية في الخلود الى الراحة والاطمئنان للمستقبل ، وشحن طاقاتهم العملية ، فيكونوا بعدئذ ، اهلا للعمل والانتاج. ولاشك ان النظام العائلي مبني على اساس ان الفرد المنتج في العائلة الواحدة هو المسؤول عن الآخرين ، الذين لا يستطيعون القيام بعمل منتج بسبب السن أو المرض أو العجز الطبيعي ، ضمن إطار نفس العائلة.

وبطبيعة الحال فان العائلة ، حسب رأي النظرية التوفيقية ، تساهم في تحقيق طموح الانسان في التفوق والنجاح عن طريق الاختلاط الاجتماعي. فالانسان كائن أجتماعي بالطبع ، ومنذ الولادة يسعى في أجواء الحب والحنان من قبل الابوين الى الانغمار بالانشاطات الاجتماعية ، فيتعلم اللغة ، والقيم ، والدين ، والعادات الاجتماعية التي يقرها النظام الاجتماعي. ومع ان المؤسسة الدينية والتعليمية تساهم في إنشاء الفرد ، الا ان المؤسسة العائلية

٢٤

هي القاعدة التي ينطلق منها الانسان في بناء حياته الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى ضوء ذلك ، تقدم العائلة لافرادها مقعداً اجتماعياً متميزاً ، يتناسب اساساً مع منزلة العائلة الاجتماعي وثروتها. فالافراد جميعاً ، ينسبون الى عوائلهم من الناحية العرقية ، والدينية ، والمذهبية ، والاقتصادية ، والطبقية الاجتماعية : بمعنى ان هوية الفرد المذهبية والعرقية تحددها العائلة التي ينتمي اليها اكثر مما يحددها الفرد لنفسه. وبالتالي فان لهذه الهوية تأثيراً حاسماً على احتلال الافراد لادوارهم الاجتماعية لاحقاً.

وأهم حاجة تشبعها المؤسسة العائلية في الفرد هي الحاجة العاطفية. فالحب والحنان والعطف من مصادر الاستقرار النفسي ، واشباع هذه الحاجات العاطفية لايتم الا ضمن جدران العائلة التي تعتبرها النظرية التوفيقية جنة من الجنان الطبيعية في هذا العالم المتوحش (١).

_________________

١ ـ ( كريستوفر لاش ). جنة في عالم لا قلب له : العائلة في حصار. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٧٧ م.

٢٥

نقد النظرية التوفيقية

وقد ركزت النظرية التوفيقية ، في معالجتها لدور المؤسسة العائلية في حفظ المجتمع الانساني ، على الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها تلك المؤسسة ، دون ان تكترث لدراسة دور الرجل والمرأة في إدارة النظام العائلي ، وتحليل علاقتهما الزوجية ضمن حدود العرف الاجتماعي. فلم تستطع النظرية ان تقدم تصوراً عاماً حول واجبات الزوجين وحقوقهما ، ومسؤوليتهما الشرعية أو القانونية تجاه بعضهما البعض أولاً ، وتجاه اليافعين في نظامهما العائلي ثانياً. ولم تتطرق النظرية أيضاً ، الى حقوق الافراد المنتسبين الى العائلة الواحدة في الارث والنفقة والتملك. ولم تتناول شكل العلاقة الزوجية ، ودورالطاعة أو النفقة في تحديد الغريزية بين الرجل والمرأة.

ولو كانت النظرية صادقة ودقيقة في تحليلها ، فلماذا اذن ، تجاهلت تحليل ظاهرة العنف في العائلة الرأسمالية ، مقابل الحب والحنان في العائلة المثالية التي تزعم بوجودها في كل المجتمعات الانسانية وبضمنها المجتمع الرأسمالي؟ مع علم النظرية مسبقاً بأن الجرائم الواقعة بين أفراد العائلة الواحدة ، خصوصاً بين الزوج والزوجة ، تشكل أكثر من عشر اجمالي الجرائم الجنائية السنوية في الولايات المتحدة مثلاً (١). فاذا كانت العائلة مصدراً للحب والحنان ، فكيف تفسر النظرية التوفيقية حوادث الاعتداء

____________

١ ـ ( روبرت ) الانفصال الزوجي. نيويورك : الكتب الاساسية. ١٩٧٥ م.

٢٦

الجسدية التي تقع بين الزوجين في النظام العائلي الرأسمالي ، والتي قدرت في العقد الاخير من القرن العشرين بأكثر من سبعة ملايين حادث سنوياً تقع ضمن ستين مليون عائلة (١)؟

ومع ان النظرية التوفيقية تقدم تحليلاً جدياً لدور العائلة في النظام الاجتماعي الا انها تفشل في تكوين صورة شاملة عن النظام القانوني الذي ينظم شؤون العائلة الداخلية ويضعها أمام مسؤوليتها الاجتماعية الكبيرة.

__________________

١ ـ ( روبرت أمري ) وآخرون. الطلاق ، الاطفال ، والسياسة الاجتماعية. فصل علمي في كتاب ( السياسة الاجتماعية والابحاث الخاصة بنمو الطفل ) تحرير : هارولد ستيفنسن والبرتا سيغل. شيكاغو : مطبعة شيكاغو ، ١٩٨٤ م.

٢٧

العائلة في نظرية الصراع الاجتماعي

ولا تنكر نظرية الصراع الاجتماعي أهمية دور المؤسسة العائلية في انجاز الوظائف المناطة بها اجتماعياً ، الا إن النظرية تؤكد على أن المؤسسة العائلية هي أول مؤسسة إضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية. حيث تمثل سيطرة الرجل على المرأة في النظام العائلي ، أخطر الامثلة التي تقدمها نظرية الصراع وتدينها من الاساس. والى ذلك يشير ( انجلز) في كتابه « أصل العائلة ، الملكية الخاصة ، والجولة » قائلاً :

« إن الزواج يمثل نموذجاً راقياً للعداوات التي ظهرت في التاريخ. حيث إن نمو وإزدهار مجموعة معينة يتم على حساب مأساة وإضطهاد مجموعة اخرى ... ان العلاقة بين الزوج والزوجة هي مثال نموذجي لما يحصل لاحقاً من اضطهاد بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العمالية » (١).

____________

١ ـ ( فريدريك انجلز ) ص : ٣٠ ، طبع سنة ١٨٨٤ م.

٢٨

نقد نظرية الصراع

ولاشك ان نظرية الصراع الاجتماعي تنطلق في تحليلها لوضع المرأة في المؤسسة العائلية من معاينة المجتمع الاوروبي الغربي في عصر الثورة الصناعية ونشوء النظرية الرأسمالية ، وامتدادات ذلك الى المجتمع الامريكي الشمالي ؛ وهو تحليل يعكس صدق النظرية في تشخيصها جزءاً مهماً من المشكلة الاجتماعية الاسرية في النظام الرأسمالي. فلحد الستينيات من القرن العشرين لم تكن المرأة في النظام الامريكي والاوروبي قادرة من الناحية القانونية على المشاركة في إنشاء أي عقد من العقود التجارية دون إذن زوجها. وفي النصف من القرن نفسه وصلت حالة العنف بين الزوج والزوجة في المجتمع الامريكي الى درجة ، بحيث وضعت المؤسسة العائلية على قمة المؤسسات الاجتماعية الامريكية التي تمارس العنف والاجرام (١). فجرائم القتل بين الازواج تمثل ـ كما ذكرنا سابقاً ـ عشر اجمالي الجرائم الجنائية السنوية. وفي كل عام يحاول أكثر من سبعة ملايين زوج أو زوجة إنزال الاذى بالآخر ، قتلا كان أو ضرباً مبرحاً أو جرحاً بليغا. ويحاول اكثر من مليوني طفل سنوياً الاعتداء على امثالهم بسلاح ناري أو نحوه بنية وتصميم مسبق للقتل. وفي كلّ عام يهرب اكثر من مليوني مراهق من بيوتهم بسبب الاعتداءات الخلقية عليهم من قبل آبائهم. واكثر المشاكل الزوجية انتشارا في المجتمع الرأسمالي الامريكي اليوم هو الاعتداء الجسدي

__________________

١ ـ ( ميشيل كوردن ). العائلة الامريكية من زاوية اجتماعية ـ تاريخية. نيويورك: سانت مارتن ، ١٩٨٣ م.

٢٩

بين الازواج مع النية المسبقة بانزال الاذى بالآخر.

وهذا الوضع الاسري في حضارة تدعي لنفسها الكمال ، قد رسخ افكار نظرية الصراع الاجتماعي في اذهان المحدثين من معتنقي هذه النظرية وجعلهم اكثر تحمسا في الدفاع عن مقولة ( فريدريك انجلز ) حول الاضطهاد الاسري الذي يؤدي لاحقاً الى الاضطهاد الاجتماعي.

ولكن تفسير نظرية الصراع وربطها الاضطهاد الاسري بالاضطهاد الاجتماعي هو عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج مشكلة الاضطهاد المزعوم. فاذا كان الصراع الطبقي مستمراً في جميع اطوار تطورالمجتمع الانساني ، كما تزعم نظرية الصراع ، فكيف تستطيع تلك النظرية تصوير شكل العلاقة الزوجية في كل مرحلة من مراحل الصراع الاجتماعي؟ فهل ان المرحلة التاريخية السابقة التي اباحت للزوج الرأسمالي اضطهاد زوجته البروليتارية ، تبيح للزوجة الرأسمالية اضطهاد زوجها البروليتاري؟ واذا كانت الثقافة الماركسية في مرحلة الصراع الاجتماعي تجيز للبروليتاريا سحق الطبقة الرأسمالية فهل يجوز سحق العائلة القائمة على اساس الفهم الرأسمالي؟ بل اين حدود التعامل ، حسب نظرية الصراع ، في العلاقات الخاصة بين الزوج والزوجة؟ ومن الذي يحدد القانون الذي يسمح للزوجين بالاشتراك في الحياة الزوجية السعيدة دون ظلم واضطهاد؟

ان نظرية الصراع الاجتماعي تقصر عن تحديد دور الزوجين في التعامل الانساني ، وتعجزعن تشخيص مسؤوليتهما المتبادلة في اشباع حاجاتهما الغريزية ضمن الحدود الطبيعية ، وتعجز ايضا عن تحديد مسؤولية الابوين تجاه القاصرين من الابناء والبنات والعاجزين من بقية

٣٠

افراد الاسرة كالاجداد والجدات. ولم تتطرق النظرية ايضا الى الولاية الشرعية او القانونية لاحد الابوين ، ولا الى دور الوصي في حالة وفاة كلا الابوين او احدهما.

وبالجملة فان رأي نظرية الصراع المتعلق بالفكرة القائلة بأن الزواج يمثل نموذجاً للعداوات التي ظهرت في التاريخ لا يعكس الواقع الحقيقي للنظام الاسري الانساني ، بل يمثل جزءاً من واقع النظام الاسري الاوروبي في القرون الماضية وامتداده الى القرن الحالي. بل ان نظرية الصراع لم تقدم حلاً للمشكلة الاسرية ؛ انما كان من اهداف روادها بالاصل ، ربط المشكلة الاسرية بمظالم النظام الرأسمالي ضد الطبقة العاملة.

٣١

الشكل العائلي الرأسمالي

وتختلف اشكال العلاقات الاجتماعية فيما يتعلق بالزواج والعائلة والنسب من مجتمع لآخر ، فلكل مجتمع على الاغلب شفرة اخلاقية تشير الى منع التزواج بين افراد العائلة الواحدة ، كحرمة التزاوج بين الاخوة والاخوات والابناء والامهات مثلاً. ففي المجتمع الرأسمالي يحرم النظام القضائي على الفرد التزوج من الام ، والجدة ، والبنت ، والاخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الاخ ، وبنت الاخت. وفي تسع وعشرين ولاية من الولايات المتحدة يحرم القانون الزواج بين ابناء وبنات الاعمام ويعتبره غشيانا للمحارم (١).

والقاعدة في التزاوج في المجتمع الصناعي ان قضية الزواج والمعاشرة بين الرجال والنساء قضية شخصية مبنية على اساس الحب الرومانتيكي ، فللفرد مطلق الخيار في البحث عن شريكة لحياته ، عن طريق الاعجاب المتبادل بينهما. وعلى ضوء ذلك فان رواد النظرية الرأسمالية يدينون الزواج المبني على اساس اقتصادي ، كما يحصل غالباً في المجتمعات الريفية ويوصمونه بالتخلف والبدائية. ولكنهم يتجاهلون تناقض فكرتهم التي تدعو من جانب الى التنافس الاقتصادي في الانتاج وجمع الثروة ، ومن جانب آخر الى اهمال الجانب الاقتصادي الذي تدره المؤسسة العائلية عن طريق التزاوج!

__________________

١ ـ ( ميشيل غوردن ). العائلة الامريكية : الماضي ، الحاضر ، والمستقبل. نيويورك : راندوم هاوس ، ١٩٧٨ م.

٣٢

وتتهم النظرية الاجتماعية الرأسمالية ، التزاوج في المجتمعات غير الصناعية بالقصور والعجز عن تحريك العواطف الانسانية ، لان ذلك اللون من التزاوج لايتولد نتيجة علاقة حب بين الرجل والمرأة قبل الزواج ، بل انه ينشأ بسبب التقاليد والاعراف الاجتماعية. ولذلك ، فان زواجاً بهذا الشكل لن ينتج حباً متبادلاً بين الزوجين بعد الزواج ايضاً. ولكن التزاوج المنعقد بين الافراد في المجتمع الرأسمالي ـ حسب زعمها ـ غالباً ما يبنى على الحب ، لان هذا المجتمع اكثر تطوراً من الناحية الاجتماعية والفكرية من المجتمعات غير الصناعية ، ولذلك فان الزواج في المجتمع الرأسمالي اكثر نجاحاً من الزواج في المجتمعات غير الرأسمالية. ويرد على هذا الرأي انه لو كان هذا الزعم صحيحاً ، فلماذا اذن يعيش المجتمع الصناعي الرأسمالي اليوم اشد ازماته العائلية؟ فكيف تفسر النظرية الاجتماعية الرأسمالية انتهاء نصف عدد الحالات الزوجية في الولايات المتحدة الى الطلاق (١)؟ فلو كان الحب والاعجاب الاساس في التزاوج ، فكيف يفسر انتهاء ذلك الزواج الرومانتيكي بالانفصال ثم الطلاق؟ ألا يناقض هذا الانفصال والطلاق قواعد الزوجية السعيدة والحياة العائلية الطبيعية؟

ويزعم رواد النظرية الاجتماعية الرأسمالية ايضاً ، ان من اعظم خصائص النظام العائلي الرأسمالي هو اقرار النظام بحرمة تعدد الزوجات ، اي انه لايجوز للفرد التزوج باكثر من امرأة في نفس الفترة. وهذا الزعم يتناسب مع الفكرة الرأسمالية التي تؤكد على دور الفرد في الحياة الاجتماعية والانتاجية ، لان اباحة تعدد الزوجات يناقض مفهوم « المذهب الفردي»

__________________

١ ـ ( وليام غود ). العائلة. انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنستون ـ هول ١٩٨٢ م.

٣٣

الذي تنادي به النظرية الرأسمالية ، وتعتبره سر نجاحها الاقتصادي. ولكن هذه النظرية تتجاهل الازمات الاجتماعية التي تمر بها الانسانية بعد الحروب الطاحنة مثلاً ، وما يترتب عليها من خسائر عظيمة في عدد الرجال ، فيكون نظام تعدد الزوجات من افضل الانظمة الاجتماعية التي تساعد على اعادة بناء الاسر المحطمة بعد الحرب. وليس الاسلام الدين الوحيد الذي يجيز تعدد الزوجات ، بل ان اليهودية وبعض المذاهب النصرانية تجيز تعدد الزوجات ايضاً. وأهم المذاهب النصرانية التي تؤمن بتعدد الزوجات هو مذهب المورمن النصراني المتمركز في ولاية يوتا الامريكية ، الذي يبيح تعدد الزوجات دون حدود.

وهذا التعارض بين النظرية الاجتماعية الرأسمالية والنظرية اليهودية ـ النصرانية في فكرة تعدد الزوجات ، ليس الاول ولا الاخير. لان النظريتين متعارضتان ايضاً في قضية التغشي بين الرجل والمرأة قبل الزواج. فالنصرانية تؤكد على ضرورة عذرية المرأة قبل الزواج تأسياً بمريم العذراء ( ع ) ، بينما تدعو النظرية الاجتماعية الرأسمالية الى احترام حرية الفرد في انشاء علاقات خاصة مع الجنس الآخر. وهذا الصراع بين العذرية والحرية الغريزية يعكس التناقض الفلسفي ، بخصوص دور المؤسسة العائلية ، بين الفكرة الدينية والمذهب الرأسمالي.

ولاشك ان اتساع وتفصيل دقة النظام العائلي وشموله لجزئيات عديدة ومعقدة لا يشجع اي نظرية وضعية على الخوض في غمار مناقشة الدور الاجتماعي للعائلة. وليست النظرية الرأسمالية استثناء من هذه القاعدة. فهي تفتقد الصورة الواضحة والمنهاج الدقيق الذي يعالج مشاكل

٣٤

المجتمع الرأسمالي الزوجية المتمثلة بالاسئلة التالية : ايهما احق بالولاية القانونية العائلية : الزوج ام الزوجة؟ وايهما افضل للنظام الاجتماعي : نظام تعدد الزوجات ام نظام الزواج المتعدد؟ وايهما افضل للنظام الاجتماعي : زواج الاقارب ام زواج الاباعد؟ وايهما اكثر اقتصاداً للازواج الجدد : السكن مع عوائلهم ام انشاء وحدات سكنية جديدة بهم؟ وأيهما اولى بالميراث : الاحفاد من جانب الام او الاحفاد من طرف الاب؟ وايهما افضل واكثر انتاجاً للمجتمع الانساني : العوائل النووية الصغيرة او العوائل الممتدة الكبيرة التي تضم ـ اضافة الى الزوجين ـ الاجداد والاولاد واحفادهما؟ وهذا الفشل في الاجابة على هذه الاسئلة المهمة على الصعيد الاجتماعي يعطي للعقيدة الدينية تفوقا واضحا على العقائد الوضعية في التعامل مع القضايا العائلية.

٣٥

معنى التغير في المؤسسة

العائلية الرأسمالية

ولم يكن التأثير الذي احدثته الفكرة الرأسمالية في القرن الثامن عشر منحصرا بالجانب الاقتصادي من المجتمع الاوروبي ، بل تعدى بشكل مباشر الى المؤسسة العائلية بكل تشكيلاتها الاجتماعية. فكان من اهم التأثيرات التي عصفت بالمؤسسة العائلية الرأسمالية هو تغير ولاء الافراد تجاه بعضهم البعض ؛ حيث اصبح الافراد يحصرون جل اهتماماتهم العملية على تحقيق رغباتهم الشخصية دون الاكتراث لمسؤولياتهم الاجتماعية تجاه عوائلهم الكبيرةواقاربهم وارحامهم. وهذا التغير في الولاء افرز نتائج لها تبعات خطيرة على الحياة العائلية ، تصورها كتابة ( بتي يوربيرك ) في كتاب « دور الغريزة الجنسية في التغير الاجتماعي » :

« يبحث الافراد عن فرص للعمل حتى لو كان ذلك البحث يكلفهم كسر العلاقات الاسرية مع ارحامهم. النساء المتزوجات من الطبقة المتوسطة والعليا يذهبن للعمل حتى مع معارضة ازواجهن. وبعد ذلك يتركن زواجهن المليء بالتعاسة ، واحيانا يتركن اطفالهن مع ازواجهن ويذهبن للبحث هن حياة جديدة فيها عمل وظيفي. الازواج يتركون زوجاتهم اللاتي بذلن حياتهن كربات للبيوت. ووجود الاطفال لايردع الزوجين عن التفكير بالطلاق ... والابن الاكبر لا يترك الجامعة لمساعدة ابويه او اخوته المحتاجين ، بل يتركهم وحاجاتهم ويذهب لتأسيس

٣٦

مستقبله بعيدا عن العائلة. الشباب يختارون حياة زوجية او حياة منحرفة حتى لو عارض الابوان ذلك » (١).

وهذه الحياة الجديدة التي افرزتها التجربة الرأسمالية غيرت النظرة الانسانية في المجتمع الصناعي تجاه الزواج والاسرة. فالعوائل الكبيرة التي كان يرأسها جد الاسرة تحولت الى عوائل صغيرة تضم الاب والام وطفليهما ، ونظام تعدد الزوجات استبدل بنظام الزوجة الواحدة ، والبيوت الكبيرة التي كانت تضم بين جدرانها عوائل متعددة استبدلت بوحدات سكنية تضم عوائل صغيرة ، والتزاوج بين الاقارب استبدل بالتزاوج عن طريق العمل والمؤسسات التعليمية. واصبحت القاعدة في الزواج في المجتمع الرأسمالي ، الميول نحو الاختيار الشخصي القائم على الاعجاب ، والكفاءة ، والثقافة ، والجمال. وبذلك انحسر العامل الاقتصادي الذي كان محور التزاوج في المجتمع الريفي الاوربي.

وتبدل الشكل العائلي في المجتمع الرأسمالي من العصر الزراعي الى العصر الصناعي له عوامله الخاصة التي جعلت فكرة التغيير سبباً اساسياً حسماً في تثبيت اسس النظام الاقتصادي الرأسمالي. ولولا ضعف الاسرة الكبيرة وانفراط عقدها لما نجح النظام الرأسمالي في تنويع وزيادة الانتاج. فالاسر الصغيرة ايسر للانتقال الجغرافي من منطقة الى اخرى حسبما يقتضيه العمل في حقول الانتاج. والعامل في المجتمع الرأسمالي ينتقل حيثما وجد عملاً مناسباً يهيئ له عيشة رغيدة. فاذا كان ذلك العامل مرتبطاً باسرة كبيرة ، اصبح ارتباطه عائقاً في التكسب : ولذلك مالت الكفة الاجتماعية نحو

__________________

١ ـ ( بتي يوربيرك ). دور الغريزة الجنسية في التغير الاجتماعي. نيويورك : وايلي ،١٩٧٤ م. ص ٥٣.

٣٧

انشاء العوائل الصغيرة القادرة على الانتقال الجغرافي بيسر بحثاً عن ظروف انسب للعمل.

وطالما كان المجتمع الرأسمالي يوفر فرصاً اكبر للعمال لتطوير شخصياتهم وفرصاً اكبر للنجاح والصعود الى الطبقات الاجتماعية العليا ، فان الافراد الطامحين للصعود الاجتماعي لا يلزمون انفسهم بالالتزام بالقيم والتقاليد التي تفرضها عليهم الاسر الكبيرة ؛ لان الاسرة الكبيرة المتكونة من اجيال متعددة تحترم لوناً معيناً من القيم الاجتماعية الصارمة. ولكن الحركة الاجتماعية التي تنقل الفرد من طبقة الى طبقة اعلى تحمل في طياتها قيماً تختلف عن قيم الطبقة الاخرى نحو العلم والتحصيل والاخلاق والمورد المالي. والاصل في الفكرة التي تعتنقها النظرية الرأسمالية ، هو ان الدرب الاساس نحو الصعودالاجتماعي الى طبقة اقتصادية ارقى من الطبقة الاولى للفرد ، لايتم الا عن طريق تحطيم الاواصر الاجتماعية مع العائلة الكبيرة.

وعندما بدأ النظام الرأسمالي بتقديم شتى الخدمات الاجتماعية التي كانت العوائل الكبيرة تقدمها لافرادها ، بدأت الحاجة الى استمرار وجود تلك العوائل الصغيرة تنتفي تدريجياً ، حسب زعم النظرية الرأسمالية. فالنظام الرأسمالي يقدم لافراد العوائل الصغيرة الخدمات التعليمية ، والطبية ، واعانة العجزة ، ورعاية الاطفال ، وكوبونات الطعام للمحتاجين. واذا كان النظام الرأسمالي يقدم كل هذه الخدمات ، فما هو الداعي في الاعتماد على الاقارب او الارحام بخصوص المساعدات المالية وقت الازمات؟ وماهو اللزوم في عيش الزوجين مع آبائهما اذا كانت الحاجة المالية والاخلاقية منتفية؟ وهذا التوجه نحو تغير الولاء من العشيرة والاقارب الى

٣٨

الدولة والنظام ساهم في انشاء وانتشار العوائل الصغيرة القائمة على قاعدة « الزوجين واطفالهما » فقط. وبذلك تحقق حلم النظام الرأسمالي بزيادة الانتاج الصناعي عن طريق تحطيم الاواصر العائلية في العشيرة والعائلة الكبيرة ، واستبدالها بنظام العوائل الصغيرة التي تستطيع الانتقال جغرافيا بسرعة من مكان لآخر حسبما تتطلبه العملية الانتاجية.

ومن اسباب التبدل في شكل الاسرة الرأسمالية ايضاً ، ان الابناء الذين كانوا في المجتمع الزراعي رصيدا اقتصادياً للعمل والانتاج ، اصبحوا في الاسرة الرأسمالية عبئاً اقتصادياً على الابوين. فالابوان مكلفان باطعام وكسوة وتعليم ابنائهما من الطفولة وحتى البلوغ. وبعد البلوغ ، وعندما يصبح الفرد قادرا على التكسب والاستقلال ، يمسي همه الاكبر الانفصال عن ابويه لانشاء اسرة صغيرة جديدة. وهذا التوجه العام يفسر سبب ميول الابوين نحو انشاء اسر صغيرة ذات عدد محدود من الابناء ، لان كثرة الابناء ليس لها مردود اقتصادي على الاسرة ، فالابناء المنتجون ينفصلون عن ابويهم بعد بلوغهم ومباشرتهم العمل خارج البيت. وهذا التوجه الرأسمالي الحديث يناقض الفكرة الكاثوليكية القائلة بحرمة تحديد النسل.

وفوق كل ذلك ، فان السبب الرئيسي الحاسم في تبدل شكل الاسرة الرأسمالية هو فكرة « الحرية الفردية » ، فالفرد مكلف باشباع حاجاته وتحقيق طموحاته الشخصية ، وليس مكلفاً باشباع حاجات الآخرين. وهذه « الفردية » هي اساس الفكرة الرأسمالية في العمل والانتاج. فالفرد هو محور كل الافكار والتوجهات الاجتماعية. بل ان كل الخدمات الاجتماعية ينبغي ان تتوجه ـ حسب رأي النظرية الرأسمالية ـ نحو تسهيل حياة ذلك

٣٩

الانسان وترفيهه حتى لو كان ذلك على حساب التقاليد والالتزامات الاجتماعية. فان كانت القضية التي تواجه الفرد قضية مالية او عناية صحية او قضية زواج او طلاق ، فذلك الفرد الرأسمالي غالباً ما يسأل : « ما هو نفعي وربحي من هذه القضية؟ » على عكس الفرد في المجتمع غير الرأسمالي الذي يسأل : « ماذا يتوقع ارحامي واخواني مني ان اعمله لهم؟ » وهذا الفارق في السؤال يعكس الفارق بين المذهب الفردي الذي جاءت به الرأسمالية ، والفكرة الجماعية التي كانت سائدة في العالم قبل مجيء الرأسمالية.

ولاريب ان شكل العائلة الصغيرة ، التي هي احدى ثمار سيكرة النظام الرأسمالي على المقدرات الاجتماعية ، لها مساوئها وعيوبها. فقد كان الفرد في العوائل الكبيرة يستند على دعم عائلته في الازمات الاجتماعية والاقتصادية ، فوجود العائلة الكبيرة هو مولد اطمئنان الفرد نحو سد حاجاته اقتصادياً وعاطفياً دون الاضطرار الى استجداء الآخرين من خارج الحدود العائلية. اما الفرد الرأسمالي فانه لايملك الا زوجته وقت الازمات ، واذا كانت الزوجة لاتعمل الا في حدود واجباتها البيتية ، فان الاسرة لا تصمد امام الهزات الاقتصادية التي تعصف بالفرد المعيل ، كالبطالة ، وترك العمل ، والعجز الصحي ، والتقاعد.

بمعنى ان الفرد في الاسرة الكبيرة اذا عجز عن احتلال دوره الطبيعي في النظام الاجتماعي والاسري ، فان بقية افراد الاسرة يساهمون في اشغال ذلك الدور دون ان يؤثر ذلك على وضع الاسرة اقتصادياً او اجتماعياً. اما في الاسر الصغيرة فإن عجز احد الابوين عن اداء دوره الانتاجي قد يؤدي الى تحطيم الاسرة من الناحية الاقتصادية. وتتحقق نفس النتيجة اذا مات رب

٤٠